تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

قرر عليهم عبادة الكفار لهم على جهة الاستهزاء بالكفار ، فأجاب : بأنهم كانوا يعبدون الجن إما لإتباعهم في عبادة الملائكة [٦٢ / ٣٠١] ووسوسة الشيطان ، فكأنهم عبدوا الجن ، وإما لكون الملائكة غير راضين بعبادتهم لهم وقوله (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

إشارة إلى الأتباع والمتبوعين ، وهم رؤساؤهم ووسوس لهم الشيطان فاتبعوه وآمنوا به واتبعوهم مقلدون لهم ، فلم يؤمنوا بالجن قبل ذلك رؤسائهم في ذلك.

قوله تعالى : (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا).

الأقسام أربعة : جلب النفع والضر ودفعهما معا ، وجلب النفع ودفع الضر وعكسه ، والنفي متسلط على الجميع ، وهل المراد بالبعض الثاني حقيقة له ، فكأنه يقول : لا يملك بعضكم لغيره نفعا ، أو المراد به العموم ، أي لا يملك بعضكم لإنسان بالإطلاق ، أي لا يملك لنفسه ولا لغيره ، وهذا أولى لعمومه ، وقدم النفع على الضر لأن جلب النفع مهم ، ودفع الضر أهم ، وعدم الاتصاف بالمهم لا يستلزم عدم القدرة على ما هو أهم منه ، فجاء هذا على الأصل ، لأن الأصل أنه لا يملك ، وعلى تقدير ابن عطية فيقال لهم : يكون معطوفا عليه (بَيِّناتٍ) يدل على أن القرآن لا ينسخ بالنسبة ، لأن النسخ بيان ، والآية دلت على أنها بينة في أنصبتها.

قوله تعالى : (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ).

ترد عليه القول بالموجب ، وهو أنه كذلك هو في نفس الأمر وهو الذي أراد لكن وجه احتجاجهم بهذا أنه من الدليل السوفسطائي ، وقد ذكر المناطقة أنه لم ترد في القرآن ولا في كلام فصيح ، لكن مرادهم أنه لم يرد من كلام الله تعالى ، وهذا إنما هو حكاية عن هؤلاء ، وتقريره أنهم اعتقدوا أن الخروج عن ملة الآباء قبيح ، لا يحل ولا يجوز ، وهذا النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم قصد صدهم عن ملة آبائهم ، فلذلك كفروا به وابتدءوا هم بهذه المقالة من باب إثارة الغضب كقول القائل :

يا ابن الذي طاعته عصمة

وحبه مفترض واجب

إن الذي شرفت من أجله

يزعم هذا أنه كاذب

قوله تعالى : (مُفْتَرىً).

إن قلت : ما فائدته ، فالجواب : بين وجهين :

الأول : الإفك ، قول الباطل عمدا أو سهوا ، والافتراء تعمد الكذب.

٣٢١

الثاني : الإفك ، هو القول الباطل في نفيه ، وإن كان قائله صادقا في مقالته مثل أن يخبرك شخص عن عمرو يقام زيد ، وهو صادق في الإخبار عن عمرو ، ولكن ذلك الكلام في نفيه كذب ، فلما قال : مفترى؟ أفاد أن الكلام في نفيه كذب ، وأن ناقله كذب أيضا على المنقول عنه في حكايته.

قوله تعالى : (لِلْحَقِ).

الزمخشري : لأمان الجر ولام التعريف.

قوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها).

دلت الآية على أنهم في تكذيبهم للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم غير مستندين إلى كتاب منزل ، ولا إلى أخبار رسول ، ولا إلى خبر تواتر ، لأن الذين من قبلهم قد كذبوا ، وإذا كذبوا انقطع التواتر ، لأن شرطه صدق المخبرين ، أما المكذبون فلا.

فإن قلت : إنهم لم يشترطوا في التواتر صدق المخبرين ، بل قالوا : إن خبر الكفار البالغين عدد التواتر يفيد العلم ، فالجواب : إنما ذلك إذا أخبروا عن أمر شاهدوه ، وأما النقل فلا ، لأن الكفار البالغين عدد التواتر نقلوا لهم ذلك عن قوم كذبوا بينهم ، فلا يعتمد على قولهم بوجه لقوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

وإنما احتيج إلى ذكر الثلاثة ، لأن الرسول لا يستلزم الكتاب ، إذ قد يكون رسولا بغير كتاب منزل عليه.

فإن قلت : لم وصف الكتب بيدرسونها ، مع أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فيبقى المفهوم ، فالجواب : أن الكتب ما ينتفع بها إلا بالنظر وبالدرس وإلا فوجودها كالعدم ، فهذه لازمة أو هو مفهوم خرج مخرج الغالب [٦٢ / ٣٠٢] فلا يعتبر.

قوله تعالى : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي).

إن قلت : ما أفاد بعد قوله تعالى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، فالجواب : بوجوه :

الأول : أن هذا مقيد ، والأول مطلق.

الثاني : والمراد بالأول تكذيبهم المعجزات ، وبالثاني تكذيب الرسل.

٣٢٢

وأجاب الزمخشري : بأنه لما كان معنى قوله تعالى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وفعل الذين من قبلهم وأقدموا عليه جعل تكذيبهم الرسل سببا عنه ، ونظيره أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم.

قوله تعالى : (مَثْنى وَفُرادى).

إن قلت : قدم (مَثْنى) على (وَفُرادى) وكان العكس ، فالجواب : أن مفعول التكذيب بالنظر والاستدلال مع الجماعة أقرب من حصوله حالة الانفراد ، والآية خرجت مخرج الوعظ والتذكير ، فكان تقديم الاثنين من الواحد.

قوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ).

إما أن يقتضي النفي ، أي أني لا أسألكم عليه أجرا إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، وفي الآية دليل بجواز أخذ الأجرة على رواية الأحاديث.

وفيه خلاف حكاه ابن الصلاح ، قيل : تجوز ، وقيل : لا تجوز ، واختار بعض المتأخرين إن كان يشغله عن معانيه فجائز ، وإلا لم خبره ، وأما الحديث الواحد فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغه ، وانظر بما تقدم في أخر سورة البقرة ، ووجه الدليل من هذه الآية أن الأصل الناشئ حين يدل الدليل على التخصيص ، والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لا يتوهم سؤاله إلا عن ما هو جائز.

قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

إن أريد بالشهادة مجرد العلم والكشف والإطلاع فهو عام باق على عمومه ، ويكون فيه دليل على تعلق علمه بالجزئيات والكليات ، وإن أريد بها الشهادة الملزومة للمجازاة مستثنى ، فلا يصح كونه بدلا ، وأيضا فقد فرقوا بين العطف على مواضع أن ، وبين العطف على مواضع إن واسمها ، فالعطف على مواضع اسمها لا يجوز عند الأكثر ، لعدم المحرز لأن الرفع امتنع بدخول إن والعطف على موضعها هي واسمها جائز ، لأن موضعها رفع ، فالصواب : أن (عَلَّامُ) خبر ابتداء مضمر ، أي هو علام ، والمبالغة إما باعتبار كثرة معلوماته ، أو باعتبار الكيفية ، وأنه في النهي درجات العلم.

قوله تعالى : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ).

يحتمل أن يكون فيه حذف التقابل.

قوله تعالى : (قُلْ جاءَ الْحَقُ).

يبدئ الباطل ويعيد ، وزهق الباطل وما يبدئ وما يعيد.

٣٢٣

قوله تعالى : (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي).

إن قلت : فيه دليل أنه عليه‌السلام غير مجتهد ، فالجواب : أن اجتهاده راجع إلى الوحي.

قوله تعالى : (آمَنَّا).

إنشاء لا خبر.

قوله تعالى : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).

أي كيف يصح إيمانهم ، والدار ليست دار تكليف ، فلا ينفعهم إيمانهم بحال.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ).

تدل على أول الأزمنة القبلية ، فأفادت الآية أنهم ماتوا على الكفر ، لأن ابتداء الغاية بحسب مآلهم ، وحالهم حينئذ أمر الآخرة ، فأفادت من أن ابتداء أمر الآخرة حينئذ في حقهم الكفر ، وهو انتهاء أمر الدنيا ، فهم ماتوا كفارا في شك ، والمراد به الشك اللغوي لا استواء الطرفين كما هو اصطلاحا ، فيتناول الظن ، وهو تنبيه بالأدنى عن الأعلى ، لأنه إذا كان الشاك يناله هذا الوعيد فأحرى من جزم.

٣٢٤

سورة فاطر

تقدم الكلام على الحمد في أول الفاتحة.

قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ).

لم يعتبر مفهوم العدد هنا مع أنه قوي عندهم.

الزمخشري : أولى جمع ذواي ذوى أجنحة ، ونظيرها في المحكية والمخاض والخلفة ، انتهى ، أراد مخاضا جمع خلفه ، نص عليه عياض في كتاب الزكاة من الإكمال [٦٢ / ٣٠٢] (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، مشتقة من اثنين وثلاثة وأربعة ، ومنع صرفها العدل والصفة.

الزمخشري : منعها تكرار العدل فيها وتقدم بيانه في النساء ، قال : ولا فرق في الوصية فبين المعدولة والمعدول عنها ، كنسوة أربع ورجال ثلاثة ، واعترض بأن شرط الوصف المانع من الصرف ، أن لا تكون مؤنثة بالتاء ، وأن لا يكون مع التأنيث ؛ فلا يلزم من عدم اعتبار الصفة اعتبارها في العدول النقد شرطها فيها.

وأجيب : بأن مراده أنه لم يجتمع فيه علتان ، فليس فيه الوصف ، لأن شرطه عندهم ألا يمنع الصرف إلا في أفعل فعلاء ، كأحمر حمراء أو فيها مؤنثة بغير تاء ، وأما الصفة التي في مؤنثها التاء الفارقة بينها وبين المذكر ، فلا يمنع الصرف فهنا بوجه.

قيل : وكذلك أيضا عنده لا يمنع الصرف إلا فيما كان اسما ، ومثله ابن عصفور بأربعة : فإنها اسم العدد بخلاف غيره.

القرافي في شرح المحصول قال : التصريف الذي نقل عن جماعة أن الواو ترد معنى ، أو كقوله (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، انتهى.

ابن هشام : زعم قوم أن الواو تخرج من إفادتنا المطلق الجمع ، وتستعمل بمعنى أو ذلك على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون معناها في التقسيم نحو الكلمة اسم وفعل وحرف ، وممن ذكر ذلك ابن مالك في التحفة. والصواب أنها في ذلك على معناها الأصلي ، إذ الأنواع مجتمعة في الدخول تحت الجنس ، ولو كانت أو هي الأصل في التقسيم ، لكان استعمالها فيه أكثر من استعمال الواو.

والثاني : أن معناها في الإباحة ، قاله الزمخشري : وزعم أن يقال : جالس الحسن وابن سيرين ، أي أحدهما وأنه لهذا قيل : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [سورة البقرة :

٣٢٥

١٩٦] ، بعد ذكر ثلاثة وسبعة ، لئلا يتوهم إرادة الإباحة ، والمعروف من كلام النحويين أنه لو قيل : جالس الحسن وابن سيرين كان أمر بمجالسة كل منهما ، وجعلوا ذلك فرقا بين العطف بالواو والعطف بأو.

الثالث : يكون معناها في التخيير.

قاله بعضهم في قوله :

قالوا نأت فاختر من الصبر والبكا

فقلت البكا أشفى إذا لغليلي

فقال : معناه أو البكاء إذ لا يجتمع مع الصبر ، ونقول : أن الأصل فاختر من الصبر والبكاء ، أي أحدهما ، ثم حذف من كما في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [سورة الأعراف : ١٥٥] ، ويؤيده أن بها على القاف من.

وقال الشاطبي في باب البسملة ، وقيل : وأسكتني ، فقال شارحوا كلامه : إفراد التخيير ثم قال محققوهم : ليس ذلك من قبل الواو ، بل من جهة المعنى ، وقيل : إن شئت.

قال أبو شامة : وزعم بعضهم : أن الواو تأتي للتخيير مجازا.

قوله تعالى : (لِلنَّاسِ).

إن قلت (١) : ما أفاد ، قلت : لأن الفتح المطلق لا حسد فيه ، وإنما يحسد في الفتح في شخص معين.

قوله تعالى : (وَما يُمْسِكْ).

قال شيخنا ابن عرفة : يؤخذ منه أن العدم الإضافي السابق متعلق للقدرة ، وجعله بعض الأصوليين متعلقا للإرادة.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِهِ).

إن قلت : ما أفاد وهو خص بالقسم الثاني دون ، فالجواب : أنه إشارة إلى ما قرره المتكلمون : من أن ما أراد الله تعالى كونه فلابد من وقوعه باتفاق بين الجميع ، ولذلك لم تحتج إلى تأكيد الأول بقوله (مِنْ بَعْدِهِ) ، ولم يرد وقوعه ، فنحن نقول : لا يقع أصلا وفريق من المعتزلة يقولون بصحة وقوعه ، لأن العبد عندهم يخلق أفعاله ، والله

__________________

(١) أورد المصنف في الحاشية : ما يفتح له.

٣٢٦

تعالى عندهم لا يريد الشر ولا الكفر بوجه ، فلذلك احتيج إلى تأكيد الثاني بقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِهِ) ، وما لم ترد وقوعه فنحن نقول : لا يقع أصلا.

وجواب الفخر : بأنه إشارة إلى أن الرحمة في [٦٢ / ٣٠٣] الآخرة لا تزول ، وأن العذاب فيها زائل منقطع ، يرد بأن الآية عامة في الدنيا والآخرة ، والنار عام في المؤمن والكافر.

قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

من اللف والنشر المخالف ، وهو قليل لأن (الْعَزِيزُ) راجع لقوله تعالى : (وَما يُمْسِكْ) إذ العزة هي الامتناع و (الْحَكِيمُ) ، لقوله (ما يَفْتَحِ اللهُ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

الناس عام في بني آدم ، فإن كان ذكروا للوجوب فخص العموم بالصبيان والمجانين ، وإن كان للندب فلا تخصيص.

قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ).

هذا كالنتيجة بعد المقدمتين ، لأن المقدمة الأولى أفادت أن لا معطي إلا الله ، والثانية : أفادت أن لا مانع إلا الله ، فإذا ثبت اختصاصه بالمنع والإعطاء أنتج ذلك أن لا خالق إلا الله.

قوله تعالى : (يَرْزُقُكُمْ).

كالتتميم للدليل ، والأولى كونه ابتدأ كلام وبعد كونه صفة لخالق لئلا يلزم عليه المفهوم ، أن ثم خلافا لا يرزق.

قوله تعالى : (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

وفي سورة والذاريات (رِزْقُكُمْ) [سورة الذاريات : ٢٢] بالحصر ، والجواب : أن أصل الرزق من السماء ، وتشارك فيه الأرض باعتبار النبات.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

تلقين للمخاطب بأن يصرح بنتيجة الدليل المذكور.

قوله تعالى : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ).

من باب لا أريناها هنا ، أي لا تركنوا إليها فتغرقكم.

٣٢٧

فإن قلت : لم ذكر في الثاني ما وقع الغرور عنه ، وهو الله تعالى ، ولم تذكره في الأول ، إذ لم يقل : فلا يغرنكم بالله الحياة الدنيا ، فالجواب من وجهين :

الأول : أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وهذا كثير في لسان العرب ، وإنما القليل عكسه.

الثاني : أن الحياة الدنيا إنما تعد في شهواتها والمأكل والمشرب والشهوة البهيمية والملبس فقط ، وأما الشيطان فإنما يغر ويوسوس في الشرك بالله والكفر ، فلأجل ذلك ذكر معه اسم الله عزوجل.

قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ).

وهذا من النسب الغير متعاكسه ، لأنه قد يكون الإنسان عدو الشخص ، ويكون الشخص ذلك صديقا له ، لكن هذا ما يتأتى إلا فيمن لا يعرف منه ذلك.

قوله تعالى : (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).

فإن قلت : كيف يتأتى ذلك ، مع أن هذا لا يمكن إلا في شخص معين تراه بحيث تتحرز منه وتتحرر ، وأما الشيطان فهو خفي لا يظهر ، فكيف التحرز منه؟ فالجواب : أن هذا كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : إن يكن خيرا فمن الله وإن يكن غير ذلك فهي من الشيطان ، فالإنسان مكلف بأن يزن أعماله بالميزان الشرعي ، فإن رآها جارية على ما أمره الشرع به ، علم أنها كلها من الله ، وإن رآها مخالفة للشرع علم أن ذلك من وساوس الشيطان.

قوله تعالى : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ).

حزبه هم الذين انقطعوا إليه وصاروا قوة ، وهم الشياطين ، ويكون المراد بالشيطان إبليس لعنة الله عليه ، فالمعنى أن أصدقاءه الذين لا عداوة بينه وبينهم ، إنما يدعوهم ليكونوا من أهل النار ، فما يدلك فيمن هو عدو لهم هو يدعوهم إلى النار من باب أحرى.

فإن قلت : إذا كان حزب الشيطان بعض أصحاب السعير ، فمن البعض الآخر؟ فالجواب : أن أصحاب السعير هو وحزبه ومن تابعهم من بني آدم.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).

٣٢٨

الهمزة للإنكار لا للتقرير ، وفيه دليل للمعتزلة القائلين : بأن العمل يحسن ويقبح ، وجوابه : أن [٦٢ / ٣٠٣] المعنى ظنه حسنا من جهة الشرع ، أي اعتقد أن الشرع حسنه.

وفيه دليل ما يقول الفخر : أن العاصي لا يعصي وهو جاهله ، ولا يتصور من العالم حين علمه عصيانه بوجه ، فهو يظن أن الأرجح فعل المعصية لقوله تعالى : (فَرَآهُ حَسَناً).

قوله تعالى : (حَسَراتٍ).

جعله مفعولا من أجله ، وهو على مذهبه إذ شرطه المفعول من أجله ، أن يكون مفعولا لفاعل الفعل المعلل ، فالحسرات إذا من فعل النفس لا من فعل غيرها ، وهو أيضا جائز على مذهب أهل السنة القائلين بالكسب ، وأما من ينفي الكسب هنا تجري على هذا الإعراب على مذهبه ، وتحتمل كونه حالا.

وقول الزمخشري : لا يتعلق به عليهم ، لأنه مصدر فلا تتقدم صلته عليه ، يرد بوجهين :

الأول : إن ذلك إنما هو في المصدر والمقدر بأن والفعل ، حسبما ذكره ابن هشام شارح الإيضاح في قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) [سورة يونس : ١].

الثاني : أن المصدر إذا ثنى وجمع بعد عن التقدير بأن والفعل ، فلا يكون موصولا وهذا بمجموع.

قوله تعالى : (الرِّياحَ فَتُثِيرُ).

أتى بالأول ماضيا ، والثاني حال للتصوير ، لأن الأول ليس بمشاهد ، وإثارة السحاب شاهدة لنا ، ولأن إرسال الرياح غير مكرر ، وإثارة السحاب متكررة.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ).

لا مفهوم.

قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ).

مجاز لأن الصعود قطع المسافة من أسفل إلى فوق ، إلا أن يكون باعتبار الصحف.

قوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

٣٢٩

قيل : الضمير على الكلم الطيب ، أي ليرفعه الكلم الطيب.

فإن قلنا : المراد بالكلم الطيب الشهادتان فقط فظاهر.

وإن قلنا : المراد به التسبيح ونحوه فلا يتأتى إلا على مذهب المعتزلة القائلين : أن مجرد كلمة الإسلام لا تنفع العاصي.

قوله تعالى : (يَسْتَوِي الْبَحْرانِ).

حمله ابن عطية على الحقيقة ، والزمخشري على المجاز.

فإن قلت : لم لم يذكر في الثاني عند الوصف المذكور في الأول ، فتقول : ملح الأجاج صعب تناوله ، فالجواب : من وجهين :

الأول : يستلزم الملح الأجاج لوصف كونه صعب التناول الجلي وأظهر من استلزام العذب الفرات ، لكونه سائغا شرابه ، فلذلك اكتفى به ، في الثاني : دون الأول ، لأنه قد يكون عذبا شرابه ، ولا يسوغ شرابه لما فيه من الغثاثة ، وتقرر أن اللازم بوسط نظري وبغير وسط ضروري ، وباستلزام الشيء للشيء تارة يكون نظريا وتارة يكون ضروريا ، ومنه الخلاف في لازم المذهب ، هل هو مذهب أم لا؟ والخلاف في تكفير المعتزلة بلازم مذهبهم.

الجواب الثاني : أن الأول أمر ملائم ، والثاني أمر مؤلم والأمور المؤلمة تكفي في التعبير بأول أوصافها ، بخلاف الأمور الملائمة ، فإن حصول الإقبال عليها حالة المبالغة في أوصافها ، أقوى من حصوله مع عدم المبالغة.

قوله تعالى : (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً).

إن قلت : لم ذكر في الثاني الحلية تفرد له بسببها ، وهو الإخراج ، وذكر في الأول الأكل دون سببه وهو الاصطياد ، مع أن الحوت لا يتوصل إلى أكله إلا بعد تكلف وموته في اصطياده ، لا سيما على المذهب الشافعي القائل : بأن طافي الحوت لا تجوز أكله ، فالجواب : أن السبب في استخراج الحلية من البحر أشق على النفوس من سبب الاصطياد ، لأن الاصطياد يتأتى من الأطفال والنساء وغيرهم ، وأما استخراج الجوهر واللآلئ من البحر فلا يعلقه إلا غواص الجواهر من الناس في بعض الأقطار.

حتى قال [٦٢ : ٣٠٤] المسعودي في مروج الذهب : إنهم يجعلون على وجوههم أغشية من كروش ويغلف سائر بدنه وتثقل رجليه بحجر وتهبط إلى قعر البحر ، فيمكث الأيام يرصده ، وأما فيه عوائدها تمكث جالسة على محل الجوهر

٣٣٠

استلذاذا لبرده ، فإذا قامت غرف منه وجعله في قفاف ، وحرك الشرائط المربوطة فيها ، فيرفعها من يكون ترصده وألقى الحجر الذي في رجله ، فيصعد حينئذ فوق الماء ، انتهى كلامه ، فذكر الأول دون سببه لسهولته حتى كأنه تحصل بلا سبب بخلاف الثاني.

قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).

أي يأخذ من الليل ويزيد في النهار ، ويأخذ من النهار ويزيد في الليل ، وهذا في القطر الواحد في غير الاستواء.

وقال الفخر : الإيلاج اعتبار أن نفس الليل عندنا هو نهار عند قوم آخرين ، وهذا باعتبار جميع الأقطار.

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ).

هذا من اللف والنشر ، إما مخالف لأن الشمس أمة النهار ، أو الموافق باعتبار المولج ، فالمولج فيه أولا هو النهار.

ابن عطية : اختلفوا في الألف واللام في الشمس والقمر ، هل هما زائدتان أو للعهد ، انتهى.

قال شيخنا : كانوا يختلفون هل يصح ورود الزائد في القرآن أم لا؟ فقيل : يصح ، وقيل : لا يصح ، لأنه معجز ، فكل لفظ منه معتبر لا زائد والذين قالوا بالصحة ، هل يصح أن يقال : زائد لغير معنى أو ما فيه زائد إلا المعنى؟ فكلام ابن عطية مخالف لقول ابن التلمساني أن الشمس والقمر من الكل ، فإذا كانا من الكل فالألف واللام فيهما للعهد لا زائدة ، لأن فائدة العهد إنما هي أنها خصصت ذلك الكل بنوع واحد مشخص.

قوله تعالى : (يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ).

أي ما يملكون دفع ضرر ولا جلب نفع ، وهم يفتقرون إلى الله تعالى ، وشرط المعبود الاستقلال بنفسه وفيه استقلال الله تعالى بجميع الكائنات ، خلافا للمعتزلة بأن الغير يخلق أفعاله.

قوله تعالى : (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ).

إن بينا أن الاستيجاب لا يطلق إلا على الإجابة بالموافقة فبين ، والمعنى ولو سمعوا لا يجيبون إلا بنقيض ما تدعونه إليه ، وإن قلنا بالإطلاق فالمعنى ولو سمعوا لا

٣٣١

يردون عليكم بجواب لعدم رضاهم ما أنتم تدعون ، ولا يرد في هذه الآية الإشكال الوارد في قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [سورة الأنفال : ٢٢] ، لأن تلك استثنى فيها عن التالي ، ومنه جاء الإشكال ، وهنا استثناء نقيض التالي ، لأن السمع في تالي الصغرى منفي وفي مقدم الكبرى مثبت ، ولما اشتملت الآية على دليلين عقلي ونقلي.

قوله تعالى : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

وهذا الكلام محمول على المعنى ، لأنك إذا قلت : لا تفعل هذا مثل عمرو ففعله منفي عن مثل عمرو ، فيلزم نفي الإنباء عن مثل الخبير ، وليس لذلك بلى المراد ولا ينبئنا أحد مثل خبير ، وهذا إن أريد به الله تعالى فيتعين أن يكون سالبة ، والسالبة عند المنطقين ما تقتضي وجود الموضوع بوجه ، بخلاف المعدد له والله تعالى لا مثل له ، فلذلك كانت سالبة ، لأن مثله غير موجود.

قوله تعالى : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ).

مفهوم الحصر من اللقب منتف ، بل هو تنبيه بالأدنى على الأعلى ، لأنه إذا كان الحيوان العاقل الذي به الاستقلال بنفسه إلى الله تعالى ، فأحرى من دونه من الحيوانات والجمادات ، فهو مفهوم موافقة لا مخالفة.

قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ).

أي إن يشاء إذهابكم يذهبكم.

قوله تعالى : [٦٢ / ٣٠٤] (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

فيها سؤالان :

الأول : أنه تقرر أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فهلا قيل : لا تزر نفس وزر أخرى ، لأن النفس قد تكون وازرة وقد تكون غير وازرة ، فيلزم المفهوم ، وجوابه : أن مفهوم (أُخْرى) لأن النفس الوزارة هي العاصية المتحملة للذنوب ، فإن كانت النفس العاصية لا تحمل وزر غيرها فأحرى الطائعة ، لأن حمل الوزر عقوبة.

الثاني : ما الجمع بينهما وبين حديث : " من سن سنة حسنة [.....] أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم" ، وجوابه : أن الحديث وتلك الآية في صناديد الكفار الذين كفروا وتسببوا في كفر أتباعهم ، لأن فاعل السبب فاعل للمسبب ، وهذه الآية في الأتباع ، ومن اختص بفعله ولم يتسبب في معصية أحد.

٣٣٢

قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ).

قيل : المفعول إنما حذف قصد العموم ، فالمراد وإن تدع أحدا وهو عام في القريب والبعيد ، فما أفاد ولو كان ذا قربى.

وأجيب : بأنه نفي لما قد يوهم قربه فيذب عنه ويرعاه.

قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ).

أي الإنذار النافع.

قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ).

قال شيخنا : هو قياس معنوي وهو كثير في القرآن ، لأنه تمثيل لحال المؤمن والكافر ، وليس القصد التفريق بينهما كما يفرق بين الأعمى والبصير ، وإنما القصد التنبيه على قبح الكفر وحسن الإيمان.

أبو حيان : استوى هنا فاعلين انتهى ، يرد بأنه من السبب لمعاكسته ، فلا يطلب فاعلين ، ويدل عليه قولهم استوى الماء والخشبة ، والأول فاعل ، والثاني مفعول ، وقدم في الأولين الوصف القبيح ، وعكس في الآخر من ليحصل ، انظر للزمخشري.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ).

الاقتران المراد الإسماع النافع ، لأنه عام ورد على سبب.

قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

هذا زيادة في التقبيح ، لأن الميت الذي في القبر أبعد عن الأسماع من ميت على وجه الأرض ، ونفاه بلفظ الاسم ، لأنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، لا يسمع الأسماع الأخص فنفاه على حقيقته.

قوله تعالى : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ).

أي لهو الكفر ولذا عقبه بقوله (بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [سورة المائدة : ١٩].

الزمخشري : وفي حدود المتكلمين الأمة هي المصدقة بالرسول دون المبعوث إليهم ، وهم المعتبر إجماعهم انتهى.

قال شيخنا : هذا إنما علمت من قاله من المتكلمين ، لكنه حسبه بقوله : وهم المعتبر إجماعهم ، لأن الإجماع في حياة صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، غير معتبر إلا بعد وفاته.

٣٣٣

قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ).

قيل : أفادت هذه بعد التي قبلها في معناها ، أجيب : بأن تحقر الرسول واغتمامهم أما على أنفسهم بتكذيب قومهم لهم ، وإما على قومهم بامتناعهم عن الإيمان ، وبأن الأولى تضمنت تكذيبه في نفسه ، وهنا وفيما جاء به فهو أبلغ.

قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ).

الأصل سود غرابيب ، لكنه عكس إشارة لشدة السواد.

قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

ابن عطية : قال بعض الخشية رأس العلم ، والصحيح العكس انتهى ، بل الصواب الأول للحديث الذي ذكره.

قوله تعالى : (عَزِيزٌ غَفُورٌ).

ووجه مناسبتها أن العزة هي الامتناع ، وكذلك خشية الله قليلة في أعلى المراتب و (غَفُورٌ) إشارة إلى الواصلين إليها من العلماء ، لم يسلموا من تقصير اتصفوا به ونقص في أعمالهم فوصولهم بمغفرة الله وعفوه عنهم ، وانظر هل يؤخذ من الآية تقديم إلا علم الأصلح في إمامة الصلاة؟

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ).

عبر في الأول : بالمضارع إشارة إلى سهولة [٦٢ : ٣٠٥] مصدره ، وفي الثاني :

بالماضي إشارة إلى محقق وقوعه مع عدم سهولته.

قوله تعالى : (شَكُورٌ).

تجوز لأنه تعالى هو المنعم على الجميع.

قوله تعالى : (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ).

وقيل : ما الجمع بينه وبين قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [سورة الإسراء : ٩٧] ، وأجيب : بأن عذابها يكون شديدا ، فإذا خبت لا يزال ألمها شديدا حالا بهم ، لكنه يكون أولا يزيد فإذا خبت يقف حاله ، ولا يزيد ثم تشمل تعد ذلك فيزداد عليهم الألم ، فهي في نفسها تسكن لا أن الألم النازل بهم يخفف عنهم.

قوله تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).

٣٣٤

فيه سؤال ، وهو أن المشبه لا يقوى قوة المشبة والأول كافر ، وهذا كفور ، فكيف شبه جزاء الكفور بجزاء الكافر؟ ولا جواب فيه إلا أنه من عكس التشبيه كقوله تعالى : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [سورة البقرة : ٢٧٥].

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي).

حكى أبو حيان عن بعضهم : أنه بدل من الأول ورد بأن همزة الاستفهام دخلت على الأول دون الثاني ، وتجاب : باحتمال كونه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه وقف.

ذكر ابن عصفور خلافا فيه يلزم معه تكرار فأدخل على المبدل منه أم لا؟

وحكى أبو حيان عن بعضهم أيضا : بدل جملة من جملة.

ورده أبو حيان : بأنه بدل فعل من فعل ، ويجاب : بأنهم فرقوا بين بدل الفعل من الفعل ، وبدل الجملة من الفعل ، وهو إذا كان الفاعل في الفعلين متحدا ، إما ضمير متكلم أو ضمير غائب ، نحو إن قمت أكرمت زيدا فأتني ، أو يكون المفعول متحدا ، فإن اختلف الفاعل فيكون في أحدهما ظاهرا وفي الآخر مضمرا ، أو يختلف الضمير أو يختلفا في المفعول كان بدل جملة من جملة ، مثل إن قمت يخرج أبوك فأتني ، وهذان الفعلان وإن اتفقا في الفاعل فهما مختلفان في المفعول.

قال أبو حيان : وأيضا فالبدل على نية تكرار العامل ، وهو لم يتكرر هنا انتهى ، إنما ذلك إذا كان العامل موجودا ، وأما إذا لم يكن ثم عامل فليس ثم ما يكرر.

قوله تعالى : (ما ذا خَلَقُوا).

قال شيخنا : كان وقع في زمن الأستاذ أبي زكريا يحيى بن فرج النعر نزاع فيما.

فقال بعضهم : أنها تقتضي التكثير ، واحتج بحديث : " ماذا أنزل الليلة من خير (١) ".

وقال بعضهم : إنما يكون التقليل ، واحتج بهذه الآية وهنا إشكال وهو أنها تقتضي أن من لوازم الإله اتصافه بالخلق ، مع أن مذهبنا أن الذي من لوازمه اتصافه بالقدرة وصلاحية الخلق لا اتصافه بالخلق بالفعل ، وإلا يلزم عليه قدم العالم ، لأن الله تعالى في الأزل لم يخلق شيئا بالفعل ، وجوابه : أن الألوهية أمر نظري لا ضروري ، والاستدلال عليها إنما يتم بأثرها ، فلذلك قال (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا) ، فمعناه لو كانوا آلهة لظهر لنا أثر قدرتهم فلما لم يظهر لنا أثر قدرتهم ، دل على أنهم ليسوا بآلهة.

قيل : لا يلزم من عدم العلم بالدليل عدم العلم بالمدلول ، أجيب : بأنه كذلك ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ١٠٦٥ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ٢١٢٧.

٣٣٥

ولكنه يلزم من عدم العلم بالدليل عدم العلم بالمدلول.

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ).

فيه سؤالان :

الأول : المستدل ، يأتي أولا بما هو مستلزم لغيره ، ثم يأتي بمستلزمه ولا يأتي باللازم قبل الملزوم ، فيقول : إن كنت ذا مال فأعطه دينارا أو أعطه درهما ، ولا يقول : إن ذا المال فأعط لزيد درهما أو دينارا ؛ لأن العجز عن الدرهم يستلزم العجز عن الدينار ، وهو لا عجزوا ، والعجز الاستغلالي بالخلق ، وما يلزم من ذلك عجزهم عن الخلق مع الشريك المعين لهم في ذلك [٦٢ / ٣٠٥]

السؤال الثاني : أن المذهب على امتناع اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، حسبما ذكر الأصوليون في مسألة الكتب ، حيث قالوا : هو فعل فاعل معين ، وقد قرروا في دلالة التمانع امتناع ذلك ، فكيف يصح الرد عليهم بعجز آلهتم عن خلق السماوات مع الشريك ، والجواب : أن الاستدلال قسمان : عقلي لا يفهمه إلا الخواص ، وآخر يفهمه العوام ، فالعلماء منعوا اجتماع قدرتين على مقدور واحد ، والعوام يتصورون اشتراك رجلين وثلاثة في فعل.

قوله تعالى : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً).

هذه إشارة إلى الدليل السمعي ، والأول : إشارة إلى الدليل العقلي فهم يستندوا في عبادتهم الأصنام لا إلى عقل ولا إلى سمع ، ثم عقب ذلك بالدليل السمعي الدال على وحدانية الله تعالى ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ).

قوله تعالى : (وَلَئِنْ زالَتا).

فيه سؤال ، وهو أن الجزاء لا يجوز كونه موافقا بشرط ، لعدم الفائدة ولا مناقضا له ، بل يكون مخالفا فلا يقال : إن قام زيد قام زيد ، ولا إن قام زيد لم يقم زيد ، وإنما يقول : إن قام زيد قام عمرو ، والجواب : ليس يترتب على الشرط ، والجواب : أنه ترتب على جواب مقدر ، وتقديره (وَلَئِنْ زالَتا) فلا راد لهما ولا مستمسك.

وحكي ابن عطية هنا أن إن تعني لو ، وهو على جهة التوهم والفرض ، أي وليس فرضنا إلا العكس.

وقال ابن التلمساني : أن إن تدخل على المحقق وعدمه ، واستحالته وإن غالب دخولها على المشكوك ، وقد تدخل على المحقق.

٣٣٦

قوله تعالى : (حَلِيماً).

لا يعجل لعقوبة الكفار.

وقوله تعالى : (غَفُوراً).

للمؤمنين المخالفين في فروع الشريعة.

قوله تعالى : (أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ).

أي من المحق في الأمم.

قال ابن رشد في كتاب الإيلاء بين البيان : والمفهومات إذا حلف أن لا يطأ زوجته أكثر من ستة أشهر ، فإنه مول ، وإن قال : وطئتها لأكثر من أربعة ، فكل مملوك أملكه حر ، فإنه إذا وطئها ينعقد عليه اليمين ، ولا يكون موليا ، قال : وهذا مثل ما لو قال : والله لا آكل أحد هذين الرغيفين ، فأكل أحدهما فإنه لا يحنث ، بل ينعقد عليه اليمين في الآخر ، فإذا أكله حنث.

قوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ).

نفى الوجدان مع أن الأبلغ نفي التبديل زوال الشيء من أصل ، وتعويضه بخلافه ، والتمويل تغيير حاليه بزيادة أو نقص أو تخصيص مع بقاء ذاته الأصلية ، فنفى أولا تبديل السنة من الأصل ، وثانيا تغيرها فهو تأسيس.

قوله تعالى : (أَشَدَّ مِنْهُمْ).

ثم أقوى منهم ، إشارة إلى الاشتراك في الفسق ، كما قال الزمخشري في قوله تعالى : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [سورة البقرة : ٧٤].

قوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ).

باق على عمومه بخلاف قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) استثنى منه الواجب والمستحيل ، أما الواجب فاختلفوا هل يصدق على شيء أم لا؟ وأما المستحيل.

فقال ابن التلمساني : لا يصدق عليه لفظ شيء.

قوله تعالى : (النَّاسَ).

يحتمل الإنس فقط أو الإنس والجن.

٣٣٧

سورة يس

في جامع العتيبية لا ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين.

ابن رشد : الكراهة نزاعة للخلاف ، لأنه قيل : من أسماء الله تعالى ، وقيل : من أسماء القرآن ، فعلى هذا لا يجوز التسمية به.

فقال ابن عباس : معناها امتنان بالمشيئة.

وقال مجاهد : هو مفتاح افتتح به الله تعالى به كلامه فعلى هذا تجوز التسمية به.

قوله تعالى : (الْحَكِيمِ).

قيل : بمعنى المحكم ، فيكون فيه دليل لمن يقول بعدم وجود النسخ فيه ، وينبني على كون لفظ العرب [٦٣ / ٣٠٦] اسم جنس أولا ، وهل يصدق على البعض أو الكل؟

قوله (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

لدلالة المعجزة تثبت بالعقل ، ولو ثبتت بالسمع للزم عليه إثبات السمع بالسمع.

قوله تعالى : (مُسْتَقِيمٍ).

إما صالح حسن فهو صفة مدح ، أو المراد به القرب ؛ لأن المستقيم أقرب من المعوج ، وهو طريق قريب من الجنة لا بعيد.

قوله تعالى : (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ).

هو الذي لا يمانع ، فدلت الآية على أنهم لا تمنع عنهم الشفاعة صادق والرحيم في تخصيصه الرسالة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة به وبأمته.

قوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ).

إنذارهم مع الإخبار بأنهم لا يؤمنون ، ليس يبيح التكليف به اعتبارا بها عن الأمر والإلزام أن تكون التكاليف كلها لا تطاق ولا فائدة ؛ لأن المكلفين قسمان :

فمن علم الله تعالى أنه لا يؤمن ، فلا فائدة من أمره بالإيمان إذ لا يطيقه.

ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة في إنذاره وأمره بالإيمان إذ لا يطيق عدمه ، وضمير هم عائد على الأكثر أو على المجموع من حيث هو مجموع على أن الضمائر كل لا كلية.

٣٣٨

قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا).

وفي آية أخرى (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [سورة الأعراف : ١٧] ، فتلك أعم من هذه ، إلا أن يجاب بأن هذه كقولهم : ضربت الظهر والبطن ، ومطرنا السهل والجبل ، أو شبه هذا على ما هو المقصود ، لأن الأمام والخلف هو محل المقابلة ، والحركة بخلاف اليمين والشمال.

قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ).

أي الإنذار النافع.

فإن قلت : لم قدم السبب على سببه ، لأن الخشية والخوف سبب في الطاعة والإتباع؟ فالجواب : أنه إشارة إلى تأكد الأمر بالخوف ، وأن المكلف إذا أطاع واتبع لا يكتفي بطاعته ويركن إليها ، بل لا يزال خائفا خاشعا ، وإن كان طائعا.

قوله تعالى : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ).

فيه دليل على القول باعتبار الكثرة ، وقد اختلفوا في عدد التواتر والمشهور ، أنه غير محدود ولا محصور ، قيل : حد بلوغ العلم ، وقيل : أربعة ، وقيل : أكثر من ذلك ، فهذا دليل اعتبار الكثرة في العدد ، قيل : ليس المراد هنا تعدد الأشخاص ، بل تعدد الأدلة والبراهين ، أجيب : بأن الأدلة تعددت فرجعتها إلى شيء واحد.

قوله تعالى : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا).

مذهب هؤلاء كمن يذكر عن البراهمة في نفيهم الرسالة ، وعدلوا في نفيها عن التصريح إلى الكناية إلى نفي أبلغ ، زعما منهم أن البشر لا يكون رسولا البتة ، وإلا فالبشرية في اعتقادهم إنما سواد في الرسالة من الله لا من رسول الله.

قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ).

وفي القصص (جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) [سورة القصص : ٢٠] ، وأجيب : بأن تلك على الأصل ، وهذه تفيد أن مجيئه من أطرافها وأعاليها ، إشارة إلى استغراب ذلك ، وأنه المقصود لا كونه رجلا.

وأجاب بعضهم : بأن تقديم رجل في تلك لئلا يظن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لسماعه أول الخطاب ، أن الذي جاء هو فرعون أو غيره من أعداء موسى عليه الصلاة السّلام فيعتبر لذلك بخلاف ، لتقدم ذكر المرسلين فيها.

قال شيخنا : هذا كان مع شيخنا أبي عبد الله بن محمد بن سلامة.

٣٣٩

قوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً).

ابن عطية : فيه دليل على تحريم الأخذ للأجرة على مثل هذا انتهى ، يرد بأن الآية اقتضت مدح تاركها لا ذم آخذها.

قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

يراد بالعبادة إما الاعتقاد القلبي والإنابة ، أو العمل والطاعة ، فيكون فيه [٦٣ / ٣٠٦] حجة للمعتزلة القائلين : بأن شكر المنعم واجب لاقتضاء الآية ، أن الاختصاص بالخلق والإعادة موجب للعبادة بالفعل ، إلا أن يجاب : بأن الآية إنما اقتضت تكميل العبادة ، وأن موجب العبادة كان عنده مستفادا بالسمع من شرع الأمم السالفة قبله ، وأتى هذا على سبيل التكميل لذلك ، لا أنه مستقل بالوجوب واقتضت الآية الاستدلال بالوحدانية والمعاد أما الوحدانية فأمر عقلي ، وأما المعاد فنحن نقول بجوازه من جهة العقل ، ووقوعه من جهة السمع ، والذي بقاعدة التحسين والتقبيح هو عنده واقع عقلا ، وفي الآية دليل له ؛ لأنه جعل الحق كالدليل على الإعادة ، لأنه رتبها عليه وأتى بها بعده ، والوحدانية تقرر أن دلالة المعجزة لا تتوقف.

قلنا : عند الأكثر ، بل على مجرد وجود الصانع ، فالوحدانية يصح استفادتها من السمع ، قيل : لو أتت الآية على أسلوب واحد ، وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ، فلم عدل عن ذلك مع أن معلوم اتصافه بالعبادة ، فلا تحتاج إلى أنه يخبر بها؟ أجيب : أنه إشارة بإلى أنه لم يأمرهم إلا بما فعله هو في خاصة نفسه ، ويحتمل أن يكون في الآية حذف التقابل أي (الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

قوله تعالى : (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ).

فيه المبالغة في عجزهم من وجهين :

الأول : لفظ (الرَّحْمنُ) ، أي إذا عجزوا عن دفع الضر الواقع ممن هو في مقام الرحمة فأحرى ،

الثاني : تنكير (بِضُرٍّ) للتنكير.

قوله تعالى : (وَلا يُنْقِذُونِ).

الإنقاذ أعم من إغناء الشفاعة ؛ لأنه لا يكون بالمحاربة وغيرها ، فنفيه أخص فهو من عطف الأخص على الأعم.

٣٤٠