تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

من غير مانع ولا حافظ؟! فسكتوا ، وقال : صدقت ، وقال : هذا مأخوذ من قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [سورة الرعد : ٢] ، ومن قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [سورة الروم : ٢٥] ، قال : وسئل الإمام الشافعي رضي الله عنه عن الدليل على الصانع فقال : وقت الفرصاد وطعمها ولونها وطيبها وريحها تأكلها الدود فيخرج الإبريسم ، ويأكلها النحل فيخرج منها العسل ، ويأكلها الظباء فيعقد في نوافحها المسك ، ويأكلها سائر الحيوانات ، فينفصل مع المعافنات والضاد ، قلت : الفرصاد هو التوت ، فالذي دبر هذه الأحكام هو الله سبحانه وتعالى ، قال : وسأل هارون الرشيد مالكا رضي الله عنه ، فاستدل باختلاف الأصوات ، وتردد النغمات ، وتفاوت النبات ، قال تعالى (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [سورة الروم : ٢٢] ، قال : وسئل أبو نواس عن هذا ، فقال :

تأمل في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين في رياض

على أطرافها الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

قوله تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

قال الزمخشري : في هذه الآية دليل بها أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه ، لأن المعجزة تصديق من الله تعالى لمدعي النبوة ، والحكم لا يصدق الكاذب ، ومن العجب أن مثل فرعون عليه اللعنة لا يخفى عليه هذا ويخفى على ناس من أهل القبلة جوزوا القبح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين في المعجزة.

قال ابن عرفة : تقديره لو لم يجزأ العقل بحسن وبقبح لصح صدور المعجزة على يد الكاذب واللازم باطل والملزوم مثله ، وأجاب الطيبي عن ذلك بأن قال : استقرأنا المعجزات كلها فوجدناها لا تظهر إلا على يد الصادق.

قال ابن عرفة : هذا الكلام دليل على ضعفه في أصول الدين ، حيث لم يرد على الزمخشري إلا بالاستقراء ، قال : والجواب عن كلام الزمخشري بوجهين :

الأول : منع الملازمة ؛ لأن دلالة المعجزة أن تنزلت منزلة صدق عبدي وظهورها على يد الكاذب كذب ، فيلزم وقوع الحلف في خبره تعالى ، وهو باطل وإن لم يتنزل منزلة صدق عبدي بدلالتها إما عقلية أو عادية ، والدلالة العقلية في العلوم العادية.

الجواب الثاني : يمنع الملازمة ؛ لأن ظهور المعجزة على يد الكاذب يوجب التباين الشيء بالمنفي ، وذلك باطل.

٢٤١

قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ).

قال ابن عرفة : الرمي والطرح والإلقاء بمعنى واحد فمن لغات في القرآن الإلقاء ؛ لأنه أبلغ في الدلالة على القصد ، قال : وحمل الخبر على المبتدأ يكون على سبيل الاشتقاق ، مثل الإنسان عالم ، ويكون على سبيل التنبه مثل : أبو يوسف ، أبو حنيفة ، والآية محتملة للثلاثة ، قيل لابن عرفة : ليس فيها على سبيل المواطأة ؛ لأن العصا ليست ثعبانا موجه ، فقال : تدعى المواطأة باعتبار العصاة الملقاة هي ثعبان.

قوله تعالى : (وَنَزَعَ يَدَهُ).

عبر بالنزع دون الإخراج ، إشارة إلى أنه ينزل نفسه منزلة من فارق يده لشدة مخالفة كونها الملونة.

قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ).

قال : واجب الأول إنه من حذف التقابل ، أي فإذا هي ثعبان مبين للناظرين ، ونزع يده فإذا هي بيضاء مبين للناظرين ، ومما يؤكد هذا أن المنطقيين ذكروا أنه لا بد من الفاعل ، والقائل لكرسي مثل خشية فاعل ، وتجارة فاعل ، وقوله تعالى : (فَإِذا هِيَ) ، صفة للفاعل ، وقوله تعالى : (لِلنَّاظِرِينَ) صفة للفاعل الثاني ؛ لأن الثعبان جرم كبير يدركه البصر فلذلك قرن الأول بقوله تعالى : (مُبِينٌ) ، والثاني بالنظر ، والمعجزة أمر محسوس خارجي للعادة والسحر أمر وهم محسوس ، وقوله تعالى : (لِلنَّاظِرِينَ) ، يشمل الحسي والمعنوي القلبي ، فيكون من استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا.

قوله تعالى : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

نص هذه المقالة لفرعون وحده ، وقال في الأعراف (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [سورة الأعراف : ١٠٩] صفتها للملأ دون فرعون ، فأجاب أبو جعفر ابن الزبير : بأن المقابلة في تلك الآية وقعت بين موسى مع فرعون وقومه وهنا وقعت بين موسى عليه‌السلام وفرعون فقط ، وقال : هذا يدل أنه يحكم بسحره وأسقطها في الأعراف ، فأجاب : بأن القائل هنا فرعون ، مراده ابن عرفة : يستحيل في قومه صالح في مقالته ، وهناك قالها الملأ من القوم فلذلك لم يبالغوا في قولهم.

قوله تعالى : (فَما ذا تَأْمُرُونَ).

٢٤٢

قال الزمخشري : هو في غاية الإدلال من فرعون والانخفاض لا سيما على مذهب المعتزلة ، لأنهم يشترطون في الأمر العلوم ، وخصوصيته ترجع إلى المتكلم بالأمر ، وأهل السنة إنما شرطوا إلا سبيلا وخصوصيته ترجع إلى نفس الأمر.

قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ).

وقال ابن عرفة : إنما عبر بلفظ الإرجاء دون غيره دون لفظ التأخير والنظرة ، مع أنهما مترادفان ؛ لأن في مادة الإرجاء ما يدل على حصول الطمع ؛ لأن الإنسان ما يترجى إلا ما يطمع في حصوله ، قلت : ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه‌الله : إن الطائع يترجى دخول الجنة ، والعاصي يتمنى دخولها.

قوله تعالى : (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

قال ابن عرفة : عوائد الطلبة يقولون : إن المعجزة هي ظهور الأمر الخارق للعادة في الخارج وفي نفس الأمر ، والسحر هو الأمر الوهمي المخالف لما في نفس الأمر ، وجاءت هذه على عكس هذه القاعدة ، لإنها إذا كانت بيضاء للناظرين فقط ، فبياضها وهمي مخالف لما في نفس الأمر ، وإن كان معجزة فهي بيضاء فقط ؛ لأن بياضها موقوف على الناظرين من هولهم ، ولما في نفس الأمر ، قلت : لعل المراد بالناظرين النظر المعنوي ، وهو التدبر فيها والتفكر في دلالتها.

قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ).

قال ابن عطية : قال [...] عن ابن كثير : تلقف بتشديد القاف وتلزمه أن ابتداء أو [...] بتشديد القاف في الوصل والوقف ، مع أنه لم يقرأ بذلك إلا في الوصل.

قوله تعالى : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ).

قال الزمخشري : فاعل ألقي هو الله تعالى فما خولهم من التوفيق وإيمانهم أو ما عاينوه من المعجزة ولك أن لا تقدر فاعلا ؛ لأن ألقى بمعنى خروا وسقطوا.

قال ابن عرفة : يريد أنهم ألقوا أنفسهم ، وهذا يناسب مذهبه في أن الغالب خلق أفعاله.

قوله تعالى : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

انظر كيف المعلم كله حسن حتى السحر ؛ لأن علمهم هو الذي هداهم إلى إيمانهم بموسى عليه الصلاة والسّلام ، والعالم إن كتم من علمه شيئا يختص به مما لا يجب له ليماريه على المعلم ، وحكي عن الشيخ أبي علي ناصر ابن البخاري : أنه كان

٢٤٣

يقرئ ابن الحاجب [.....] فيه زيادات ، فلما مات وجد عنده شرحه للشيرازي وفيه تلك الزيادات ، ولقد دخلت على شيخنا ابن الحاجب في موصيه ، فجعلت أنظر في كتبه فمنعني من استيفاء النظر فيها ، قال : لأن الشيخ يمتاز عن طلبته زيادات لآخرهم بها.

قوله تعالى : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).

قال ابن عرفة : كان عبد السّلام ينقد على البرادعي في قوله في التهذيب ويؤمر الخمس بالوضوء قبل الغسل ، فإن أخره بعده أجزأه ، ويقال : إنما في أصل المدونة فإن غسل قبل وضوئه أجزأه فظاهره أنه الغسل وأن لم يؤمن الحديث من أي وضوء أعم من الغسل ، فبدل أبو سعيد اللفظ بلفظ لا يدل على هذا ، لأنك إذا قلت : جاء زيد قبل عمرو فإنه [٥٨ / ٢٨١] يقتضي الإخبار بمجيء زيد فقط ، أعم من أن يكون عمرو جاء بعده ولم يجىء من أصل ونظيره ، قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [سورة البقرة : ٢٣٧] إذ لا يقع بعد الطلاق مس ، وكذلك قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [سورة الكهف : ١٠٩] ، لكن تلك الآية في جواب الشرط ، والشرط لا يدل على وقوع الشيء ، ولا إمكان وقوعه ، وهذه الآية من ذلك المعنى ؛ لأن فرعون عليه اللعنة لم يقصد الإذن لهم بوجه لا قبل الإيمان ولا بعده.

قوله تعالى : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).

لأن الموجب (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) ، فالجواب : أنه أفاد الوعد بالنظرة مطلقا سواء اتبعهم أو لم يتبعهم ؛ لأن الوعد بالنظرة إذا كان مطلقا غير مقيد بالإتباع لا تحصل الطمأنينة لإمكان كونه في نفس الآية يقدر بعدم الاتباع ، فإذا هم ينصرون عليهم ، وإن اتبعوهم ، قيل لابن عرفة : سواء متعد ، فإذا دخلت عليه الهمزة صار متعديا بنفسه ، فلما جمع بين الهمزة والباء ، فقال : ذكر الجوهري في سرى وأسرى فاضرب بمعنى واحد ، وقال السهيلي : في أول سورة الإسراء ذكروا أنهما غير متعدين ، وهو غير صحيح ، وإنما زعموا ذلك لعدم ذكر مفعول أسرى مع أنه مقدر تقديره : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) [سورة الإسراء : ١] ، أي بعبده ، إلى أن قال : (لَيْلاً) [سورة الإسراء : ١] ، سلمنا أنه متعد لكن الباء هنا ليست للتعدية ، فلذلك صح الجمع بينهما.

قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ).

٢٤٤

الشرذمة تقليل لهم باعتبار العدد.

قوله تعالى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ).

شبه حالتهم المعقولة بحالتهم المحسوسة.

قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) ، ولم يقل فضرب فانفلق ، وكذلك في سورة البقرة (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [سورة البقرة : ٦٠] ، وفي الأعراف : (فَانْبَجَسَتْ) [سورة الأعراف : ١٦٠] ، ولم يقل : فضرب ، وفي طه (أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [سورة طه : ١٨ ـ ١٩] ، فذكر فعل المطاوع في طه ، ولم يذكره في الآخر ، قال : فعادتهم يجيبون : بأنه إن كان الحادث عن الضرب مما يعهد في الخارج صدوره منه لم يحتج إلى إبراز الفعل المطاوع ، كالحجر يعهد عادة بخلاف صيرورة [...] ، وإن انقلاب الأجسام غير معهود ، وكان بعضهم يضمر في الآية فعلين فضربه بخلقه فانفلق به ؛ لأن فعل المطاوعة يفيد قدم فعل عليه فهو مطاوع له ، وقال تعالى (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ).

ينفلق فضربه فانفلق.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً).

الإشارة إلى المجموع باعتبار الكلي والكلية ، فهل كل جزء من ذلك أو مجموع ذلك آية؟

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ).

قال أبو حيان : أجاز الحوفي : أن يكون (الَّذِي) مبتدأ ، وهو (يَهْدِينِ) مبتدأ وخبر في موضع خبره ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط ، ورد بأن الموضع هنا خاص ، فليس فيه معنى الشرط ، فليس نظير الذي يأتيني فله درهم ، وأيضا فليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تجدد النسبة إلى إبراهيم عليه‌السلام ، قلت : وكذا قال أبو حيان ، في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [سورة البقرة : ١٦] إن الفاء إنما تدخل في خبر الموصول إذا كان عائدا وفيه معنى التعليل ، وعادتهم يردون عليه بهذه الآية ؛ لأنه ليس يعلم وليس الخلق علة في الهداية ، والآن لزم عليه مذهب المعتزلة في أنه خالق لجميع الناس عندهم منزه عن فعل القبيح وإرادته ، ونحن نقول : خلق جميعهم ليهدي بعضهم ويضل بعضهم ؛ لأنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى ، وأجيب : بأن المراد الذي خلقني على هذه الصفة الخاصة فهو يهديني ، فذلك الخلق الخاص سبب في الهداية ، وانظر

٢٤٥

ما تقدم في سورة قد أفلح ، في قوله تعالى : (ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) [سورة المؤمنون : ١٠٢].

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ).

إنما جمع المرسلين بناء على أن آدم عليه الصلاة والسّلام رسول ، وكذلك إدريس عليه‌السلام رسول ، وهو سابق على نوح عليه‌السلام ، ولأنهم إذا كذبوا نوحا فقد كذبوا المرسلين ، لأنهم جاءوا بمثل ما جاء به نوح عليهم‌السلام ، ولأن المعجزات متحدة ، فتكذيبهم لمن جاء بشيء منها تكذيب للجميع أو جمعه باعتبار تفسير حالاته ، فهو في حالة يدعوهم إلى الله بشيرا ، وفي حالة يدعوهم إلى الله نذيرا مخوفا ، كقوله :

فقلت : اجعلوا ضوء الفراقد كلها

يمينا وهذا النجم من عن شمالك

قوله تعالى : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ولم يقل : ما أقبل منكم عليه أجرا ، فهو أعم ؛ لأن الدعاء إلى الله تعالى وطلب الامتثال له يقتضي التشوف للأجر على ذلك ، فلهذا قال : (وَما أَسْئَلُكُمْ).

قوله تعالى : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).

أي أنؤمن لك حالة كونك اتبعك أراذل الناس؟ فلا يرضى بحالهم في الإيمان بك.

قوله تعالى : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وتقرير هذا الجواب بوجهين :

الأول : أنكم وقفتم مع الأمر العادي الدنيوي في كون قومي المتبعين لك متصفين بأرذل الصنائع ، وأنا وقفت مع العادي الدنيء ، لأنهم وإن كانوا أرذل في الظاهر فهم أخيار في الباطن لاتصافهم بالإيمان والعمل الصالح.

الوجه الثاني : أنه تقرر في المعقول ، أن الأمر النائب لتساويهما يستحيل ترجيح أحدهما على الآخر ، وهؤلاء رجحوا المرجوح كأنهم رجحوا الاتصاف بأرذل الصنائع على أشرفها ، فاختار الحياكة ، والحجامة ، والجزارة ، وهي أرذل الصفات فلا عقل له ، فكيف يتبع من لا عقل له؟ فأجابهم نوح عليه‌السلام : بأنهم لعل لهم علما بالسبب المرجح لذلك غيره ، أي : وما علمي بسبب ما كانوا يعملون ، فما رجحوا علم ذلك إلا لسبب خفي ظهر لهم ولم يظهر لكم.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ).

٢٤٦

التكذيب إما لحكم بعدم مطابقة الخبر للمخبر عنه ، أو عدم الحكم بالمطابقة ، وينبني على هذا أن الشاك هل هو مكذب أم لا؟ وفي الآية إشكال : وهو أن التكذيب لا يصح أن يكون متعلقه (أَلا تَتَّقُونَ ؛) لأنه طلب غير محتمل للصدق والكذب ، ولا يصح أن يرجع لقوله تعالى : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ؛) لأنه تعليل لذلك الطلب وتابع له ، وليس مقصود بالذات ، والجواب أنهم كذبوه في دعوى الرسالة المستلزم لتكذيبهم في كل ما جاء به.

قوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ).

قيل لشيخنا ابن عرفة : هذا استفهام في معنى الإنكار عليهم ، فإن تسلط الإنكار على كل واحد من المحتملين لزم عليه مخالفة القاعدة الشرعية ، وهي اعتقاد وجوب النكاح لأجل ذمه على تركه ، والذم على الترك من خصائص الوجوب ، وإن تسلط على مجموع الجملتين يقيد الجملة الجمعية ، لزم عليه مخالفة القاعدة الشرعية ، وهي اعتقاد وجوب النكاح لأجل ذمهم إن كان كون الثاني منصوبا فنحذف النون ، مثل : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وأجاب ابن عرفة : باختيار الأول ، ويكون الذم على ترك وطء الأزواج التي انعقد عليهن النكاح ؛ لأن ذلك يصير حقا لهن عليهم فهي واجب ، ونقول : بأن النكاح كان واجبا عليهم ، لأنهم تركوه وهم واجدون الطول ، قادرون على تزويج الحرام وقد وقعوا في الزنا واللواط ، وإما بأن نقول تسلط الإنكار على الجملة الأولى فقط ، وهو أحد وجهين :

الرفع : من جواب الاستفهام أنه على الاستئناف ، لكن فيه حذف الجملة الخبرية على الطلبية ، وهو ممتنع عند أهل علم البيان ، وأجازه جماعة من النحويين ، قال ابن أبي الربيع : والصحيح منعه ، قلت : هذا الجواب مجموع من كلام شيخنا ابن عرفة ، وصاحبنا ابن القصار.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ).

قال ابن عرفة : إنما هو في الخبر ومتعلقه هنا أمرا ، لكن الجواب أن تكذيبهم له في دعوى الرسالة يستلزم عدم اشتمالهم أمره.

قوله تعالى : (ناقَةٌ لَها شِرْبٌ).

فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، أي لها شرب يوم معلوم ، ولكم شرب يوم معلوم.

٢٤٧

قوله تعالى : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ).

[٥٨ / ٢٨٢] عبر عن الأول بالوفاء ؛ لأنه الزيادة القدر الواجب إذ هو محتاج إلى محاولة وتكلف مما يتواصل فيه إلى تحقيق الخروج من العهدة إلا بالزيادة من القدر الواجب بخلاف القسطاس ، فإنه يمكن فيه بتحقيق الخروج من العهد من غير زيادة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ).

قال الزمخشري : أي على مثل هذه الحال من الكفر به ، ومعناه في قلوبهم فلا يتغير وأعماهم عليه بوجه ، قال : فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى نفسه ، وهو منزه عن القبائح؟ قلنا : أراد الدلالة على تمكنه في قلوبهم ، وإنه أمر حملوا عليه.

قال ابن عرفة : وعلى مذهبنا لا يحتاج إلى هذا السؤال.

قوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ).

من باب نفي الشيء بإيجابه ، أي حتى يروا العذاب فيؤمنوا فلا ينفعهم إيمانهم.

قوله تعالى : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً).

قال ابن عرفة : عادتهم يقولون : إن فيها تناقضا لأنهم إذا رأو العذاب لم يكن إتيانهم بغتة ؛ لأن البغتة هو إتيان الشيء على عقله من غير شعور به ، قال : وأجيب بأنهم يرونه بعيدا منهم فيظنون أنه غير واقع بهم فينزل بهم بغتة ، أي يراد بإتيانه لهم بغتة ، بمعنى أنهم لا يرونه حتى ينزل بهم.

قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ).

قال ابن عرفة : تنزل بعض من نزل ؛ لأنه يقتضي تكلف الفعل بمشقة ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، لكنه هنا يستلزمه من باب أحرى ، لأنه إذا نفى تنزيلهم لهم بمشقة فأحرى بغير مشقة ، لأنهم إذا لم يقدروا عليه بمشقة فأحرى بغير مشقة.

قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ).

أي وما يمكنهم فعله في أنفسهم ، (وَما يَسْتَطِيعُونَ) ، أي ولا يجدون معينا على فعله ، فالأول : يقتضي فعل قبولهم بفعله بخاصته أنفسهم ، والثاني : اقتضى تعين قبولهم بفعله بمعنى عليه.

٢٤٨

قوله تعالى : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

هو من باب السلب ، مثل : الحائط لا يبصر لا من باب العدم والملكة ، مثل : زيد لا يبصر.

قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ).

أي هنا تتنزل هذا مضارعا ، وقال قبله : وما تنزلت به الشياطين فأتى به ماضيا ، قال : والجواب : أن الماضي معلوم لكونه شاهدا أمرنا ، والمستقبل غير معلوم ، فلذلك أتى به في جملة الاستفهام المقتضية للجهل بالمسئول عنه.

٢٤٩

سورة النمل

قوله تعالى : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

ابن عرفة : لف ونشر ، فمن حيث كونه قرآنا معجزا هو هدى ، ومن حيث كونه كتابا مشتملا على البشارة والنذارة هو بشرى للمؤمنين.

قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ).

من عطف الصفات.

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ).

وقال المفسرون : معناه تؤتى وتعطى.

قال ابن عرفة : بل هو أخص من ذلك ، فإن التلقي فيه الإيماء لتقدم سبب له في ذلك.

قوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).

إشارة إلى كمال قربه منه قرب منطقا ومكانة ، فإن قلت : الحكمة تستلزم العلم بخلاف العكس ، فهلا قال : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) ، فيكون تأسيسا ، ثم أجاب ابن عرفة : بأنه قصد التشبيه على وصفه بالعلم مرتين : بالمطابقة وباللزوم.

قوله تعالى : (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ).

وقال تعالى في القصص (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) [سورة القصص : ٢٩] ، فإن كانت قصتان في موطنين سؤال ، والظاهر أنها قصة واحدة ، لكن الجواب : أن المخالفة بين الخبرين : تارة ترجع إلى نفس الخبر ، وتارة ترجع إلى لازمه مثال الأول : قد أراد في هذا البيت ، ثم تقول : قرأ في البيت سورة يس ، فهذا لا تناقض فيها ، لأنها مخالفة بالعموم والخصوص ، وتارة تقول : قد أريد في هذا البيت لكن لا يسمع ، ويقول آخر : قد أريد في هذا البيت ليسمع ، فهذا انتقاص ولا شك ، إن آية سورة النمل محققة لدخول البين ، وآية القصص [....] بلعل.

قوله تعالى : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

٢٥٠

قال الزمخشري : الهاء في إنه يجوز أن يكون ضمير الأمر ، والثاني ، وأن يعود على ما دل عليه ما قبله ، قال : يعني أن مكملا ..... (١) والله بيان لأنا ، ورده أبو حيان : بأن الفعل إذا حذف لا يصح عود الضمير عليه بوجه ، ونودي لما بني للمفعول حذف فاعله ، وأجاب بعض الطلبة : بقوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) [سورة البروج : ٤ ـ ٦] ، وقوله تعالى : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [سورة البروج : ٧] عائد على القائلين ، وحذف الفاعل ، في قوله تعالى : (قُتِلَ) ، فقال ابن عرفة : هذا في جملة أخرى ، فظاهر كلام أبي حيان جوازه ، وقول الزمخشري : يعني أي يكلمك ، أي المناسب لمذهبه ، أن يقول : أنا مناديك أنا ؛ لأنه ينفي الكلام القديم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ).

الاهتزاز أوائل الحركة.

قوله تعالى : (كَأَنَّها جَانٌ).

قال ابن عرفة : بهذه الآية يقع الجمع بين قوله تعالى : (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [سورة طه : ٢٠] ، وبين قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [سورة الشعراء : ٣٢] ، فشبهها بالثعبان في عظم جرمها ، وبالحية ، وإن كانت صغيرة الجرم في سرعة حركتها ، فهو استعارة ، أو يقال : إنها في أول حالها حية ، ثم عظمت وصارت ثعبانا.

قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

قال ابن عرفة : كان ابن عبد السّلام يردد في هذا أن هذه قضية كلية ، أي كل مرسل لا يخاف ، والقضية الأولى مرجئة جزئية ، وهو قوله تعالى : (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ، فدل على أنه خاف ، قال : وتقدم الجواب بوجهين :

إما أنه لم يكن حينئذ رسولا ، وإنما أرسل بعد ذلك.

وإما أنه ليس المراد نفي الخوف ؛ لأنه أمر جلي لا يقدر الإنسان على دفعه ، وإنما المراد لازمه ، أي كن آمنا مطمئنا ، فإن رسلي يؤمنون من كل ما يخافون.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ).

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢٥١

قيل : إن (إِلَّا) بمعنى الواو ، وكما قالوا في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [سورة البقرة : ١٥٠].

قوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ).

ثم بدل لظلمه حسنا ، ويؤخذ من الآية ، أن قاتل النفس في المشيئة ، ورده ابن عرفة بأن هذه عامة ، وآية القتل خاصة ، والخاص يقضي على العام.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا).

فإن القاضي ابن عبد الرفيع : قال الفقيه أبو عبد الله محمد أنه لو كان مقصور القرى بالتنوين في الأصل.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ).

ابن عرفة : قالوا : إذا قلت : مشيت حتى إذا لقيت زيدا يقتضي أول الملاقاة ، بخلاف قولك : مشيت حتى لقيت زيدا ، قيل له : فسره ابن عطية بوجهين :

أحدهما أنهم أتوا على جميع الوادي ، وقطعوا مسافاته ، فقال : هذا لا يحمل على ظاهره ولا بد من تأويله ؛ لأن النملة حذرت صواحباتها منه ، فدل على أنهم حينئذ لم يكونوا قط مواشيا من الوادي ، ولو أتوا عليه لما بقى للتحذير منهم فائدة.

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ).

هذا إما من الفقاد كما يتفقد السلطان حالة رعيته ، وإما من الفقدان وهو عدم الوجدان ، ونقل ابن عطية أن نافع بن الأزرق قد سمع ابن عباس يقول : إن الهدهد نظر إلى باطن الأرض ورأى الماء من كذا كذا إقامة ، فقال له : كيف يشاهد باطن الأرض ولا يرى الفخ ، فقال : إذا ترك القدر عمي البصر.

قال ابن عرفة : إنما جوابه يرى الفخ والحب الذي فيه ، وجهل ما فيه من الجبلة ولا يرى ما عاقبة أمره.

قال ابن عرفة : والظاهر أن المراد جميع جنس الهدهد ؛ لأنه هدهد واحد بدليل ما حكوا أن أحد الهداهد كلم حبر بلقيس ، وأعلم به نزل إليه رجس الهداهد وسلطانها ، فأخبره بذلك أيضا لتحقق الخبر ، فالظاهر أن جميع الهداهد مضت معه ، فلذلك جلا موضعها ، ودخلت منه الشمس انفرد يقول ، وقالا : مصدر معطوف على علما ، أي آتينا داود وسليمان علما ، وقالا : الحمد له ، قال : فقلت وقوله تعالى : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) ، أتى بالموجب ثم بالمانع.

٢٥٢

قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ).

يحتمل أن يكون من النظر أو من الانتظار.

قال ابن عرفة : وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو : هلا قال : فانظر ما ذا يجيبون؟

فإن الجواب للكتاب أخص من الرجوع ، قال : وعادتهم يجيبون : بأن الكتاب إن كان له اعتناء بالمبعوث إليه ، ويراد بعين الكتاب [٥٨ / ٢٨٣] والاعتبار ، ونزل منزلة المتساوي له في درجته سمي ما يصدر عنه بعد قراءة كتابه جوابا ، وإن زاد بعين الصفات والاحتقار جعله في رتبة الرسول الحامل للكتاب ، وكان جوابه إنما هو الرسول فسمي ما يصدر منه له مراجعة ، وكذا سليمان عليه‌السلام حال بلقيس وملكها بالنسبة إلى ملكه ، فجعل جوابها فإنه لرسوله ؛ لأنه له.

قوله تعالى : (فِي أَمْرِي).

أي في شأني.

قوله تعالى : (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ).

جمعتهم إما باعتبار الملوك الماضية ، وإما باعتبار ما يأتي ، وإما باعتبار إنما لم يكن على تقدير أن لو كان كيف كان يكون.

قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ).

جمعتهم إما لرجوع الضمير للملوك ، وإما تعظيما لسليمان ، وإما اعتبارا به وبخاصته.

قوله تعالى : (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ).

وقرئ وما آتاني الله خير.

قال الزمخشري : والفرق بين العطف بالفاء والواو ، أن الإنكار تارة يتسلط على السببية ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، فإن أردت تجهيله في الكتب عطفته بالفاء ؛ لأنه تارة يكون يشرب اللبن ظانا أنه ماء ، فإذا هو لبن فهذا جهل السبب ، وتارة يعلم أنه لبن ويجهل أنه إذا اجتمع في البطن مع السمك يضر ، فهذا جهل السببية ، وكذلك تقول : تعطي زيدا الدراهم وهو غني ، فإن كان المعطي يجهل أنه غني فهو جاهل للسببية ، وإن علم أنه غني ، وجهل أن الغنى مانع من إعطاء الزكاة له فهذا يجهل السببية.

٢٥٣

ابن عرفة قال : وإن كان السبب أقوى من إنكار السببية ، فهذا كالجهل المركب بخلاف العكس فلذلك عطفه في الآية بالفاء دون الواو.

قوله تعالى : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها).

قال ابن عرفة : عبر بلفظ الملأ ولم يقل : يأيها الجند ؛ لأن الملأ هم الأشراف ، وهو إنما خاطب بذلك من له قوة وعلم ، ولفظ الملأ يشمل من جمع الأمرين ومن اتصف بأحدهما ، ولم يتناول رعاع الناس بوجه.

قوله تعالى : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها).

إشارة إلى أنه علم أن فيهم من يأتيه بعرشها ، وإنما طلب منهم تنبيه فقط ، ولو قال : هل فيكم من يأتيني بعرشها لكان شاكا ، هل فيهم من يقدر على الأتيان به أم لا؟

قوله تعالى : (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ).

ابن عرفة : قالوا : هذا يقتضي ذم الدعوى ، وكل مدع فدعواه توقع إلا إذا كان لدعواه موجب ، كقول يوسف عليه‌السلام (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [سورة يوسف : ٥٥] ، فإن موجب ذلك القيام بالحكم الشرعي ليوصل كل ذي حق لما حقه.

قوله تعالى : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ).

قال الأصوليون من أهل الفقه : أفعال الله غير معللة ، وما ورد من تعليلها ، فإنما هو باعتبار الربط العادي ، وأحكامه فيها قولان : هل هي معللة أم لا؟ ولهذا قال ابن الحاجب : مسألتان على التنزيل ، أي على النزل مع الخصم إلى مذهبه في قاعدة التحسين والتقبيح.

قوله تعالى : (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها).

قال الأصوليون : إذا كان إسقاط بعض الألفاظ لا يخل بالمعنى فاثباته حشو لا فائدة له ، فحينئذ يقول : ما أفاد قوله لها؟ قلنا : أفاد أن تنكيره إنما هو لمن ينكر بعرف ، ويحيط به بأنها نكرة لها لأنها أعرف الناس به.

قوله تعالى : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ).

وليس هو بمعنى التفكر ، وإنما المراد تختبر أو تعلم أو ننتظر اهتداءها ، وأم هنا متصلة ، وهي التي يقع بعدها المفرد ، أو ما هو في قوته ، فإن قلت : قال ننظر أتهتدي أم لا ، كما تقدم السؤال ، في قوله تعالى : (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) ، لكن

٢٥٤

الجواب هنا عكس الجواب هناك ، وهو أن تلك الآية خرجت مخرج التشديد على الهدهد ، وهذه خرجت مخرج التلطف ببلقيس أنه هنا بمجرد كذبت واحدة يحصل في ملأ الكاذبين ، والجواب هنا : أي في هذه العبارة رفق بها وتلطف ، قال : لأن الحكم إذا كان موقوفا على أمرين متفاوتين ، فإن كان جانب الذم فيها أشد وأرجح يحصل منها مطلق اهتداء ويتصف بأقبح ما يكون ، فخرجت هذه الآية مخرج التلطف والتخفيف عليها.

قوله تعالى : (قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ).

ولم يقل : هذا عرشك.

قال الزمخشري : لئلا يكون تلقينا وتفهيما وقال ابن عرفة : بل هو إشارة إلى أن السؤال عن مثل الشيء أخف على المسئول من السؤال عن ذات الشيء نفسه ؛ لأنه أقرب إلى المعرفة ، فيجد كثيرا من يقول : هذا مثل زيد ، ولا يجد من يقول : هو زيد [...].

قوله تعالى : (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ).

انظر هل المعنى كان هذا هو عرشي أو كان عرشي هو ، هذا الظاهر الثاني لمشاكلة السؤال ؛ لأن المعنى أعرشك مثل هذا؟ قالت : كان عرشي مثله.

قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ).

قال ابن عرفة : السؤال بالهمزة عن ذات الفعل ، والسؤال بقوله : لم عن علة الفعل وسببه ، فما السر في العدول عن الهمزة إلى اللام؟ وأجاب بأنه تقدم.

قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ).

ومن تصب نفسه منصب المخاصمة ، فهو عارف بالحجة ، لذلك سألهم عن علة الاستعجال ودليله لا عن نفسه.

قوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ).

أي تعلمون أنها فاحشة.

وقال الفخر : العالم لا تصدر منه معصية أصلا ، فإذا عصى فهو جاهل ؛ لأنه يرجح المرجوح ، وترجيح المرجوح جهل ، فلذلك قال لهم لوط عليه‌السلام (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ، قال : والإطناب ببل إضراب انتقال ، والانتقال في باب الذم ، إنما يكون على أمر خفيف إلى ما هو أشد منه ، وقدر بعضهم الأشدية هنا بأن الضرب عنه رافع

٢٥٥

للقوة الحسية العملية ، وهي منقطعة عن ذلك الفعل ، والثاني : راجع للقوة العلمية ، وهي دائمة ؛ لأن العلم بالشيء دائم ، والعمل به منقطع غير دائم.

قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).

الأكثرون على أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومثل هذا في القرآن ، وهو صلّى الله عليه وعلى آله وسلم مأمور بتبليغ لفظه لأمته وبالعمل به ، وعرف الحمد بالألف واللام لجنسيته.

قوله تعالى : (الَّذِينَ اصْطَفى).

أي اصطفى خاصا ؛ لأن عموم الاصطفاء يصدق على الطائع وعلى العاصي ، قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [سورة فاطر : ٣٢].

قوله تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ).

قال ابن عرفة : كرر هذه اللفظة تنبيها لها على أن القدرة على الخلق فالاختراع صفة خاصة بالله تعالى بمنزلة تبيين الشيخ للتلميذ واختار أنها صفة معنوية ، وأن الله تعالى ليست له صفة تخصه سبحانه وتعالى.

قوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها).

أي ما يمكنكم وما ينبغي لكم ذلك ، وهذا استدلال على وحدانية الله تعالى بالحدوث ، وفيه أربعة مذاهب للأصوليين :

أحدها : أن دليلها لوحدانية الإمكان ، الثاني : دليلها الحدوث ، الثالث : بها والحدوث شرط ، الرابع : هما والحدوث شرط.

قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً).

إن أريد أنها ذات قرار في نفسها فلا كلام ، وإن أريد أنها قرار لغيرها أي محل الاستقرار عليها ، فهي حال مقدرة ؛ لأن الحكماء قالوا : إن المعمور البعض ، لأن الاستقرار على أقلها وأكثرها غير معمور ، فهي حياة الخلق حال مقدرة ، أو يقال : إنها ليست حالا مقدرة ، لأن الحكماء قالوا : إن المعمور منها أقلها وأكثرها يستحيل عمارته ، فبعضه لشدة برده ، وبعضه لشدة حره ، إلا أن يجاب بما قال الفخر الرازي : إن الأرض على الماء ، وفيها قولان : قيل : ساكنة ، وقيل : إنها متحركة وليست بساكنة ، فقد تبدل جهاتها فيصير غير المعمور فيها معمورا.

٢٥٦

قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً).

قال ابن عرفة : بين إما ظرف وإلا مفعول ، وهل البين بنفسه هو الحاجز ، أو شيء آخر يحل فيه ، وكان بعضهم يرجح الأول خوف التسلسل وتداخل الأجسام ؛ لأنه إذا كان الحاجز بينهما شيئا آخر فما الحاجز بين ذلك الشيء وبينهما ، فإن كان شيء آخر فتسلسل الأمر وإن لم يكن ، ثم حاجز لزم تداخل الأجسام وعدم الحاجز قرئ في كمال الفرد.

قوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [٥٨ / ٢٨٤] قال ابن عرفة : عادة الطلبة يقولون : لأي شيء أعاد المسند إليه هنا ولم يعده ، في قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً).

ولم يقل : ومن جعل خلالها أنهارا ، وقال : وتقدم الجواب بأن المعطوفات في الأولين منحصرة في نوع واحد ؛ لأن الهداية راجعة إلى القوة العلمية ، وإرسال الرياح راجع إلى أثر القدرة.

قوله تعالى : (عَمَّا يُشْرِكُونَ).

إنما ذكر الإشراك هنا ، بقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء : ٦٧] ، فالإنسان في لجج البحار يستحضر مقام التوحيد ، ويلقي اعتقاد التشريك ، فناسب أن يعقب بتنزيه الله على نقيض ذلك.

قوله تعالى : (ثُمَّ يُعِيدُهُ).

ابن عرفة : هو على تقدير مضمر ، أي ثم يميته ثم يعيده ، وأورد الزمخشري : أنهم ينكرون الإعادة ، فكيف ينكر عليهم عدم الإيمان ممن يعيدهم؟ وأجاب : بأن الدلائل الدالة على الإعادة قائمة عليهم.

قال ابن عرفة : وإذا بنينا على هذا الجواب يكون في الآية حجة على المعتزلة ، لإنا أجمعنا نحن وهم على جواز الإعادة عقلا ، واختلفنا في وجوب وقوعها ، فهم قالوا : أنها واجبة عقلا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين عندهم ، ونحن نقول : وقوعها واجب بالسمع ، وهو إخبار الشارع بوقوعها لا بالعقل.

قوله تعالى : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).

٢٥٧

إنما تم تقدير ذلك مع ظهور الدلائل العقلية على وجوب الإعادة ، قيل لابن عرفة : يلزمك أن يكون ابتداء الخلق واجبا عقلا ، ولم يقل به أحد ، فقال : قد تقرر أن الثاني من الشرطيات لازم للأول ، ولا يلزم من وقوعه وقوع الأول.

قال ابن عرفة : إلا أن يجاب بالإعادة راجعة للإعراض على القول ، بأن العرض لا يبقى زمانين إلا أن يقال : إنه لا يعاد بعينه بل بعدم ويخلق مثله إلا على قول من يجيز عادة المعدوم بعينه ، والخلق المراد به المخلوق.

قوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ).

قال الزمخشري : برهانكم على نفي الإعادة ، فإن قلت : لنا في الشيء لا يطلب بإقامة الدليل على نفيه ، قلت : النفي على قسمين :

نفي لما يثبت ، فهذا لا يطلب صاحبه بدليل.

ونفي لما قام الدليل على ثبوته ، فهذا يطلب صاحبه بالدليل.

قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ).

قالوا : سبب نزولها أن الكفار سألوا النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم عن وقت القيامة التي وعدهم بها.

قال ابن عرفة : الألف واللام في الغيب للعهد ، أي الغيب المسئول عنه ، أو هو عام المراد به الخصوص ، فهم ظنوا أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم المغيبات ، ولا يخفى عليه منها شيء فأخبر الله تعالى أنه لا يعلم إلا ما علمه الله ، وإن هذا من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، ولم يطلع عليه أحد فيكون فيه حجة لأحد القولين ، بأن الكرامة لا تتعلق بعلم ذلك ، ولا يطلع عليه ولي ، ويحتمل أن يقال الغيب على نوعين : غيب ينصب عليه دليل وإمارة ، وغيب لم ينصب عليه دليل ، فالأول : كمن يمشي في طريق لا يخبرها فيعلم مواضع الماء وقربه من بعد النبات والثاني : كدفين في الأرض لا يخبرها إلا الشق ، فإنه لا دليل له على موضعه ، وهذا من الغيب الذي ينصب عليه دليل ، وذكر ابن عرفة إعراب الزمخشري واستشكاله الآية ، والسؤال الذي أورده وقرره ، فإنه من المذهب الذي يؤتى فيه بالحكم مقرونا بدليل ، قال : وحاصله أن المراد نفي علم ذلك عمن سوى الله ، ولا يحتاج إلى إثبات العلم به لله تعالى ، فإنهم لم يخالفوا به ، قال : ويحتمل أن يكون من في السماوات والأرض مفعولا للعلم والغيب ، إما حال منه بناء على القول بصحة إثبات الحال معرفة ، وأما بدل منه بدل اشتمال ؛ لأن الغيب مشتمل على من في السماوات والأرض

٢٥٨

ومفعول بأن ، ويعلم على بابه وعلى إعراب الزمخشري بمعنى المعرفة ، والمعنى قل لا يعلم المخلوق في السماوات والأرض غيبه ، أي الذي اشتمل عليه الغيب إلا الله ، فإن قلت : بدل اشتمال لا بد فيه من الضمير ، قلنا : الألف واللام نابت مناب الضمير تقديره غيبه أو الغيب منه كما قدروه في صورة فالرجل الحسن الوجه ، أي قل لا يعلم غيب المخلوق في السماوات والأرض إلا الله ، أي لا يعلم المغيبات إلا الله من أمر المخلوقين إلا الله ، وهذا أحسن من إعراب الزمخشري ، وأبي حيان لما يلزم في إعرابها من المجاز ، قلت : وذكرت هذا لصاحبنا الأستاذ أبي العباس ابن القصار فاستحسنه قال : لكن ظاهر اللفظ في حقيقته ولا يحتاج إليه ؛ لأن سيبويه أجاز أن يقول : ما رأيت زيدا إلا عمرا ، مع أن عمرا ليس خبر ومن زيد لكنه على نية طرح الأول ، أي ما رأيت إلا عمرا ، فالمعنى هنا : قل لا يعلم الغيب إلا الله.

قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

الشعور هو مبادئ العلم ، ثم أضرب عنه ، بقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) ، فالأول : اقتضى نفي النظر عنهم ، والثاني : اقتضى أنهم نظروا نظرتهم إلى عدم معرفة وقتها ، وإنما لهم ظنون كاذبة أو هم في شك منها ، والشاك غير حاكم بشيء فهم جاهلون لها جهلا بسيطا.

قوله تعالى : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).

حاكمون بترجيح المرجوح منها ، جاهلون بها جهلا مركبا ، لأن الناظر تارة ينظر [...] نظرة إلى الشك واستواء الطرفين عنده ، وتارة يحكم بترجيح الراجح وهذا عالم ، وتارة يحكم نصهم على ترجيح المرجوح ، فهذا وهم وجهل مركب ، وأفاد الإضراب ببل أنهم أولا جاهلون ، فليس بها شعور البتة ، بل انتقلوا إلى النظر الموصل للعلم بها ، ثم نظروا أو أداهم النظر إلى الشك فيها لم بعد ذلك قطعوا وصمموا على إنكار الإعادة ، فكانوا بحيث تنفع فيهم الموعظة ويطمع في رجوعهم ، ثم انتقلوا إلى حالة اليأس منهم والقطع بعدم رجوعهم ، ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار الأنواع ، فمنهم جاهل ، ومنهم عالم معاند ، ومنهم شاك ، ومنهم مصمم على إنكار البعث والإعادة.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وهذا من إيقاع الظاهر موقع المضمر.

قوله تعالى : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ).

٢٥٩

قال الزمخشري : لم قال في قد أفلح : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) [سورة المؤمنون : ٨٣] ، وقال هنا : (هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) ، ثم أجاب بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الفرض المقصود ، فهنا دل على إيجاد البعث هو المقصود في الآخر المقصود إيجاد المبعوث.

قال ابن عرفة : فإن قيل : لم خصصت تلك بتقديم نحن ، وهذه بتقديم هذا؟ قال : فعادتهم يجيبون : بأن تلك ذكر أحوال الكفار ؛ لأن قبلها : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة المؤمنون : ٧٥] ، ثم قال (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [سورة المؤمنون : ٧٧] ، وهذه تقدم فيها أوصاف البعث ، لقوله تعالى : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [سورة النمل : ٦٤] ، (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) [سورة النمل : ٦١] ، (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [سورة النمل : ٦٣].

قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ).

إن أريد به العموم فالأكثر على أنه والكافر على هذا منعم عليه باعتبار ما له في الدنيا ، وإن أريد بالناس الكفار والأكثر المراد به الجميع.

قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ).

إن قلت : هلا قال : ما تعلن ألسنتهم وما يسترون ، فيكون تأسيسا ؛ لأن العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بخلاف العكس ، قال : والجواب : أنه قصد التنبيه على كمال إحاطة علم الله تعالى ، وإن السماوات إن تعددت فعلمه بما فيها كلها كعلمه بما في السماء الواحدة ولا فرق بينهما.

قوله تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

إما حقيقة فهي مكتوبة في اللوح المحفوظ ، وهو عبارة عن كمال إحاطة علمه بذلك.

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

لأنهم يختلفون في أمر جلي ، أو أمر خفي ، فهو يقص عليهم الأمر الخفي.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

٢٦٠