تفسير ابن عرفة - ج ٢

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤٥٣

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النساء

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

قال ابن مالك : لفظ أصله «أيّ» نائبة مناب الإضافة إليها ، وقال الأخفش : أي موصولة بمعنى الذي ، (النَّاسُ) خبر مبتدأ محذوف مضمر عائد على الموصول ، وهذه الآية تدل على أن المراد بالناس بني آدم.

ابن عرفة : والخلق هو الإنشاء على صورة مختلفة فمادة الخلق تشعر بالاختلاف ، قال الفخر : والآية حجة للقائلين بالطبعية ، فرده ابن عرفة بما قلنا : مع الاختلاف مع خلقهم في نفس واحدة ، قال تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [سورة الروم : ٢٣] ، ومن إما للغاية أعني للابتداء ، أو الانتهاء إن قلنا : إن المراد بالخلق نفس الإخراج من الظلمات إلى النور والإيجاد عن عدم ، وأما لابتداء الغاية فقط ، إن قلنا : إن الخلق مخترع مطلق الاختراع ، والإنشاء مع إغفال تبدل الأغراض ، وإنها لا تبقى زمانين.

قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

الكثرة مستفادة من لفظ (بَثَ) ومن قوله (كَثِيراً) ، فإن قلت : لم وصف الرجال بالكثرة دون النساء ، فالجواب من وجهين : بأن النساء في الوجود أكثر من الرجال ، فحذف النعت للعلم به مع دلالة الأول عليه ووصف الرجال بالكثرة فيؤذن بكثرة النساء من باب أحرى ، وإما بأن الآية خرجت مخرج الوعظ والتذكير بالنعمة والعرب من شأنهم حب كثرة الرجال والعصبة وكراهية كثرة النساء فذكروا بما يحبون ، فإن قلت : هلا قيل : وبث [٢٣ / ١١٣] منهما ذكورا وإناثا فيعم اللفظ الصغار والكبار من النوعين ، قلت : الآية في معرض التكليف بالتقوى فذكروا بالمكلفين من النوعين.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ).

قال ابن عرفة : ليس هذا تكرارا فالأمر الأول : بالتقوى معقب بالتذكير بنعمة الإخراج من العدم إلى الوجود ، والثاني : معقب بالتذكير بنعم متتابعة دائمة في مدة الحياة ، وهي نعمة قضاء الناس حوائج بعضهم بسبب سؤاله إياه بالله ففيه تعظيم لله عزوجل ، ومن هو بهذه المنزلة جدير بأن يتقى ، والرحم ذكر الفقهاء مراعاتها في الإنفاق وأما مراعاتها في حال الصحة والمؤاثرة والريادة فعندي أنه مفترق فيها مجيء ذي

٣

الرحم من غير ذي المحرم قسمان : فمن يعتق على الإنسان أشد حرمة ممن لا يعتق عليه ، وأما غير المحرم فهو كالأجنبي.

قيل لابن عرفة : والرحم المحرم ينبغي أن يكون من جهة الأم ؛ لأن الرحم إنما هو بالأم ، فالعم للأب فليس من ذوي الأرحام إذا لا يجمع بينهما الأم ، وإنما يجمعان في الأب.

قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ).

ابن عرفة : منهم من يجعله من إقامة السبب مقام المسبب ، أي : واحفظوا أموال اليتامى عليهم لتعطوها لهم إذا كبروا ، فحفظها عليهم في حال الصغر سبب في إعطائها لهم إذا رشدوا فوقع الإيتاء ، وهو المسبب موقع سببه وهو الحفظ ، ابن عرفة : وتقدم لنا أن هذه الإضافة إضافة استحقاق ، لا إضافة ملك ، ومعناه إلى أن يستحقوها إما بالاحتياج إلى الإنفاق ، وإما بالرشد ، ولو كانت إضافة ملك للزم تخصيصها بالرشاد ، ويكون (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) إذا رشدوا لا مطلقا.

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا).

علقها بأن دون إذا مع أن هذا كان عندهم واقعا محققا ، فأجاب ابن عرفة بأنه إذا ثبت الجواب مع الخوف المشكوك في وقوعه فأحرى أن يثبت مع المحقق أبو عبيد : (خِفْتُمْ) بمعنى أيقنتم ، ابن عطية : لا يكون بمعنى اليقين بوجه ، وإنما هو من أفعال التوقع ؛ لأنه قد يميل فيه الظن إلى أحد الجهتين ، ابن عرفة : الخوف يكون من أمر متيقن ومن أمر مظنون ، ومن أمر مشكوك فيه فالناس مختلفون إذا رأى حائطا مائلا جلس بإزائه ، ولا يخاف ولما يخاف يهرب مسرعا ، وأخر يمر من بعيد ، وآخر يهرب من ذلك الطريق ، واحتج أهل الظاهر بهذه الآية فبعضهم أخذ منها نكاح تسع زوجات ، وبعضهم أخذ ثمانية عشر ؛ لأن معناها اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة فعدد المكرر ، وبعضهم عد الأربعة مرتين فجوز نكاح ثمانية والإجماع على خلاف ذلك ، ومثل هذا لا يعد خلافا.

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

ابن عرفة : احتجوا بها على عدم وجوب النكاح ؛ لأنه خير بينه وبين التسري أي فانكحوا واحدة ، أو تسروا ما ملكت أيمانكم والتسري غير واجب فيكون النكاح غير واجب ، وأجيب بأن سياق الآية في النكاح فإن المعنى فانكحوا واحدة ، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم فيكون مجيزا بين نكاح الحرة ، وبين نكاح الأمة ، وهو أخف من نكاح

٤

الحرة إلا أن في هذا تفكيك الضمائر ؛ لأن الضمير في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا) عائد على الأزواج ، والضمير في قوله تعالى : (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عائد على المالكين واحد منها ، ابن العربي : جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ ، بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) بعد قوله تعالى : (أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ولا يتم بعد بلوغ ، ورده بعض الطلبة بحديث : " البكر تستأمر والثيب تعرب عن نفسها" قال : لأن البكر إما ذات أب أو وصي أو مهملة ، فالأوليان لا إذن لهما فلم يبق إلا اليتيمة المهملة ، وقال في المدونة : الصغيرة لا إذن لها ، ولا إذن إلا للبالغة فيتعين أنها البالغة ، قال : فهو عام مخصوص بهذا ، فالمراد باليتيمة البالغة.

قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً).

ابن عرفة : ظاهر الأمر الوجوب ، ونقل كلام المفسرين ، ثم قال : وعندي أنا في هذا أنه إنما قال : (نِحْلَةً) ليبيته على الحالة التي نظر فيها عدم إتيانهن الصداق ، وهي إذا ماتت الزوجة قبل البناء عقب عقد النكاح ، وكانت فقيرة ، فإن الزوج يؤدي الصداق مجردة نحلة لا من عوض ، وكذلك إذا مات الزوج فإن الزوجة تأخذ الصداق من تركته نحلة من غير عوض ، فإذا أمروا بدفعه حالة كونه نحلة فأحرى أن يلزمه دفعه إذا كان عن عوض ، قلت : أو هو إشارة إلى أحد القولين فما إذا تطوع [٢٣ / ١١٣] الزوج بعد العقد ، وقبل البناء بزيادة الصداق ألحقها به ، وجعل حالها كحاله ؛ لأن النحلة هي العطية لا لعوض ، وهذا كذلك لجعلهم إياها كالهبة ، لأن المعطي ما ذكرها قال : يقضى على الزوج بها فإن لم تقبضها حتى مات أو طلقها قبل البناء فلها عليه نصف الزيادة إن طلق ، ولا شيء لها إن مات ؛ لأنها عطية لم يقتض ، قاله مالك رحمه‌الله في المدونة ، قال عبد الوهاب ، وقال الأبهري ، وغيره من أصحابنا : القياس أن يجب لها بالموت ؛ لأنها إن كانت كالمهر وجبت بالموت ، وإن كانت كالهبة ينبغي أن لا تجب لها نصفهم في الحياة بالطلاق قبل البناء ، ابن عرفة فإن قلت : هذا شأن العطية لا تشرك بالطلاق والصداق لا يبطل بالموت ، قلت : الصواب أنها عطية وإنما تشركت بالطلاق ولأن الزوج ما ألزم نفسه هذه العطية إلا على حكم الصداق ومن حكمة التشطير ، فإن قلت : إلزامه نفسه على الوجه المذكور يوجب أن لا يبطل بالموت والفلس ، قلت : لا تسلم ؛ لأن التزامه نفسه إخراج مال عن غير عوض على وجه مخصوص لا يخرجه عن حكم العطية ، وأيضا فقد في هذا الباب حق الورثة بالموت وحق بالفلس.

قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ).

٥

حكى ابن عرفة عن الزمخشري في قصة القاضي شريح ، ثم قال : وجهه أنها رجعت بالقرب ، وأما إن رجعت بالبعد فلا يصح لها الرجوع لكن يمكن توجه اجتهاده من الآية وهو أنه قال : (فَكُلُوهُ) ، ولم يقل : فخذوه والأكل متأخر عن الجوز فدل على أنه إذا أجازه الزوج ، وبقي بيده مدة حتى سماه طيبة نفوسهن ، ويستمرون عليه فحينئذ يطيب للأزواج أن يأكلوه ، قال : وحكم عبد الملك واستدلاله بما قاله عنه لا يتم له ولو استدل عبد الملك بن مروان على حكمه بما استدل به القاضي شريح لكان أصوب له ، قال : ونظيرهما في مذهبنا إذا ادعت الزوج أنها كانت في ترك الصداق مكرهة بحكم شرعي لطرز القول الشاذ.

قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)(١)(الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً).

قال الزمخشري : وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما لا يحاسبني عليه خير من أن أحتاج إلى الناس.

ابن عرفة : وعن سفيان وكانت له إضافة يقلها ، فقال : لولاها لعدل في بني العباس ، ابن عرفة : ودخلت على القاضي أبي عبد الله بن عبد السّلام عام اثنتين وأربعين وسبعمائة ، والتي من سطوره كان تركها والدي بالشعير ، فقلت : بعتها ، فقال : وما فعلت بثمنها ، فقال له : أردت أن أشتري ربعا أسلكه فلم أجد ، قال : وكذلك أنا لي مدة نحرس في شراء ربع لولدي أبي القاسم فلم أجده إلا بثمن كثير ، ثم قال لي : ينبغي للإنسان أن يكتب الرباع ليخلفها لأولاده فيها فإن سيدي الفقيه أبا عبد الله محمد بن شعيب شيخ سيدي أبي عبد الله الزواري ، والتونسي الكل لم يخلف لولده شيئا ، فكان يمشي على طلبة أبيه فلم يجد منهم من يرحمه بشيء ، فانتهى أمره إلى أن رجع بوابا في باب الحديد فجاءته أمه ؛ لأنها كانت من بني الفتوح في ذلك تعيش حتى مات ، وكان الفقيه يحيى أبو بكر ابن العربي يقول لنا : إنه كان في ابتداء أمره ما يأكل حتى يرى الحائط يرقص والإنسان إذا اقتصر في ...... (٢) بقوم به ويبة من شعير ، [...] في الشهر والصالحون الذين أدركا المعودون منهم من يدرك صلاحه بالضرورة والمتزوجون ما يدرك صلاحهم ، إلا بالنظر والمخالطة ، قال : الزوج لا يعين على الصلاح.

قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ).

__________________

(١) ورد في الحاشية قف على قوله تعالى : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.

(٢) بياض في المخطوطة.

٦

ابن عرفة : انظر هل فيها حجة لمسألة القاضي ابن زرب بأن النفقة تعم العولة والكسوة؟

قوله تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

ابن عرفة : يحتمل عندي أن يريد بالمعروف في الشرع وإن كان عند المحجور منكرا ، أو هو أن الوصي يحض محجوره على الاقتصار في حالة والإقتار على نفسه في النفقة والكسوة ، وعدم التبذير وسمعت وصيا يقول لمحجوره : كنت أنا محجورا فأعطاني رجل درهما فبقي عندي سنة حتى اشتريت به ويبة من قمح وحاولها حتى صارت أقفزة ويحتمل أن يزيد بالمعروف المحبوب وبالغير معروف المكروه فمن يحب إنسانا ينبغي أن يذكره بعرفه ، ويكره آخر فلا يعرفه حتى يكرر ذكره عليه فالإنسان يعرفها يجيب بأول وهلة ويكره ما يكره ، قلت : إشارة إلى أخذ شيء بالسياسة واللين دون الشدة والغلظة.

[٢٣ / ١١٤] قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى).

ابن عرفة : اختلف المذهب في البكر بعد البلوغ وقبل التعيين هل للوصي عليها أن يرشدها ويشهد له أم لا؟ وهو الصحيح والآية حجة للجواز وسبب الخلاف أن البكارة مظنة لجهلها بمصالح نفسها فإن وجد بعض الأبكار عارف بمصالح نفسه فلا يضر ؛ لأن الحكمة قد تبتغى وتبقى المظنة ، وكذلك وجه قول أبي حنيفة في أنها إذا بلغت خمسا وعشرين سنة ترشد ، وإن كانت سفيهة ؛ لأن بلوغ ذلك عنده بمظنة الرشد فلا يضر بخلقه في البعض ، ورده ابن عرفة : بأن التعليل بالمظنة حالة وجود النص من القرائن لا يصح لاشتراط الرشد منها ، وهل يصح أن يدفع للمحجور ما لا يختبر به حاله أم لا؟ ظاهر كتاب الوصايا والمديان من المدونة جواز ذلك ، وقيل : لا يجوز وإنما نختبر بغير شيء ، وقال القرطبي : هنا إن كان ذكرا اختبر بنفقة المنزل فيعطاه يشتري اللحم والبقل والخبز ، وإن كانت أنثى اختيرت بالغزل ، ونقله ابن عبد السّلام في شرح ابن الحاجب ، واختلف في الرشد هل من شرطه العدالة أم لا؟ ، وهو الصحيح فقد يكون الرشيد في ماله فاسقا في دينه ، وأما السفيه ففي تبذيره ماله لا في إفساد دينه ، وحكى القاضي ابن حيدرة أن القاضي ابن عبد السّلام نقل عن بعضهم أنه رأى في المشرق شيخا عليه حلة كبيرة يقرئ أنواع العلوم وهو مشهور بالصلاح والدين لكنه سفية محجور عليه ، فسئل عن موجب ذلك ، فقيل له : إذا رأى الحلاوة يموت عليها حتى يشتريها.

٧

قيل لابن عرفة : على القول بأن الرشد مشروط بالعدالة يلزم الدور ؛ لأن العدالة في الرشد بكونه مرضيا في أحواله لا عدالة الشهادة ، قاله عياض في الشهادات من التنبيهات.

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً).

ابن عرفة : الظاهر أنه حال ؛ لأن الإسراف هو أن يأكلها وهو غني عنها ، أو يكون فقيرا فيأكلها بغير المعروف ، وحكى ابن العربي أن الآية منسوخة بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) فقال ابن عرفة : إنما يحتاج لهذا لو لم يقل (ظُلْماً) ، وأما مع ذكره فلا تناقض فيمن أكل بالمعروف ولم يأكل ظلما.

قوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ).

ابن عرفة : الفاء للتشبيه ؛ لأن حفظهم للمال سبب في دفعهم إياه للأيتام ، وهل المراد إذا أردتم الدفع فيكون الإشهاد بالمعاينة حين الدفع فإذا دفعتم بالفعل فيكون الإشهاد بعد ذلك.

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

إما وعيد للأيتام إذا أخذوا المال من الأوصياء وجحدوه ولم يعترفوا به.

قوله تعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ).

إما ترق فيكون تأكيدا ، أو تدلي فيكون تأسيسا ؛ لأنهم إذا أمروا بالإعطاء من القليل فأحرى الكثير ، ومنهم من قال : إن القليل ربما تسمح النفس به وبالإعطاء منه بخلاف الكثير.

قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ).

عبر بإذا دون إن إما إشارة إلى ترجيح الأمر بإرزاقهم منه وتأكيده ، وإما لأن حضورهم أمر غالب أكثري وإلا لمجرد وصف القرابة واليتم والمسكنة موجب للأمر بإرزاقهم سواء حضروا أو غابوا فهو مفهوم خرج مخرج الغالب أو العطف تدلى لوجهين : أحدهما شرعي وهو حديث الصدقة على الأقارب صدقة ، وصلة اليتيم ضعيف لا قدرة له بخلاف المسكين ، والثاني أن القرابة وصف ثابت خيري غير مكتسب ، وكذلك اليتيم ، وأما المسكين فقد يكون تسوء في إتلاف ماله فلا فتسمح النفس بالصدقة عليه ، والآية حجة على أبي حنيفة القائل بتوريث ذوي الأرحام كلهم ؛ لأنهم لو كان لهم حظ في الإرث لما أمر الله تعالى برزقهم من المال ، وهذا هو الجمع

٨

بينها وبين التي قبلها وهي قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) لأن ذلك يقتضي ميراث الجميع ، وهذه تقتضي عدمه فالجمع بينهما بأن تلك فيمن فيه مع القرابة سبب آخر موجب للإرث وهذه فيمن ليس فيه ذلك السبب.

قوله تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ).

ولم يقل : فأعطوهم منه تهييجا على كمال الإعطاء وإشعارا بأن ذلك من الرزق الحاجي الذي به قوام الأنفس ، وأيضا فهو إشارة تقليل ذلك ويسارته بخلاف ما لو قال : فأعطوهم.

وقال الزمخشري : إن هذا مندوب أو واجب ، وهو إن كان واجبا فهو إما منسوخ أو غير منسوخ ، وقال ابن عطية : وهو مندوب أو واجب وعلى كلامهم فهو إما منسوخ أو غير منسوخ يتحلل ، ابن عطية : ابن عرفة : تقدمنا أنه إذا كان الجواب مثبتا يؤتى بإذا وإن كان [٢٣ / ١١٤] منفيا يؤتى بلو ، والخوف على الذرية الضعاف أمر ثابت محقق فهلا أتى بإذا ، قال : وعادتهم يجيبون بأنه روعي في هذا سبب الشرط ، وسبب الشرط هذا المراد نفيه لينتفي كون الذرية ضعافا.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

نقل ابن عرفة كلام المفسرين ، ثم قال : ومن عادتهم يقولون من قواعد علم البيان أنه إذا كان مضمون الجملة مشكوك فيه يؤتى بإن تأكيدا للمعنى المراد وتثبيتا له وتحقيقا وإن كان محققا ، والشك في اختصاص المخبر عنه يؤتى بإنما المقتضية للحصر كقولك في الأول الذي يأتيك : إنه لص ، وفي الثاني الذي يأتيك فإنه سارقا بل مشكوك فيه بأنا إذا علمناه بهذا الخبر وإنما المحقق عندنا عقوبتهم فقط لا عقوبتهم بأكل النار فكان الأصل أن يؤتى فيه بإن ، فيقال : إنهم يأكلون في بطونهم نارا ، قال : والجواب أنه روعي فيه كون أكلهم من حيث هو معلوم لعلمنا أنهم يأكلون شيئا بالإطلاق ويجيء بإنما لتقيد حصر أكلهم في النار ، قلت : وأجاب بعضهم بأنه إن لم يرد بأكلهم النار حقيقة بل مطلق تذميمهم على ذلك ، وأنهم مجازون عليه فهو معلوم ؛ لأنا نعلم نصا أن أكل المال ظلما موجب العقوبة مطلقا وإن أريد أنهم يعذبون بأكل النار حقيقة فهو غير معلوم لنا لكنه نزل منزلة المعلوم تحقيقا له حتى صار كالمشاهد الذي لا يخالف أحد فيه فيكفي في الإخبار عن وقوعه أو في شيء من غير تأكيد فلم يبق إلا الحصر فأدخلت إنما دليلا عليه.

قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ).

٩

ولم يقل : أبنائكم لصدق الابن على ابن التبني ، والولد أيضا والولد لا يصدق إلا على ولد الصلب وورث ولد الولد بالإجماع لا بالقياس.

قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

الزمخشري فإن قلت : هلا قال للأنثيين مثل حظ الذكر أو الأنثى مثل حظ نصيب؟ ، قلت : بدأ لبيان الذكر لفضله كما ضوعف حقه لذلك ، ولأن قوله (حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قصد إلى بيان فضل الذكر ، وقوله : للأنثيين مثل حظ الذكر قصد إلى بيان نقص الأنثى وما كان قصد إلى بيان فضل الشيء كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ، ولأنهم كانوا يورثون الذكر دون الإناث وهو السبب لورود الآية ، فقيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن ، قال ابن عرفة فإن قلت : هلا قيل : للذكر مثل حظ الأنثى مع ما حصل مركوزا في نفوسهم أنهم لا يورثون مع الذكور لأوهم أنه يرث جميع المال دونهم أو النصف ، وفي الحديث : " إن للابنتين الثلثين" هل هو معارض لبعض عموم الآية؟ فيكون مخصصا لها أو معارض لها فيكون ناسخا لها ، والظاهر معارض لمفهوم الآية لكن في الآية مفهومين متعارضين فقوله : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) مفهومه أن الابنتين كالواحدة قوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) مفهومه أن الزائد عليها له الثلثين فيعمل هذا المفهوم ؛ لأن الحديث يعضده.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

ابن عرفة : اتفقوا على أن الأم يحجبها ثلاثة من الإخوة فصاعدا واختلفوا في الاثنين ، فقال ابن عباس : إنها ترث معهما الثلث ، وخالفه سائر الصحابة حسبما قاله عثمان مع الآخرين ، فقال ابن عباس بقوله واتخذه مذهبا ثم إن ذلك القائل رجع عن مذهبه إلى مذهب الجماعة فانعقد الإجماع بعد مخالفة ابن عباس لا قبله ، قيل : أو يقال : انعقد الإجماع حين مخالفته هو لا قبله ، ولذلك بعد خلافه خلافا ، قال : الظاهر الأول.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).

قال أبو حيان : إنما قال من السدس وسلمه له المنتصر.

ورده ابن عرفة : بأن يلزم عليه أن يكون أحدهما : السدس وهو مقيد بهذه الحالة وهي حالة الوصية والدين فإن لم يوص لم يكن لها السدس.

١٠

قوله تعالى : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) إشارة إلى أن الوارث إذا اشتمل الوصية والدين وأداه عن الميت ، فإنه أعظم له أجرا وأكثر له نفعا من أخذه ذلك لنفسه ؛ لأن الأول : نفع أخروي أن فيه ثواب التوفية بالحق الواجب ، والثاني : يقع دنيوي وأي إما موصولة أو استفهامية وكان بعضهم [٢٣ / ١١٥] يختار أنها موصولة إذا كانت من الله تعالى لاستحالة الاستفهام في حقه.

قوله تعالى : (اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

إما كان للدوام أي كان ولم يزل ، وإما أنها على بابها ؛ لاقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي ؛ لأن الخطاب بهذه الأحكام حصل للمكافين العلم بأن الله تعالى بين الخطاب موصوف بالعلم والحكمة ، فقيل له : كما علمتم اتصافه ؛ لأن بهما كذلك فاعلموا بأنه كان أيضا موصوفا بهما فيما مضى وانقطع.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ).

ابن عرفة : أزواج مخصوص بالكتابيات وإلا ما أن لا يرث المسلم الكافر والأمة يرثها سيدها لا زوجها ، أو لا يخصص بالنكاح الفاسد ؛ لأنا إن قلنا : إن فيه الميراث فهو نكاح وزواج صحيح ، وإلا فليس بنكاح ، وليست له زوجة ، قال : وقوله مخصوص بالأحرار ، قال ابن عرفة : عادة الطلبة يوردون هنا سؤالا وهو أن هذه الجملة الشرطية قدم عليها جزاؤها في اللفظ وإن كان المعنى مؤخرا عنها ، والجملة التي بعدها أخر عنها جزاؤها ، فما السر في ذلك؟ وأجيب : بأن الجزاء في الأولى كالمقتضي ، والشرط كالمانع ، والمانع متأخر على المقتضي ، فالحكم اقتضى أن للأزواج من زوجاتهم النصف والولد كالمانع ، فقال ابن عرفة : إنما عادتهم يجيبون بأن حكم الأول شرط بوصف عدمي ، وهو عدم الولد والأصل في الأشياء العدم ، فالجزاء فيها ثابت بالأصالة من غير شرط فيه ، والجزاء في الثانية مترتب على أمر وجودي ، والمترتب على الوجود متأخرا عنه في الوجود فلذلك أخر عنه في اللفظ.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ).

يتناول ولد الزنا وولد الرشدة ، وقيل لابن عرفة : ما أفاد قوله : (مِمَّا تَرَكَ) مع أنه مستفاد من الأول ، فقال : أعيد ؛ لأن هذه جملة أخرى فالأصل ذكره.

قوله تعالى : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ).

الولد الرشدة ؛ لأن ولد الزنا لا يلحق بأبيه بوجه وإنما يلحق بأمه.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ).

١١

فإن قلت : هلا قال : وإن كان أحد يورث كلالة ليدخل الصغير والكبير والذكر والأنثى ، فالجواب : أنه قصد التنبيه على الصورة الغريبة النادرة وهي عادة المتأخرين في التمثيل بالصورة الغريبة لتدل على غيرها من باب أحرى بخلاف المتقدمين فإنهم يمثلون بالصور الجلية الواضحة ويتركون الخفية ، قال : وذلك أن وجود الولد للرجل والمرأة أكثري وأمر غالب ، وعدمه أمر نادر بخلاف فقدان الوالد للصبي فإنه ليس بنادر بل هو كثير ، وأجاب السهيلي بقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) والوصي لا يصح منه ذلك.

ورده ابن عرفة : بصحة الوصية من الصبي المميز حسبا ، قال في الوصايا الأول من المدونة ، ويجوز وصية الصبي ابن سبع سنين فأقلهما يقارنهما إذا أصاب وجه الوصية ، وبأنه كان يؤتي أولا باللفظ العام ، ثم يقول : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ ، أَوْ دَيْنٍ) ليتناول بعض صور ذلك العام وهو من تصح عنه الوصية والدين ، وذكر ابن عطية هذه الفريضة الحمارية وأنها زوج وأم وإخوة ، لأم وإخوة شقائق ، وكذا في رسالة ابن أبي زيد ، وقال الفراء ، وابن الحاجب : إنها إما أم أو جدة ، وتكلم أبو حيان هنا في العطف ، وهل يشترك في الإعراب والمعنى أم لا؟ كما قال ابن بشير في التيمم من أن الأصوليين اختلفوا في العطف ، ابن عرفة : والتشريك شك إنما فهم من السياق فدل على أن ثم وصف مقدر ، والمفضل هو الميت ، أي : وإن كان الميت رجلا يورث كلالة.

قوله تعالى : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ).

احتجوا بها أن الشركة تقتضي التساوي ، ووقع في المدونة في السلم الثالث وفي القراض ، قال في السلم : وإن ابتاع رجلان عبدا فسألهما رجل أن يشركاه ففعلا ، فالعبد بينهم إتلافا فظاهره أنها تقتضي التسوية ، وقال في القراض : وإن أقرضه ولم يسم ماله من الربح وتصادقا على ذلك أو على أن له شركاء في المال إن لم يسمه كان على قراض مثله إن عمل ، فظاهره أنه لا يقتضي التسوية بأن لفظ اشتركا يقتضي التسوية ، ولفظ أشرك بمعنى النصيب فهو للنصف وغيره ، ابن عرفة وأجيب : بأن القرينة في الآية عينت أن المراد المساوي وهو قوله : (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ).

قوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ).

قال ابن [٢٣ / ١١٥] عطية : المضارة إنما هي في أكثر من الثلث ، وأما الثلث فالمشهور من مذهب مالك رحمه‌الله إن ضارر فيه تنقل الوصية ، وقيل : إنها ترد ، وإن كانت في الثلث ، فقال ابن عرفة : ليس كذلك بل الأمر على العكس سواء فالمشهور

١٢

أنه إن قصد الضرر ترد الوصية ؛ لأن في كتاب الوصايا من المدونة ما نصه ، وإذا أوصى بثلثه لوارث ، وقال : فإن لم يجزه باقي الورثة فهو في السبيل لم يجز ذلك ، وهو من باب الضرر وكذا لو أوصى لوارث بعبد ، وقال : إن لم يجيزوا فهو حر فإنها تبطل ويورث ، ولو قال عبدي حر وفي سبيل الله ، أو قال : داري وفرسي في السبيل إلا أن يشاء ورثتي أن ينفذوا ذلك لابني ، فذلك صحيح على إوصائه فحاصله التفريق بين تقديمه الورثة أو الأجنبي فإن قدم الوارث في لفظه كان قرينة في إرادة الضرر فتبطل الوصية كلها.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

أي (عَلِيمٌ) بمن يوفي بما أمر به (حَلِيمٌ) عمن خالف وعصى فلا يعاجل بالعقوبة.

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ).

قال ابن عرفة : الظاهر أن (تِلْكَ) مبتدأ ، و (حُدُودُ) خبر لوجهين :

أحدهما : أن الحدود أضيفت إلى اسم الله تعالى تعظيما له في الجزاء المستفاد من الجملة.

الثاني : أن حدود أعم من المبتدأ ، قال : وفي لفظ الحدود إشارة إلى أن تأكيد الأمر يتوقى الشبهات كلها ، وأن المكلف ينبغي له الأخذ بالاحتياط ، وأن يحمل أوامر الشرع كلها على الوجوب ونواهيه على التحريم ، قال : وفيها سؤال وهو لم خصص الحدود بالله دون رسوله مع أنها أيضا حدود رسوله؟ ثم قال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فأسند الطاعة لهما ، قال : والجواب أن الرسول هو مبلغ عن الله تعالى إذ لا معرفة لهما إلى حدود الله إلا من جهة رسله فكونها من جهة الرسول معلوم لنا بالمشاهدة والعيان فالإعلام بذلك من باب تحصيل الحاصل وإضافتها إليه يستلزم إضافتها إلى رسوله ، بخلاف الطاعة فإنها قد تفهم مفردة في حق الله تعالى دون رسوله ، فقرنت طاعة الرسول بطاعة الله تعالى تشريفا له كما جعلت طاعة الرسول طاعة الله عزوجل ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [سورة النساء : ٨٠].

قوله تعالى : (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ).

إن قلت : هلا قيل : ومن يطع الله ورسوله ولم يتعد حدوده كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) قلت : اكتفاء بقوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ

١٣

اللهِ) وتحقيقا لمذهب أهل السنة في أن من أطاع في شيء وعصى في شيء يطلع من الجنة.

قال الزمخشري : وقرئ يدخل بياء الغيبة وهو التفات.

ورده ابن عرفة بأن الالتفات إنما هو قراءة التكلم ، ثم أجاب بأن هذا اللفظ واقع موقع ضمير المتكلم ، فإنه قال : تلك حدودنا ومن يطيعنا حسبما قال السكاكي : إن مثل الالتفات ، ورده عليه الآخرون وهي مسألة خلاف وجاء هذا على أحد القولين عند البيانيين.

قوله تعالى : (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

قال ابن عرفة : عندي فيه حذف التقابل : (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وله نعيم مقيم ، (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفي تسمية (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) إن قلت : ما أفاد قوله : (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) قلت : الجواب أن الفضائل على ما نقل عليها في كتاب النكاح من الإكمال على المازري في حديث : " ولم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم" يطلق على مخالفة الواجب والمندوب ، ولا يلزم من ثبوت الأعم بثبوت الأخص فأتى بالأخص ليكون نصا في أن هذا الوعيد إنما هو أن ارتكب الأمرين ، وإن قلنا : إن العصيان خاص بالمخالفة في الواجب والمحرم فيكون القصد بقوله : (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) رفع لجواز المتوهم فالحاصل أن العطف تأسيس لا تأكيد ، واحتج بعضهم بها لأهل السنة من ناحية أن الثواب لمن اتصف بمطلق الطاعة والوعيد مرتب على مخالف في الأمرين ، وأجيب : بأن الوعيد أيضا بمن اتصف بمطلق العصيان ، ورده شيخنا بأن هذا الوعيد إنما هو لمن تعدّى حدود الله وهو الكافر ، وأما العاصي فلم يتعد الحدود ، وإنما تعدى بعض الحدود ، قيل لابن عرفة : أو يكون العصيان راجعا لمخالفة الأوامر ، وتعدي الحدود لمخالفة [٢٣ / ١١٦] النواهي ..... (١) قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [سورة طه : ١٢١].

قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ).

قال ابن العربي : لا تدخل فيه الأمة كما لم يدخل العبد كما في قوله تعالى :

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [سورة البقرة : ٢٨٢] الآية إذا لم يكن العبد من رجالنا لم تكن الأمة من نسائنا ، فرده ابن عرفة : بأن منصب الشهادة شريف والعبودية

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

١٤

نقص يمنع منه ، والفاحشة لحساستها بالزنا هو الذي يطلب الشهادة عليه ، وأما من لم يرم به فالستر في حقه أولى ، ويستكشف الشهود في الزنا ؛ لأن المقصود منها الستر يسألون على أي حال ، وفي أي موضع وفي أي زمان ، وكذلك القطع في السرقة ؛ لأن أكثر الناس لا يفرقون بين السرقة والاختلاس والخديعة والتعدي والغصب والنهب والخيانة والغيلة والحرابة ؛ لأن أحكامهما مختلفة ، وقال أبو عمران : في النظائر شهود السرقة لا يستكشفون ابن عرفة وهو غلط ، وكذلك اشتراط إيجادهم في زمن الأداء كشهود الزنا وهو غلط أيضا ، ابن عرفة وقوله تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا) إنما عبر بدون إذا ؛ لأن المقصود عدم شهادتهم ، وقوله تعالى : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) عقبه لأن المتوفى أعم قال الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [سورة الزمر : ٤٢].

قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

أو بمعنى إلا أن ولا يصلح أن يكون بمعنى إلى إلا إذا قلنا : أن ما بعد إلى داخل فيما قبلها ، وقد قالوا في :

وكنت إذا غمزت قناة

قوم كسرت كعوبها أو تسقيم

قال ابن عطية : أما الفكر فلا خلاف أنه بجلد واختلفوا في نفيه وتغريبه ، فقال الخلفاء الأربعة ، ومالك والشافعي رحمهم‌الله : أنه لا ينفي ، وقال جماعة : ينفي ، وقيل : نفيه حجة ، ولا تنفى المرأة ولا العبد هذا مذهب مالك وجماعة.

ابن عرفة : وهذا غلط ؛ لأن في كتاب الرجم من التهذيب ما نصه ولا نفي على النساء ولا العبيد ولا تغريب ولا ينفي الرجل الحد إلا في الزنا ، وفي حرابة فينفيان جميعا في الموضع الذي لا ينفيان إليه بسجن الزاني فيه والمحارب حتى تعرف توبته ، فإن قلت : لم قال (مِنْ نِسائِكُمْ) قلنا : المراد بإخراج الذمية لقول مالك في كتاب الرجم في المدونة وإن زنا مسلم بذمية حد ، وردت هي إلى الأصل في دينها فإن شاءوا رجمها فلم أمنعهم ، فإن قلت لم قال : (فَاسْتَشْهِدُوا) فأمر بطلب الشهادة مع أنه موضع يقصد فيه الستر شرعا ، قلنا : المراد به الحاكم فهو إذا أخبر بأنهما زنيا ؛ بحيث هل يشهدهما أحد أم لا ؛ لأنه يأمر الشهود بالبحث عنهم ابتداء فإن لم يجد من يشهد عليهما كان من أخبره بذلك قادحا فنحده.

قوله تعالى : (وَأَصْلَحا).

١٥

إما عطف تفسيري مثل : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [سورة التوبة : ٦١] ، أو المراد به ما زاد على التوبة ، وهو إن يستديم على ذلك ويتزايد حاله في الصلاح شيئا فشيئا ، ليكون ذلك دليلا على صدق توبته.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

إن قلت : لم أخر الرحمة وهي سبب في التوبة ، قلنا : لأن المقصود عموم رحمته بالتوبة وغيرها فمن لم يتب من الفاحشة وهو مؤمن فإنه عندنا في المشيئة ولا بد له من الجنة.

قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

ابن عرفة : منهم من شرط في الندم العزم أن لا يعود إلى الذنب ، ومنهم من لا يشترط ذلك ، وقوله تعالى : (عَلَى اللهِ) بمعنى إن إمكان القلوب غير القبول فنحن نقطع بإمكان قبول توبة التائب شرعا ويبقى قبولها بالفعل مستفاد من قوله تعالى : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) فيكون تأسيسا ونظيره أن يقول : من دخل داري اليوم فأعطيه درهما ، وزيد عظيم فأعطه درهما.

قوله تعالى : (بِجَهالَةٍ).

قال ابن عطية : ليس المراد به جهلهم بأن ذلك معصية ؛ لأن المتعمد أيضا يصح توبته إجماعا ، ابن عرفة.

وقال الفخر : المعصية لا يصح صدورها من العالم ؛ لأن الداعي لقضايا اقتضى ترجيحا ، فإن كان المكلف حينئذ عالما بأنها معصية وإن تركها أرجح من فعلها ثم تعمد لقضايا فهو جهل التقدمية المرجوح على الراجح ، فلا بد أن يكون ذلك بداع اقتضى عنده ترجيح المرجوح ، وترجيح المرجوح جهل ، ابن عرفة : وفيه بحث بأنه يلزم عليه اجتماع النقيضين ؛ لأن علمه اقتضى أن الترك راجح ، والداعي اقتضى أن الفعل راجح فيجتمع [٢٣ / ١١٦] النقيضان ، قال : وهذا كلام موجب إشكالا في فهم كلام أهل السنة في قولهم : إن الأمر غير ملزوم للإرادة وإن الأمر قد يأمر بما لا يريد خلافا للمعتزلة ، فإن قلت : لم أفرد السوء وجمع السيئات ، قلت : لقوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) فهم ينفون أن يذنبوا ذنبا واحدا يتوبوا منه بخلاف الآخرين ، فإنهم يتربصون حتى يكفر ذنوبهم ويتكرر ويعاينون مقامات الموت وحينئذ يتوبوا معه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

١٦

ابن عرفة : هذا نفي لأحد أقسام الشريعة وهو المباح وإذا انتفى ، انتفى أن يكون واجبا لهم أو مندوبا من باب أحرى ، ويبقى الحرام والمكروه ، هل هو حرام لهم أم لا مكروه؟ لكن إن فسرنا المباح بالمأذون في فعله فنقول إنه لإثبات المكروه بوجه ؛ لأنه غير مأذون في فعله ، وإن فسرناه بالذي لا يترتب على فعله ثم احتمل أن يكون هذا حراما أو مكروها ، فإن قلت : ما أفاد قوله : لكم؟ ، قلنا : أفاد التهييج على المنع من ذلك بأداة الخطاب أي لكم أيها المسلمون الملتزمون لأحكام الشريعة المحمدية.

قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

ابن عرفة : إن أريد بالمعروف المباح ، فالأمر للوجوب وإن أريد الزائد على ذلك فالأمر للندب.

قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ).

ابن عرفة : الفعل الواقع شرطا تارة يأتي غير مصرح فيه بالإرادة مثل : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [سورة النحل : ٩٨] ، (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [سورة المائدة : ٦] مع أن المراد إذا أردت أن تقرأ القرآن وإذا أردتم القيام للصلاة ، وتارة يأتي مصرحا فيه بالإرادة هكذا الآية فما السر في ذلك؟ ، ثم قال عادتهم يجيبون بأنه إذا كان فعل الشرط مرادا وقوعه شرعا أمر به في صورة الواقع حتى كأنه أراده وفعله ، فإن كان أمر أو عدمه فيؤتى به مسندا إلى إرادة المكلف واستبدال الزوج مكروه مراد عدمه شرطا لحديث : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق (١) " ولذلك عبر في قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ) و (إِذا قُمْتُمْ) بإذا وفي هذه بإن ، فإن قلت : ما أفاد قوله : (مَكانَ زَوْجٍ) والمعنى مفهوم يغني عنه ، قلنا : ذكر ليعاد عليه الضمير في قوله تعالى : (إِحْداهُنَّ قِنْطاراً).

قوله تعالى : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً).

ابن عرفة : الأخذ يكون بأحد ثلاثة أمور إما بأن يضايقها ويضاررها ويستكرهها حتى ترد عليه ما أخذت منه ، وهو السبب في نزول الآية ، وإما بأن يطلب ذلك منها برفق ولين فترد عليه طائعة ، وإما بأن تطوع هي له بذلك من غير سؤال ولا طلب ، فنهوا الأزواج عن أخذ ذلك مطلقا ، وإن كان طوعا على سبيل المبالغة وإلا فمعلوم أنه

__________________

(١) أخرجه أبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ١٨٦٧ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ٢٠٠٨ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ١٣٨٢٩ ، وأبو أمية الطرسوسي في مسنده حديث رقم : ١٤.

١٧

إن كان لضرر منها والنشز بسببها فخالعته بشيء ، فإنه يجوز له أخذه ؛ لأنه معاوضة ، ولذلك تقدم لنا إذا خالعته بطعام فاختلفوا هل يجوز بيعه قبل قبضه على قولين.

قوله تعالى : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

ابن عرفة : الظاهر أن الواو بمعنى أو للتفضيل ، فالبهتان راجع إلى كذبه عليها ورميه قط بالزنا حتى ترد عليه ما أخذت منه ، والإثم للبنين يرجع إلى تضييقه عليها بغير ذلك ، فمن الناس من يكذب على زوجته ومنهم من يضيق عليها ، ويهين عشرتها حتى يسترجع منها ما كان دفع إليها.

قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ).

ابن عرفة : انظر ما أحسن هذا الترتيب فهو يفهم على أسلوب طريقة أهل الفقه ؛ لأن المجتهد إذا الحكم في المسألة لم يتم له إلا بأحد أمرين :

أولهما : أن يأتي بالدليل المقتضي للثبوت.

الثاني : انتفاء المانع منه فلما حكم بعدم الأخذ منه عقبه ببيان أنكم ليس لكم دليل موجب لجواز أخذ ذلك بل هو مجرد بهتان ، وإن سلمنا أن لكم في أخذ ذلك مستندا أو دليلا فهناك مانع يمنع الأخذ ، وهو إفضاء بعضكم إلى بعض ، وتقرر العهد بينكم بالمواثيق.

قيل لابن عرفة : الحكم عام في الدخول بها وضرها ، فقال : جرى على غالب الأمور ؛ لأن الغالب في وقوع الشر إنما يكون بعد الدخول ، وكونه قبله نادرا ، قال ابن عطية : ويؤخذ من الآية جواز المغالات في المهور ، وذكر قضية عمر.

ورده ابن عرفة : بحديث خرجه عبد الحق عن عائشة رضي الله عنها وكرم وجه أبيها ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من يمن المرأة تيسير أمرها وقلة صداقها" ، وقلت أنا ومن شؤم المرأة عسر أمرها وكثرة [٢٤ / ١١٧] صداقها.

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ).

قال ابن عرفة : الأب يطلق حقيقة على الوالد ، وعلى الجد مجازا ، ففيه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، لكن الجمع وهو أخف من المفرد ، وإذا أريد بالنكاح العقد فيدخل فيه ملك اليمين باللزوم ، ولأن المراد ما دخل في حكم النساء وصح له وطؤه ، قال ابن عرفة : النكاح المجمع على صحته ينشر الحرمة بلا خلاف ، وصده المجمع على فساده كنكاح الأخت والبنت لا مثل حرمة لا خلاف والمختلف فيه حكى اللخمي

١٨

فيه الخلاف ، قيل له : بل حكى اللخمي الخلاف في المتفق على فساده وهو في المدونة إنها في الجمع بين الأم وابنتها في العقد فقط ، ثم يصح قبل الدخول فإنه يباح له نكاح الابنة ، وقيل : ليس له ذلك لأجل شبهة العقد قال : ويحتمل بهذا الزنا ويكون قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) مستثنى من بعض صور ذلك ، وهو صورة الزنا.

قال ابن عطية : أو يكون المراد ما عثر عليه في الجاهلية فأقره في الإسلام ، فرده ابن عرفة : بأن لا يصح أن يكون المعنى إلا الدوام (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وإنما المراد إنشاء العقد إلا أن يجعل الدوام كالإنشاء وهو بعيد.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً).

ابن عرفة : الظاهر أن المعطوفات تأسيس فالمراد بالفاحشة ما عظم منعه شرعا ، والمقت هو المنقوص اعترض [.....] بقدر عيب الشهوة فتنزه من فعلها ، وقوله تعالى : (وَساءَ سَبِيلاً) إما باعتبار عاقبة أمره في الدار الآخرة ، وإما بمعنى أن الولد الناشئ عنه يقال له : ولد المقت فيكون العطف في هذا كله تأسيسا.

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ).

ابن عرفة : قالوا : النهي يرد في القرآن على ثلاثة أوجه :

أحدها : بلفظ التحريم لهذه الآية ومثل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [سورة المائدة : ٣] وهو أشدها وعليه أن لا يقال : لا يحل لك أن تفعل كذا ودونه أن يقال : لا تفعل كذا ؛ دونه بفعل التحريم والكراهة ، وقال تعالى في الأول : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) فذكر التعليل بالفاحشة مع علته فرأيت الثلاث ، وهو قوله : (لا تَنْكِحُوا) ولم يذكره هنا وهو النهي الصريح الذي هو أقواها وهو : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) [سورة المائدة : ٣] ، والمناسب كان يقرن التعليل بالفاحشة ونتيجتها مع مخاطب بالنهي الشديد المتأكد ليقع المناسبة بين الحكم وعلته.

قال ابن عرفة وأجيب بوجهين :

الأول : أن لفظ التحريم نص في إفادة المعنى المراد منه فيغني عن تعليله بذلك بخلاف لفظ (لا تَنْكِحُوا) فإنه لما كان محتملا افتقر إلى اقترانه بتعليل يعني أن المراد فيه التحريم.

الثاني : أن النفوس مجبولة على الامتناع في الأمهات والنساء وما ذكر معهن فأغنى ذلك عن ذكر علته ، قال البيانيون : والأصل تقديم المرفوع على المجرور وما تقدم

١٩

المجرور إلا تمكنه إما للاهتمام أو غير ذلك ، وهنا إنما قدم المجرور لكثرة المرفوعات وتكررها فلو أخر عنها لبعد من العامل واختل المعنى.

قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ).

ذهب داود إلى أن الربيبة التي ليست في الحجر حلال مثل أن يتزوج رجل امرأة ولها بنت عند أمها فطلق المرأة واحتج بمفهوم الصفة ، وأجيب : بأنه مفهوم خرج مخرج الغالب ، ورده الشيخ عز الدين بأنه أحرى في الحوار ؛ لأنه يلزمكم أن لا تكون الصفة فائدة فلا بد للإتيان بالوصف من فائدة ، وما هو إلا تحريم ما ذكر وتحليل ما سواه ، وأجاب ابن عرفة : بأنه لما كان كونها في غير محرم نادرا جعل مانعا كالعدم ، وذكر هذا الوصف يجري مجرى التعليل أي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) [سورة المائدة : ٣] ، لكونها ربيبة في حجوركم ، قلت : فيكون من التعليل بالمظنة وتخلف الحكمة عنها في بعض الصور لا يظن.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).

ولم يقل : الجمع بين الأختين ليفيد مواجهتهم بهذا الخطاب ، فيكون أبلغ في التعبير عما نهوا عنه.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

إما غفورا لما قد سلف منكم أو ما سيصدر منكم من المخالفة في ذلك.

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

اتفقوا الجميع على فتح الصاد ومن الكتابي في غير هذه الآية بكسر الصاد وههنا بالفتح ، قال ابن عرفة : وجهه أن المحصنات هنا ليس إلا من قبيل المنع ، لأن النكاح هنا المراد به الوطئ ليس إلا ، والنساء منفعلات فغيرهن أحصنهن ، وفي غير هذه الآية حديث" هن أحصن لأنفسهن إما بالظاهر وإما بالإسلام أو بالحرية".

قوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

إن قلت : هلا قيل إلا ما ملكتم فهي الحقيقة وهي أخص ، وأما هذا المجاز من إطلاق الكل على الجزء ، فالجواب : أن المراد بهذا الشيء المأخوذ في الجهاد والغرور وإنما هو بالأيدي.

قوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

٢٠