تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً).

أي سترا معهودا.

قوله تعالى : (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً).

إشارة إلى علم الله تعالى بالجزئيات والكليات ، فكذلك خبرا.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ).

قال الزمخشري : إن اسم الجبلين والسد بفتح السين مصدر سد يسد سدا ؛ فهم اسم لما بينها وبين مفعول (بَلَغَ) أخرج عن أصله ، كما أخرج في قوله تعالى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [سورة الكهف : ٨٧] فجعل مضافا ، وكما أخرج في (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [سورة الأنعام : ٩٤] فجعل فاعلا.

ابن عرفة : وقال ابن أبي الربيع ابن سالم في الاكتفاء : إن المعتصم الملك كان في البلد التي جال فيها سر من رأى ، وإنه رأى في منامه قائلا يقول له : إن سد يأجوج ومأجوج قد وقع ، قال : فلما استيقظ شق عليه ذلك فاستعد من جيشه خمسين فارسا ، وأمر عليهم واحدا منهم وأعطاه خمسة آلاف زيادة وأعطاه من المال والطعام شيئا كثيرا ؛ فخرجوا وغابوا عنه ثمانية وعشرين شهرا ، فلما قدموا عليه أخبروا أنهم مشوا من أرض إلى أرض وهم يسألون ويلتمسون الدليل ، ويخرجون كتب الملك إلى عمال البلاد فيمدونهم بالمال والطعام إلى أن وصلوا إلى بلاد خربة غير عامرة ، فذكر لهم أن يأجوج ومأجوج كانوا أخربوها ثم وصلوا بعدها إلى مؤمنين فأخبروهم أن السد قريب منهم ، وبلغوهم إليه فوجدوا له بابا شاهقا له قفل طوله عشرة أذرع وغلظه ذراعا ومفتاحه مغلق فوقه ، وعادتهم يأتون إليه في يوم معين من أيام كل جمعة ؛ فيضربون عليه بذلك المفتاح ضربا عنيفا ليشعروا يأجوج ومأجوج بعمارة تلك الجهة ، فيسمعون عند ذلك لهم ضجيجا وصياحا يرتعش له النفوس ، ووجد عند السد شيئا كثيرا من الأواني والقدور التي بلغته الغاية في كبر جرمها ؛ وهي من بقايا ما كان ذو القرنين أذاب فيه النحاس والرصاص ، وقالوا : إن بعض يأجوج ومأجوج علا في أعلا السد فسقط منهم اثنان أحياء فماتا.

قال ابن عرفة : وظاهر الحديث أن الدعوة بلغت يأجوج ومأجوج ، لقوله : يدخل النار من يأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ويتبعون شخصا ومنكم شخص واحد.

قوله تعالى : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ).

١٠١

هؤلاء يفهمون كلاما مع أن الكلام هو المفيد ، والقول يطلق على المفيد وغيره ؛ فالكلمة الواحدة قول وليست بكلام ؛ فالقول يطلق على التصورات ، والكلام يطلق على التصديقات ، قال : والجواب أنهم إذا لم يفهموا القول المطلق على المطلق فأحرى أن لا يفهموا الكلام.

قوله تعالى : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ).

مع أنهم لا يفهمون القول ، فكلفهم لهذا الكلام لغاية اضطرارهم إليه على عادة المريض أو العاجز عن الكلام ، أنه لا يتكلم إلا عند الحاجة الفادحة والضرورة التي لابد له منها.

قوله تعالى : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً).

يؤخذ منه أن الإنسان إذا طلب من الملك حاجة يعلم أنه يقوم بها ولا يحتاج [٥١ / ٢٤٧] إلى معونته فيها فإنه يبدأ بنفسه ويعرض لها في الإعانة بها ؛ فلذلك قالوا : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) مع علمهم بعدم افتقاره إلى ذلك لكثرة جنوده وماله.

قوله تعالى : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ).

مثل قوله تعالى : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [سورة الأعراف : ١٤٥].

قوله تعالى : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ).

قرئ (آتُونِي) بمعنى أعطوني ، وقرئ (آتُونِي) من الإتيان بمعنى المجيء ؛ فزبر على هذا منصوبة بإسقاط حرف الجر ؛ أي بزبر الحديد.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ).

قالوا : (انْفُخُوا حَتَّى) غاية والغيا بها مقدر تقديره فآتوه ما طلب ، وأخذ في بناء السد (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) قال : انفخوا فنفخوا حتى إذا جعله نارا ، والمساواة إما بمعنى أنه صعد بالبناء حتى ساوى أعلا الجبلين في الارتفاع ، وإما بمعنى أنه كان يبني بناء مساويا لعرض الصدفين ؛ أي للجانب الذي ظهر يأجوج ومأجوج من الصدفين ؛ فيصعد مثلا مقدار إقامة ويقد عليه حتى يصير نارا ؛ فيفرغ عليه القطر ثم يبني فوقه بناء آخر مساويا لوجه الصدفين فيصعد به مثل ذلك ؛ حتى علا به إلى أن ساوى أعلا الجبلين من غير زيادة عليهما ولا نقصان.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً).

١٠٢

نسب الجعل إليه اعتناء به وإلا فليس في قدرته جعله نارا وإنما ذلك بفعل الله تعالى وهو مجاز ؛ أي جعله ذا نار إلا أنه هو نفس النار ، والنار لا توجد إلا في شيء ، قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) [سورة الواقعة : ٧١ ـ ٧٢] ولم يقل : أنشأتموها.

قيل لابن عرفة : فالنار جسم أو عرض؟ فقال : جسم مجاور ما حل فيه إلا يمازجه.

قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً).

عبر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم ، فهلا قيل : وما استطاعوا أن ينقبوه ، أو يقال : فما استطاعوا له ظهورا؟ قال : فعادتهم يجيبون بأن الفعل عندنا مشتق من المصدر فدلالته على المعنى أظهر من دلالة المصدر ؛ لأن المشتقات تدل منها على ما اشتقت منه وزيادة ، فلما كانت دلالة الفعل على المعنى أظهر من دلالة المصدر عليه عبر به عن الظهور لتكون دلالته مناسبة للفظه ، كما قيل : صرصر البازي وصر الحبوب ، وعبر عن النقب بالاسم على الأصل ؛ لأنه مفعول والأصل أن يكون مفردا ، أو يحتمل أن يجاب بمراعاة رءوس الآي.

قيل لابن عرفة : أو يقال : إن الصعود عليه أصعب من نقبه فنفى بلفظ الفعل المقتضي لعموم عجزهم عن قليله فأحرى كثيره ؛ فالنقب أخف ، فنفى أشده لأنهم ذكروا أنهم ينقبون كل وقت ولا يتم لهم ذلك ، ولما في حديث البخاري : " فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مقدار هذه وحلق بأصبعه السبابة حلقه ، فقال : ذلك الفتح من الله وليس من قبلهم" ، وهي علامة على قرب الساعة ، فإن قلت : لم حذفت التاء من اسطاعوا الأول ، وثبتت في الثاني؟ فأجاب أبو جعفر الزبير بوجهين :

أحدهما : أن معمول الأول جملة ، ومعمول الثاني مفرد والجملة أكثر حروفا من المفرد ؛ فناسب حذف التاء من الأول دون الثاني لتعاد.

الوجه الثاني : أن الظهور على السد أسهل من نقبه وأخف فناسب التخفيف بحذف التاء من عامله وهو اسطاعوا ، كما قالوا في صرصر البازي ؛ أي اللفظ فيه مناسب لمعناه.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ).

قال ابن عرفة : هذا يدل على أنه كان عنده علم يتم بناء ويبقى صحيحا إلى أمد معلوم ، وكان يجوز أن يكون ذلك على يديه.

١٠٣

قوله تعالى : (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

إن قلت : ما الفائدة فيه؟ فالجواب : إنه دليل على صحة ما يقولون من أن ذا القرنين كان عالما بقواعد المنطق ؛ لأن هذا قياس شرطي استغنى فيه عن المقدم فينتج عين الثاني ، فيقال : كلما جاء وعد ربي جعله دكاء ، والمقدم حق فالثاني حق ؛ أي وعد ربي حق فجعله دكاء حق ؛ لأن ذا القرنين قرأ على أرسطاطاليس.

قيل لابن عرفة : وكان أرسطاطاليس فيلسوفا طبائعيا ، وذو القرنين سني ، فقال : وكذا [٥١ / ٢٤٧] إمام الحرمين سني وشيخة الجبائي معتزلي.

قوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ).

قال ابن عرفة : انظر هل يؤخذ منه أن الترك فعل ؛ أي جعلنا بعضهم يموج في بعض؟

قيل لابن عرفة : إن الأصوليين ما جعلوا الترك إلا الكف عن الشيء ؛ فكذلك سعوا إلى الله تعالى.

فقال ابن عرفة : بل أجازوا نسبته إليهم بدليل أنهم ألزموا من يقول به قدم العالم.

قوله تعالى : (إِنْ أُرِيدُ).

إن يأجوج ومأجوج فيكون التنوين عوضا عن الجملة في قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يوم عدم استطاعتهم ، وتكون إذ على بابها ظرف زمان لما مضى حقيقة ، أو أريد جميع فيكون التنوين عوضا من جملة مجيئها كذا الله تعالى وهو يوم القيامة ، ويكون إذا ما ظرف زمان لما يستقبل ، أو ماضيه في معنى المستقبل ، مثل : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [سورة النحل : ١] ولذلك قرأتها بقوله (يَمُوجُ) وهو مستقبل.

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً).

التأكيد بالمصدر لتحقيق الجمع ؛ إما في نفسه ؛ فيكون تأكيد الجمع ، أو باعتبار الزمان ؛ فيكون تأسيسا ، فأفاد الفعل جمع أجزائهم ، وأفاد الثاني الإتيان بهم مجتمعين في زمن واحد للحساب ؛ فهو على الأول مصدر مؤكد لنفسه ، وعلى الثاني مؤكد لغيره.

قوله تعالى : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً).

قال ابن عطية : يحتمل أن يكون هذا من باب القلب ؛ أي عرضناهم على جهنم.

١٠٤

فرده ابن عرفة بأن القلب مجاز ، والتأكيد يرفع المجاز ، ولذلك احتجوا به في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [سورة النساء : ١٦٤] على صحة وقوع الكلام من الله حقيقة ، وإلا كان يقول : أنه من باب القلب (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [سورة النساء : ١٦٤].

قوله تعالى : (كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي).

ظاهره عام في المؤمنين والكافرين ؛ فلذلك أضاف الذكر إلى الله تعالى.

قوله تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً).

إنما قال : الكافرين ، ولم يقل : أعتدنا جهنم لهم لاحتمال عود الضمير على لفظ عبادي وهم الملائكة.

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً).

قال ابن عرفة : هذا استفهام حقيقة ، كأنه يقول : هل نخبركم بالأخسرين أعمالا ، إن سألتهم عنهم فهم الذين ضل سعيهم ، وقال هنا (نُنَبِّئُكُمْ) بالنون.

وقال في الشعر :

أهل أنبئكم على من تنزل الشياطين

وقال في سورة آل عمران (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) [سورة آل عمران : ١٥] ، وقال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [سورة آل عمران : ٤٩] فعبر في هؤلاء بهمزة المتكلم وحده ، وهما بنون من غيره لوضوح مدلول هذه وخفاء مدلول تلك الآيات ، وتوقف صحتها على المعجزة ، والمعنى ضل في الآخرة سعيهم في الدنيا ؛ لأن كل ما عملوه يذهب عنهم ولا يجدونه فأشبه الضالة الذاهب ، قال : وأسند الضلال للسعي والإحسان للصنع ؛ لأن السعي أعم من الصنع فناسب إسناده إلى الضلال ؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، والضلال نفي والإحسان إثبات ، فصار كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [سورة البقرة : ١٧].

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ).

قال ابن عرفة : يؤخذ منها أن جحد المعاد محبط للعمل ، وأنه كفر ، قيل له : إنما أحبط أعمالهم اتصافهم بالكفر وجحد المعاد معا ، فقال : بل كل واحد من الأمرين كاف في ذلك بدليل أن مجرد الكفر كاف في إحباط العمل ، وكذلك جحد المعاد.

١٠٥

قيل لابن عرفة : اقتضت الآية أن أعمالهم حبطت مجموع الأمرين ، ودليل الدليل من خارج على أن مجرد الكفر محبط للعمل وليس من الآية ، فقال : بل من الآية ؛ لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب يشعر بعلة ذلك الحكم للوصف.

قال الفخر : لا يقال : من زنا وأكل الحلوى فاجلدوه ؛ فدل على أن كل واحد من الوصفين على انفراده كاف في إحباط العمل.

قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

ظاهره أنه لا يوزن أعمالهم السيئة إذ لها أثر مع الكفر ، وظاهر قوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [سورة الأعراف : ٩] أنها توزن.

فقال ابن عرفة : لعل تلك في العصاة وخلودهم غير مؤبد ، قيل له : بل ظاهرها التأبيد ، فقال : أو تكون خفة الموازين مجازا عبارة عن عدم ما يجعل فيها فلذلك تخف.

قال ابن عطية ، والزمخشري : أن [٥٢ / ١٤٨] ابن الكواء قال علي بن أبي طالب : من هم ، فقال هم أهل حروراء وإننا منهم.

قال ابن عرفة : هذا إما تشديد عليه ، وإما بناء بأن المعاصي محبطة للعمل ، وكان ابن الكواء من المعتزلة.

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي).

اختلف الزمخشري ، وابن عطية في سبب نزولها.

فقال ابن عطية : سبب نزولها أن اليهود قالت للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها وأنك أعطيت الناس من العلم ، وأنك قد سئلت عن الروح ولم تجب فيه ؛ فنزلت الآية معلمة بإتباع مخلوقات الله تعالى ، وأنها متناهية وعلم الله غير متناه ، فلا يستغرب من النبي أن يقول : لا علم لي بهذه المسألة ، قال : وهذا مخالف لما قال اليهود في سؤالهم له عن الروح حيث سألوه عنه ، فقالوا : إن أجابكم عنه فليس بنبي ، وإن لم يجيبكم عنه فهو نبي ؛ المراد بالكلمات : إما علم الله القديم الأزلي ومعلوم الله تعالى من حيث تعلقه ، والمتعلق بذاته هو العلم لا المعلوم.

قوله تعالى : (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي).

كان بعضهم ينتقد على أبي سعيد قوله في المدونة : ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل ، فإن اغتسل بعده أجزأه ، ويقول : إنه ليس في المدونة ؛ فإن اغتسل بعده

١٠٦

أجزأه ، بل قوله : فقبل الغسل يجزي عنه ، ؛ لأن قولك : جاء زيد قبل عمرو يقتضي مجيء عمرو ، وكان غيره لا يقتضيه ، لأنك تقول : [...] زيد ابنه قبل أن يتزايد لابنه الولد ، ولا يلزم منه أن يكون لابنه ولد ، ويحتج عليه بآيات من القرآن منها هذه ، وكان الآخر يجيب بأن هذه في سياق الشرط يتركب من المحال ؛ لأن المحال يستلزم محالات ؛ لأن كون البحر مدادا لكلمات الله ونفاذ كلمات الله محال.

قوله تعالى : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

وقال في لقمان (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [سورة لقمان : ٢٧] فانظر أيهما أبلغ؟

قال ابن عرفة : كلاهما بليغ ؛ لأنه ليس المراد نفس سبعة أبحر بل هو مبالغة ، وكذلك هنا ليس المراد مثله فقط بل مثله ومثل مثله إلى ما لا نهاية له.

وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ).

اعلم أن لو حرف امتناع ، وينتفي منها عند الأصوليين الأول لانتفاء الثاني ، وكذا عند المنطقيين خلافا للنحويين ؛ بدليل قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) [سورة الأنبياء : ٢٢] فانتفت الآلهة لانتفاء الفناء.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

يؤخذ منه أن المماثلة بين الشيئين لا ينافي اختصاص أحدهما بأمر دون الآخر ، فالأنبياء عليهم‌السلام مماثلون لنا في الخلق في الأمور الذاتية ، وإن اختصوا بأمر عرضي ، ويؤخذ منه أن هداية نفوسهم مماثلة لغيرهم ، فليست النبوة أمرا مكتسبا بوجه ؛ بل هي خصوصية ألحقهم الله بها من غير تطبع ولا اختلاف مجاز.

قوله تعالى : (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

إن قلت : تغليب على المخاطب ؛ فهلا قال : إنما إلهنا إله واحد ، فالجواب : أنه موحد لله تعالى لا يعتقد له شريكا ، والآية حيث مخرج الرد عليهم ؛ فناسب أن يقول (إِلهُكُمْ) لأنهم يشركون به ، والوحدة في الأمر الذاتي ، والأمر الحكمي.

قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ).

ولم يقل : يرجو لقاء ربكم ، ولذلك لم يقل : فاعملوا صالحا تهيئا لهم على العمل الصالح ، والرجاء إما على بابه ، أو بمعنى الخوف على جهاز المجاز.

١٠٧

سورة مريم عليها الصلاة والسّلام

قوله تعالى : (كهيعص).

اختلفوا هل هذه الأحرف اسم للسورة ، أو الكاف عبارة عن الكبير ، والياء عبارة عن العلي ، والعين عن العليم ، والهاء عن الله ، والصاد عن الصادق.

ابن عرفة : لا يؤخذ بالاجتهاد وإنما إسناده عن الصحابة رضي الله عنهم أو حديث.

قيل لابن عرفة : نص النحويين على أن الحروف لا تنطق بها ، ولا يقال : هذا الحرف ويقطع من كذا ، ولذلك سيبويه عن الخليل في كيفية النطق أنه كاف له هنا السكت ؛ فيقال : في حروف قرب ضرب صدرويه فقال : هذه ليست منقطعة منها بل هو حرف آخر مماثل للكاف من الكبير وهي اسم ؛ لأنك تقول كاف ياء فهي اسم لتلك الحروف.

وقال بعضهم : إن الحروف [٥٢ / ٢٤٨] التي في أوائل السور مما استأثر الله بعلمه.

وقال بعض المتأخرين ممن اختصر كتاب المحصول : هذا إنما هو في الألفاظ المغرور بهائهما عن الكلام القديم ، وأما الكلام القديم الأزلي فيستحيل أن يقال فيه : أنه لا يفهم.

قوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).

قال الطبري : نداء مخلصا ؛ فعبر عنه بالمخفي مجازا وليس بكناية ؛ لأن الخفي منه المخلص وغيره.

قوله تعالى : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي).

ابن عرفة : قال بعض اللغويين : (وَهَنَ) أي ضعف لكن الوهن أخص من الضعف ؛ لأن الضعف له أول ومنتهى ، والوهن يقتضي الضعف الشديد المتناهي.

فإن قلت : هلا قال : وهنت العظام مني ، فهو أبلغ؟

ابن عرفة : فأجاب بعض البيانيين : إن الألف واللام إذا دخلت على المفرد سيرته عاما في المفردات ، والعموم الذاتي أقوى من العموم العرضي ، كقولك : كل رجل قائم ، وكل الرجال قائم.

١٠٨

فإن قلت : اشتعال الشيب في الرأس سبب في الوهن فهلا قدم عليه؟ قلت : إنما يؤكد الأضعف بالأقوى ، والوهن أقوى في الدلالة على الضعف من الشيب ؛ لأن الإنسان قد يشيب صغيرا مؤكد هنا بالأقوى الأضعف فلا فائدة فيه.

قال ابن عرفة : وعادتهم يجيبون بأن الوهن سبب خفي ، والاشتعال بالشيب سبب ظاهر يراه كل أحد فأخره ليكون كالدليل عليه ، وأجيب بأن الوهن يكون لمرض ، فهو قابل للتداوي والرجوع إلى حالته الأولى ، فلما عقبه بالشيب دل على أنه أمر لازم.

ابن عرفة : ؛ لأنه يضعف الابن الكبر فليس لها دواء.

فإن قلت : هلا قال : وهن مني عظمي؟ فالجواب : أن فيه التبيين بعد الإجمال.

كما قال الزمخشري في قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [سورة البقرة : ١٢٧] ، فإن قلت : هلا قال : واشتعل شيب الرأس؟ فأجاب بأنه مجاز على جهة المبالغة في نسب الاشتعال لجمع الرأس ؛ إشارة إلى عموم الشيب في رأسه حتى كأنه شيب.

قوله تعالى : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).

معناه : أني أدعوك فإن استجبت لي حصلت السعادة ، وإن لم تستجب لي أجرت أجر التفرغ والخضوع فلم أكن شقيا بوجه ، والمصدر هنا مضاف إلى المفعول ؛ أي ولم أكن بدعائي إياك شقيا.

قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي).

فإن قلت : هذا معطوف على وهن المؤكد فهلا استغنى عن إعادة إني؟ فالجواب : إما بأنه تأكيد الشيب في المطلب ، وإما بأن وهن العظم والمشتعل الرأس ليس من كسبه بوجه ، وخوف الموالي من أقاربه في الكسب فهو مباين للأول ، وقرئ (خِفْتُ) ومعنى من ورائي من بعدي ، فعلى قراءة (خِفْتُ) يفهم معنى الآية ؛ لأنه بمنزلة رجل ومات نظراؤه في صناعته ؛ حتى لم يبق منهم إلا إنسان ، فيقال : خفت الصناع من بعدي ؛ لأنه يقطع إذا مات لا يبقى إلا إنسان ، وعلى قراءة (خِفْتُ) لا يصح المعنى ؛ لأن إذا مات ارتفع خوفه من هذه من رضى الدنيا لا يخاف مما كان بعد موته.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).

ابن عطية : كيف استبعد زيادة الولد بعد أن طلبه ودعا به ، فأجاب بأربعة أوجه :

١٠٩

أحدهما : إنما طلب وليا لا ولدا ؛ فلعله يكون له ولد غير الولد لا ولدا ، إما حفيدا ، وإما ابن عم ، أو ابن أخ أو غير ذلك ؛ فلما بشر بالولد استغرب ذلك ، فقال : أنى يكون لي ولدا.

الثاني : أن يكون بين طلبه له وبين التبشير به زمن مطاول بحيث تزايد ضعفه ، وتمكنت شيخوخته فكان يرجوا أن يبشر به في زمن إيابه من الولد.

الثالث : أنه سأل عن الكيفية التي تزايد له فيها الولد هل مرجوع امرأته شابة ، أو تلد على ذلك الحال ، كما قال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [سورة البقرة : ٢٦٠].

وفي عبارة ابن عطية ، قلت : لأنه طلب الولد ثم استفهم كيف الوصول إليه ، وكيف تفيد القدرية.

ابن عرفة : وعادتهم يوردون سؤالا ، وهو أنه إذا تقدم اسم نكرة ثم أعيد فإنما يعاد معرفا بالألف واللام ، قال الله تعالى (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [سورة المزمل : ١٥ ـ ١٦] ، قال هنا (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) ، فقال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) الولد ، أو يقول : أنى يكون لي الغلام لأجيب بوجهين :

أحدهما : أن الغلام هنا [٥٢ / ٢٤٩] مدح باسمه فأشبه المعرفة ؛ فلذلك لم يعده.

الثاني : ذلك إنما هو حيث يعاد بلفظه ، وهنا إنما أعيد بلفظ الولد ولا شك أن أحدهما أعم من الآخر ، فالغلام أعم ؛ فإنه يمكن أن يكون ولد ولده ، أو ولد أحد من قرابته ؛ فأخذ هو بحق السؤال باستبعاد كونه ولده.

قوله تعالى : (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ).

أي : كما علمت أن جميع الأشياء هين على الله فاعلم أن هذا هين عليه ، واستدل بخلقه إياه من عدم ، وهذا هو المذهب الكلامي وهو الإتيان بالحكم مقرونا بدليله.

قوله تعالى : (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).

ظاهره أن هذا حجة لأهل السنة في قولهم ؛ لأن الندم ليس بشيء.

والزمخشري يقول : ولم تك شيئا موجودا أو شيئا مذكورا.

قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً).

١١٠

أي علامة.

قوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ).

ابن عرفة : عرف القرآن في هذا النداء بالياء ، إيماء بالموجود ؛ فلذلك قال ابن عطية : المعنى فولده ، وقال الله للمولود (يا يَحْيى).

ابن عرفة : إنما عد بولد ؛ لأن المتكلمين اختلفوا في الاستدلال على الحدوث هل يستدل بالإمكان أو بالموجود؟ فإن نظرنا إلى ما قبل الآية ، وهو قوله تعالى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) وهذا دليل على إمكان وجوده ، وإن نظرنا إلى قوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) كان دليل على أنه واحد ؛ لأنه خطاب له ؛ فلذلك أضمر وجوده قبله.

وقوله تعالى : (خُذِ).

إن كان تكليفا فهو للوجوب ، وإن كان امتنانا فهو للندب.

قوله تعالى : (بِقُوَّةٍ).

قال أبو حيان : إما مفعول أو حال.

ابن عرفة : يريد إما متعلق بقوله (خُذِ) وهو موضع الحال والكتاب التوراة ، وإنما قال : (بِقُوَّةٍ) ولم يقل ذلك في موسى ولا في غيرة من الأنبياء ؛ لأنهم أوتوا الحكم كبار بالضرورة أن يأخذوا الكتاب بقوة ، ويحيى أوتي الحكم صبيا ، فقال (بِقُوَّةٍ) أحرى بنا ؛ فالحكم المراد به الأمر الفضلي ، يعني لأن الصبيان يوصفون بالحكم الضروري فلا مزية له عليهم فيه.

حسبما قال الفخر في المحصول : الحكم القصد ، يعني هو يمكن أن يكون وأن لا يكون ؛ فلذلك يوصف به الصبيان ويوصفون بالضروري ، فلو علم الصبي لعلمه بتفضيل لم يضرب لأنكر ذلك بالبديهة.

قوله تعالى : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا).

ابن عطية ، والزمخشري : يحتمل أن يراد وخلقنا في قلبه الحنان ، ويحتمل أن يراد وأتيناه حنانا منا عليه.

وذكر ابن الصلاح في علوم الحديث في باب رواية الآباء على الأبناء حديثا يقتضي اتصاف الله تعالى بالحنان ، وذكر فيه سندا متصلا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن الحنان هو الذي يقبل على من أعرض عنه ، والحنان هو الذي يبدأ بالسؤال

١١١

قبل السؤال ، فقال ابن العربي هنا في الأحكام : أن إتيان النبوة للصغير ممكنة جائزة عقلا لكنها لم تقع ولم يذكر ذلك المتكلمون ؛ لأن ظاهر كلامهم بياني في بداية الإقدام ، أيضا أنها جائزة عقلا ؛ لأنه قال : لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى يخص من يشاء من عباده بالنبوة والولاية ؛ فعموم هذا يتناول الصغير والكبير.

قال ابن عرفة : وأما البعيد فلا يجوز عندهم نبوة الصغير بناء على قاعدة التحسين والتقبيح والفلاسفة يصح ذلك على مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إنها راجعة إلى طبع مجازي يحضون به ، وظاهر كلام الفخر هنا أنها واقعة أن يحيى وعيسى بعثا صغيرين.

قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا).

وقال تعالى في عيسى : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) ، وكان بعضهم يقول : لأن يحيى أكثر تكليفا ، قال : وعيسى كذلك رسولا.

قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ).

وقال عيسى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) قيل لابن عرفة : هذا حكم إنشائي وصيغ الاستثناء حالته ، فكيف يعمل في المستقبل؟ فقال : ليس المراد حقيقة المستقبل ، وإنما هو كقولهم : ضربته الظهر والبطن.

قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ).

وقال عيسى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) فأجاب الزمخشري والغزالي بأن يحيى غلب مقام الخوف فسلم عليه أمنا له وتطمئنا وعيسى [٥٢ / ٢٤٩] غلب عليه مقام الرجاء.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ).

قال ابن عرفة : عينها باسمها في سورة التحريم ، فقال تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) [سورة التحريم : ١٢] تشريفا بذكرها مع امرأة فرعون ، وامرأة نوح ولوط ، ويوجد جواز اجتماع الخبر والأمر في الكلام الواحد ؛ لأن الإخبار الآخر عن هذه القصة مع أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم مأمور بتبليغها للناس فيؤخذ منه أن من آمن فلا يبيع سلعة بكذا دينار ، فقال : إن فلانا ، قال : بائع سلعتي هذه بكذا وأنا قد بعتها به ، فقال المشتري : وقد اشتريتها بذلك ، فقال : ربما لا أرضى بذلك أنه يلزمه البيع.

قوله تعالى : (إِذِ انْتَبَذَتْ).

١١٢

قال أبو حيان : يصح أن يكون مفعولا أو بدلا من مريم ، فقيل له : هما شيء واحد ؛ لأن اذكر إنما يتعدى لمفعول واحد ، فقال : القائل فيه فعل آخر مقدر ؛ أي اذكر إذ انتبذت.

قال المختصر السفاقسي : يحتمل أن يكون على حذف مضاف ؛ أي اذكر خبر مريم وما جرى لها إذ انتبذت.

قال ابن عرفة : هذا هو الصحيح ، لأن الخبر متأخر عن المجرور عنه فلا يصح أن يعمل الخبر في إذ ؛ لأن وقت الانتباذ ليس هو وقت الخبر ؛ فلذلك قال أبو حيان : وما جرى لها إذ انتبذت.

قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا).

وهو جبريل ، وقال تعالى في سورة آل عمران : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [سورة آل عمران : ٤٥] التبشير وقع من الملائكة وهذا الإرسال من ملك واحد ؛ فإن كانت القصة واحدة فيكون ذكر هذا جبريل وحده ؛ لأنه المتقدم في الملائكة وهو تبع له ، وإن كانت قصتين فتكون تلك قبل هذه فبشرها أولا الملائكة ثم أتاها جبريل وحده فنفخ في فرجها.

فإن قلت : كيف يفهم تطور الملك ورجوعه على صورة إنسان حسن الصورة مع أن الموجودات ثلاثة : إما متحيز ، أو قائم بالتحيز ، أو لا متحيز ولا قائم ؛ فمتحيز على القول بإثبات الجوهر المفارق ، فكما لا يصح صيرورة الجوهر عوضا ولا العكس ؛ لذلك لا يصح الموجود الغير المتحيز متحيزا ، قلت : فالصواب أن الملائكة أجسام متحيزة ، فكما أن الله تعالى أقدر الجسم على القيام والقعود والحركة ، كذلك أقدر بعض الأجسام على التطور على صفات مختلفة.

ابن عرفة : وقد كنت رأيت السلطان إبراهيم في غاية الضعف قولا [.....].

قوله تعالى : (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي).

وقرئ من تحتها ، وعلى كلا القراءتين يصح أن يكون المنادى جبريل وعيسى عليهما‌السلام ، ورجح بعضهم الأول بعدم الاحتياج إلى إضمار الفاعل ، وأجيب بأن الفاعل هناك الجزء من الفعل فهو بمنزلة المركب.

ابن عرفة : ومن بديع التفسير قول الزمخشري في أن جبريل عليه‌السلام كان يقل الولد كالمقاتلة ويقبل الولد كالقابلة.

١١٣

قوله تعالى : (أَلَّا تَحْزَنِي).

قال الزمخشري : أن مفسرة.

ابن عرفة : انظر هل هي مفسرة للنداء أو للقول الكائن معه؟ فالمعنى : قال لها يا مريم لا تحزني ، أو كون قوله : (فَناداها) فحملوه من قوله لها : (يا مَرْيَمُ) وأن لا يفسر القول الواقع بالنداء.

قوله تعالى : (أَلَّا تَحْزَنِي).

قال ابن عرفة : عادتهم يوردون فيه سؤالا وهو أن الغم الواقع من النفس إن كان لأجل أمر مستقبل فهو خوف ، وإن كان لأجل أمر ماض فهو حزن وتألم ، أما أن تكون مما يلحقها من المعرة فقط من قومها فهو أمر مستقبل ، أو بالسبب الواجب لهذه المعرة وهو أمر ماض أو مجموعهما ، وهو مستقبلي ؛ لأنه إن كان بعض المجموع مستقبل فالكل مستقبل ، وتألمها في الحقيقة ، وهو إما أن يلحقها من المعرة فقط ، فهلا قال (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي)(١)؟ قال : والجواب : اختار أنها اغتمت وتأملت للمجموع من المعرة وسببها وراعاها في هذا المجموع سببه وهو ماض تذكيرا لها لما فيه من المعجزة ، والأمر الخارق للعادة ؛ ففيه تسلية لها عن العالم لما يتوقعه من المعرة وسببها وراعاها في المستقبل (٢).

قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا).

قال ابن عطية : يؤخذ منه مراعاة الأسباب ، وإلا فالله سبحانه [٥٢ / ٢٥٠] قادر على إيصال ذلك إليها من غير هز.

ابن عرفة : وكان بعضهم يقول : إنما أمرها بالهز ؛ لأن فيه اشتغالا لها لتسلى وتزول عنها ما بها من الغم ، فما شاهدناه فيمن يكون مغموما فتعلق نفسه بشيء يزيل همه ، قالوا : ففي الآية تعدي فعل المضمر المتصل إلى مضمره المتصل ، وأجاب أبو حيان بخمسة أوجه :

إما أنه على إضمار أعني إليك.

وإما أن ذلك اسم.

__________________

(١) وردت في المخطوطة : فناداها من تحتها ألا تخافى ووردت في المصحف فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي وقد أثبتنا ما في المصحف.

(٢) ورد في الحاشية : (الفرق بين الخوف والحزن).

١١٤

وإما أن ذلك جائز عند الكوفيين.

ابن عرفة : وكان بعضهم يقول : الصواب جوازه هنا ، وإنما يمنع حيث يباشر الفاعل المفعول ، كقوله : ضربتني وضربتك ، وهنا فصل بين الضميرين حرف الجر ، وقد أجازوا العطف على المضمر المتصل المرفوع إذا فصل بينه وبين المعطوف بالجر ، مثل : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [سورة الأنعام : ١٤٨].

فقيل لابن عرفة : هذا شبه القياس في اللغة وهو ممنوع عندهم ، قيل له : إن يجيب كان إليك متعلق بتساقط عليك ويكون بدل اشتمال ؛ لأن الاستعلاء مشتمل على منتهى الغاية.

قلت : وذكرته لصاحبنا الأستاذ أبي الفارس بن القصار فرده بوجهين :

الأول : أن جواب الشرط لا يجوز تقديم معموله عليه إلا عند القراء ، وتساقط هنا جواب للأمر المتضمن معنى الشرط ، واحتج المؤلف بقول الشاعر :

وللخيل أيام فمن يعطيه لها

ويعرف لها أيامها الخير يعقب

وأجاب ابن عصفور بأن الخبر للام الثاني إنما نصوا على شديدة الاتصال بالجمل ، فلا يجوز الفصل بينهما بأجنبي باتفاق ، وإذا كان متعلق بتساقط صار أجنبيا عن هذا ، قال : وإنما الجواب عندي بأنه على حذف مضاف ؛ أي : وهزي إلى جهتك حسبما ذكر ابن عصفور في قوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [سورة القصص : ٣٢] وذكروا أيضا نحوه في قوله :

دع عنك نهبا صيح في حجراته

ولكن حديثا ما حديث الرواحل

قوله تعالى : (رُطَباً جَنِيًّا).

أي رطبا مهيئا للاجتناء ؛ لأن الرطب قسمان : منها ما حل ، ومنها ما لم يحضر وقت إجتنائه.

قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَ).

أصله : فإن ما ترين.

قوله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً).

فكان في شريعتهم أنهم إذا انذروا الصوم يمسكون عن الطعام والشراب والكلام.

قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ).

١١٥

قيل لابن عرفة : ما أفاد قوله تعالى : (تَحْمِلُهُ) مع أن (بِهِ) يغني عنه؟ فأجاب بأنه احتراس عن أن يظن ، قيل له : هلا استغنى بقوله (تَحْمِلُهُ) عن قوله : (بِهِ؟) فقال : أفاد ذكره التفسير بعد الإجمال ، كما قال في قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [سورة البقرة : ١٢٧] ، قال وعادتهم يقولون : يقدرون أن الفعل يقتضي التكلف ، واحتمال الميثاق بخلاف الاسم ، كقولك : جاء زيد يحمل عمرا ؛ بخلاف قولك : حامل عمرو ، ولا شك أن عليها في دخولها به قريتها وهم كبير ومشقة لاستحيائها منهم.

قوله تعالى : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا).

قال ابن عرفة : فيه إيماء إلى أن الأصل له أثر في الفرع ، ولذلك قال ..... (١) ، لعله عرف نزعه.

قوله تعالى : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا).

ابن عرفة : (مَنْ) إما عبارة عن الأنواع أو عن الأشخاص ؛ فإن كانت للأنواع فالمعنى كيف نكلم من هو من هذا النوع؟ فتبقى كان على أصلها ؛ لأن هذا النوع مضى منه كثير.

قال ابن عرفة : وعادتهم يوردون في هذا سؤالا ؛ وهو أن الصواب إن كان يقال : كيف نسمع كلام من كان في المهد صبيا؟ أو كيف يجيبنا من كان في المهد صبيا؟ لأنهم قد تكلموا وكلامهم وإنكارهم إنما هو عليهم لا على الصبي ، وقد كلموها وما بقى لهم إلا السماع ، قال : فكان الجواب يمشي بتقدير خدمة ؛ أي إنما أجنبنا المسئول لا غيره ، ونحن إنما نتكلم ونسأل من هو أهل ؛ لأن يتكلم ، ومن كان في المهد صبيا لا يتكلم.

قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ).

إنما لم يقل : وأمرني ؛ لأنه صغير لم يبلغ هذا التكليف.

قوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ).

قيل لابن عرفة : يحتمل أن يكون الحق بدلا من عيسى بدل اشتمال ، وقد نصوا على جواز بدل المصدر من الاسم في بدل الاشتمال ؛ فرد عليه بأنه مشروط بضمير

__________________

(١) بياض في المخطوطة ، وسقط أيضا.

١١٦

يربط بين البدل والمبدل منه ، والمصدر ليس فيه ضمير إذ ليس بمشتق ، وأجيب بأن ابن هشام نفى في شرح الإيضاح على أن الألف ، والألف تقوم مقام الضمير.

قوله تعالى : (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ).

[٥٢ / ٢٥٠] ولم يقل : الذي فيه يختلفون ؛ لأن الاختلاف يستلزم أن يكون البعض حقا والبعض مبطلا ، والامتراء يقتضي بطلان قول جميعهم.

قوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ).

قابلية إنجاز الولد ونفي مكان اتخاذه ، ونفى في سورة (قُلْ هُوَ اللهُ) [سورة الإخلاص : ١] وجود اتخاذه ، وفي سورة المؤمنين (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) [سورة المؤمنون : ٩١].

ابن عرفة : وبين الآية عموم وخصوص من وجه دون وجه ؛ فنفي وجود الولد لا يستلزم نفي وجود البنين ، ونفي اتخاذ الولد يتناول ولد البنين أو ولد الصلب.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).

قال الزمخشري : قرأ المدنيون ، وأبو عمرو بفتح إن والأستاذ وأبو عبيد بكسرها على الابتداء.

قال ابن عرفة : وجدت في طرة كتاب عن الزمخشري : الإسناد معناه الأربعة.

قال الطيبي : هم الكوفيون والأعمش.

قوله تعالى : (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

(مِنْ) للسبب ؛ أي لسبب شهادتهم ذلك اليوم لما يقولون.

قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا).

ابن عطية : هؤلاء ممن يقال فيهم : ما أسمعهم وما أبصرهم بالعذاب والوعد والآلام النازلة بهم.

قال ابن عرفة : وكان بعضهم يرجح الثاني ، قوله تعالى : في سورة نون والقلم ، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [سورة القلم : ٤٢] فظاهره أنه ليست لهم قدرة عن أفعال أسباب السعادة ، وأجيب بأن تلك على سبب القوة العملية عنهم ، وهذه إنما تدل على إثبات القوة العلمية لا العملية.

قال الزمخشري : وقيل : إنما معناه التهديد بما ينالهم ويصدع قلوبهم من السوء.

١١٧

ابن عرفة : فيكون أمرا بالسماع حقيقة.

وقيل لابن عرفة : فالإسماع في الدنيا فكيف يعمل في يوم يأتوننا؟ فقال : الفاعل لازمه لا هو أي أسمع غيرهم بخبرهم يوم يأتوننا.

ابن عرفة : وظاهر الآية دليل في المسألة التي كفر القرآن فيها الفلاسفة حيث أنكروا إعادة الأجسام بعينها ، بقوله (يَوْمَ يَأْتُونَنا) فظاهر إتيانهم بأسماعهم وإبصارهم على ما كانت عليهم.

قوله تعالى : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

يحتمل معنيين : إما أنه مبين في نفسه ، وأنه مبين جهلهم وغباوتهم وهلاكهم.

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها).

الوارث قسمان : فوارث المال بمعنى تملكه حسيا ، ووارث الأب بمعنى نيل بفعله خطبه أو عمله وهي معنوية ؛ فهل هو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازة؟ قال : ليس هو لذلك ؛ لأن الأب لا يملك ، والأرض هنا ومن فيها ملك لله عزوجل.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ).

قال ابن عرفة : قال المفسرون : إن كان الله تعالى ذكره في الكتاب فيكون أمر النبي صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم فضائله وأوصافه وسماعه من النبوة والرسالة والصدق ، وإن كان أمر النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فيكون ذكر حقيقة.

ابن عرفة : ويحتمل على الأول أن يكون بمعنى اذكر للناس ذكر إبراهيم في الكتاب ؛ أي اتل عليهم أنه ذكره في الكتاب.

ابن عرفة : وانظر هل ذكره في الكتاب تشريفا له أو تعظيما ؛ فكان بعضهم يأخذ من هذه الآية مع قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء : ٦٩] بأنه ليس بين مرتبة النبوة ومرتبة الصادقين مرتبة زائدة ، وبين الصادقين بأنهم العلماء في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [سورة فاطر : ٢٨] ، أو في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [سورة آل عمران : ١٨] مع أنهم ذكروا في الحال أنها على أربعة أقسام :

فأولها : إيمان المقام.

١١٨

الثاني : من حصل له العلم بدليل لا يقدر على التعبير عنه ، وهذا يختلف فيه هل هو مقلد أو مجتهد.

والثالث : من حصل له العلم أنه بالدليل القوي يقدر على دفع ما يرد عليه من التشكيكات ، وعلى تربية الناس وإرشادهم به إلى الطريق الحق ، كان سيدي أبو الحسن الزبيدي على صحن الجابية وهو ينظر منتهى السؤال للآمدي ، قال : قلت في نفسي : أثرا يا سيدي أبي الحسن ، هل هو من الصديقين أم لا؟ فطوى الكتاب.

كان سيدي أبو الظاهر [٥٢ / ٢٥١] الركراكي يقول : نحن معاشر الصديقين آخر من ينصرف من المحشر ثم رجع ينظر في الكتاب.

قال ابن عرفة : ما ورد في الحديث من أن إبراهيم صلّى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آله وسلم لم يكذب إلا ثلاث كذبات ليس على ظاهره ، وما عدها إبراهيم كذبات ألا تواضعا منه ، وإلا فقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [سورة الأنبياء : ٦٣] ليس بكذب ، بقوله : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [سورة الأنبياء : ٦٣] فقد فعله كبيرهم هذا وهم لا ينطقون فلم يفعل هو.

قوله تعالى : (يا أَبَتِ).

النداء له تنبيه ليحضر ذهنه لسماع ما يرد عليه ، ولم يقل : يا آزر على جهة اللطف والاستعطاف ، ومن التلطف سؤاله عن سبب عبادته لمن هو عاجز ، وهو قوله (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) إشارة إلى أنه مفتقر لمعبود يغني عنه وينفعه ويضره.

قوله تعالى : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ).

إشارة إلى أن أباه عجز عن جوابه هذا فأخبر هو بما حصل حقيقة عنده من العلم.

قوله تعالى : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ).

قال ابن عرفة : يحتمل أن يكون استفهاما حقيقة ؛ ليحصل المشاكلة بينه وبين قول إبراهيم (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) كأنه أيضا استفهام حقيقة يرد السؤال لا في استفهام إبراهيم عن العلة في عبادته أبيه عن نفس العبادة ، واستفهام آزر عن ذات الشيء لا عن علته ، هل هو راغب عن آلهته أو يعبدها؟ قال : وأجيب بثلاثة أوجه :

الأول : أن هذا منه على سبيل المغالطة وإلا فهو يعلم أن إبراهيم يرغب عن آلهته.

١١٩

الثاني : أنه سئل عن علة العلم ، وأما الجاهل فلا يسأل عن علة الحكم ولا عن دليله بوجه.

الثالث : أنه إنما ذكره ليرتب عليه العقوبة في قوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

قال ابن عرفة : فإن قلت : هلا ابتدأ بالنداء قبل الاستفهام؟ فالجواب : أنه قدم الاستفهام ؛ لأنه الاسم المقصود.

قوله تعالى : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

معطوف على مقدر ؛ أي فاحذرني واهجرني مليا.

قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ).

كان بعضهم يقول : أما سلام القادر فمطلوب مشروع ، وأما سلام المنصرف فغير مشروع ، ومنهم من قال : مشروع بدليل هذه الآية مع حديث خرجه أبو داود.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا).

فكان بعضهم يقول : الوصف بالنبوة تأكيدا ؛ لأن الرسالة أخص ، وكان بعضهم يجيب بأن الأعم على قسمين :

أعم لا يوجد إلا في أخصه المعين.

وأعم يوجد فيه وفي غيره ، فمثال الأول في قولك لرجل ميت : كان هذا إنسانا حيوانا ؛ فالأعم في هذا المثال لا يوجد إلا في أخصه المعين ؛ لأن كون ذلك الرجل حيوانا لا يمكن أن يوجد إلا مع كونه إنسان ، وكذلك الموصوف بعد الرسالة إن كان نبيا مدة من الزمان ، ثم كان رسولا بعد ذلك باستبعاد استقلال كل واحد من الوصفين فيه وفي غيره من الرسل أرسل وثبت واحدة.

قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ).

(مِنْ) للغاية ؛ أعني لابتدائها وانتهائها ، نحو : خذ المال من الصندوق ، وذلك من النسبة إلى المخاطب ، والوصف الأيمن إما مأخوذ من اليمن والبركة ، وإما باعتبار الشرف ، وإما باعتبار القوة والضعف ؛ لأن اليمين أقوى في التكسب والحركة من الشمال باعتبار الأعم الأغلب ، وقد يكون في بعض الناس على العكس.

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا).

١٢٠