تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

إما أن يراد الصائر إلى الإيمان كما قال الزمخشري ، في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة : ٢] ، وهو هدى للمؤمنين حقيقة باعتبار انتقالهم به من مقام إلى مقام أعلى منه.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ).

قال الزمخشري : أي بعدله ، وليس المراد الحكم ؛ لأنه لا يقال : يضرب بضربة.

قال ابن عرفة : الإضافة إلى الضمير يرفع هذا [٥٩ / ٢٨٥] الإشكال ، أي بحكمه اللائق به ، كما قال تعالى في (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [سورة الزلزلة : ١] ، وكذلك (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [سورة محمد : ٢٤].

قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

أي العزيز الذي لا يمانع ولا يدرى وجه حكمه ، العليم بخفيات الأمور.

قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

التوكل هو استحضار الحاضر ونسبة الحوادث كلها إلى الله عزوجل ، ونقل بعض الطلبة عن بعضهم : أن التوكل هو الوثوق بالمظنون ، وترك الحركة والأمثال على السكون.

ابن عرفة : والأول أصوب وهو قسمان : ابتدائي وانتهائي فبدئه لا ينافي الأسباب العادية ، ومنتهاه وهو الطريق الموصوفة ينافي الاشتغال بالأسباب العادية.

ابن عرفة : وعطفه بالفاء لإفادة السببية ، إشارة إلى أنه لما كان طريق الإيمان لا يمانع ولا يناط بحكمه أمر بالتوكل على الله والتفويض إليه في الأمور ، ويحتمل أن يقال لما تقدم.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ).

عقبه بما يفيد إفراده والاعتماد عليه في الأمور ، فالذي يفيد انفراده بذلك ، هو قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ، وهذه تفيد الاعتماد عليه في الأمور ، قال بعضهم : وحاسة السمع أشرف من حاسة البصر ، بدليل أنها لم يسلبها نبي بخلاف البصر ، فإن قيل : ما أفاد قوله تعالى : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ، قلنا : الأصم إذا كان فبأولئك يشير إليه فيهم عنك بالإشارة ، بخلاف ما إذا صيرك خلفه ، فإنه لا يسمع ولا يرى ، فوصف الكفار بأقبح صفات المخالفة ، وعدم الانقياد إلى الحق ، فلا يلزم منه أن يقال : نهى

٢٦١

النبي عن الحض مقيد بصفة لا تعم إذ مفهومه ثبوته لامتثالها مما لم يقيد بتلك الصفات.

قوله تعالى : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

ويحتمل أن يكون دليلا على أن الإيمان أخص من الإسلام ؛ لأن معناه فالمؤمنون بآياتنا مسلمون ، أي الحكم عليهم بالإيمان يستلزم عليهم الحكم بالإسلام.

قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ).

المراد بالقول متعلقه ، ومدلوله ، وهو ما وعدوا به من أشراط الساعة ، ومن ذلك خروج الدابة ، فلابد أن يكون المعنى وإذ وقت وقوع القول عليهم أخرجنا لهم الدابة ، والقول يقع عليهم ولهم ؛ لأن فيهم المؤمن والكافر لكن روعي مقام التخويف والإنذار قال : وعوائد الطلبة يقولون : لما عبر في الأول بالقول وبالثاني بالكلام ، وهلا قيل : وإذا وقع الكلام عليهم ، أو يقال : أخرجنا لهم دابة تقول لهم ، قال : وتقدم الجواب بأن القول بسيط والكلام مركب ؛ لأنه أخص ، والقول أعم ، والشرط بسيط ، والمشروط مركب ؛ لأنه يستلزم الشرط ، والشرط لا يستلزم المشروط ، فناسبت أن يجعل القول البسيط شرطا ، والكلام المركب شرطا.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً).

ابن عرفة : فيها حذف التقابل وتقرير أن في سورة القصص (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [سورة القصص : ٧١ ـ ٧٢] ، فجعل السماع من خاصية الليل ، والإبصار من خاصية النهار ، والتقدير : ألم يروا إنا جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه ، والنهار مبصرا لتبتغوا فيه من فضله ، فحذف من الأول نقيض ما ذكر في الثاني ، ومن الثاني نقيض ما ذكره في الأول ، وعبر عن السكون بالفعل ، وعن الإبصار بالأصم ؛ لأن الإبصار لازم النهار ، والسكون غير لازم الليل وليس من فعله ألا ترى أن الصالحين لا يسكنون بالليل بل يقومونهم وهو نهارهم ، ولذلك خرج الترمذي حديثا : " إن رجلا دخل على أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ورضى عنها فقدمت له طعاما ، فقال : إني صائم ، فقالت له : ألك زوجة؟ فقال : نعم ، بل زوجتان سوداء وبيضاء ، وانصرفت ثم وصفته للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقال : هو الخضر عليه الصلاة والسّلام ، والزوجتان : الليل والنهار" ، قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [سورة الروم ٢٣].

٢٦٢

قوله تعالى : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ).

قال ابن خليل : وفيها دليل على إبطال القول بإثبات الجوهر المقارن ، وهو موجود لا متحيز ولا قائم بالمتحيز ، وجعل من ذلك الملائكة والجن ؛ لأن المفسرين قالوا : المراد بقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [سورة الزمر : ٦٨] جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام (١) فهم من في السماوات والأرض فجعلها خبرا ، فقال ابن عرفة : يلزمه هذا في العرض ؛ لأنه ليس بمتحيز ، مع أنك تقول : رأيت في هذا البعث وفيه الجوهر والعرض القائم به.

ابن عرفة : فإن قلت : ضل فيها على ابن عصفور ؛ لأنه منع الاشتمال المحمول ، فقال : لا يجوز ، فقال : رأيت القوم إلا رجالا ، فشرط في المستثنى أن يكون معلوما ، قال : والجواب : أن هذا معلوم عند المتكلم ، وأما الممتنع الاستثناء بالجملة المتكلم ، وأيضا فمن الموصولة معرفة ، وفرق بين المعلوم والمعين ، فاستثناء غير المعين جائزا إذا كان معلوما عند المتكلم.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ).

قال : يحتمل أن يكون وهي تمر حالا من فاعل تحسبها ، أي تحسبها جامدة حال مرورها كالسحاب ، فيكون الناظر إليها لا يشعر بمرورها كالسحاب ، ويحتمل أن يكون يشعر بذلك فيحسبها أولا جامدة ، ثم يتأمل فيها فيجدها تمر مر السحاب فهو يعتقد الأمرين.

قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ).

يؤخذ منه إطلاق هذه الصفة على الله تعالى ، وقد أطبق المتكلمون على وصفه بها ، فقالوا : باب الكلام في إثبات العلم بوجود الصانع.

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها).

أي فله خير من ثوابها ، قلت : لفظ وخير إما فعل أو افعل من ، أي فله ثواب أفضل من ثوابها ، ومن إما سببية أو لابتداء الغاية فله ثواب سببها ، أو ثواب ابتدائها منها ، وهل هذا كقولك : زيد [...] صديقه أمر أو كقولك : زيد [...] عدوه أمر.

__________________

(١) ورد في الحاشية : (الصحيح أن جبريل ينزل إلى الأرض بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر ويوم الجمعة كما أفاده شيخنا في" درة الربان" شمس الدين محمد الصديقي السكري نفعنا الله به.

٢٦٣

سورة القصص

قال ابن عطية : السورة مكية إلّا (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [سورة القصص : ٨٥] فإنها نزلت في الجحفة وقت هجرة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة.

ابن عرفة : بل هي كلها مكية كما قال الزمخشري ؛ لأنه تقرر أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها سواء كان في الجحفة وغيرها.

ابن عطية : والطاء من الطول ، والسين من السّلام ، والميم من المنعم أو من الرحيم أو نحو هذا.

قال ابن عرفة : ما هذه الدلائل؟ قلنا : تضمن ، فقال : بل هي التزام وبينهما ارتباط ذهني.

قوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى).

ابن عرفة : نتلوا عليك أخص من نقص ؛ لأن نقص لم يرد في القرآن إلا مقيدا ، قال تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [سورة يوسف : ٣] وهذا ورد غير مقيد.

قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ).

تبكيت عليه ، أي على ، وهو في محل التذلل والانخفاض ، فلذلك قال في الأرض.

قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ).

ابن عرفة : ليس المراد حقيقة الإرادة لأنها قديمة ، وإنما المراد ظهور متعلقها ، فإن أريد به الإخبار بوقوع ذلك في بني إسرائيل قبل وقوعه ، فهو مستقبل حقيقة ، وإن أريد به الإعلام بها بوقوع ذلك بقوم موسى صلّى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم ، فهو من العبارة عن الماضي بلفظ المستقبل.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ).

حكى ابن العربي في سراج المريدين لما ذكر فضائل ابن فورك ، أنه كان يرى الملائكة يكلمونه ، وأنكره بعضهم محتجا بأن جبريل عليه‌السلام ، قال للنبي صلّى الله

٢٦٤

عليه وعلى آله وسلم بقرب وفاته ، هذا آخر مهبطي إلى الأرض ، واحتج الآخرون بأنه بعض الصحابة أو بعض الملائكة.

قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً).

قال الزمخشري : هذه اللام للتعليل ، مثل : جئتك لتكرمني ، لكنه مجاز ؛ لأن الداعي لالتقاطه إنما هو الصحبة ، ولما كانت العداوة نتيجة التقاطهم شبهه بالداعي الذي يفعل فاعل الفعل لأجله ، فاستعيرت له اللام كما استعير لفظ الأسد للشجاع ، ابن عرفة : هي لام الصيرورة ، وكان بعضهم يقول : بل هي على أصلها حقيقة ، ويقدره ؛ لأن فعل القيد تارة [٥٩ / ٢٨٦] يعتبر من حيث كونه مكتسبا للعبد ، وتارة يعتبر من حيث كونه مخلوقا لله عزوجل ، فعلى الأول تكون اللام للصيرورة ، لأنهم لم يلتقطوه ؛ لأن الالتقاط أمر عارض غير مقصود ، أي جعل الله تعالى التقاطهم له سببا في عداوته لهم ، وجاءت العداوة هنا الثابتة مقابلة للخوف المنفي ، في قوله تعالى : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) ، لأنها سبب فيه ، والحزن الثابت مقابل للحزن المنفي.

قوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ).

إن قلت : هلا قال : وقالت لابنتها قصيه؟ فالجواب وجهين :

أحدهما : قال ابن عرفة : هذا من تعليق الطلب على الوصف المناسب له ؛ لأن وصف الأخت يشعر بالحنان والشفقة على الأخ ، بخلاف ما لو قال : وقالت لابنتها ، فتذكيرها لها بأنه أخوها مذكور لحرمها في البعث عليه.

الثاني : إن هذه الأخت يحتمل أن تكون أخته من أبيه ، وهي ربيبة أمه وليست بنتها.

قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ).

ولم يقل : ومنعنا المراضع إشارة إلى أن هذا أمر قديم مقدر في الأزل ، ولو قال : منعناه ، لتناول الأمر الظاهر الوجودي من غير اعتبار ، فتقدمه في الأزل.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ).

أي من قبل قصها أثره.

قوله تعالى : (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ).

في زيادة لفظه لكم نعمة وإخفاء لئلا يتفطنون بها ، أي ؛ لأن كفالته ليس فيها منفعة للكافلين.

٢٦٥

قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

وإن كان من تمام المعلوم لأم موسى عليه‌السلام ، فيكون الأكثر بمعنى الجمع ؛ لأن جميع بني إسرائيل كانوا حينئذ كفارا ، أو إن كان من كلام الله تعالى خطابا للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، فالأكثر على بابه ؛ لأن من القبط من آمن به.

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً).

إن قلت : ما الحكمة في تخصيص هذه الآية ، بزيادة لفظة استوى دون آية سورة يوسف عليه‌السلام ، فالجواب بوجهين :

الأول : قال صاحب البرهان : ؛ لأن يوسف عليه‌السلام باعه إخوته وهو صغير عمره خمسة عشر عاما أو عشرين عاما ، ولم يمكث عند زليخا إلا أعوام يسيرة ، ثم جرت قضيته معها ، وقالت له : (هَيْتَ لَكَ) [سورة يوسف : ٢٣] ، فغاية الأمر أن يكون في أول سن البلوغ الأشد ، وهو إما عشرون ، أو خمسة وعشرون ، أو ثلاثون ، فلذلك لم يقل فيها : (وَاسْتَوى) وزادها في آية موسى عليه‌السلام.

الثاني : قال ابن عرفة : وظهر لي أن الجواب بأن يوسف عليه‌السلام هم بالفعل ، ولم يفعل موسى عليه‌السلام فعل ؛ لأنه وكز القبطي وقتله فناسب وصفه بأبلغ درجات القوة ، فلذلك قال فيها : (وَاسْتَوى).

قوله تعالى : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً).

ابن عرفة : يحتمل أن يريد بالحكم النظر الموصل للعلم ، أي آتيناه طريق العلم ، والعلم يحتمل أن يريد بذلك العلمية والعملية.

قوله تعالى : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ).

تواضع منه ؛ لأن المقول جزئي مباح الدم يعدها هو خطيئة ، وليست بخطيئة ، وهذه الوكزه هي قال فيها الإمام مالك رحمه‌الله : شبه العمد باطل ، وليس بخطأ ، وإنما هي عمد ، قال ابن عطية : أن يعقد يده ثلاثة وسبعين من حساب اللفظ ، ثم يضرب بها.

قوله تعالى : (بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ).

الباء للسبب أو للقسم ، وقوله تعالى : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) ، أي فلن أكون معينا للمجرمين ، قال ابن عطية : احتج العلماء بها على منع خدمة الظلمة ومعونتهم ، قلت :

٢٦٦

قال شيخنا أبو الحسن المطريني : سئل سيدي أبو الحسن المنتصر عن خياطة الثياب ، قال : النظر في صانع الإبرة ، وأما الخياط ففي قعر جهنم.

قال ابن عرفة : يريد إن كان خائطهم كما قال ابن رشد فيمن يخيط للكافر.

قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ).

قال ابن عرفة : تقدم المجرور للاهتمام إشارة إلى أن له أثرا في الخوف ، والألف واللام للعهد ، وعبر في هذا الفعل ؛ لأن المترقب متوقع وليس ثابت فيناسب الفعل المقتضي المتجدد.

قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى).

وقال تعالى في سورة يس : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) [سورة يس : ٢٠].

قال ابن عرفة : فكان شيخنا أبو عبد الله محمد بن سلمة ، يقول من عنده : إنما قدم الرجل هنا تحوطا على قلب النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم من أن يناله روع أو حزن على موسى عليه‌السلام ؛ لأنه لو قيل (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) [سورة يس : ٢٠] ، لأمكن أن يتوهم النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، أنه جاءه جماعة كثيرون يريهم الاستخفاف منه لأجل قتله القبطي ، فما يصل إلى ذكر الفاعل إلا بعد حصول الروع منه والفزع في القلب ، فبدأ بذكر الرجل احترازا من هذا ، كما قال تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [سورة التوبة : ٤٣] ، وأما سورة يس فأتت بعد ذكر الرسول فلا يؤثر فيها هذا التوهم فرعا إذا جاء الجماعة يجيبون بالحضّ على إتباع الرسول ، قيل لابن عرفة : هذا لا حاجة به ، بل يقال : هذه الآية وردت على الأصل ، وما السؤال إلا في سورة يس.

قال ابن عرفة : روى بعض الشيوخ المعمرين أن الأمير أبا عبد الله محمد ، المدعو بأبي عصيرة ، كان خليفة بتونس ، وكان الأمير أبو يحيى زكريا والد الأمير ابن أبي بكر خليفة بجاية ، وكان كثير الأسفار ، وطويل الغيبات في سفره ، وكان الأخوان : عمران ، وموسى ابن أسرعين أحدهما : بتونس ، والآخر : ببجاية ، فبعث أبو عصيرة حسينا أميرا عليهم ابن أسرعين ببجاية في غيبة الأمير أبي يحيى زكريا ، فدخل إلى أخيه موسى بكتاب من عند الملك ، فأمره فيه أن يخلع بيعة سلطانه ويبايع لابن عصيرة ، فامتنع ، وقال : والله لا أخونه فيما أمنني عليه ، فلما قدم الأمير زكريا أخذ عليه في فتحه الباب لأخيه ، وكونه أدخله ، ثم بعد ذلك يؤثر في قتله ، فكتب بعض الحاضرين إليه براءة

٢٦٧

صغيرة بهذا النص : (يا مُوسى إِنَ) [سورة القصص : ٢٠] ولم يكمل الآية ، ففطن بها موسى [...] وهرب من جنبه.

قال ابن عرفة : وذكر الغزالي في مثل هذا ، إن لم يكن فيه تعرض للتنقيض والاستهزاء فيما لا يحل فهو جائز ، وقد حكى فيه عياض في المدارك عن ابن العطار أنه يعلم بآيات في مثل هذا ، قلت : نقل عياض عن أبي عبد الله محمد بن أحمد العطار : أنه أفتى في فصلة من السهو بالسجود ، فقيل له : إن أصبغ بن فرج لم ير عليه سجودا ، فقال (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [سورة العلق : ١٩] ، قال : وبلغه أن ابن [...] لم يشهد عليه حين دعا الناس للشهادة بحرصه ، فقال : (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [سورة الإسراء : ٨٤].

قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ).

قال ابن عرفة : الظاهر المراد به أقصر الأجلين ؛ لأن الألف واللام إن كانت للعهد فالمعهود القريب ، وهو أقصاهما ، لأنهما كالضمير العائد على أقرب مذكور ، وإن كان للجنس فهو إما بمعنى الكل أو أكثرهما هو المجموع وهو الأقصى ، وإن أريد الكلية تناولت اقتضائهما ؛ لأنه كل فرد من أفراد الأجل.

قوله تعالى : (وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).

وفي الآية الأخرى (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) [سورة النمل : ١٠] مع أنه خاف ، فأجاب : بأن هذا الخوف أمر جبلي ، فالمراد كن آمنا مما تخافه ولا تلتفت إلى ما يقع في نفسك من الجزع والهلع بوجه ، قال : وفيها سؤالان :

الأول : كيف أكد الخوف بأن والمخاطب عالم بخفيات الأمور وغير منكر لذلك القول؟

الثاني : كيف خاف مع وعد الله ، لقوله تعالى : (وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ؟)

ثم أجاب عن الأول : بأنه أكده مراعاة لما رتب عليه ، من قوله تعالى : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [سورة القصص : ٣٣].

الثاني : أن المراد أن (لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) ، فما يوحي إليك به فلا يكن في نفسك منه هلع وخوف ، وأما ما لا يرجع إلى الوحي ، فلا يدخل في هذا.

قوله تعالى : (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ).

٢٦٨

كيف أكد القتل بأن الله أعلم بخفيات الأمور؟ فأجاب ابن عرفة : بأن التوكيد اعتبار المعطوف ، وهو خوف القتل.

قوله تعالى : (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً).

قال الزمخشري : سحر تعلمه أنت ثم تفتريه على الله ، أو سحر ظاهر افتراه ، أو سحر سرف؟ فالافتراء كسائر أنواع السحر ، وليس بمعجزة من عند الله ، زاد ابن عرفة : أو سحر اخترعته ، وحيث فيه جديد مبتدأ غير معهود في السحر بوجه لم يعلم له نظير في السحر.

قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ).

قرأ ابن كثير بحذف الواو ، والباقون بإثباتها.

ابن عرفة : وجهه أن من راعى كيفية اللفظ [٥٩ / ٢٨٧] ومعناه فأثبتها.

قوله تعالى : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ).

الآية الاستكبار على شخص مع استحقار المستعلي عن تحته ، وفي الأرض تنبيه على أن من هو في الأرض المحقرة الموطأة بالإقدام لا ينبغي أن يستعلي.

قوله تعالى : (بِغَيْرِ الْحَقِ).

إما سبب ، والمعنى واستكبر هو وجنوده بسبب هو غير حق ، فيرجع إلى متعلق الاستكبار ، وهذا صواب لأنهم إذا ذموا على الاستكبار بسبب أحرى أن يذموا على الاستكبار بغير موجب بوجه.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).

قال ابن عرفة : من شرط الواقع بعد لو لا أن يكون موجود ، كقولك : لو لا زيد لهلكنا ، وهو هنا مقرر الوجود .... (١).

__________________

(١) بياض وهو خرم في المخطوطة من الآية ٤٧ في سورة القصص إلى الآية ١٦ من سورة لقمان ، ولعله سقط من الناسخ وذلك لأن صفحات المخطوط متتالية في الترقيم والبياض المشار إليه بمقدار مصف صفحة ، وهو أقل من السقط بكثير ، والله أعلم.

٢٦٩

سورة لقمان

[٥٩ / ٢٨٨] قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ).

قال ابن عرفة : اختلفوا هل ابتداء وصية أخرى من لقمان لولده أو جواب عن سؤال مقدر سأله عنه ولده ؛ لأنه لما أوصاه باعتقاد وجود الله تعالى ووحدانيته ونفي الشريك عنه ، سأله عن صفاته من العلم والقدرة والإرادة ، فأجابه بهذا.

وقوله تعالى : (إِنَّها) ، قال أبو حيان : إنها ضمير القصة ، وقال الزمخشري : الضمير راجع للهيئة من الإساءة والإحسان ، أي الفعلة ، وقال ابن عطية : المضمر للفعلة.

قال ابن عرفة : والظاهر أنه غير ماهية الشيء لتناول الجواهر والأعراض والفعلة عرض ، وكذلك الهيئة والقصة.

قوله تعالى : (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ).

وقال تعالى في سورة إذا زلزلت : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة : ٧ ـ ٨] ، ولم يقل : (مِثْقالَ حَبَّةٍ؟) فأجيب : بأن الخطاب هنا خاص بمعنى وهو ولد لقمان ، فتناسب ذكر الحبة التي هي أظهر وأجلا وأخص من الذرة ، والخطاب هناك عام ، فناسب تعلقه بالذرة التي هي أعم من الحبة وأخف ، فإن قلت : ما أفاد لفظة مثقال؟ قلنا : الخطاب بتعلق القدرة بالحبة خاص بها ، والخطاب بتعلقها بمثقالها عام فيها ، وفي كل ما هو في وزنها مما ليس بحبة ، فإن قلت : هلا قال : مثقال حبة خردل بالإضافة ، قلنا : نص التخصيص بعد الإبهام ، كقوله (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [سورة البقرة : ١٢٧] ، ولم يقل : قواعد البيت ، فإن قلت : ما أفاد ، قوله (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) ، وهلا قال (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) قلنا : إما على قراءة فتكن بالتشديد فالفائدة ظاهرة ، وإما على قراءة التخفيف فوجه فائدة تظهر بما قال المفسرون ، في قوله تعالى : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) ، إنه راجع إما لصفة القدرة ، أو لصفة العلم ، فإن كان لصفة القدرة ، فيقول : ذكر الأصوليون إن الحادث قبل حدوثه لا تعلق به قدرة بلا خلاف ، وحين حدوثه فهي متعلقة به بلا خلاف وبعد حدوثه ، قال في الإرشاد : اتفقوا على أنها غير متعلقة به فيكون قوله تعالى : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) ، فمعنى إن توجد مثقال حبة ، وقوله تعالى : (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) ، أي فتبقى في الصخرة.

٢٧٠

وقوله تعالى : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) ، إشارة إلى تعلق القدرة في الزمن الثاني عن إيجاده ، فهو إشارة إلى نفي ما يتوهم من عروض النسيان له بعد إيجاده والذهول عنه ، فلا يتعلق به العلم القديم حينئذ ، فقوله تعالى : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) ، أي بعلمها الله ، قال : وخفاء الشيء يكون إما لبعد مسافة ، وإما لحاجب بينه وبين الناظر إليه ، وإما لاختلاطه بغيره ، فقوله (فِي صَخْرَةٍ) ، راجع لوجود الحاجب ، وقوله (أَوْ فِي السَّماواتِ) ، راجع لبعد جهته ، وقوله (أَوْ فِي الْأَرْضِ) ، راجع لإخلاطه بغيره ، أو راجع لموجود في ظلمة.

قوله تعالى : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ).

ابن عرفة : إن قلت : لم كرر النداء؟ قلت : عادتهم يجيبون : بأن الوصية إن كانت في موطنين فتكريره مناسب ، وإن كان في موطن واحد فكرره لوجهين :

إما تأكيد بعده القريحة واستحضارها لسماع هذه الوصية الثانية للولد ، فإنه في الأولى أوصاه بأمر علمي اعتقادي ، وفي الثانية أوصاه بأمر عملي ، أمره بإقامة الصلاة دون غيرها من العبادات لتكررها في اليوم والليلة.

قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

اعتزل ابن عطية هنا فقال : هذا إنما يريد به أن يمتثل هو في نفسه ويزدجر عن المنكر.

قال ابن عرفة : هذا اعتزال ، ولذلك كان شيخنا ابن عبد السّلام يحرر من المطالب من نظر ابن عطية ، فإنه سيىء لكنه ينقل كثيرا عن الرماني ، وهو معتزل فيغفل أحيانا عن كلامه ، فيعتزل من حيث لا يشعر ، ومذهب أهل السنة يجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وإن كان متصفا ، لقوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [سورة المائدة : ٧٩] ، قيل لابن عرفة : لعل ابن عطية لم يرد بذلك الوجوب بل الاستحباب ؛ لأنه أدعى إلى القبول ، قال [٥٩ / ٢٨٩] الأخطل :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، قال البيضاوي : هو جزم تردد الإرادة ، وقيل : توطين النفس على الفعل.

قوله تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ).

٢٧١

الأصل أن بعد لكن اللام ، هنا ليست للتعدية بل للتعليل ، أي لا تمل خدك لأجل الناس.

قوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).

قال ابن عرفة : إنما لم يقل : واقصد في مشيك وصوتك ؛ لأن المشي أقسام : مشي في غاية الضعف والبطء ، ومشي في غاية السرعة والاستعجال ، ومشي متوسط مقتصد ، فأمر بالتوسط فيه ، والصوت أحد طرفيه منتف ههنا ، وهو أضعفه وأخفى ، لأن المقصود منه الإسماع ، فلم يبق منه إلا القسم الثاني ، وهو أعلاه وأبلغه المتناول لأقصى غاية الإجهاد ، فأمره بالنقص من هذا والاتصاف بما دونه.

قوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

ولم يقل : لصوت الحمار ؛ لأن ذلك خرج مخرج التقبيح ، وأصوات الحمير مجمعه أشد من صوت حمار واحد.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ).

قال ابن عرفة : مثل هذا في القرآن كثير ، وإنما أتى بهذا البعض منكرا دون تعيين لوجهين :

إما قصد التستر عليه ، وإما قصد العموم التخويف ، حتى أن كل أحد من المخالفين يظن أن الآية تتناوله ، والمجادلة تتعدى باللام ونفي ، والمجادل لله بحق ، لأنه يجادل لإظهار دين الله ونصرته ، والمجادل في الله مبطل ، لأنه يجادل قادحا في دين الله لنصرة الإشراك بالله.

قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ).

قال ابن عرفة : تقسما فيها أن المجادل في الشيء تارة يكون جداله بعلم استعمله واستنبطه من عقله ، وتارة يأتي بدليل استفادة من غيره ممن هو مثله ، كمن يستدل بدليل ذكره القاضي الباقلاني ، أو غيره ، وتارة يأتي بدليل سمعي : كتاب ، أو سنة استفادها من نبي معصوم ، أو بلغه عنه ، فالأول : راجح لقوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، والثاني : بقوله تعالى : (وَلا هُدىً) ، والثالث : بقوله تعالى : (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ).

قوله تعالى : (مُنِيرٍ) إشارة إلى ذلك الدليل الذي من الكتاب والسنة قطعي الثبوت ، وقطعي الدلالة ، وأشار الفخر إلى بعض ، قال : وفي الآية حجة من قاعدة المنطق واستعمال لفظه غير ذي الأولى ، لأنها كالمعدولة المقتضية لوجود الموضوع ،

٢٧٢

فالمعنى : ومن الناس من يجادل في الله بشيء هو غير علم ؛ لأن المجادل في الله قابل ؛ لأن يستفيد علما بعقله ، كقوله : زيد غير بصير ، ولم يأت به في الثاني ، لأن الدليل في إبطال دين الله المستفاد من العقل أو الكتاب أو السنة منتف غير ثابت في نفس الأمر فنفيه من باب السلب ، مثل الحائط لا يبصر.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ).

قال الفخر : هنا الفعل أبلغ من القول.

ابن عرفة : بل بينهما عموم من وجه ، فالفعل أبلغ من القول باعتبار الحصول والقول أبلغ من الفعل باعتبار المتعلق ؛ لأن متعلقه أمر كلي ، ومتعلق الفعل خبر ، أي ولذلك العالم يقتدى بقوله دون فعله ، فإنه يترخص في نفسه بما لا يفتى به لغيره.

قوله تعالى : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا).

فرق بعضهم بين وجدوا لقاء بأن الوجدان يكون اتفاقيا على غفلة من غير قصد ولا تقدم شهود ، ومنه وجدان الضالة ، واليقين يقتضي وجدان ما كان ثابتا دائما مستقرا ، قال ابن عطية : الآية دالة على إبطال التقليد ، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد ، انظر تمامها في البقرة والعقود.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).

عداه باللام ، فأجاب : بأن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء التي لا تقتضيه.

قال ابن عرفة : فوجه مناسبتها هنا أنه لما كان المخبر عنه فيما قبلها لم يخص به واحد بعينه بل أتى به مطلقا عقبه بحال من حصل منه مطلق استسلام لله تعالى ، فإنه ممدوح ليتناول مدح من اتصف بالنص الاستسلام من باب أحرى ، بخلاف قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [سورة البقرة : ١١٢] ، فأتى به خاصا لأجل ما رتب عليه من الثواب الجزيل الذي لهم في هذه القصة إلا بعضه.

قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ).

قال الظاهر في من إنها شرطية لا موصولة ، تقتضي وجود الموضوع.

٢٧٣

الثاني : إنها معطوفة على قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ) وهي شرطية ...... (١) من باب لأرينك ههنا ، أي لا تتذكر أسباب الحزن على كفره ، فتحزن على كفره فإنما أنتقم لك منه.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

قال ابن عطية : هذا مثل قولهم : معتبط بذي بطنه ، وقولهم : ذو بطن بنت خارجة.

قال ابن عرفة : وانظر هل الحزن على فوات أمر محبوب ، كقوله تعالى :

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [سورة يوسف : ٨٤] ، أو على وقوع أمر مكروه ، كقوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) [سورة آل عمران : ١٧٦] ، وهو الظاهر من نص هذه الآية.

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي) لأجل (مُسَمًّى).

قال الزمخشري : إن قلت : تجري لأجل ، وتجري إلى أجل مسمى ، فهذا من تعاقب الحرفين ، قلت : كلا ولا نسألك هذه الطريقة إلا بدليل ؛ لأن إلى لانتهاء الغاية ، واللام للاختصاص ، وكل واحدة منهما لها معنى لا تصلح فيه الأخرى ، نحو : أعطيت لزيد ثوبا وسرت إلى عمرو ، ومنه قوله تعالى في سورة يونس عليه‌السلام (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) [سورة يونس : ٣٥].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ).

الخطاب لجميع الإنس والجن ، وعرف القرآن في الناس أنهم بنو آدم ، لكن الخطاب التكليفي يتناول الجميع.

قوله تعالى : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ).

قال الزمخشري : لم أكد ، قوله تعالى : (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ولم تؤكد ، قوله تعالى : (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) شيئا ، فأجاب : بأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إليها ، قوله (هُوَ) ، وقوله (وَلا مَوْلُودٌ) وهذا إنما يصدق على الوالد المباشر ، بخلاف لفظ الولد ، فإنه يتناول ولد الصلب ، وولد

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٢٧٤

الولد ، وكذلك قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [سورة النساء : ١١] ، ورد ابن عرفة الأول بأنها ليست جملة اسمية بل فعلية ، فمولود من قوله : (وَلا مَوْلُودٌ) ، فاعل مقدر ، ولا تجزي مولود أو هو معطوف على الجملة الفعلية ، وقوله (هُوَ جازٍ) ، في موضع الصفة لمولود ، أي لا يجزي مولود بلغ الغاية في الإجزاء ، والنيابة عن أبيه ، والقدرة على إنقاذه من المهالك ، قال : وتقدم الجواب : أنها إنما كانت الجملة الثانية دون الأولى ؛ لأن الأب يوجد فيه من الرأفة والحنان على ولده ما لا يوجد في الابن على أبيه ، بدليل أن الإمام مالك رحمه‌الله ، قال فيمن قتل ولده عمدا إنه لا يقتل به بل تغلظ عليه الدية ، بخلاف ما إذا قتل الولد أباه عمدا ، فإنه يقتل به فلا يجزي عن أبيه إلا الولد الجاني حقيقة ، وهذا الباب مطيع له ، فدخل النفي عليه مؤكدا فنفاه ولم يحتج إلى تأكيد الأول ، واكتفى فيه بمطلق الإجزاء ؛ لأن إجزاء الأب عن ولده معلوم بالوجود الخارجي.

قوله تعالى : (شَيْئاً).

تأكيد للنفي إلا إنه نفى الفعل المؤكد ، فالتأكيد دخل بعد النفي ؛ لأن النفي دخل عليه.

قوله تعالى : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

مناسب لقوله تعالى : (اتَّقُوا) ، فلذلك لم يقل : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

قوله تعالى : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).

من باب لأرينك ههنا.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ).

أورد الطيبي سؤالا ، وهو لم قال : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ، مع أنه ليس المراد الإعلام بأنه ينزل الغيث ، وإنما المراد باختصاصه بعلم وقت نزول الغيث ، وأجاب بوجهين :

الأول : إنه على إضمار إن ، كقوله :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد الذات هل أنت مخلدي

[٦٠ / ٢٩٠]

الثاني : أن الإعلام بقدرته على تنزيل الغيث يستلزم علمه بوقته ؛ لأن القادر على الشيء عالم به ، ورد ابن عرفة : الأول بأنه شاذ ، قال : وإنما عادتهم يجيبون بقوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) ، فإنه إذا بقى عنها علمنا بمكتوبها الذي

٢٧٥

هو من قدرتها ، فأحرى أن ينفي عنها علمها بما يكسب غيرها مما هو من جنسها ، فأحرى أن ينفي عنها علمها مما أختص بالقدرة عليه خالقها.

قوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً).

قال ابن عرفة : نقلوا عن ابن الطراوة : صيغة افعل أنها مختصة بالحال ، وعن الزجاج : أنها مختصة بالاستقبال ، وعن الجمهور : أنها مشتركة بينهما ، احتج ابن الطراوة بأن المستقبل لا يخبر به إلا عن أن أو عن مبتدأ عام كقوله :

وكل الناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفر منها الأنامل

قال : ولا يعترفن بقولك زيد يقوم غدا ؛ لأن معناه ينوي أن يقوم ورد عليه البقريني وغيره بقول الشاعر :

فلما رأته آمنا هان وجدها

وقالت أبونا هكذا سوف يفعل

قال وأما قوله معناه ينوي إلا أن يقوم إذا فمردود بهذه الآية ، لأن الإنسان لا يدري ما ينوي إلا أن تنفر عند درايته ، قال البقريني : يفسره وغيره.

قال ابن عرفة : وعادتهم يجيبون : عن ابن الطراوة : بأن النية قسمان : صادقة ، وهي التي طابقت ما آل إليه الأمر ، وكاذبة ، وهي خالفت عاقبة الأمر ، فالمنفي في الآية هي النية الصادقة ، فهو لا يدري الآن أن ينوي ما يكسب عدائية صادقة لا تتخلف ، ويخرج الأمر على وقفها.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ).

قيل لابن عرفة : إن قلت : ما فائدة قوله (مِنْ شَجَرَةٍ) ، ولو حذف لكان أبلغ ، لأنه إذا كان جميع ما في الأرض من شجر ، وحجر ومدر وعظام أقلاما ، وكتب بها كلمات الله تعالى فلم تنفذ بنفوذ الأقلام ، فأحرى أن لا تنفذ حالة كتبها بالأقلام المصنوعة من الشجر فقط ، والجواب : بأنه لو لم يقل من شجرة لزم منه المحال ، لأن الأرض فيها الجوهر والعرض فيلزم صيرورة العرض لكلاما وهو محال ، وكان يلزم عليه المحال ، وهو نفوذ كلمات الله تعالى ؛ لأن المحال قد يستلزم محالا ، ورده ابن عرفة في مختصره المنطقي : بأنه لو استلزم المحال محالا لما صدقت قضية تقدمها كاذب ، مع أنه قد تصدق وقد تكذب ، فإن قلت : هلا قال : ولو أن ما في الأرض من شجر أقلام ، فالجواب : أن الشجر أقرب إلى الأقلام من الحجر.

٢٧٦

سورة السجدة

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

قال ابن عرفة : جاءت هذه الآية موصولة غير مفصولة بحرف العطف ، لأنها بيان ما قبلها ، ودليل عليه من جهة أن حقيقة رسالة المرسل يستدل عليها بالمعجزة ، وبما هو من فعل مرسله الخاص به وهذه منه ، قال بعضهم : من حقيقتها أن السماوات ليس بينهما خرق ، ولو كان بينهما خرق ، لقال : ما بينهما أو لقال : وما بينهن بضمير التأنيث ، فلما أتى بضمير التثنية ، دل على أن المراد ما بين السماء والأرض ، وأجيب : أن الشاهد منها ما بين السماء الدنيا والأرض ، ورد بأن جميعها مشاهد لقوله تعالى : في سورة نوح عليه‌السلام (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [سورة نوح : ١٥ ـ ١٦] ، فكان قوم نوح عليه‌السلام لطول أعمالهم أدركوها بالرصد ، وأجيب : بأن الشاهد أن في السماوات في أنفسها لا ما بينها.

قوله تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

الظرف تارة يعتبر من حيث كونه محالا للفاعل ، وتارة يعتبر من حيث كونه محالا للمفعول والفاعل ، يقول ضربت زيدا في المسجد ، وأنتما معا فيه وحده وأنت [٦٠ / ٢٩٠] في الطريق ، أو العكس ، وتقول : ضربت زيدا يوم الجمعة ، وأنتما معا فيه ، كقوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، الظرف هنا منسوب للمفعول فقط ، واليوم ليست حركة الفلك بالطلوع والغروب ؛ لأن لا يلزم الدور ؛ لأن الفلك خلق فيه فاليوم سابق عليه ، فالمراد مقدار حركة مقدرة ، وقول ابن عطية : روي أن الله أخذ الخلق يوم الأحد ، وقيل : يوم السبت (١).

ابن عرفة : فتسمية هذه الأيام أمور جعلية ، والمحال المقدم في حملها على حقيقتها أمر عقلي.

قوله تعالى : (وَما بَيْنَهُما).

يؤخذ منه أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.

قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ).

__________________

(١) أورد المصنف في الحاشية : الصحيح ابتداء الله تعالى الخلق يوم السبت كما رواه الإمام مسلم في صحيحه مفصلا.

٢٧٧

الولي : الحافظ ، وهو الذي خيره بقوله : يدفع عنه بالمحاولة والرغبة ، فالولي يمنعه من الملك لقوته ، والشفيع : يمنعه منه بجاهه عنده ومكانته ، وانظر ما تقدم في سورة الأنعام في قوله تعالى : (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) [سورة الأنعام : ٧٠].

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ).

قال ابن عطية : عدة تأويلات فعن مجاهد وابن عباس وجماعة : ينفذ الله تعالى قضاه بجميع ما يشاء ، ثم يعرج إليه ذلك في يوم مقداره أن لو سير فيه السير المعروف من البشر ألف سنة ؛ لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة ، وقيل : يدبر : يلقى إلى الملائكة ألف من عندنا ، وهو اليوم عنده ، فإذا ألقى عليهم مثلها إلى أن ينفذ الأمور عنده لهذه المدة ، ثم تصير إليه أخرى ، وكلها عن مجاهد ، وقيل : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في هذه الدنيا ، ثم يعرج إليه يوم القيامة ، ويوم القيامة مقداره ألف سنة لشدة هوله ، وهذا راجع لقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، أي كل يوم منها ألف سنة ، وعن أبي يزيد : أن الضمير في مقداره عائد على العروج ، وهو الصعود ، وقيل : يدبر أمر الشمس أنها مقعد وتنزل في يوم ، وذلك قدر ألف سنة ، زاد الزمخشري الأمر المأمور به من الطاعات ، يدبره ثم لا يعلم به مطاولة نقله الصلحاء والطائعين ، ولا يوصف بالصعود إلا الخالص ، قال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [سورة فاطر : ١٠] ، قيل : ينزل الوحي مع جبريل إلى الأرض ثم يصعد إليه مع ما كان من قبوله أو رده في وقت هو ألف سنة ، وهي مشاقة الطلوع والهبوط وسرعة سير جبريل.

قال ابن عرفة : وظهر لي معناه ، وأورده ابن عرفة في قوله (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) سر الأفعال تقدير الآية لو شئنا إتيان كل نفس هداها لآتيناها هداها ، فيلزم عليه أحد أمرين وهما : إما تحصيل الحاصل أو تقدم الصفة على الموصوف بيان ذلك أنه أن يراد بقوله تعالى : (شِئْنا) الإرادة التنجيزية أو الصلاحية ، فإن كان الأول وهو إيراد الإرادة التنجيزية ، لزم تحصيل الحاصل ، وأنه يصير المعنى حينئذ : لو أوقعنا الهداية بالفعل لوقف بالفعل ، وإن كان الثاني وهو أن يراد الصلاحي لو تم تقدم الصفة على الموصوف ، وبيانه أن الإرادة من الصفات التعليقية وهي قديمة والنفوس حادثة ، فيلزم وجود التعلق الذي هو صفة في الأزل دون المتعلق ، وذلك نفس تقدم الصفة على الموصوف ، قلت : وهذا جواب بتقدير الإشكال المذكور في الأصل فتأمله.

قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ).

٢٧٨

أي خلقا حسنا في صفته ، والأعمى كذلك ، وهذا إكمال نجد الصناع من الدهاقين والنجارين والخياطين يصنع بعضهم مثالا ينطبق على الصورة سواء ، وآخر يصنعه غير مرتب فلا ينطبق على الصورة.

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها).

قال ابن عرفة : عادتهم يقولون : المراد لو شئنا هداية كل نفس لهديناها فتعلق المشبه بالهداية ، فالهداية إن كان تخيريا لزم عليه تحصيل الحاصل وعدم الفائدة في التركيب ؛ لأنه يكون المعنى [٦٠ / ٢٩١] لو حصلنا هداية كل نفس بالفعل لحصلناها بالفعل ، وإن كان صلاحيا لزم عليه تناهي إرادة الله تعالى ، لأن متعلقاتها وهي النفوس متناهية ، وما ثبت لأحد المتلازمين ثبت للآخر ، فالمراد لو أردنا الأزل هداية كل نفس هدايتها بالفعل ، وكل ما دخل في الوجود متناه ، وهو ملزوم للإرادة ، وأجيب : بأنها متعلقة بخاص ، والخاص متناه بالضرورة ، فلا يلزم منه تنافيها.

قوله تعالى : (هُداها).

أي هداها اللائق بها ، قيل : لابن عرفة : قال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ) فهو المستلزم لحصول الهداية ، وإنما إتيانها هداها ، فقد يعطي الإنسان ولم يقبله ، فقال :

إنما ذلك في غير العالم ، وأما العالم بخفيات الأمور فلا يعطى إلا لمن يقبل.

قوله تعالى : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا).

النسيان يريد بمعنى الترك ، قال الآمدي : منع المعتزلة إطلاق صفة الترك على الله تعالى ، وأجازها أهل السنة بقوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) [سورة البقرة : ١٧].

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا).

قال ابن التلمساني في شرح المعالم : الآية إن تحدى بها فهي معجزة ، وإن لم يتحدى بها فهي آية ، ولفظ الآية أعم.

قوله تعالى : (خَرُّوا سُجَّداً).

المراد به الخشوع للسجود الفعلي حقيقة ؛ لأنه غير ملازم لهم ؛ لأنه يلزم أن لا يؤمن بها إلا من سجد بالفعل ، وسجد حال مقدرة لا محصلة ؛ لأن السجود إنما هو بعد الخرور.

قوله تعالى : (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

٢٧٩

ولم يقل : سبحوا بنعمة ربهم ؛ لأن النعمة غير ملازمة لهم.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً).

قال ابن عطية : نزلت في علي والوليد بن عقبة بن أبي معيط ؛ لأن الوليد قال لعلي كرم الله وجهه : أنا أغبط منك لسانا وأحد سنانا وأرد مكسبة ، فقال له علي : أسكت يا فاسق.

ابن عرفة : إن صح كيف أن نقول له هذا ، وهو مسلم ، فأجاب : باحتمال أن تكون هذه نزلت بعد آية الحجرات وهي (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [سورة الحجرات : ٦] ، لأنها نزلت في الوليد لما بعثه النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ببني المصطلق ، فقال له : أنهم لم يؤمنوا فأرسل إليهم علي بن أبي طالب ، فخرجوا بأجمعهم وآمنوا فنزلت الآية ، وكان الوليد لما رآهم خرجوا بجماعتهم ظن أنهم يقاتلونه ، وهو الذي ولاه عثمان على الكوفة ، وعزل عنها سعد بن أبي وقاص مرة ، ويقال : إن الوليد أخو عثمان مرة لأمه فبقي واليا عليهم إلى أن صلى بهم الصبح أربع ركعات ، وقال : إن شئتم أزيدكم ، فقال ابن عباس : ما زال أمرنا في زيادة منذ وليت علينا فإذا هو سكران فعزله عثمان ، وأمر بجلده ، فجلد وهو يعد أسواطه حتى بلغه أربعين فأمره علي رضي الله عنه بالكف عنه ، وقال : جلد رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في الخمر أربعين ، وأبو بكر رضي الله عنه وعمر ثمانين ، فإني رأيت أن تقف على أربعين فافعل ، قاله أبو عمرو ، وفي الاستيعاب ، وهو خلاف ما نقله عنه الأصوليون من أن عليا كرم الله وجهه اختار في حد الخمر ثمانين ، وقال : إذا شرب هذا افترى فأرى عليه حد الضربة ثمانين ، وذكر أنه شهد عليه رجل أنه شربها ، وأخبر بأنه قاءها ، فقال عثمان : ما قاءها حتى شربها.

قال ابن عرفة : ولما تقدم الكلام على المؤمن ومدحه بأخص وصفه عقبه ببيان أن مطلق الإيمان ومطلق الفسق لا يستويان ، وهو دليل على أن المراد هنا بالفسق الكفر ، لأنه جعله ضد مطلق الإيمان.

قوله تعالى : (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى).

قال ابن عطية : سميت جنة المأوى ؛ لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها إلى قناديل معلقة تحت ساق العرش ، والعرش سقف الجنة ، ولعلها تأوى إليها في الدنيا ؛ لأن الشهيد تنعم روحه وجسده.

قوله تعالى : (نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

٢٨٠