تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

المراد بالإسلام العملي الراجع للصلاة والصوم والزكاة ، والأول أمر عملي اعتقادي ، والنهي عما تقدم إما بالشرع أو بالعقل أو بهما ، فيرجع إما للحكم فهو شرعي ، أو للدليل فهو عقلي أو لهما معا.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ).

قال ابن عرفة : لما تضمن الكلام السابق التنبيه على كمال الله تعالى بالقدرة ، وأخرج عالم الإنسان من العدم للوجود ، وتصويره ونقله من حال إلى حال ، ثم نقل إلى حالة العدم ، واتصافه بالحياة والوحدانية عقبه بذم حالة المجادلين في آيات الله مع وضوحها ، وآيات الله إما القرآن وإما المعجزات.

ابن عرفة : ، وتقدم في الآية سؤالا قد خفي ظهوره ، وهو أن الجملة المتضمنة لمعنى إذا ؛ عقبت بالإنكار ، فإنما يريد فيها نقيض لازم ذلك المعنى ، ولا يتكرر فيها عين لازمه ، تقول : أحسنت إليك فكيف تكفرني ، ولا تقول : أحسنت إليك فكيف تشكرني ، لأن الشكر من لوازم الإحسان والإنكار هنا [٦٦ / ٣٢٣] تسلط على صرفهم عن الآية وهو عين لازم المجادلة فيها ، قال : والجواب : أن ذلك إذا كان هو العجب بأمر خارجي عن المعنى الأول ، فحينئذ تؤتى فيه بعين اللازم ، كقولك : من لم يعلم إنتاج الشكل الأول فكيف يدرك بعقله إنتاج الشكل الثاني ، وهنا التقدير كيف تجادلون فيها وأنى يصرفون عن المانع من خبر الذم.

قلت : وقال ابن عطية في قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن طريق النظر والهدى.

وقال الزمخشري : كيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان.

قوله تعالى : فسوف تعلمون.

وفيه الفاء للتعقيب وسوف للتنفيس ، فكيف صح الجمع بينهما؟ فالجواب : إن التعقيب لذات الشيء ، والتنفيس للعليم بذلك ، وفرق بين كون الأغلال في أعناقهم وعلمهم قبل نزوله بهم ليس كعلمه بعد حلوله بهم.

قوله تعالى : (وَالسَّلاسِلُ).

بالخفض.

ابن عطية : على الصلب ، أي إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، مثل : أدخلت القلنسوة في رأسي.

٤٠١

قال ابن عرفة : وكان يمشي لنا أنه على ظاهره وليس على القلب ، والمراد أن الأغلال في السلاسل والسلاسل في أعناقهم فالأغلال في أعناقهم ، وقد أراني الفقيه أبو سعيد الغبريني أثر القيد في عبد تهادت ساقه ظرفا لهم وهم يجرونها.

قوله تعالى : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً).

قال ابن عطية : فدعوا إلى الكذب وهذا من أشد الاختلاط وأبين الفساد.

وقال الزمخشري : أي شيئا ، أي نبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا ، كما تقول : حسبت أن فلانا شيئا ، فإذا هو ليس بشيء.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ).

ابن عرفة : مثل ضلال الأصنام وغيبتهم عنهم في الآخرة يضل الله الكافرين في الدنيا حتى طلبوا الآلهة وطلبتهم الآلهة لم يتصارفوا.

قلت : والمعنى على ما قال ابن عطية ، أي مثل ضلالهم في الآخرة بكذبهم في إنكارهم عبادتهم الأصنام فضلهم الله في الدنيا لعبادتهم لها.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ).

ابن عرفة : يوجد أن الفرح بغير الحق كبيرة لترتب العقاب الأبدي عليه.

فإن قلت : العقاب عليه وعلى المدح بعاقله هل هو على كل واحد منهما بانفراد؟

قال : وانظر هل الفرح بغير المباح داخل في ذلك أم لا؟ قلنا : تجري على الخلاف في المباح هل هو حكم شرعي أو لا؟ وتقدم نظره في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) [سورة الأحقاف : ١٦].

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

قال ابن سلامة في شرح أسماء الله الحسنى : صرح مسلم أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ " إذا قام من الليل يصلي ، يقول : اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض" الحديث ، وفيه : " أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك حق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق والساعة حق" (١) ، فلما ذكر ذات الله وصفاته عرف الحق بالألف

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ٤٣٠٣.

٤٠٢

واللام ، ولما ذكر لقاء الله والجنة والنار نكر الحق ليظهر الفرق والله أعلم مبين ذاته وأفعاله ، وأنه الحق الذي لم يكن لغيره وإن كان حقا سواه قائما هو به وبإثباته لولى.

ابن عرفة : أراد أنه عرف الحق الذي هو صفة ذات وصفة نفس ، لأن الوعد هو الكلام وكلام الله نفسي لا لفظي لكن ترد عليه تنكيرا في هذه الآية.

قوله تعالى : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ).

قال ابن عرفة : هذه شرطية متضمنة مانعة الخلو من غير مقدمها ونقيض تاليها ، أي فإما نرينك قبل وفاتك وبعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون فتنتقم لك منهم على كل حال لهم ، قوله تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إلا بأمر الله أو لا يخلق الله القدرة على ذلك.

قوله تعالى : (قُضِيَ بِالْحَقِ).

راجع إما للحكم أو التنفيذ ، والمراد به تنفيذ الحكم الواقع أزلا وهو إظهاره.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها).

قال الزمخشري : هي هنا.

وقال ابن عطية : هي الأزواج الثمانية.

وقال الطبري : إن الأنعام في هذه : يعم البقر ، والإبل ، والغنم ، والخيل ، والبغال ، والدواب ، وغير ذلك.

ويحكي ابن رشيد في البيان قولا : بأن الأنعام يدخل تحتها الظباء.

قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوا مِنْها).

كان بعضهم يقول للفعل لأنه فعل للعلة لأن الله تعالى لا يفعل للفرض ، لكن أفعاله معللة شرعا.

قوله تعالى : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ).

هذا من عطف العام على الخاص لأن المركوب خاص ببعض الناس ، وخاص بالإبل والأكل عام في جميع الناس ، وعام في جميع الأنعام.

قوله تعالى : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ).

من عطف الخاص على العام لأن المنافع خاصة في جميعها من الصوف والوبر وغيره.

٤٠٣

قوله تعالى : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ).

راجع إلى الملائكة ، وقوله (وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) للكيفية وشدة القوة تارة يظهر آثارها ، وتارة لا يظهر لها أثر ، ويؤخذ منه أن التواتر يفيد العلم لأنا نشاهد آثار من مضى وأعمالهم وآنيتهم ولا نعلم إنها آثارهم إلا بخبر التواتر.

قوله تعالى : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ).

إما نفي أو استفهام على سبيل الإنكار والتعجب.

قوله تعالى : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).

حكى الزمخشري فيه منها إنه تهكم بهم ، لقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [سورة النمل : ٦٦] وكان إنكارهم البعث والعذاب.

٤٠٤

سورة فصلت

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ).

قال ابن عرفة : هذه إشارة إلى إنكارهم الدليل العقلي الدال على وجود الله ووحدانيته.

قال الشيخ : اليوم قطعة من الزمان.

فإن قلنا : الزمان حركة الفلك فما معني اليومين إذ ذاك ، فإن قلت : الزمان عبارة عن مقارنة حادث لحادث ولا يلزم عليه ما ذكرت ، قلت : ذلك كلام خرج من قائله على غير تحصيله وإلا فيلزم إن كان زمان مضى زمان أصلا ؛ لأنه قد انقضى ولم تزل الحادثان ، ويلزم أن نكون نحن صحابة ؛ لأن زمانهم لم يزل يطلق على زمان مع حدوثنا نحن ، وهذا كله باطل.

قال الشيخ : وسؤال الزمخشري هنا أنه لم ينثني عمل انحصاره ، قلت : فيما قاله فنظر بل ينبغي أن نفس الآية بغير ذلك ولا يلزم عليه سؤال ، وهو أن قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) الآية ليس معطوفا على خلق الأرض وإنما ذلك كلام قديم وثم محذوف تقديره فعل ذلك واسمها (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ).

إن قلت : خطابه لهما هل هو حقيقة أم لا؟ قلت : اقتران الأمر بذلك الطوع والكرة دليل على أن كلامه لهما حقيقة ، لأن الطوع والكرة لا يكون إلا من المخاطب حقيقة الموصوف بالحياة ، وكذلك قوله تعالى : (أَتَيْنا) دليل على أن كلامهن حقيقة.

قوله تعالى : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ).

إنكار منهم للدليل السمعي الدال على وجود المعاد والدار الأخرة.

قوله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ).

إنكار للمعجزات المرسلات [٦٦ / ٣٢٤] بالبصر ، فأنكروا المعقول والمسموع والمبصر.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا).

ابن عرفة : علقه بالإعراض وهو أخف من التكذيب ومن التولي ليفيد العقوبة على ما فوقه من باب أحرى.

٤٠٥

قال : وفي الآية دليل على وجوب النظر ، قال : والتعبير بلفظه أن فعلهم حتى كأنه غير واقع منهم اعتبار بالأمر الشرعي لا العادي مثل صاعقة وثمود.

قال ابن عرفة : إن كانت صاعقة ثمود مثل صاعقة عاد لزم التكرار من غير فائدة ، وإن كانت مخالفة لها لزم مماثلة الشيء بواحد لأمرين مختلفين وهو باطل ، قال : والمثلان عند الفقه باعتبار العادة هما المتساويان في الأمور الأعمية من جميع الوجوه ، وعند المتكلمين هما المتفقان في صفات النفس وإن اختلفا في الأمور الأعمية فإن كانت هذه الصاعقة فلأنها في تشبيهها بصاعقة ثمود ، وإن كانت مماثلة لأحدهما ومخالفة للأخرى فلا يصح التشبيه ، قال : وتقدم الجواب بأن التعدد في التشبيه مبالغة في تأكد العذاب وتكرره ، وإنه يحل ببعضهم صاعقة كصاعقة عاد ، ويحل ببعضهم أخرى كصاعقة ثمود.

قلت : فالمماثلة في وقوع الصاعقة من حيث كونها آية والمخالفة في صفتها.

قوله تعالى : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ).

ابن عطية : أي في أول تكليفهم ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي في آخر عمرهم.

الزمخشري : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي من بين أيدي الأمم ومن خلفها الرسل المرسلين إليهم ، أي جاءتهم رسل بعد رسل.

قوله تعالى : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً).

ابن عرفة : الصواب تفسير لها أي لو شاء الله إرسال الرسل لأنزل ملائكته لكنه لم ينزل فلم يرسل رسلا.

ولكن كما قال أبو حيان : لما صح الاستثناء لأنه يكون التقدير : لكنه لم ينزل ملائكة فلم يرسل إلينا ملائكة ، والعرض أنه كذلك وقع فلم يتم له ، فالصواب أنه يرد مفعول بشاهد غير جواب لواو لازمة.

قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً).

قال ابن عطية : (صَرْصَراً) هو من صرّ يصرّ إذا صوّت صوتا يشبه الصاد والراء ، وكذلك يجيء صوت الريح أكثر الأوقات.

قال ابن عرفة : قالوا : الطباق هو موافقة اللفظ للمعنى إما في الإفراد ، كقولهم : صرصر الباري وصرصر الحداب ، وإما في التركيب ، كقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [سورة الليل : ١ : ٤]

٤٠٦

قال : (اللَّيْلِ) مفرق للنهار ، و (الذَّكَرَ) مفارق للأنثى ، وكذا (سَعْيَكُمْ) متفرق مخالف بعضه لبعض.

قال ابن عطية في الحديث : إن الله أمر خزنة الريح ففتحوا على عاد قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا بقدر منخر الثور لهلكت الدنيا.

قال ابن عرفة : وكان بعضهم يقول : إن عادا كفروا لقولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فعذبهم الله تعالى بأضعف شيء من العناصر لأن الريح أضعف من جنس التراب والحجر وغير ذلك من العناصر تعجيزا لهم في افتخارهم بالقوة.

ابن عرفة قال : وهنا أيام نحسات ، وفي سورة القمر : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) [سورة القمر : ١٩] فدل على صحتها.

قال الأصوليون : في الواحد بالشخص ، والواحد بالنوع ، قيل لابن عرفة : هذا دليل على أن الزمان موجود لأن حلول الريح فيه دليل على أنه موجود ، فقال : وكذلك هو عندنا لأنه حركات الأفلاك أو مقارنة حادث لحادث.

قوله تعالى : (عَذابَ الْخِزْيِ).

مقابل لقولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) لأن الخزي هو الاحتقار.

قوله تعالى : (لِنُذِيقَهُمْ).

تعليل للفعل لأنه فعل العلة ، أعني أنه ليس بفعل للفرض فهو تعليل شرعي جعلي عقلي.

قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ).

قال ابن عرفة : تحامل الزمخشري هنا على أهل السنة وسماهم قدرية ، فقال : ولم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفى به شهيدا إلا هذه الآية.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ).

قال ابن عرفة : الظاهر لمن يقول لشخص : يا عدو الله إنه لا يقتل لأنه إنما يقصد به المبالغة والمعصية ، وربما يقوله بعضهم على جهة المدح ، قيل له : مقتضى قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [سورة البقرة : ٩٨] إنه كافر ، فقال الظاهر : إنه غير كافر.

قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ).

٤٠٧

أي يجلس أولهم حتى يجيء أخرهم وكذلك مقتضى الجمع.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها).

زيادة (ما) للتأكيد أي حتى إذا جاءوها.

وقيل : لتأكيد ملزومية الشرط للجزاء لأنها لتأكيد الشرط وحده.

قال ابن عرفة : وحاسة البصر أفضل من حاسة السمع بدليل أن موسى عليه الصلاة والسّلام أكرم بسماع الكلام الأزلي ولم ... (١) للرؤية.

قيل لابن عرفة : لم يكن في الأنبياء أصم ، وقد كان شعيب عليه‌السلام أعمى فدل على أن الصمم عيب بخلاف العمى.

قوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

فهدى قرية بالضلال الذي هو مقابله.

قلت : هو من حذف التقابل ، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، والتقدير : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ).

وقال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [سورة النساء : ١٢٥] ويجاب : بأنهما متساويان في الحسن ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [سورة البقرة : ١١٤] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) [سورة الزمر : ٣٢].

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ).

إما ضدان أو نقيضان أو خلافان ، فلا يصح أن يكونا نقيضين لأن عدم المساواة بين النقيضين معلوم بالبديهة ، فهما ضدان لصحة ارتفاعهما عن الشيء الواحد فلا يكون حسنة ولا سيئة ، ويحتمل أن يكون المراد لا تستوي الحسنة ولا عدمها ، وإن الحسنات في ذواتها متفاوتة فهي غير مستوية والسيئات كذلك بعضها أعظم من بعض.

قوله تعالى : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ).

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٤٠٨

إن قلت : لم عبر بهذا ولم يقل : فإذا الذي هو عدوك ، فالجواب : أن هذا يفيد حصول العداوة من الجانبين ، وكل واحد منهما عدو لصاحبه ، ولو قيل : فإذا الذي هو عدوك لا ، فإذا العداوة من أحد الجانبين فقط.

قوله تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

أي من الصبر أو من العقل ولا يحصل ذلك إلا من اتصف بالصبر ، وهذا أخص من الأول.

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ).

الزمخشري : النزغ هو النخس.

ابن عرفة : وهذا على سبيل الغرض كان ملزومية المقدم للتالي لا يدل على وقوعه ، مثل : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [سورة الزخرف : ٨١] ، ولذلك أتى فيه بكلمة إن قلت : هو حقيقة ، قال : أو هو مجاز ، وشبهه بعضهم بطائر مؤذ أغار على بستان فلا يؤذيه ولا يقصد إذائته لعلمه إنه لا يقبل الإذائة لكنه يمر عليه ويقصد إذائته ، ويمنعه من ذلك مانع ، وتارة يقصد إذائته فيؤذيه ، فالأول : حالة الشيطان عليه اللعنة مع الأنبياء عليهم‌السلام ، والثاني : حاله مع الأولياء يوسوس لهم فلا يعطونه ، والثالثة : حالة مع سائر الناس من العصاة.

قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ).

ابن عطية : أي مما قبله من الكتب و (مِنْ خَلْفِهِ) أي مما بعده من نظر ناظر أو فكرة عاقل ، أي لا يتعلق به إبطال مبطل متقدم ولا متأخر.

[٦٧ / ٣٢٥] ابن عرفة : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) على هذا متعلق بالباطل لا يتأتى لأن يأتي مستقبل ، و (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) مأمن له ، قلت : أو يكون حالا من الباطل.

قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ).

فسر معنيين :

أحدهما : ما يقال من قولك السيىء المكروه الأمثل ما قاله الأنبياء من قومهم.

الثاني : ما يقال لك من الوحي في الكتاب المنزل عليك إلا ما قد قيل للرسل في الكتب المنزلة عليهم ، أو ما يقال لك من الوحي بالأحكام والشرائع إلا ما قد قيل يضرك ، فالمقول له على هذا مثل ما قد قيل لغيره لأنه غير ما قد قيل لغيره.

٤٠٩

ابن عرفة : ويحتمل أن يراد ما يقال لك من كلمة التوحيد واعتقاد ما يجب لله وما يستحيل عليه إلا ما قد قيل لغيرك من الرسل ، فالمقول على هذا نوعين : ما قيل لغيره وهو كلمة لا إله إلا الله.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ).

ولم يقل : ذو مغفرة شاملة ، كما قال تعالى (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) تغليبا للخوف على جانب الرجاء.

قوله تعالى : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها).

أما معطوف على الساعة ، أي وإليه يرد علم الساعة ، (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ) فما موصولة فهو منحصر في علم الله ، وإما متصل بما بعده وما نافية.

قال ابن عرفة : والثمرات بعد حصولها في الأكمام قد يدعي أحد علمها ، وكذلك الحمل بعد ظهوره ، وأما قبل حصول الثمرات في الكم فلا يقدر أحد أن يدعي علمها ، وكذلك النطفة حين حصولها في الرحم لا يعلم أحد لها بوجه ، فلذلك أسند العلم إلى الله تعالى في حالة إمكان ادعاء العلم بها فأحرى في حال عدم ادعائه ، قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [سورة الإسراء : ٨٣]

قال ابن عرفة : النأي عن الشيء والبعد منه أقوى من الإعراض عنه ، فلذلك عطفه عليه أو يكون الاعتراض من صفة المؤمن ، والنأي من صفة الكافر أو هو قدر مشترك بين الجميع ، وعبر هنا بالفعل مبالغة في ذمه بمطلق الإعراض ، ثم عبر بالاسم ، في قوله تعالى : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) مبالغة في ذمه بكثرة الإلحاح وملازمته له عند نزول الشدائد به.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ).

لأن العرض يستلزم الطول فكل عريض طويل والطويل قد لا يكون عريضا.

ابن عرفة : هذا لا يصح ، فإن الطول والعرض أمران نسبيان ، فالشيء لا بد له من طول وعرض ، وكذلك الخيط لا بد له من طول وعرض ، والصواب كأن يقول : عظم العرض يستلزم الطول والطول لا يستلزم العرض ، بدليل المفتول والحبل فإنهما طويلان قليلا العرض بخلاف ما له كان الشيء كثير العرض ، فإن طوله إما أن يكون قدر عرضه أو أعظم منه ولا يكون أقل منه أصلا بوجه.

٤١٠

قلت : وأفصح ابن عطية في سورة آل عمران (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة آل عمران : ١٣٣] فقال : الطول لا يدل على قدر العرض بل قد يكون الطويل قليل العرض كالخيط ، وانظر على الذم على مجموع أو على كل واحد منهما.

قيل لابن عرفة : لو كان الذم على مجموعها للزم عليه المفهوم ، فقال : يكون مفهوم أحرى لأنه إذا ذم على الإعراض عند النعمة والدعاء عند الشدائد ، فأحرى أن يلزم عن الإعراض عند النعمة ، وعدم الدعاء عند الشدائد.

قوله تعالى : (عَرِيضٍ).

إشارة إلى أنه ذو دعاء لكنه يعظم دعاءه ، والحاجة عند الشدائد ، وفرق بين قولك : هذا الثوب ذو عرض ، وهذا الثوب عريض ، فعريض أبلغ فعبر في الأول ، بقوله : (إِذا أَنْعَمْنا) ، وفي الثاني بالقسم إشارة إلى المبالغة من حيث إنه يعرض عند حلول كمال النعمة به ، ويصح في الدعاء عند نزول أوائل السور ، وأسند النعمة إلى الله تعالى و (١) .... إلى الشرك على جهة الأدب.

قيل لابن عرفة : بل هو حقيقة عند المعتزلة ، فقال : لا لأنهم يقولون : إن الأمراض والعلل ليست من فعل العبد وعطفه هنا وفي الأحقاف بالواو ، قوله تعالى :

(مَنْ أَضَلُ) [سورة الأحقاف : ٥].

ابن عرفة : جوابها إما مفهوم من الأول أي من أضل هو أو من حس ، وهذا مع قوله تعالى : في الأحقاف : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [سورة الأحقاف : ٥] ينتج أنهما مستويان في الضلال.

قوله تعالى : (وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

إن أريد بالشهادة لازمها وهو العقوبة والانتقام ، فلفظ (شَيْءٍ) خاص بالحادث ، وإن أريد بها العلم والحضور فيعم القديم والحدث وهذا خطاب للكفار والمراد به رؤساءهم ، وأما العوام والأتباع فلا يعلمون ذلك حتى يقرأ عليهم عملهم بهمزة الاستفهام ، قلت : بدليل حديث ابن مسعود في كتاب القدر عند مسلم اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم ،

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٤١١

فقال أحدهم : أترون الله يسمع إن أخفينا ، وقال الثالث : إن كان يسمع إن جهرنا فهو يسمع إن خفينا.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ).

المراد بذلك الدار الآخرة وإلا فالموت تحقيق عندهم.

قوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ).

ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها إنه لما اتصف الله تعالى بالجزاء ، في قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) وأنه حكم عدل ليس بظلام للعبيد ، قد تتشوق النفوس لمعرفة الوقت الذي يقع فيه الجزاء ، فقال : علم ذلك معروف له لا لغيره ، والألف إما للجنس فالمراد به : يعلم ساعة بعد ساعة أو [...] فهي ساعة واحدة وهي القيمة.

ابن عرفة : وقد تقدم لنا في الآية سؤالان أن إلى لانتهاء الغاية وما بعد غير داخل فيما قبلها فيفيد أن رد الفعل منتهى إليه وهو غير داخل مع أنه في نفس الأمر داخل؟ وأجيب بوجهين :

أحدهما : أن تكون القرينة هنا صيرته داخلا ، كما قالوا في : اشتريت الشقة التي طرفها.

الثاني : أن الرد ينشأ عند الثبوت والاستقرار ، فالثبوت والاستقرار هو الداخل والرد غير داخل.

السؤال الثاني : أن الرد يقتضي انفصاله بعد انفصال ، قال تعالى (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) [سورة القصص : ١٣] وكان موسى عليه‌السلام انفصل عن أمه ثم رجع إليها ، وأجيب : بأن المراد إليه معرف علم الساعة.

قوله تعالى : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها).

إما لكل ثمرة كم ، أو لكل ثمرة أكمام ، كما في النور فإنه أولا يفتح عنه النوار ثم يلبس ، فيزول عنه القشر ثم يكنز ، فيزول عنه القشر الآخر.

قوله تعالى : (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).

ولم يقل : وما تضع ، فأجيب : بإلا لنفي والوضع متأخر عن الحمل.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي).

٤١٢

ابن عرفة : هذا السؤال تبكيت لهم وخزي فلا يستحق جوابا لكن كانوا في مقام الدهش وعلم العلم ، أجابوا بقولهم : (آذَنَّاكَ) ولم يطلب منهم جواب بوجه ، وعلى هذا لا حاجة بسؤال الزمخشري ، في قوله : فإن قد آذنوا فلم سئلوا لأنه سؤال تبكيت.

قوله تعالى : (آذَنَّاكَ).

أي علمناك.

قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول : الآذان أقوى في الإعلام من العلم لأنه يقتضي الشهرة والإذاعة بذلك ، قال الله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [سورة التوبة : ٢] ومنه الآذان لأنه يرفع الصوت فهل هو إخبار عن إعلام مضى أو إنشاء ، ومنه مسألة المدونة في أول كتاب الإيمان بالطلاق ، قال : ومن طلق [٦٧ / ٣٢٦] زوجته ، فقال له رجل : ما فعلت؟ فقال : هي طالق ، فقال : إن نوى إخباره فله نيته.

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ).

السأمة هي الكسل عن الدوام على مشقة ما حصل إتعاب النفس في بعضه من أمور التكاليف فنهى عن الكسل عن ذلك ، وأراده الامتناع منه واليأس أمر عدي عبارة عن تعلق النفس بالرجاء والرجاء ضده فهو تعلق الأمل لحصول الأمر المحبوب ، والقنوط عبارة عن ظهور أثر ذلك المكلف.

٤١٣
٤١٤

فهرس المحتويات

سورة الحجر..................................................................... ٣

سورة النحل..................................................................... ٨

سورة الإسراء................................................................... ٥٨

سورة الكهف.................................................................. ٨٠

سورة مريم.................................................................... ١٠٨

سورة طه..................................................................... ١٣٧

سورة الأنبياء................................................................. ١٥٨

سورة الحج................................................................... ١٧٨

سورة المؤمنين................................................................. ٢٠١

سورة النور................................................................... ٢٢٠

سورة الفرقان................................................................. ٢٣١

سورة الشعراء................................................................. ٢٣٨

سورة النمل................................................................... ٢٥٠

سورة القصص................................................................ ٢٦٤

سورة لقمان.................................................................. ٢٧٠

سورة السجدة................................................................ ٢٧٧

سورة الأحزاب................................................................ ٢٨٤

٤١٥

سورة سبأ.................................................................... ٣١٣

سورة فاطر................................................................... ٣٢٥

سورة يس.................................................................... ٣٣٨

سورة والصافات صفا.......................................................... ٣٦١

سورة ص.................................................................... ٣٦٨

سورة الزمر................................................................... ٣٧٧

سورة المؤمن.................................................................. ٣٩٢

سورة فصلت................................................................. ٤٠٥

٤١٦