تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

سورة المؤمنين

وقوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)

قال الزمخشري : هو حرف توقع.

قال ابن عرفة : هذه عبارة المتقدمين والمتأخرون ، يقولون إنها حرف تحقيق مع الماضي ولا ينافي ذلك أنها مع المضارع للتوقع ، قال : وتارة يكون التوقع صادقا ، وتارة يكون كاذبا ، وذلك أن القائل : يقوم زيد هو على أربعة أقسام :

تارة باقي حرف التوقع ، والقيام متوقع عند الناس عنه ، لكن لم يقع في الخارج ، وتارة يكون القيام متوقعا عند الناس ، ويقع مدلوله في الخارج ولا يأتي المتكلم بحرف التوقع فهذه ثلاثة أقسام : المتوقع فيها صادق ، وبقى قسم رابع : وهو إتيانه بحرف التوقع حاله كون القيام غير متوقع عند الناس ، ولكنه يقع في المستقبل على حسب ما أخبر به ، فهل هذا توقع صادق؟ أو مطروق فيه نظر ، واللغو هو الكلام الذي لا فائدة فيه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).

قال الإمام الغزالي : الخشوع في الصلاة واجب وإلا جرى تحصيل ما يراه الدين خاصة ، وأما القبول والثواب فأمر آخر.

ابن عرفة : وهذا على خلاف الأصوليين في هل هي موافقة؟ ويراه الذمة والجروح من العهدة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ).

وقيل : أي مانعون ، وقيل : أي فآمرون.

ابن عرفة : وتقدم لما خصه أنه يلزم عليه أن يكون المعنى مخصوص كقولك : قصرت المال على الصدقة أي خصصته ، فالمراد : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) فإنهم لا يخصونهم بذلك فيلزم نقيض المطلوب.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ).

قال ابن عرفة : ترتيب هذه المعطوفات بدني ، والخشوع في الصلاة أمر قلبي ، والقلب أشرف ما في الإنسان ، واللغو من أفعال اللسان ، وهو ترجمان عن القلب ،

٢٠١

فهو ثان عنه الصلاة واللغو عامان بجميع الناس ، والزكاة خاصة ، فكانت ثالثة عنهما ، ولما كانت هذه الثلاثة أمور خاصة ، والنكاح أمر تكميلي ليس بحاجي لا سيما إذا قلنا : إنه من باب الفكاهات لا من باب الأقوات ، فكان حفظ الفروج أمر خارجا عنهما والأمانة خاصة بمن يصلح بها لا بكل الناس ، والمحافظة هو الإيمان بها في أوقاتها ولما كان وجوبها متقدما على تعيين أوقاتها ، ذكرت أولا ثم ذكرت المحافظة عليها في أوقاتها بعد ذلك ، ولما كانت أوقاتها محددة شيئا بعد شيء أتى بالمحافظة عليها بالفعل ، بخلاف الإعراض عن اللغو وفعل الزكاة وحفظ الفروج ورعي العهود والأمانة ، فإن المراد منهم الثبوت على ذلك ، والميراث إما أخذ الشيء بموجب ، وهو الميراث الشرعي ، وبغير موجب ، وهو إرث الفردوس ؛ لأنه ليس في مقابلة العمل بل مخص فمحتمل من الله عزوجل ، هل يرجع هذا إلى الحصر أو مبني على تقيد إذا تعقب عملا؟ هل يعم الجميع أو يرجع إلى الآخر؟ فهل مجموعهم يرثون الفردوس ، أو كل واحد منهم؟

قوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً).

عطف الأول بثم ، والثاني بالفاء قيل لبعد ما بين النطفة والعلقة ، وقرب ما بين النطفة والمضغة ، ورد بأن الشارع ساوى بينهما في قوله ، ثم تكون نطفة أربعين ثم علقة أربعين ، وأجيب : بمكان إفساد النطفة بخلاف العلقة.

قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ).

عبر عن الأول مؤكدا بأن واللام ، وأما في الثاني بأن فقط والمتبادر للذهن العكس ، بأن الموت لم ينكره أحد ، والبعث ينكره الكفار ، والحكماء والفلاسفة ، وأجيب : أنه من باب حمل اللفظ على غير ظاهره مثل : جاء شقيق عارض رمحه إن بغى [...] فيهم بدفع فهم بعصيانهم ومخالفتهم لم يعملوا على الموت ، فحالهم كحال [...] ، وما كانت دليل البعث ظاهره صادقا للثابت.

قال ابن عرفة : من هذا لا يتم إلا على مذهب المعتزلة في قاعدة التحسين والتقبيح وجوب الإعادة ، قلت : إما أن يجيب بأنهم دليل البعث الفعلية ظاهره ونحن نقول دليل البعث السمعية علما ظاهره ، فإن قلت : لم عبر عن الموت بالاسم ، وعن البعث بالفعل ، قلنا : لما تقدم من الجواب في التأكيد.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ).

٢٠٢

دليل على أن السماء بسيطة ، إذ لو كانت كورية لما كانت فوقنا ... (١) وأجيب : بأن الجزء السامت فكل شخص هو فوقه ، والجزء السامت [...] هو تحته وفوق الشخص آخر ، والسماء [.....] ، وفوقنا وهي تحت ، وقوله تعالى : (خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) ، دليل على أن الجسم والعرض لا يبقى زمانين ، وهو قول ثالث ، قيل : إنما هما مبقيان ، وقيل : يبقى الحسم دون العرض ، ولا شك أن خلق السماء متقدم علينا ، ولا كونها فوقنا إلا بعد وجودنا ، فقوله تعالى : (خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) ، دليل على أنها في كل زمن مجزومة مخلوقة.

قوله تعالى : (طَرائِقَ).

طرق بينها للملائكة.

قال ابن عرفة : هذا دليل على أنها ليست ملتصقة إلا أن يقال : الطرق فوق أعلاها بينها وإنها متلاصقة ، وفيها خلاف ، قيل : إنها سبع ، وقيل : تسع على الجملة ، وعلى التفصيل أربع وعشرون ، حكوا ذلك في كتب الهيئة وأشار إليه البيضاوي.

قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ).

قال ابن عرفة : فيه دليل على تعلق القدرة بالعدم الإضافي ، وكذلك ما في الحديث [٥٦ / ٢٧١] " فإن قدر الله علي ليعذبني".

قوله تعالى : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ).

قال ابن عرفة : الإنشاء هو ابتداء الشيء على أكمل وجه ، والضمير في به عائد على الماء ، هل الماء هو الأصل في النبات والتراب وهما معا؟ قال : والظاهر أن الماء مكمل للإنبات إذ التراب وحده لا ينبت فهو الجزء المكمل فلذلك نسب إليه الإنشاء.

قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ).

قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول الكثرة إما راجعة لآحاد الفاكهة أو لأصنافها ؛ لأن العنب أصناف ، والتمر أصناف ، وكل صنف من ماله آحاد منعقدة ، وكل نوع لا يشبه الآخر ، قال : واشتملت هذه الآية على العلل الأربعة ، وهي المادة ، والفعل ، والغاية ، والصورة بالماء ، هو العلة المادية التي استمد منها النبات ، والأقل هو العلة الغائية ، والمنفكة هو الصورة باعتبار صور الفاكهة وأنواعها ، والفاعل راجع لقوله تعالى : (فَأَنْشَأْنا ؛) لأن الفاعل معالي وكثر بالنقلة عن الأول ؛ لأن غالب التمر والزيت

__________________

(١) كلمة غير واضحة بالمخطوطة.

٢٠٣

إنما هو الفعلة لا القوت ، لقوله تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ، أن ينقل من طور سيناء إشارة إلى أن الزيتون من الشام ثم نقل منه إلى سائر البلاد.

قوله تعالى : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).

الصبغ قال الزمخشري : هو غمس الأيدي في زيتها للأكل به.

قوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها).

أعاد الضمير على بعض الجمع ، وهو المؤنث منها.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً).

قال ابن عرفة : هذا تناقض منهم ؛ لأنه أول رسول بعث ، فلم يتقدم قبله رسول ، فلم يعلموا الملائكة إلا من قوله وهم قد كذبوه ، قيل له : قد قيل : إن آدم أرسل إلى بنيه فلعلهم علموا بالسماع منه ، وخلق الله لهم علما ضروريا أو خاطبوه على تقدير صحة قوله.

قوله تعالى : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

مفهومة أنهم لو سمعوا ذلك لقتلوه فيؤخذ منه أن خبر التواتر تقييد العلم ، وقوله تعالى قبل هذا (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

قال ابن عرفة : هذه مثالية لا معدولة ؛ لأن موضعها غير موجود بوجه ؛ لأن وجود غير الله محال بل الموضع موجود تقديره : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، فالموضع هو أنتم فهي معدولة وليس موضعها الله غيره.

قوله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ).

قال ابن عرفة : هو انتظار لأمر مؤلم.

قوله تعالى : (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

قال ابن عرفة : الألف واللام للجنس ، قيل لابن عرفة : حكى الشيخ النواوي رحمه‌الله تعالى في الأذكار أن الحافظ أبا عمرو بن الصلاح ، سئل عمن حلف أنه يحمد بجميع محامده ، فأجاب : بأنه ليس بقوله الحمد لله ، وإنما يريد بقوله : " الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه ، ويقول : الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه ، ويقول : الحمد لله حمدا توافى نعمه وتجافى مزيده ونقله حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٠٤

قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).

إن قلت : قد خاطبه بقوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [سورة هود : ٤٥] ، قلنا : سأله عن سبب نزوله ، ولم يطلب منه رفع العذاب ، وإنما سأله ليعرف موجب قدرته ؛ لأنه كان وعده تنجية أهله وهو يعتقد أنه منهم وعطف : قال الأولى بالفاء ، لأنها في قضية نوح عليه‌السلام ، وهو أول من بعث فناسب مبادرة قومه بالتكذيب لعقب الرسالة ؛ لأنه لم يتقدم له نظر في ذلك ، فجاءهم بأمر غير معهود لهم ، وأما الثاني فهي قضية هود وصالح ، وقد تقدم قبله إرسال نوح عليه‌السلام بزمان متطاول وغيره ، فعطفه بالواو التي تقتضي الترتيب والتعقيب ولا تنفيهما ، فيحتمل أنهم قالوا ذلك عقب إرساله أو بعده بزمان طويل ، إن قلت : لم قال أولا (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) ، وقال تعالى ثانيا (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) ، قلنا : الجواب كالجواب المتقدم ، فإن القضية الأولى من قوم لم يعهدوا الرسالة فالكفر فيهم متصل ثابت فبدأ به تنبيها على أنه حاصل لهم على هذه المقالة ، وأما الثانية فابتدأ فيها بالقوم إشارة إلى أن كفرهم غير عام فيهم ، وأن القائل بعض القوم لا كلهم ، ويحتمل أن يجاب بأنه قدم القول وهنا العطف على وصفهم بالكفر غيره من الصفات.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً).

عطف على جواب الشرط فظاهره أنه يقول : تعقب الاستواء على الفلك مع أنه إنما يقول ذلك حين تركه في الفلك في الأرض ، إما أن يكون اكتفى بدلالة القرائن على ذلك أو يكون أمر أن يدعوا بذلك حين الاستواء لينزل إلى الأرض مطمئنا ، أو المراد أنزل على الذي أنا فيه فيكون دعاء بأن ينزل السفينة في محل يصلح لها خشية أن ينزل في محل يفسدها فيصادف حينئذ بكسرها.

قوله تعالى : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).

الكلام فيه كالكلام في (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٤].

قوله تعالى : (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).

ولم يقل فقولوا الحمد لله ، وإنما أفرده بالخطاب ؛ لأنه هو المقصد الأمر بالذات ومنزل إما اسم مصدر أو اسم مكان.

قال ابن عرفة : والصواب أنه اسم مكان ؛ لأن المصدر معنى من المعاني ، والمعاني تجمل ولا تثبت بخلاف المكان.

قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً).

٢٠٥

قال الزمخشري : حق أرسل أن يتعدى إلى [.....] ، ولكن الأمة والفرقة جعلت موضعها للإرسال ، قال الطيبي : كقوله تعالى : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [سورة الأحقاف : ١٥] ، والأصل أن يقال : وأصلح لي ذريتي.

ابن عرفة : فتارة يجعل متعلق الفعل محلا له ، وتارة يجعله مطرقا.

قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ).

قال ابن عطية : الاستفهام يعني التوقيف على جهة الاستبعاد والاستهزاء.

قال ابن عرفة : الاستبعاد في الممكن الرجوع ، والاستهزاء في المستحيل الوقوع ، فإن استبعدوا وقوعه على سبيل التقرير والإنكار ، وأن نفوا الإعادة وجعلوا وقوعها محالا ، فهو استهزاء إما بالرسول الذي وعد بذلك ، أو بالمخاطبين الموعودين به ، قال : والتوقيف إما بنفي المقتضى له أن يوجد المانع له منه فهم أنكروا عليهم واحتجوا بنفي المقتضي ، بقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) من وجهين :

الأول : المثلية تمنع من اتباعكم له أو لا يتبع الإنسان إلا من هو أعلى منه.

الثاني : أن المثلية تقتضي التساوي فاتباعهم له ترجيح ، إذ ليس اتباعهم له بأولى من اتباعه لهم ، وأما وجود المانع فباعتبار أنه آتاهم بالمحال مانع من قبول قوله : هذا عندهم دليل على بطلان قوله : فكيف يتبعونه على بطلان ما جاء به.

قوله تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ).

قال ابن عرفة : كيف الجمع بين هذه وهي من أوعد وبين قوله تعالى : في أول الآية (أَيَعِدُكُمْ) ، وهو من وعد ، فأجاب : بأن الأول راجع إليهم في الحال والوجود ، فلذلك قرنه بالوعد ، والثاني : راجع لحالتهم بعد الموت والعدم ، فناسب اقترانه بالوعيد.

قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا).

الضمير عائد على مطلق الحياة ، وفسرها بحياة مخصوصة.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ).

الإنشاء أخص من الابتداء ، والقرن إما القطعة من الزمان أو الجماعة المجتمعون في وقت ما ، فإن أريد الأول : كان على حذف مضاف ، أي أهل قرون ، والوصف بآخرين تأكيدا ، وكان بعض الطلبة يجعله تأسيسا ويرده بأنك إذا قلت : رأيت رجلا

٢٠٦

عالما ، وآخر أنك تريد رجلا أخر مشاركا له في العلم ، بخلاف قولك رأيت رجلا عالما وزيدا ، فأفاد الوصف بآخر لمشاركتهم لهم في الظلم ، قال : وكان بعض الطلبة يرد بهذه الآية على ابن الخطيب في احتجاجه في المعالم على أن الواو لا تفيد الترتيب بقول القائل : جاء زيد وعمرو بهذه ، وجاء زيد وعمرو قبله ، أو لو أفاد الترتيب بقول القائل : لكان الأول تكرارا ، والثاني : تناقض فقد أتت هنا لفظة تجد مع أن ثم للترتيب والمهلة ، فلم يبق إلا توكيدا ، قال : وتقدم الجواب بأن مهلة في ثم على قسمين حسية ومعنوية ، فأفاد بعد احتمال إرادة المهلة المعنوية ، أو يجاب بقول من دعم أن ثم كالواو فأفادت من بعد رفع إرادة ذلك الاحتمال ، أو يجاب بأن من لا ولا رسم [٥٦ / ٢٧٢] أزمنة البعدية ، فأفادت طول المهلة لا قصرها ، قال : ومن أريد بها أول أزمنة البعدية فتكون المهلة طويلة ، لأنها عبارة عما بين أول من هلك منهم ، وأكثرهم هلاكا ، وإن كان أريد بها آخر أزمنة البعدية فالمهلة قصيرة بينها وبين آخر القرون.

قوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ).

إن قلت : هلا قيل وما يستأخرون.

قال ابن عرفة : تقدم لنا الجواب من وجهين :

الأول : مراعاة رءوس الآي ، الثاني : لو قيل وما يستأخرون ، لأفاد أن مجموع الأمة لا يستأخرون عن آجالهم ، وما يلزم منه أن لا يتأخر بعضهم ، فعدل عنه إلى هذا التقييد ، أن كل واحد منهم لا يتأخر عن أجله فيكون كليا [...] مع أن التقدم على الأجل مكروه للنفوس ، والتأخر عنه محبوب لها من كل أحد ؛ لأن كل أحد يكره الموت ، فلذلك جمعهم ؛ لأن كل أحد يحب أن يتأخر عن أجله ، فقيل لابن عرفة : قد قالت المعتزلة : إن المقتول له أجلان.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ).

قال ابن عرفة : يؤخذ من الآية صحة صدور المعجزة على غير يدي من تجرأ بها ، إنما الآية إنما تجرأ بها موسى ، وقد صدرت على يدي موسى ويدي هارون ، فإما أن يكون هارون شريكا له فيؤخذ منه جواز صدور المعجزة على يدي شخصين مشتركين فيها ، أو نقول أنها صدرت على يدي موسى دلالة على صدقه في جميع ما جاء به موسى ، أن أخاه هارون نبي ، فتكون نبوة هارون ثبتت بقول موسى أنه نبي ، مع ثبوت صدقه في مقالته ، ونبوة موسى ثبتت بالمعجزة ورسالته ثبتت بالمعجزة ، قال ابن عطية : والآية هي اليد والعصا ، وسائر آياته ، كالبحر ، والمرسلات الست.

٢٠٧

قال ابن عرفة : إنما هي خمس ، وهي (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) [سورة الأعراف : ١٣٣] ، والسادس الرجز ، لقوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) [سورة الأعراف : ١٣٥].

قوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ).

قال الزمخشري : هي بيت أرض المقدس ، وهي كبد الأرض ، وأقرب الأرض إلى السماء ثمانية عشر ميلا ، فينقص بعدها من السماء عن بعد غيرها منها ثمانية عشر ميلا.

قوله تعالى قبل هذا (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ).

قال ابن عرفة : هذا على ما فسروه من عطف الصفات لا من عطف الموضوعات ، وكأنه يقول : وأرسلنا موسى بمعجزات وبسلطان مبين للاحتجاج بها والتحدي بها.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ).

قال المفسرون : الخطاب هذا إما لعيسى وحده أو لمحمد صلّى الله عليهما وعلى آله وسلم وحده ، ويكون من خطاب الواحد خطاب الجماعة اعتبارا باختلاف الآية كقوله :

فقلت : اجعلني هدى الفراقد كلها

يمينا ومهوى النجم من عن شمالك

وكما قال الفخر : إن تتوبا إلى الله ، فقد صغت قلوبكما ، أو يكون من قبيل الجمع عن تفريق ، كقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة : ١٨] ، أي قال : كل فريق منهم ذلك.

قال ابن عرفة : وهذا كله على القول بمنع خطاب المعدوم ، وأما الزمخشري فهو مذهبه ، وأجابنا ابن عطية بكلامه بناء على أن هذا القول ، وأما على القول بجوازه فيهم أن يراد بيانها جميعها ، قيل له : القول بجواز خطاب المعدوم ، إنما هو على تقرير وجوده مستوف فيه شرائط تكليفه ، والرسل هنا حين نزول الآية قد مضوا وانقرضوا ، وليسوا مقدرين الموجود إذ زمن تطبيقهم قد مضى وعودهم بمحال ، وقال : كلام الله قديم أزلي سابق على وجود جميعهم ، وهذا أيضا حكاية عما كلف به كل واحد منهم ، أن للأكل الطيب تأثيرا في العمل الصالح.

قوله تعالى : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

وعد ووعيد ولفظ الرسل غير مقصود هنا ، بل المراد المرسلون والأنبياء أتباعهم.

٢٠٨

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ).

إن قلت : الخشية الخوف ، والإشفاق الخوف ، فكيف هم خائفون من الخوف؟ قلنا : الإشفاق وقوع متعلق الخوف فهم خائفون من وقوع العذاب بهم خائفون ، وذكر ابن عطية : إن من البيان الجنس ، والصواب أنها للسبب ، ويؤخذ منه جواز أن يقال : سبحان من تواضع كل شيء لعظمته ، وتقدم نحوه في سورة الأنبياء في قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(١) [سورة الأنبياء : ٢٨] ، فإن التواضع للعظمة من حيث كونها صفة لله بالتواضع ، إنما هو للذات فكذلك الخوف ، وما وجه من منع أن يقال : سبحان من تواضع كل شيء لعظمته إلا أنه فهم اللام التعدية لا للسبب ، وإن جعلناها للسبب زال الإشكال ، ويكون التواضع للذات لأجل العظمة ، قال : سلك في الآية مسلك الترقي بالانتقال من حالة الوقف والتردد ، وهي حالة العمل بالفروع ، وبقى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، فالأول هو زمن النظر لهم فهم مشفقون خائفون من عدم العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل على وجود الصانع ، وكذلك اختلف الأصوليون في أول الواجبات ، فقيل : النظر ، وقيل : القصد إلى النظر ، وقال أبو هاشم [...].

قال ابن عرفة : وأكد الثلاثة الأول : بضمير الجمع ، لأنها لبيان الأصول المستلزم للسلامة من صغير الكفر المقطوع لتعذيب صاحبها ، والرابع : إيمانه بالفروع المستلزم للسلامة من صفة العصيان التي تحتاجها في المشيئة غير مقطوع بتعذيبه ، فلذلك لم يقل (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) ، أو (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، احتراس لقوله تعالى : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) ، خشية أن يتوهم مسابقتهم إلى فعل ما لا يطاق ، ويؤخذ منه جواز تكليف ما لا يطاق ، وعدم وقوعه ، قال الفخر : والتكليف إنما يقع بدون الوسع لا بالوسع بقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج : ٧٨].

قال ابن عرفة : التكليف بالتعذر ساقط ، والتكليف بالمقصر واقع بوقوف الواحد للعشرة ، وقد ورد التكليف به وكوقوف المائة للألف يعني للجهاد.

قوله تعالى : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا).

__________________

(١) وردت في المخطوطة : وهم من خشية ربهم مشفقون ووردت في المصحف وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وقد أثبتنا ما في المصحف.

٢٠٩

قال ابن عرفة : يحتمل أن يكون إضراب إبطال ؛ لأن قبلها (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، فهو إبطال لمفهوم هذا ، لأن مفهومه [.....] إتباع المخاطبين وموافقتهم على ما جاء به وإلزامهم حكمه ، إذا نظروا النظر الصحيح السديد ، وتأملوا فيه فأبطل هذا الملازم لكونهم عقلوا ، ولم ينظروا فخالفوا حكمه وكذبوه ، ويحتمل أن يكون إضراب انتقال من حكم إلى حكم ، لقوله تعالى : (أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) ، أي أعمال قبيحة ، فإن قلت : ما أفاد قوله تعالى : (لَها عامِلُونَ) ، قلنا : أفاد نفي احتمال كونهم مأمورون بها أو تسببوا في فعل غيرهم لها فنسب إليهم ، فما أن فاعل السبب فاعل المسبب ، فنفى هذا الاحتمال بأنهم عاملون لها حقيقة.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ).

قال ابن عطية : حتى حرف ابتداء لا يجر [...] الأولى والثانية : التي هي جواب بمعنى زمن أن يكون حتى غاية لعاملون.

قال ابن عرفة : انظر كيف يمنعان ذلك ، قيل له : ؛ لأن عملهم سابق على أخذهم بالعذاب ، وليس مقارنا له بوجه حتى يقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها (لَها عامِلُونَ) ، حين وقت أخذ مترفيهم بالعذاب.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ).

ومنهم على عدم تدبير مطلق القول ، فيستلزم زمهم على عدم تدبير قول الرسول من باب أجر الصدقة وعلى منزلته.

قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ).

إضافة إليهم.

قال الزمخشري : لمعرفتهم به وكونه نشأ فيهم ، وربا بينهم ، ورده ابن عرفة : بأنه يلزم عليه أن لا يكون رسولهم إلا من عرفوه ، قال : وإنما إضافة لما عليه لهم ؛ لأنه من جنس البشر ، وليس بطائر ، ولا ملك.

قوله تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).

قال ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها أنهم ذموا على إنكارهم رسالته ، مع قيام الدليل المقتضي لصحتها سمعا ، وعقلا ، وقع نفي المانع منها [٥٦ / ٢٧٣] أما الاضطرار ، فقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) ، وأما الاختياري فبقوله تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) ، هو جامع أن الكهان والسحرة كانوا يأخذون منهم

٢١٠

الرشوة على الإخبار بالمغيبات التي تقرها الجن في أذنهم وقر الدجاجة ، فيكذبون عليها مائة كذبة ، كما في الحديث.

قوله تعالى : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).

أخذ منه الطلبة جواز أخذ الأجرة على إقراء الحديث ، وترويته وتعليم العلم ، لأن ظاهر الآية مرجوحية ذلك لا تحريمه فدل على أنه جائز ، وأن كان مرجوحا ، وقرأ حمزة والكسائي : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ) ، وقرأ ابن عباس : (خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ) ، وقرأ الباقون (خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) ، قال الشاطبي في سورة الكهف : وخرجك بها والمؤمنين ، وقوله : خراجا معا والعكس فخرجا له ملأ فأختصر اختصارا حسنا ، وقال في الشعراء : وفي خراجا معا الريح خلفهم ، وكلهم فخراج بالثبوت قرأ ، وليس المراد أن الجميع اتفقوا على قرأتها بالألف ، وإنما مراده أن الجميع اتفقوا على أن من قرأها بالألف يكتبها ألفا ثابتة لا ألفا محذوفة ، وهي في الخط ثابتة كسائر الألقاب المحذوفة في الخط.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ).

الاستكانة : الخضوع والتذلل ، وأورد الزمخشري سؤالا قال : لأي شيء أتى الأول ماضيا ، وبالثانية مضارعا ، وهلا كانا ماضيين ، أو مضارعين ، فيقال : فما استكانوا وما تضرعوا ، وفما يستكانون وما يتضرعون ، وأجاب : بأنه نفى في الأول الاستكانة باعتبار الحصول ، وفي الثانية نفى الخضوع باعتبار القابلية له في المستقبل ، فإن قلت : هلا قيل : فما تضرعوا لربهم وما يستكينون ، فلم خصصت الاستكانة بالماضي؟ فالجواب : أن الاستكانة أخص من سبب التضرع ؛ لأن الخشوع يحصل بمجرد ... (١) العذاب ، والتضرع إنما هو يرد به العذاب الشديد ، فالتضرع أخص ، فإن قلت : نفي الأخص يستلزم نفي الأعم ، قلت : نفي الأخص هنا يستلزم ذلك باعتبار سببه ، فإن انتفى سبب الذي ... (٢) سمعي ، فإن قلت : ما معنى الغاية في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) ، فيلزم عليه إذا فتح عليهم العذاب الشديد تضرعوا ، قلنا : نعم وكذلك هو لكن لا يفيدهم التضرع.

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

(٢) طمس في المخطوطة.

٢١١

وقال ابن عرفة : إنما ألقينا مفهوم قوله تعالى : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ ؛) لأن نفي الاستكانة والتضرع يقتضي اتصافهم بالتكبر والتعنت ، وعدم .... (١) ، فإذا أنزل بهم العذاب الشديد لنفي عنهم ذلك التكبر والتجبر ، واتصفوا بالذلة حيث لا ينفعهم ذلك.

قال الزمخشري : وأخذهم بالسنين حتى أكلوا العلهز.

ابن عرفة : هو الدم المخلط بالشعر ، وقيل : إنه كبير.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ).

ابن عرفة : الإنشاء أخص من الإيجاد أن يكون تقدير بإيجاد بعض الأجزاء وكملها هو ، فإن قلت : لم أفرد السمع؟ قلت : أجاب الزمخشري : بأنه إما مصدر أو اسم يختص.

ابن عرفة : وعادتهم يجيبون : بأنه أفرده ؛ لأنه مفرد ، ومتعلقاته متعددة ، والبصر متعدد بتعدد متعلقاته ، فكل جهة لها إبصار خاص بها بخلاف السمع ، فإنه سمع واحد يسمع به من كل جهة ، وليس المراد الخارجة وهي الأذن ، فالمراد بالسمع السماع لا الحاسة ، بدليل قوله في المدونة فيمن ضرب رجلا بآلة حادة فأذهب سمعه ، أن عليه الدية ، مع أن أذنه لم تزل أذنه باقية؟ والعطف هنا ترق ؛ لأن عدم الرؤية أشد من الصمم ، قيل له : قد كان يعقوب وشعيب عليهما‌السلام : لا يبصران ، ولم يكن أحد من الأنبياء عليهم‌السلام أصم بوجه ، فقال : العمى طارئا عليهما وليس ابتدائيا بوجه ، والمراد بالأفئدة هنا العقل ؛ لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بهذه النعم ، ولا يكون الامتنان إلا بالعقل ، لا بمجرد الفؤاد.

قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

قال ابن عرفة : كانت الطلبة يقولون : يحتمل أن يزيد القدر المتحرى من الشكر هو قليل ، ويحتمل أن يرد الشكر الأعم ، فعلى الأول : من صدق النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يفعل الطاعات هو شاكر قليلا ، وعلى الثاني : من وحد الله ولم يصدق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو شاكر مطلق شكر.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢١٢

قال ابن عرفة : يحتمل أن يريد (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ..).(١) ابن عرفة : بل المراد أفردكم فيها لئلا يلزم عليه التكرار ، أي أقركم فيها بلا تناسل.

قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

تقديم المجرور إما للحصر أو لرءوس الآي أو للنشر.

فقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، في إسناد الإحياء والإماتة إلى الله تعالى ، رد على الحكماء القائلين بالطبع والطبيعة ، وفيه دليل على أن الموت أمر وجودي ، لخروجها مخرج الامتنان ، والامتنان إنما يقع بالموجود لا بالقدم ، أو ؛ لأن الموت تفريق الأعضاء ، والتفريق أمر وجودي.

قوله تعالى : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ).

وانتقل من ذات الامتنان إلى الاستدلال بأمر خارجي عنه ، وهو العالم العلوي.

قوله تعالى : (بَلْ قالُوا) إضراب إبطال ؛ لأن نتيجة ما تقدم الاعتبار والإنابة والخضوع ، فأضرب عن ذلك ، والإضراب عنه يستلزم فعل نقيضه ، بل بمعني مسكون عنه محتملا لفعل النقيض ولعدم فعله ، فقال : لم تفعلوه بل فعلوا نقيضه ، والمثلية تقدم في الأصول هل هي بديهية أو نظيرية؟ والخلاف هل هي عملية ، أو إضافية.

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها).

قال ابن عرفة : حذف المقول له ، إما لكونه معلوما من السياق ، أو لدلالة حال سيقولون عليه ، قال : والآية دالة على وجود الله ووحدانيته ، قال : ويستفاد منها أمران :

أحدهما : تقرير النعمة لنصب هذه المذكورات دليلا على وجود مالكها ووحدانيته.

الثاني : نفي القدر عمن خالف وجحد ، قال : وخصص الأول بالتذكير ؛ لأن الإنسان في أول أحواله يتذكر الدليل ليعلم ما ذا تقرر عنده ، فإذا تقرر عنده العلم حصلت له التقوى ، فالقدرة ناشئة عن التذكر فهي في ثاني رتبة ، وبدأ أولا بالأمر الحسي القريب ، الوجود منهم ثم بالحسي العلوي الأعظم خلقه ، فالمعنوي في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فقرن الأول بالعلم ، وحذفها من الثانية

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٢١٣

لبعدها عن الأول ، ويؤخذ من الآية أن العلوم تذكيرية ، وهو مذهب الفلاسفة ، ومذهب الجمهور أنها إنشائية لا تذكيرية.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ).

قال ابن عرفة : الآية حجة المقول بإمكان معرفة حقيقة ذات الله عزوجل ، والقول بالعلم بها وهما مبطلان ، ذكر الخلاف فيهما ابن التلمساني شارح المعالم فأما إمكان معرفة ذات الله تعالى ، فقال الفلاسفة والحكماء : أنه محال ، ومذهب الجمهور جوازه ، وأما وقوع ذلك في مذهب الفخر وجماعة : أنه واقع ، ومذهب القاضي أبي بكر ، والأشعري ، وجماعة : الوقف ، والوقف ما وقف حياة ، أو وقف استرشاد ، والسؤال بمن إنما يكون على الحقيقة ، والأفلاك من حيث الجملة ، اختلف فيها فقيل : سبعة ، وقيل : ثمانية ، وقيل : تسعة ، وقيل : عشرة ، ومن حيث التفصيل اتفقوا أنها أربعة وعشرون فلك.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ).

قال الشهرستاني ، والغزالي : الفلك عبارة عما وجد في الخارج ، مما هو مشاهد الموجود ، والملكوت : عبارة عما وجدوه ، مما لم تشاهده ، ولم يوجد.

وقال ابن عرفة : الملك أعم فيطلق على ما قدر وجوده سواء وجد ، ولم يوجد ، والملكوت : عبارة عما وجد في الخارج ، فظاهر الآية أن المستحيل لا يصدق عليه شيء.

قوله تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ).

أي هو يمنع غيره ولا يمانع فيما يفعل ، يقال : أجرت فلانا من فلان أي منعته منه ، وهذه الجملة إما في موضع الحال ، أو معطوفة ، أي ومن يجير ، ولأن بعضهم يرجح العطف ؛ لأنه يقتضي تعديد هذه الأدلة ، وتقدر الدليل أولى من إيراده.

قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ).

يعني اتخاذ الولد أعم من نفي الولد ، فيدل باللزوم عن نفي الولد ؛ لأن نفي [٥٦ / ٢٧٤] الأعم يستلزم نفي الأخص ، وما ينفي الحال ، والمراد به ما وقع ودام ، والقرينة هنا تدل على عموم النفي في كل الأزمنة.

قوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ).

٢١٤

وقال ابن عرفة : عدل عن الاستدلال عن عدم اتخاذ الولد ، إذ دليله ظاهر على استدل على وحدانية الله تعالى ، وفي تقرير الاستدلال بهذه الآية إشكال لاقتضائها من لوازم الإله الخلق ، وهو باطل ؛ لأنه يلزم عليه قدم العالم.

قال ابن عرفة : الجواب عن الإشكال ، أن المراد وقوع الخلق بالفعل ، وتقريره في الآية أنه لو فرض تعدد الآلهة مع صميمة وقوع الخلق منهم في الوجود الخارجي للزم عليه استقلال كل واحد منهم بمخلوقه ، وعلى بعضهم على بعض ، واللازم باطل باللزوم مثله بيان الملازمة ، أن الفرض وجود المخلوقات ، فهذه المخلوقات إما أن لا تضاف خلقها لواحد منهم ، وهو باطل ؛ لأنه خلاف الفرض ، أو يكون معدودة للجميع وهو باطل لاستلزامه اجتماع أثرين على مؤثر واحد ، أو تكون مقدورة لأحدهما دون الآخر ، وهو ترجيح من غير مرجح ، فلم يبق إلا أن يضاف بعضها إلى هذا ، فيكون مقدرا له ، وبعضها إلى الآخر والبعض الذي أختص به أحدهما ، إما أن يكون الآخر قادر على إيجاده ، وهو تحصيل الحاصل ، أو على إعدامه فيلزمه التناقض والعجز ، فصح أن كل واحد منهم إله للآخر فيما اختص به عنه ، وهو معنى علو بعضهم على بعض.

قوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ).

راجع إلى اتخاذ الولد والأنداد.

قوله تعالى : (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

راجع إلى نسبتهم لشريك الله.

قوله تعالى : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ).

يحتمل أن يكون من وعد في الخير ، أو من أوعد في الشر ، وهي هنا من أوعد.

قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

دعواه بذلك مع عصمته منه لا يقال : إنه تحصيل الحاصل ، بل هو أما من تعليمه لأمته ، أو كما قال الزمخشري : إنه إظهار للتذلل والخضوع ، قال : واقتران الفعل معني دون من ، إما مبالغة النفي ؛ لأن قولك : زيد من الظالمين ، فإنه يقتضي صحبته لهم أعم من أن شريكا لهم في الظلم ، بخلاف قولك : زيد من الظالمين ، فإنه يقتضي مشاركته لهم في وصفهم ، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص.

قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ).

٢١٥

قال إمام الحرمين في الشامل : مذهب أهل السنة ، صحة تعلق القدرة والإرادة بما علم الله عدم وقوعه ، ومذهب غيرهم امتناع ذلك.

قال ابن عرفة : والآية حجة لأهل السنة لاقتضائها عموم تعلق قدرة الله تعالى ، بأن جعل نبيه مبصر الجميع ، ما وعد به من أنواع المهالك في الدنيا ؛ لأن الرؤية بصرية ، وقد مات النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم قبل استيفاء ذلك ، لهلاك جمع كثير منهم ممن ارتد بعد وفاته صلّى الله عليه وعلى آله وسلم على يدي أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما وقد نص الله تعالى على تعلق القدرة بذلك.

قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ).

المراد إما بالخاصة ، أو بالحالة ، أو بالفعلة التي هي أحسن ، ويتناول الحالة القاصرة والتعدية ، وهو أن يدفع عجزه عن الطاعة بنشاطه وعمله ، وانتقامه لنفسه بعفوه عن الجاني.

قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ).

هذا تسلية له صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، أي افرغ وسعك وقاتلهم بما في كسبك ، وما روى ذلك ما لم يبلغه وسعك وليس فنحن أعلم به ونجاريهم عليه ، وكان بعضهم يأخذ من الآية ترجيح القول بتخفيف العقوية في المسائل التي اختلف في منتهى العقوبة فيها بالكثرة والقلة بنا ، على أن المراد بالأحسن الأخف ، ويحتمل أن يراد الأحسن شرعا فينعكس الأمر ويكون الأحسن الشديد.

قوله تعالى : (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ).

إما على ... (١) لكل شيطان همزة ، أو لكل شيطان همزات.

قوله تعالى : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ).

تأسيس ؛ لأن الحضور أعم من الهمز ، وقد دعا بنفيه ، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ).

أمر وجودي أو عدمي ، فإن كان عدميا ، فالمراد بمجيئه مجيء مليلة الموت ، وأن كان وجوديا فهو عرض من الأعراض ، كما أن الحياة عرض وهي أمر وجودي ،

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢١٦

والمراد بمجيء الحصول ، وبعد حصول الموت هو الذي يطلب الرجوع ؛ لأنه على مذهبنا انتقال من دار إلى دار ، لا إعدام لبقاء النفس الناطقة ، والروح فيه تطلب الرجوع البدني لدار الدنيا ، فلا تسعف بذلك.

قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ).

أي من أمامهم ، وعبر بلفظ الواو إشارة إلى تحقيق وقوعه ، وأنه أمر واجب لابد منه ، فهو طالب عليهم ، كطلب من يتبع الإنسان من خلقه ، لأنه لا مفر له عنه بوجه ، بخلاف من هو أمامه ، فإنه قد يجيبه شمالا ويمينا.

قوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ).

أي الأنساب ثابتة أي نافعة ، وإلا فالأنساب موجودة ، ويحتمل أن يكون على التوزيع أو بين كل شخصين نسب ، ويحتمل الجميع ، لأنه قد يكون بين كل شخصين أنساب ، فيكونان ابني عم وزوجان ، أو أخوين ، وإلا فرد اللفظ عام للجميع ، وقوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ) ، إشارة إلى الآباء عدوهم الأصحاب ، فلا يسأل أحدهما الآخر عن حاله ، بل كل أحد مشغول بنفسه.

قوله تعالى : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا).

يدل على اتصافهم بمذهب الجبرية القائلين : بأن لا قدرة للعبد ولا كسب ، لأنهم آتوا هذا عذرا لهم ، أن هذا أمر قدر علينا لا طاقة لنا به ، كقول آدم لموسى صلّى الله على نبينا محمد وعليهما وسلم : أيلومني في أمر قدر علي ، وقولهم (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) ، يدل على اعتقادهم أن لهم كسبا واختيار.

قوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنهما لهم ست دعوات ، إذا دخلوا النار ، قالوا ألف سنة : ربنا انصرنا ، وسمعنا يجابون حق القول مني.

ابن عرفة : يحتمل أن يجابوا بذلك في كل مرة ، أو في المرة الأخيرة ، وهو وكذلك الحكم في الست دعوات إلى آخرها ، قال ابن عطية : ونهيهم عن الكلام ، وهم لا يستطيعون الكلام مبالغة في المنع ، أورده ابن عرفة : بوجهين :

الأول : أنهم يستطيعون الكلام وقد قالوا : يا مالك ليفض علينا ربك وتكلموا بغير هذا ، وقد ورد الدعاء بالواجب فكذلك النهي عما هو غير مستطاع.

قوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

٢١٧

كان بعض الطلبة يقول : دليل على أنه .... (١) إذ ليس بواجب عقلا ، وإنما واجب شرعا.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي).

هو أول من أسلم من ضعفة المؤمنين كصهيب ، وعمار ، وبلال ، وخباب بن الأرث رضي الله عنهما.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا).

ويؤخذ منه قول ترجيح ، قول ابن سحنون : في إجازته قول القائل : من غير تقييد بالنسبة ؛ لأن هذا إنشاء لا خبر عن معنى والقطع فالمعتقد دوامه ، وقد حكى عياض : أن رجلا ضرب الباب على ابن سحنون ، فقال : كيف تقول أنا مؤمن؟ فقال : أنا مؤمن إن شاء الله فبصق في وجهه ، فأصيب الرجل بلكمة واعورت أحد عينيه.

قال ابن عرفة : والتحقيق أنه قصد الإعلام بحالته ، فلا شيء فيه ، وإن قصد الإعلام بعاقبة أمره فلابد من الاستثناء.

قوله تعالى : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا).

دليل على التوبة غير مقطوع بقبولها إلا أن يجاب فيه بصحة الدعاء بالواجب إظهار التذلل والخضوع.

قوله تعالى : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

ولم يقل : أنت خير الغافرين ؛ لأن الرحمة سبب في المغفرة ، وإسناد الحكم إلى السبب أقوى من إسناده إلى سببه ، ولذلك فرق الفخر بين برهان الأم وبرهان الأب.

قوله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا).

أي خدمة وهو بضم السين ، وقرئ بكسرها ، أي فعله ، واستهزاء وقيل : العكس.

قوله تعالى : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي).

قيل : حتى للتقليل ، وقيل : غاية ، فإن قلت : مفهوم الغاية على أن نسيانهم ذكر الله واقع لاتخاذهم المؤمنين سخريا ، قلنا : واقع العموم السخرية ، ويبقي أخصها ، وهي السخرية الأخصية الشديدة [٥٧ / ٢٧٥] ... (٢) فهو آخر مدخر.

قوله تعالى : (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ).

وجه الحصر هنا إما باعتبار قسمهم وهم الكفار أو للمحصور فيهم فوز خاص وسائر المؤمنين حصلوا فوزا عاما.

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

(٢) سقط وطمس في المخطوطة.

٢١٨

قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ).

قال ابن عرفة : كلام الشاطبي هنا مشكل ؛ لأنه قال :

وفي قال قل كم دون شك

وبعده شقائها بالعلي عللا

فقوله : معذبوهم بأن الخلاف في قالوا كما هو في قال ، وإنما قرئ قل (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، فأجيب : بأن لفظ قال يدل على أن الذي بعده مثله ، فما هو إلا قال الثاني ، فقال : هذا أمر مردود ، لقوله في باب الإمالة : وكيف الثلاثي غير زاعت بما مضى أمل خائب أمل طاب صافت فهجاه وحاق ، وزاغوا جأشا وزاد في ، وجاء ابن ذكوان في سلسلا مع أن حمزة يميل جار أو مفرد أو مثنى أو مجموعا ، قيل له : يستدل على هذا ، بقوله : وكيف الثلاثي معناه كيف ما كان مفردا ، أو مثنى ، أو مجموعا ، وغلط ابن عطية النسبة لابن عامر أنه قرأ كنافع وليس كذلك ، وإنما قرأ كابن كثير ونسب البزي أنه قرأ وهي قراءة ابن كثير من طريق البزي ، وقيل : وكذلك غلط أيضا ، فقال : ادعم أبو عمرو والكسائي (لَبِثْتُمْ).

قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ) في ظاهرها حجة للمعتزلة بوجود الإعادة عقلا ، فالجواب : إن معنى (أَفَحَسِبْتُمْ) بعد بعثنا الرسل إليكم أنا خلقناكم عبثا بل جعلنا خلقكم مرتبطا بثوابكم أو عقابكم الربط الشرعي العادي ؛ لأن ذلك واجب على الله عقلا ، بل هو واجب شرعا ، وإعادتكم جائزة عقلا ، وهي بالشرع واجبة ، قيل لابن عرفة : فلم عطف عليه (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ؟) فقال : لأن خلقهم عبثا يستلزم عدم إعادتهم ، فلذلك عطف عليه قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ) هو أبلغ من على الله.

قوله تعالى : (الْمَلِكُ الْحَقُّ) ، هو القادر على كل شيء ، النافذ أمره في كل شيء وصلّى الله على مولانا وسيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى سائر إخوانه ساداتنا من الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين ، وعلى آلهم وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين ، آمين.

٢١٩

سورة النور

قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها).

قال ابن عطية : سورة خبر مبتدأ ، أي هذه سورة ، أو هو مبتدأ و (أَنْزَلْناها) صفة ، وخبره الجملة من (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ابن عرفة : وكان بعضهم يرجح كونه مبتدأ خبره أنزلنا ؛ لأن سيبويه لم يشترط في الابتداء بالنكرة إلا لحصول الفائدة ، ولا شك أن الفائدة أكثر من الفائدة في قولك : رجل من بني تميم قائم ، وقرئ بعقب سورة فأعربه الفراء حالا من ضمير المفعول في أنزلناه ، قيل لابن عرفة : وأين مفسر الضمير؟ فقال : لما أنزلنا الأحكام أو الشرائع حالة كونها سورة.

قال ابن عرفة : و (أَنْزَلْناها) ، إن أريد إنزالها إلى سماء الدنيا ، فيكون ماضيا حقيقة.

ابن عطية : فرضناها بتخفيف الراء ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وقوعه.

ابن عرفة : ولذلك جعل أبو زيد الدبوسي الفرض ما نشأ عن دليل قطعي ، إذ هو مأخوذ من الفرض في الخشية والوجوب ما نشأ عن دليل قلبي إذ هو بمعنى السقوط ، قال تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) [سورة الحج : ٣٦] ، وقرئ بالتضعيف لتكرر الأحكام فيها ما لم تتكرر في غيرها.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

أي يفصل لكم على شبيه بما تحصل لمن تذكر شيئا نسيه أو تذكرون ما علمتم يوم السبت بربكم ، والحكماء القائلون بأن العلوم كلها تذكيرية يحملونها على ظاهرها.

وقال الفخر : هذا إشارة إلى اشتمالها على الأحكام وعلى أدلتها ، فقال ابن عرفة : ليس فيها أدلة ، قال : فيها أدلة قال : وفيها من علم البيان ....... (١) السرقة من الرجل أكثر من وقوع الزنا من النساء أكثر ، فإن قلت : هذا يتم في السرقة ولا يتم في الزنا ، لأنها نسبة إضافية ، فكذا المرأة يكثر منها الزنا مرات مع رجال كثيرين ، والرجل في الأكثرين مرة واحدة ، قلت : أو لكثرة النساء وقلة الرجال ، قال ابن عطية : وهذه الآية عامة عند الجميع ، وحكم المحصنين منسوخ ، واختلفوا في الناسخ ، فقالت فرقة : الناسخ : السنة المتواترة.

__________________

(١) سقط وطمس في المخطوطة.

٢٢٠