تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

قال ابن هشام الباهلي : مذهب أهل السنة للسبب ، وعلى مذهب المعتزلة واجب ، وكذلك السبب.

قوله تعالى : (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) المبتدأ مأواهم ؛ لأنه أعرف ، ولأنه مقدم ولإحصاره في الخبر لا مأوى لهم إلا النار ، بخلاف العكس.

قوله تعالى : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

قال ابن عرفة : عادة القراء يقولون : السورة المدنية وصف فيها عذاب النار بالمذكور ، وهي سورة السجدة ، وفي سورة سبأ وصف فيها عذاب النار بالموت [٦٠ / ٢٩١] فانتفت هنا للعذاب ، وفي سبأ للنار ، وأجاب الطيبي والزبير ، بأن النار هنا تقدم ذكرها فالأصل جاء ذكرها مضمرا ، فيقال : مأواهم النار كلها.

قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها).

وقيل لهم ذوقوا عذابها ، فالظاهر هنا وقع موقع المضمر لا ينعت ، فلذلك قال الذي كنتم به ... (١) النعت للعذاب لا للنار ، وأما سورة سبأ فقبلها (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها) [سورة سبأ : ٤٢].

قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها).

قال بعضهم : الإعادة تقتضي أن يكون الخروج أن يكون بمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، ويجوز في لفظ الإعادة بأن يراد منها المنع من الخروج أو يكون المعنى أرادوا الخروج ، وأخذوا في أسبابه ، وروي عن الحسن : أنهم يصعدون من الطبقة السفلى إلى العليا ، فيردون إليها.

قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ).

قال الزمخشري : العذاب الأدنى عذاب الدنيا ، من القتل والأسر وغيره ، وعن مجاهد : هو عذاب الآخرة ، زاد ابن عطية بلا خلاف.

قال ابن عرفة : يحتمل أن يكون معا في الدنيا فالأصغر يسمى ذراريهم ويسمى أموالهم ، والأكبر سببهم في أنفسهم قال الفخر : كان الأدنى ضد الأبعد ، والأكبر ضد

__________________

(١) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

٢٨١

الأصغر ، فهلا قيل : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأقصى أو من العذاب الأصغر دون العذاب الأكبر.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها).

وفي الكهف (فَأَعْرَضَ عَنْها) [سورة الكهف : ٥٧].

قال ابن عرفة : كان الطلبة يقولون : .... (١) ما أشد هل ظلم من أعرض يعقب التذكر الآيات أو ظلم من أعرض بعد مهلة ، وهل الإنكار على الأول أشد ، والإنكار على من ظلم بعده مهلة أشد ؛ لأن ظلمه أضعف فيستلزم الإنكار عليه الإنكار من باب أحرى.

قوله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).

قلت : أجاب الزمخشري : أنه لما جعله ظلم ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.

قال ابن عرفة : هذا يحتاج إلى دعامة ، وهو أن لفظ المجرمين يتناول الإنكار عليهم وعلى غيرهم ممن قد اتصف بالإجرام المطلق.

قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) هذا كقوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٣] ، فالكسب هدى لهم ، ومنهم المؤمن به والكافر ، هذا إن أريد به عموم بني إسرائيل إن أريد المؤمنون فقط من بني إسرائيل ، فهو هدى لهم حقيقة.

قوله تعالى : (لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ).

قال ابن عرفة : اليقين هو الحق لقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ).

قال ابن عرفة : إنما قدم الأنعام على الأنفس مع أن الأنفس آكد ؛ لأنه كذلك في الوجود الخارجي ؛ لأن أول ما يأكل .... (٢) الأنعام ثم بعد ذلك الإنسان فجاء على الترتيب الوجودي.

__________________

(١) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

(٢) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

٢٨٢

قال ابن عرفة : وقع الاعتناء هنا بأمرين بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) ، يشتمل على تخويف ، قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) ، يشتمل على نعمة فتخرج به زرعا ، دليل على أن الزرع أنما يخلق من التراب ، وقيل : من الماء ، وقيل منهما معا ، وكذلك اختلفوا في الجنين مماذا يخلق ، قيل : ما ماء الرجل ، وقيل : من ماء المراة ، وقيل : منهما ، ولو كان إخراج الزرع من الماء لقال : فيخرج به زرعا.

قوله تعالى : (أَفَلا يُبْصِرُونَ).

فهو ترق.

قوله تعالى : (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ).

إن أريد في مكة ، فالمراد من مات من الذين كفروا ، فإنه لا ينفعه إيمانه بعد ذلك ، وأما من بقي حيا فينفعه إيمانه.

قال ابن عرفة : ما ذكر الزمخشري في آخر سورة السجدة من الحديثين الذي ذكرهما كما جرت به عادته ، لم يثبت منها حديث صحيح ، والذي في الحديث الصحيح ، خرجه الترمذي : أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم [٦٠ / ٢٩٢] لا ينام حتى يقرأ (الم تَنْزِيلُ) [سورة السجدة : ١ ـ ٢] ، و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [سورة الملك : ١] ، قلت : وذكره الطيبي هنا قائلا : رويناه عن أحمد والترمذي والدارمي.

٢٨٣

سورة الأحزاب

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ).

قال ابن عرفة : قالوا : أكثر ما وقع في القرآن مخاطبته بصفاته فيقال : يا أيها الرسول (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، وكذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ) [سورة الأعراف : ١٥٧] ، وما وقع التعبير عنه باسم العلم إلا في نحو خمس آيات ، وهو قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [سورة آل عمران : ١٤٤] ، وقوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [سورة الأحزاب : ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) [سورة محمد : ٢] ، وقوله سبحانه وتعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [سورة الفتح : ٢٩] ، وقوله عزوجل (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [سورة الصف : ٦] ، قال : وسبب ذلك أن هذه الصفات ذكرت على سبيل المدح والتشريف ، فلذلك كثر ذكرها ، والتصريح باسمه العلم ، أنما هو يميزه عن غيره فقط.

قوله تعالى : (اتَّقِ اللهَ).

إن قلت : ما فائدة أمره بالتقوى مع أنه تحصيل الحاصل ، قلنا : متعلق الأمر بالشيء لمن هو متصف به ، إن كان متعلقه مقولا بالتشكيك ففائدته الترقي في أجزائه ، والاتصاف بإعلام وإن لم يكن كذلك ففائدته الدوام عليها.

قوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ).

قال ابن عرفة : فائدته عندي أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم كان يخفض جناحيه لهم ، فيوافقهم على فعل ما يصل به إلى غاية ما يباح له فعلا شرعا استيلافا لهم وحرصا على إيمانهم ، فقيل له لا تفعل هذا ، فإن ذلك يندرج بهم إلى طمعهم فيك ، وتعلق آمالهم لطلبهم منك ما لا يباح لك فعله شرعا ، وهذا كما يطلبه منك عبدك درهما ، فإن سعفته به يتجاسر عليك ، ويطلب منك دينارا.

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

قال الزمخشري : لو كان قلبان لكان تاما أن يفيده أحدهما من العلم ، ما أفاده الآخر أو غيره ، فالأول : تحصيل الحاصل ، والثاني : يلزم عليه اجتماع النقيضين.

قال ابن عرفة : هذا على أن أصله أن الصفة إذا قامت بحدث أوجبت الحكم لجميع الذوات ، وهو مردود بحاستي السمع والبصر واليدين ، فإنه يسمع بالأذن مثل ما

٢٨٤

يسمع بالأخرى ، ويضع يده الواحدة على النار ويده الأخرى على المسخن ، ويجاب : بأن قوله تعالى : (مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، كان بعضهم يقول : الحكمة في إدخال من أن صيغ المجموع ، والتثنية كلمة لا كل ، فإذا قلت : الرجال قائمون معناه : كل واحد قائم ، وكذلك الزيدان قائمان ، فلو قال : ما جعل الله لرجل قلبين لأوهم نفي القلب الواحد ، ولذلك قال تعالى (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [سورة النحل : ٥١] ، فأكده بقوله (اثْنَيْنِ) ، ليفيد أن المراد نفي مجموع القلبين من حيث هو مجموع لا نفي الواحد لأنها في النفس لاستغراق الجنس.

قوله تعالى : (فِي جَوْفِهِ).

قال الزمخشري : فائدته زيادة التصور المدلول عليه ، لأنه إذا سمع به صور نفيه جوفا يشتمل على قلبين ، فكان أسرع إلى الإنكار ، وأجاب الزمخشري في سورة الأنعام في قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [سورة الأنعام : ٣٨].

قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ).

قال الزمخشري : إن قلت : ما معنى قولهم : أنت علي كظهر أمي فكنوا عن البطن بالظهر ؛ لأنه عمود البطن ، ومنه حديث عمر ، قلت : هو حديث ذكره ابن أنس عنه في كتاب التجارة بأرض الحرب ، قال عن عمر : لا حركة في أسواقنا لا يعمد رجال أيديهم فضل من حال الرزقاء من رزق الله فيحتكرونه علينا ، ولكن أيما جالب جلب علينا عد عود كره في الشتاء والصيف طبع كيف شاء ، ويمسك كيف شاء ، فأباح ذلك عمر للجالب والزراع.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي قول باللسان دون اعتقاد القلب.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ).

وإنما يقال : قال الله الحق ، ورد عليه النواوي رحمه‌الله بهذه الآية.

قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

قالوا سببها ما [٦٠ / ٢٩٢] أخرجه البخاري ومسلم من أنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : " يؤتى بالميت وعليه دين ، فيسأل هل ترك وفاء دينه فإذا قيل : نعم ، صلّى عليه ، وإذا قيل : لا. صلوا على صاحبكم" ، فلما فتح الله عليه الفتوحات قال : أنا أولى بالمؤمنين من ترك مالا أو دينا فعلي وإلي وعلق الحكم هنا بالنبي ، وهو أعم من الرسول ليدل على تناوله للرسول من باب أحرى.

٢٨٥

قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

فيه حجة لأبي حنيفة رضي الله عنه ، القائل أنهم أولى بالإرث عن بيت المال.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).

قال ابن عطية : قيل : استثناء متصل ، وقيل : منفصل ، وقال الزمخشري : إنه استثناء من أعم العام.

قال ابن عرفة : تقريره أن العام هم المؤمنون والوصية ؛ لأن العام في الأشخاص والأزمنة أولا والمشهور أنه مطلق فيها ، واستثنى من أحوال تلك الأشخاص الوصية ، فهو استثناء متصل وتقدم لابن التلمساني شارح المعالم أن الاستثناء قسمان يصدق على إخراج ما لولاه الموجب دخوله على إخراج ما لولاه لصلح دخوله ، فلو استثنى من الخاص المؤمنين أو المهاجرين لكان إخراج ما لولاه الموجب دخوله ، وأما المستثنى من أحوالهم أن إخراج ما لولاه لصلح دخوله ؛ لأن أحوالهم صحيحة ؛ لأن يكون أرثا أو عطية ، بمعنى الهبة أو بمعنى الصدقة وبمعنى الإعمار والتحسين ، وقد تقرر في الأصول الفرق بين الأعم والعام ، وهذا كثيرا ما يقوله الزمخشري أنه استثناء من أعم العام ، وذكر مثله في هذه السورة في قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) [سورة الأحزاب : ٥٣] ، وفي سورة يوسف في قوله تعالى : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [سورة يوسف : ٦٦] ، وتقدم نحوه ، لابن عرفة في قوله تعالى : في سورة هود (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [سورة هود : ٤٤] ، وفي قوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : " لا تبيعوا الذهب لا مثلا بمثل ، ولا تشفّوا بعضها على بعض".

ابن عرفة : أي لا تبيعوه في حال إلا في المماثلة ، وقال الطيبي : إنه استثناء مفرع في الثبوت ، وقاعدة المفرع إنما يكون في النفي.

قوله تعالى : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً).

المسطور هو حكم الوصية وغيرها ، لا متعلق ذلك.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ).

ابن عطية : وهذا أبين من الأول.

ابن عرفة : لأجل واو العطف إذ لو كان محمولا لمسطور جاء موصولا غير مفصول بحرف العطف ، قال : وإذا كان العامل اذكر ، فلابد من تقدير مضاف ، أي

٢٨٦

اذكر حالهم إذا أخذنا ، وأما ذكر الوقت نفسه ، فلا يصح ؛ لأنه ماض ، فكيف يؤمر الآن بالذكر ، إلا أن يكون مفصولا به فيكون أمر بذكره لا بالمذكور فيه ، مع أن ابن عطية جعله ظرفا ، والنبي أعم من الرسول ، وقيل : أخص واحتج ابن راشد على كونه أخص بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [سورة الحج : ٥٢] ، فعطف النبي عليه ، دليل على كونه أخص ورد ابن عرفة : بأنه في سياق النفي فينتج له العكس ؛ لأن النفي الأخص أعم من النفي الأعم ، وقد ذكر محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم تشريفا له ، وروي أنه قال : " كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث" ، قيل لابن عرفة : فجاء تقديمه على الأصل ؛ لأنه أولهم خلقا حين أخرجوا من ظهر آدم كالذرأ يوم السبت بربكم ، فقال : لزمك أن يكون خلق ، قيل : آدم مع أنه أخرج من ظهره ، قلنا : نلتزمه لما ورد أنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم كان ذرأ قبل خلق آدم انتقل ذلك النور إلى ظهره ، نقله عياض في الشفاء في الفصل السادس من الباب الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت قريش نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله تعالى آدم ألقى ذلك النور في صلبه.

قوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

قال ابن عرفة : وكان شيخنا ابن عبد السّلام يقول : إنما كرره ؛ لأن المصدر تارة يعتبر من حيث إضافته للمفعول ، وتارة يعتبر من حيث إضافته للفاعل ، ومثاله إذا أخذ رجلان مالا بالسواء ، أخذ أحدهما نصفه منه من عند رجل عظيم ، والآخر نصفه منه من عند رجل حقير فالأخذ بالنسبة إلى المفعول مسبق ، وبالنسبة إلى الفاعل متفاوت ، فقوله تعالى : (مِيثاقَهُمْ) ، إما مصدر مضاف للمفعول فلذلك لم يصفه بالغلظة ، اعتبارا بنسبته للفاعل ، وهو الله تعالى ، ولما كرره لم يعرف بأل لكونه ذكر أولا معرفا على منكر.

قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ).

ذكر ابن عطية احتمال كون اللام للصيرورة ، على أن الضمير في يسأل عائد على غير الله تعالى ، إما على الملك أو نحوه ؛ لأن لام الصيرورة تقتضي أن الفاعل جاهل بعاقبة الأمر.

قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً).

٢٨٧

قال ابن عرفة : إن كانت للسبب فظاهر ، وإن كانت للتعقيب فيكونه الله تعالى أرسل عليهم الريح وإنما يكن أثر مجيئهم ، وأمر الملائكة أن يتربصوا عليهم بقدر ما تستوفي جنودهم ، ويطمعون في أخذ المؤمنين ، فهو إنكالهم.

ابن عطية : لما أرسل عليهم الريح ، قال بعضهم : سحرنا محمد.

قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول : بموجبة ولكن سحرهم السحر الحلال ، قيل له : هذا لا يحل إطلاقه ، فقال : ترى الناس إذا تعجبوا من شيء يقول : هذا هو السحر الحلال.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً).

قرئ بتاء الخطاب ، فهو وعد للمؤمنين الحفظ النصر ، كقوله تعالى : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [سورة طه : ٤٦] ، وقرئ ما الغيبة فهو وعيد للكفار بأنه يرى عملهم فيجازيهم عليه ، وينتقم لكم منهم.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

ابن عرفة : هذا من عطف الصفات ، أي وإذ يقول الموصوفون بالنفاق ومرض القلوب ، أو من عطف الموصوفات فيكون المنافقون قسمين : منهم من جزم بالكفر ، ومنهم من في قلبه مرض ، وفي سورة المدثر (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [سورة المدثر : ٣١] ، فقدم الذين في قلوبهم مرض ، قال : وعادتهم يجيبون : بأن منشأ المقالة في هذه الآية ، هو الجزم بالكفر والتصميم عليه ، لقولهم (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) ، وهذا الكفر صريح ومنشأ المقاولة في سورة المدثر ، الشك في الإيمان لقولهم (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [سورة المدثر : ٣١] ، فروعي في كل آية منهما الأصل فيما سبق الكلام لأجله ، فقدم هنا المنافقون المصممون على الكفر ، وقدم في المدثر مرضى القلوب ، قيل لابن عرفة : لا معارضة بين الآيتين ، لأن المنافقين هم الذين في قلوبهم مرض ، فقال (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، أعم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ).

قال ابن عرفة : هذا أخص من أن لو قيل : لا يخلفون عن القتال ، لأنهم إذا عاهدوا الله لا ينهزموا ولا ينصرفوا عن المقاتلة ، فأحرى أن لا يتخلفوا عن حضور القتال ، لتكثير السواد وإن لم يقاتلوا ، أو أحرى أن لا يتسببوا في خذلان المؤمنين

٢٨٨

وصدهم عن القتال ، فخالفوهم في ذلك واتصفوا بأشد ما يناقض عهدهم ، وهو السبب في فشل المؤمنين وخذلانهم.

وقوله تعالى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ).

قال ابن عرفة : المجرور متعلق بالفعل ، وهو فررتم لا بالفرار إما لقربه منه ، وإما لأنه الأصل في العمل حسبما أشار إليه الزمخشري في (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) [سورة الروم : ٢٥] ، فقوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [سورة النصر : ١] ، بطل فهو معلق بزيد وإن ذلك إنما هو حيث يكون المصدر جاريا على ذلك الفعل ، مثل (دَعاكُمْ دَعْوَةً) ، وأما هذا فإن مصدر فررتم الجاري على المفر أن يكون الفرار إلا الفرار ، وما كلام الزمخشري إلا حيث تجري فتأمله ، قلت : وهذا الذي ذكر غير صحيح ، فإن مصدر فررتم ما هو إلا الفرار فتأمله وإما ؛ لأن الفرار مصدر معرف بالألف واللام ، فهو موصول فلو تعلق به لوقع الفصل بين الصلة والموصول بأجنبي [٦٠ / ٢٩٣] ، ومعناه أن تعلق الفعل لن ينفعكم الفرار من كل شيء أو فررتم من الموت أو القتل ، لأنهم قد يفرون لحفظ أموالهم ، كما قالوا (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) ، وإن تعلق بالفرار فمعناه لن ينفعكم الفرار من الموت أو القتل إن فررتم منهما ، قال : ومما يرجح تعلقه بالفرار أنه إذا تعلق بفررتم لم تناقض أول الآية آخرها ، بقوله تعالى : (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ، فقد نفعكم الفرار مطلق نفع ، وهو التمتع القليل ، فلا يصح أن ينفي عنهم نفعه لهم مطلقا ، إذا تعلق بالفرار لا يكون فيه تناقض بوجه ، فإن قلت : ما أفاد بقوله (إِنْ فَرَرْتُمْ) ، قلت : عادتهم يجيبون : بأن السالبة عند المنطقيين ما يقتضي وجود الموضوع ولا عدمه كقولك : لا شيء من الآدمي في هذا البيت بمنفس ، فيصدق بأن يكون ليس فيه حيوان بوجه ، والموجبة المعدولة تقتضي وجود الموضوع نحو : كل آدمي في هذا البيت متنفس ، فيقتضي وجوده ، وأنه محكوم عليه بعدم التنفس ، فإما أن يكون كاذبة أو يكون الآدمي ميتا ، وكذلك ما لم يقل : (إِنْ فَرَرْتُمْ) ، لا وهم أنهم إنما لم ينفعهم الفرار لعدم وقوعه ، فلما قال : (إِنْ فَرَرْتُمْ) ، ثم أفاد أنه وجد ولم ينفعهم وجوده.

قوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

الولي : هو القريب الموالي ، فهو أخص من الناصر ؛ لأن الناصر قد يكون أجنبيا ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فلذلك عطفه عليه ، وكذلك قال ابن عطية في أوائل العنكبوت.

قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ).

٢٨٩

كما قال الزمخشري (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [سورة البقرة : ١٤٤] ، قال : (قَدْ نَرى) ربما نرى ، ومعناه كثرة الرؤية كقوله :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

والكثرة في متعلق العلم ؛ لأن علم الله متحد لا يوصف بالكثرة ، ولا بالقلة.

قوله تعالى : (الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ).

المجرور إما فاعل أو مفعول ، أي المعوقين الذين بهم بعضكم ، والمعوقين من غيركم لبعضكم فمعكم أو معوق مثل علمت المكرم فمنكم إما حال أو مفعول ، وكونه مفعولا أقرب لإقبال الخطاب صرف الذم إليهم ، ومدح المؤمنين لعدم إتباعهم ، وإذا كان فاعلا يكون فيه تهييج على الفرار منهم فقط وما سيقت الآية لهذا.

قوله تعالى : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا).

عطف تفسير كقوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [سورة التوبة : ٦١] فهو من عطف الصفات أو من عطف الموصوفات.

قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً).

يحتمل معنيين :

أحدهما : أن فيهم نجدة ، وشجاعة ، وقدرة على القتال ، لكنهم يتناحلون ويظهرون الضعف والعجز.

والثاني : أنهم عاجزون عن القتال كالنساء لما يدركهم من الهلع والخور والخوف ، وهو الظاهر أي من شأنهم أنهم لا يأتون البأس ولا يستطيعونه ولا يقدرون عليه.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا).

هذه لنفي الماضي المقبل بزمن الحال.

قوله تعالى : (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ).

ابن عرفة : يحتمل عندي أن يريد بالإحباط بتبكيتهم ، وعدم اتصالهم بغرضهم في صدهم المؤمنين ، وخذلانهم عن القتال ، وأنهم لا يسعفوهم بمطلوبهم في قولهم : هلم البناء ، خلاف ما حمله عليه المفسرون.

قوله تعالى : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ).

٢٩٠

قال ابن عرفة : الفرق بين قولك : جاء زيد فأكرمته ، وبين قولك : لما جاء زيد فأكرمته ، أن الثاني يقتضي المبادرة بالإكرام ، بخلاف الأول فإن الفاء تكون للتسبيب ، ويتأخر الإكرام عن المجيء.

قوله تعالى : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ).

قال الزمخشري : الإشارة إلى العطف أو ... (١) فالمشار إليه معنى مفهوم من السياق وجعله ابن [٦٠ / ٢٩٤] عطية حسيا ، وهو الأحزاب.

ابن عرفة : وعلى هذا يقال : كيف أشار إلى الجمع بلفظ المفرد ، فيجاب بأنه قصد تقليل الجمع وتحقيره ، كقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) [سورة الأنفال : ٤٣].

قوله تعالى : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ).

يحتمل أن يكون من تام كلام المؤمنين ، وأن يكون من كلام الله تعالى تقريرا لكلام المؤمنين ، وتحقيقا له فإن كان من كلام الله تعالى فلا شيء فيه ، وإن كان من كلام المؤمنين نفيه دليل على صحة إنكاره صلّى الله عليه وعلى آله وسلم على الخطيب القائل" ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى حيث قال له : " بئس الخطيب" (٢) ، أنت قل ومن يعص الله" المصدر سواء لاحتمال اعتقاد التسوية بينهما في المقام.

قوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً).

الإيمان عند المعتزلة يزيد وينقص ؛ لأن الفعل عندهم جزءا من الإيمان ، وعندنا فيه ثلاثة مذاهب ثالثها أنه يقبل الزيادة ، ولا يقبل النقص.

ابن عرفة : والتحقيق فيه أنه باعتبار ذاته ، وهو التصديق لا يزيد ولا ينقص باعتبار عوارضه يزيد ، فالإيمان من عرف الله بالدليل والبرهان المقابل للقول بالشكوك الواردة

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

(٢) أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ١٤٤١ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٢٨٦٨ ، وأبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ٩٢٨ ، والنسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٥٣٤٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ٥٣٨٣ ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار حديث رقم : ١٦١٢ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ١٨٩٥٤ ، وابن أبي شيبة في مصنفه حديث رقم : ٢٨٠٤٠ ، والنسائي في سننه حديث رقم : ٣٢٤٥.

٢٩١

عليه في التوحيد أزيد من الإيمان من لم يعرفه بالأدلة ، وفي قول ابن أبي يزيد في الرسالة ، يزيد بزيادة الأعمال ، وينقص بنقصها مسامحة توهم مذهب المعتزلة ، لكن قوله فيكون فيها النقص وبها الزيادة يهدي إلى تأويله.

قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

قال ابن عرفة : نص ابن مالك على أن الجملة إن كانت صحيحة الترادف لما قبلها أو صحيحة التباين له أتى بها موصولة غير مفصولة بحرف العطف ، وإن كانت في مقام المتوسط فلابد من حرف العطف ليزيل الإشكال ، قال : وظاهر كلام سيبويه ، وأكثر النحويين أن الأصل تقديم المبتدأ سواء كان نكرة لها مسوغ أو معرفة ، وظاهر كلام الزمخشري : أن الأصل تأخير إذا كان نكرة ؛ لأنه أورد سؤالا فحاول سورة الأنعام في قوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [سورة الأنعام : ٢] ، قال : لا شيء قدمه والأصل أن يقال : عنده وأجل مسمى ، فأجاب : بأن في تقديمه تعظيما لشأن الساعة.

قوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

إما أن يراد صدقوا فيما عاهدوا الله عليه ، فيكون حقيقة بمعنى الوفاء بالعهد ، وإن كان المعاهد عليه مصدوقا ، فهي مجاز كقولهم : صدقني من بكرة في رجل اشترى من رجل حمارا ، فقال : إنه بكر ، فلما رأى الإبل صوت بتصويت البكر ، فقال مشتريه صدقني من بكره ، قال الطيبي : يروى برفع النون مجاز ؛ لأنه جعل السن صادقا.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ).

فسر بوجهين : إما وفاء بعهده ، وإما مات فعلى الثاني لا سؤال ، وعلى الأول يشكل مع قوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ؛) لأن صدقهم دليل على توفيه جميعهم بعهده ، فكيف تقسمهم إلى من وفاء بعهده ومن ينتظر فالمنتظر لم يصدق.

ابن عرفة : إلا أن يقال : إنه وفى بعض وعزم الوفاء بالباء في فهو صادق بهذا الاعتبار.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ).

قالوا : اللام للصيرورة باعتبار أن فاعل الفعل المعلل غير فاعل للعلة المستفادة ، أو باعتبار الفعل المعطوف عليها وهو ويعذب المنافقين ، قال : وكان بعضهم لما ذكر سبب جزاء الصادقين ، ولم يذكر جزاء المنافقين ، فلم يقل : ويعذب المنافقين بنفاقهم ، فقال : كان يجيب بالتهيج على فعل المأمور به ، واكتفى في النهي عنه بمطلق النهي ، وظاهر كلام ابن عرفة أنه جعله من حذف التقابل.

٢٩٢

قوله تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ).

ابن عرفة : كان بعضهم يقول : الغيظ هو الغم اللاحق للنفس بوقوع مؤلم ، فإنها الأولى متعلقة بمؤلم ، والثانية بوقوع ، ولم يدخل فيها الحزن ؛ لأن المؤلم الواقع بها غير مقصود وقوعه بها ، بل هو أمر من الله تعالى كذهاب [٦٠ / ٢٩٤] مال الإنسان بأمر من الله تعالى ، وموت قريب له بخلاف ما لو ذهب ماله باغتصاب آخر له ، فإن الحادث به حزن وغيظ.

قوله تعالى : (لَمْ يَنالُوا خَيْراً).

انظر هل الخير والشر نقيضان أو بينهما واسطة ، فكان بعضهم يحتج على أنها على طرفي النقيض بقول المتكلمين : الوجود خير كله ، والقذى شر كله ، والوجود نقيضان ومنهم من قال أن بينهما واسطة.

قوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ).

قالوا في السير : إن المؤمنين قاتلوهم بالنبل والحجارة.

ابن عرفة : وهذا قتال كيف يفهم أنهم كفوا القتال ، لكن يجاب : بأن السورة تقتضي ... (١) ولا تنبيه فهي هنا للترتيب ، بمعنى أنهم كفوا قتالهم بعد أن صدهم الله تعالى يفيد أنهم خائبين.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً).

يحتمل له أن يريد ، وكان رسول الله قويا عزيزا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ) [سورة الفتح : ١٠] ، وهو الأصوب ؛ لأنه هو محل مخالفة الكفار ، بخلاف الأول.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ).

أي عاونهم ، وظاهر كلام المفسرين أن المعاونة والمظاهرة مترادفان ، وكان بعضهم يقول : أن المعاونة تقتضي المباشرة في السبب الذي وقعت فيه ، والمظاهرة لا تقتضي ذلك ، بل تصدق على من دل على الفعل ، وحضّ عليه وإن لم يفعله من المدلول عليه.

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٢٩٣

قال الزمخشري : وروي أن جبريل عليه الصلاة والسّلام أتى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ، وقال ابن عطية : جاءه جبريل عليه الصلاة والسّلام وقت الظهر.

ابن عرفة : كذا في السير لقوله : " فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة".

ابن عطية : وصلاها قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر ، فلم يخطبهم رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم.

ابن عرفة : فيه دليل على أن كل مجتهد مصيب.

قوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ).

قيل لابن عرفة : كنتم أوردتم سؤالا في قوله تعالى : في سورة النحل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [سورة النحل : ٨٨] ، قلتم : زيادة العذاب على مثله بلزوم اجتماع الأمثال في المحل الواحد وهو باطل ، وهذا السؤال بعينه يرد في هذه الآية ، فيقال : تضعيف العذاب ضعفين ملزوم لاجتماع الأمثال في المحل الواحد ، وتقدم من الجواب عن ذلك من وجهين : إما أن يزاد على جواهر أجسامهم جوهر آخر تكون محلا للعذاب الزائد الأول ، وإما باعتبار تطاول أزمنة العذاب وقصرها ، فكانوا مثلا يعذبون في ساعة واحدة ، ثم صاروا يعذبون في ساعتين ، وهذا يفهم قولهم في حد الحرابة مثلا : حد العبد ، فحد العبد في القذف أربعون ، وحد الحر ثمانون ، وكما يفهم أن صيغ هذه [.....] لكونها [...] صنعت من زمن أطول من زمن الأخرى ، وتقدم نحوه في البقرة في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [سورة البقرة : ١٠] ، وفي مريم (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [سورة مريم : ٧٦] ، وفي سورة المدثر في قوله تعالى : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [سورة المدثر : ٣١] ، وهي في سورة الفتح والقتال.

قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ).

قرأ الجمهور بكسر القاف ، ونافع وعاصم بفتحها ، فالفتح على لغة من قال : قررت بفتح القاف في المكان.

ابن عطية : وهي لغة ذكرها أبو عبيد في التقريب المصنف ، والزجاج.

ابن عرفة : قال بعضهم : وأشار الشاطبي بقوله (وَقَرْنَ) أصح أو [...] يكون له أثرا.

٢٩٤

قوله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

ابن عرفة : كان بعضهم يقول : الصواب أن تكون هذه الجملة في معنى الأولى مفسرة لها ، فيكون أمرهن بملازمة البيوت ليس ، نهيا عن مطلق الخروج ، بل عن الخروج المخالف للشرع ، وهذا خروج التبرج ، قال : فبكت عائشة على خروجها في آخر عمرها يوم الجمل في حرب معربة عن تورع منها وندم على مخالفتها الأولى في حقها رضي الله عنها وأداها اجتهادها إلى حمل الآية على هذا المعنى.

ابن عرفة : فإن قلت : مفهوم [٦١ / ٢٩٥] هذا النهي أن التبرج الذي لا يبلغ تبرج الجاهلية مباح لهن ، قلنا : ليس كذلك ، وإنما جاء هذا من اعتقاد أن حرف النهي دخل على الفعل بعد تأكيده بالمصدر ، فكان نهيا عن الأخص ، وليس كذلك بل المصدر تأكيد للذمي ، أو تعليل له ، فليس هو نهيا عن التبرج المشابه لتبرج الجاهلية ، بل نهي مطلق التبرج المعلل بكون جنسه أو نوعه من صفة فعل الجاهلية ، فتبرج الجاهلية علة للنهي لا تأكيد له.

قوله تعالى : (الْأُولى).

حكى البيضاوي في تفسيره (الْأُولى) قولين :

إما أنه للذي لم يسبقه غيره ، أو الذي هو متبوع شأن بعده.

فقول الحكم بين عيينة : إنه ما بين آدم ونوح.

وقول ابن الكلبي : ما بين نوح وإبراهيم.

وابن عباس : ما بين نوح وإدريس.

وقول غيره : ما بين موسى وعيسى يوافق التفسير الأول ، وكذلك حديث الجمعة : " من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة".

القول في أبي بكر أول خليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : " وفي عمر أنه أول خليفة بعد أبي بكر ، وفي عثمان أنه أول خليفة بعد عمر" ، ولا يقال في علي لما في الحديث ، ثم يعود ملكا يوافق التفسير الثاني ؛ لأنه ليس بعد علي خليفة.

قوله تعالى : (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

إما من عطف العام على الخاص ، أو المراد طاعته فباعدا ما تقدم.

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).

٢٩٥

إن كان المقصود ظهور تعلق الإرادة ، وهو التعلق التحيزي ، فالفعل على بابه من الاستقبال ، وإن كان المراد التعلق الصلاحي ، فهو في معنى الماضي.

قوله تعالى : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

الطهارة عبارة عن التطهير الحسي في البدن أو غيره من نجس أو غيره ، وإطلاقها على التنظف المعنوي من الآثام والذنوب مجازا.

وقال المازري أول الطهارة في شرح التلقين : بل هو حقيقة لتأكيده بالصدق في هذه الآية ، قال : وبه يحتج لأهل السنة في قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [سورة النساء : ١٦٤] ، يفيد وقوع الكلام منه حقيقة فكذا هذا والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ).

ابن عطية : هذا وعظهن بأحد وجهين :

فإما أن المراد تذكرنه وقدرن قدره وفكرن في أن من هذه حاله ينبغي أن يحسن أفعاله.

وإما أن المراد حفظنه وكررن فكره على ألسنتكن وامتثلن أمر الله.

ابن عرفة : هذا كلام المفسرين وحمله المحدثون وحفاظ الفقهاء ، على أنه أمر لهن بتبليغ ما حفظن من القرآن والسنة للناس ، ومنه أخذوا جواز الشهادة على الصوت ؛ لأنهن محجوبات عن الأعين ، لقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [سورة الأحزاب : ٥٣] لكن يجاب : بأن القرينة تنزلت منزلة الشهادة على الصوت ؛ لأنهن محجوبات عن الأعين ، لقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ) المفيدة للعلم ، وقوله تعالى : (مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) ، الآيات المعجزات من القرآن والسنة (وَالْحِكْمَةِ) آية الأحكام.

قوله تعالى : (فِي بُيُوتِكُنَ).

فائدته توكيد ومبالغة في أمرهن بتبليغه ؛ لأن تلاوته في بيوتهن مظنة لاختصاصهن بسماعه عن غيرهن من الناس ، فينبغي أن يجيب عليهن بتبليغه وجوب فرض العين ، لا وجوب فرض الكفاية.

قيل لابن عرفة : بل هو مأمور بتبليغه للجميع ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [سورة المائدة : ٦٧] ، فقال : لا بل يخرج من العهدة بتبليغه للبعض كما قال : ليبلغ الشاهد الغائب قال ، وقال في قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ

٢٩٦

فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) [سورة يوسف : ٢٣] ، إن في ذكر بيتها ترتيب ليوسف عليه الصلاة والسّلام ، وتعريف بأنه كان في حكمها مع ذلك فامتنع منها بخلاف ما لو راودته في موضع هو متمكن من الهروب.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ).

قال ابن عرفة : كان بعضهم يقدر وجه الترتيب في هذه المعطوفات ثلاثة أمور :

وهو الظاهر والأظهر ، والسبب والمسبب ، والتعدي والمصور ، فقدم الإسلام ظهوره وخفاء الإيمان ، وقدم الإيمان على القنوت ؛ لأنه أظهر من القنوت ؛ لأن القانت هو [٦١ / ٢٩٥] القائم بالطاعة الدائم عليها ، فيعرف إيمان الشخص بمجرد المخالطة ، ولا يعلم أنه قانت إلا بالمداومة على مخالطته ، ولأن القنوت مطلق الطاعة ، والإسلام شرط فيها ورتبة الشرط أن يكون متقدما على المشروط ، وقدم (وَالْقانِتِينَ) على (الصَّادِقِينَ). (وَالصَّابِرِينَ ؛) لأن الصادق هو الذي يصدق في نيته وقوله وعمله ، والصابر الذي يصبر على فعل الطاعة وعلى المعاصي ، فحصول وصف القنوت لهم مع الإسلام سبب في اتصافهم بالصدق والصبر لاجتناب المنهيات ؛ لأنه منع نفسه من شهواتها ، وكلها متعلقات الطاعة فإثباتها بعدها شبه التفسير بهذا الإجمال ، ثم قال تعالى (وَالْخاشِعِينَ) ، إشارة إلى من حصلت له هذه الأوصاف لا ينبغي له أن يثق بعمله ، بل لا يزال خائفا خاشعا ؛ لأن هؤلاء على فعلهم هذا كله مهما مالوا عليه أزداد خوفهم وخشوعهم ، وأخر المتصدقين إما لأن ما قبلها أوصاف قاصرة ، وهي وصف بطاعة متعدية للغير ، وإما حديث أول الطهارة من صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري من" إن الصدقة برهان" ، فهو كالدليل على صحة ما تقدم من الطاعات ، ورتبة الدليل أن يكون بعد المدلول ، وأخر الصيام ؛ لأنه أمر عدمي راجع لترك الأكل والاستمتاع ، وجميع ما قبله أمر وجودية ، والوجود أشرف من العدم ، وقدم الصوم على حفظ الفرج ؛ لأن الصوم غير دائم في زمنها ، وهو النهار فقط ، وحفظ الفرج ترك دائم في كل الأزمان ، فالصوم أقرب إلى الوجود ، وحفظ الفروج أبعد.

قلت : وتقدم عن ابن عرفة أنه إنما أخرهما عن المتصدقين ؛ لأن الصدقة مظنة ، ومن حصل له الغناء هو متمكن من شهوة بطنه وفرجه ، فأفاد أنهم مع ذلك يتركون شهوة بطونهم بالصوم ، وشهوة فروجهم يحفظها عن المحارم ، فجاء هذا شبه

٢٩٧

الاحتراس والتكميل وأخر (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ) ، إشارة إلى قوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : " من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة" (١).

قلت : وتقدم لنا أنه إنما أخره ؛ لأنه كالعلة الغائبة التي قال الحكماء فيها : أول الفكرة آخر العمل ، فأفاد أن فعلهم ذلك إنما كان لذكرهم الله تعالى واستحضارهم مقام الهيبة والإجلال.

قال الزمخشري : إن قلت : أي فرق بين عطف الإناث على الذكور ، وعطف الزوجين على الزوجين.

ابن عرفة : أراد أي فرق بين كل صنف من هذه المزدوجات من إناث وذكور على مجموع الصنف الآخر ، وبين عطف إناث كل صنف على ذكوره.

فأجاب : بأن عطف الإناث على الذكور عطف ذوات ، وعطف المجموع على المجموع عطف صفات ، قال : معناه أن الجامعين لهذه الصفات لهم مغفرة.

ورده ابن عرفة بقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) [سورة التوبة : ٦٠] ، فليس المراد أن لا يأخذها إلا من اجتمعت فيه هذه الأوصاف ، بل كل نوع من هذه المذكورات له فيها حظ.

وكذلك قال مالك : فيمن أوصى بثلث ماله للعلماء والفقراء والمجاهدين والصلحاء ، فإنه لا يقصر على من جمع هذه الأوصاف ، بل للعالم منه حظه ، وإن كان غنيا غير مجاهد ، وكذلك الفقير وإن لم يكن عالما ولا مجاهدا.

قيل لابن عرفة : لما رتب عليه الأجر الأخص ، وهو العظيم وجب قصره على الأخص ، وهو من جمع الأوصاف كلها ، قال : بل هو فضل الله واسع.

قال ابن عرفة : وكان بعضهم يقول (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [سورة التغابن : ١٢] ، ولم يقل : وكانت من القانتات فأدخلها في وصف الذكور وهم أشرف من الإناث ، وهنا لم يكتف بقوله : إن المسلمين والمؤمنين والقانتين عن ذكر المسلمات والمؤمنات والقانتات ، مع أن الجمع يتناولهن على جهة التغليب.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في جامعه حديث رقم : ٨٩٨

٢٩٨

قيل لابن عرفة : قد قال المفسرون : سبب نزولها [٦١ / ٢٩٦] أن نساء النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ورضى عنهن ، قلن له : قد ذكر الله في كتابه الرجال ولم يذكر النساء ، فنزلت الآية ، فقال : التصريح بذكرهن أدخل في مقام التطمين لنفوسهن.

قوله تعالى : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً).

وقال ابن عرفة : كان بعضهم يعارضه بقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود : ١١٤] ، وهذه الأوصاف كلها محصلة للثواب ، فلم يبق ما يغفر.

قال : وأجيب : بأنها سبب في المغفرة فغفر له نصا.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ).

هذا لنفي القابلية ، وهو الفرق بين قولك : ما يفعل زيد كذا ، وما كان لزيد أن يفعل كذا ، وهو خبر في معنى النهي ، وليس بنفي ولا بخبر حقيقة ؛ لأن زينب رضي الله عنها لما خطبها رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لزيد امتنعت هي وأخوها عبد الله ، فنزلت الآية ، فأذعنت وامتثلت أمره ، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة لما وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ورضى عنها ، فيلزم عليه إما الخلف في الخبر أو كون المخالف غير مؤمن ، فلذلك جعلناه نهيا ، وبدأ بالمؤمن ؛ لأنه لا يلزم من امتثال ذلك امتثال المؤمنة لما ورد أن" النساء ناقصات عقل ودين".

قال ابن عرفة : وهذه الآية مما يحسن أن يذكر مثالا للعام المتفق على عدم تخصيصه ، وهو من آية الأحكام.

وقد قال الفخر : عمومات القرآن مخصوصة إلا قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

فرده ابن التلمساني بعدم انحصاره في ذلك بل منه ، قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [سورة هود : ٦] ، وقوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ،) وقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

قال : ونقلوا عن ابن الحاجب أنه كان يقول : الأولى تمثيله بآية ينبني عليها حكم متفق عليه ، وذلك قوله تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [سورة البقرة : ٢٢١] ، قال : نقله عنه ابن عبد السّلام [.....] فقال : اختلفوا هل يصح أن يتولى المسلم عقد نكاح المشركة من المشرك أم لا؟ والآية محتملة لهذا.

٢٩٩

قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ).

قال ابن عرفة : هذا الفعل المراد به المعنى لاقترانه بإذ ، وأتى بلفظ المضارع للتصوير.

قوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ).

لا ينبغي حمله على أنه خاف فقط ، بل المراد عناية خلط خوفه من الله تعالى بخوفه من الناس ، وأمره بأن لا يخاف إلا الله فقط غير منسوب بشيء.

قال : وكان بعضهم يقول : عقاب الملك لمملوكه على عدم تصرفه في ماله اعتناء منه به ، وكذلك عتاب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم على إخفائه ما وقع في نفسه وخصه لزيد رضي الله عنه على إمساك زينب رضي الله عنها ، وامتناعه من تزويجها ، فإن الجميع ملك لله تعالى.

قوله تعالى : (زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ).

قال ابن عرفة : احتج الأصوليون على وجوب الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيما يثبت فيه خصوصية ، ولو لا ذلك لما احتيج إلى تعليله بنفي الحرج عن المؤمنين ، ومنهم من احتج به على عدم وجوب الاقتداء.

وقال : التعليل بهذا دل على صحة الاقتداء به في هذه القضية فقط ، فالخصوصية ثابتة حتى يدل الدليل على الاقتداء حسبما أشار إليه ابن الحاجب ، وعلى هذا يكون من باب تخصيص العام بحكم العام.

قوله تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ).

أي من نقص.

قيل لابن عرفة : وكذلك ما عمل غيره من الناس من حرج فيما فرض الله له ، أوجب الله له فيما نفى الحرج فيه ، وإن كان معناه فيما قدر الله له فيدخل فيه المباح ، فيكون نفي الحرج عنه لما قد يتوهم في حقه من أنه لعلو منزلته ، قد لا يفعل المباحات [٦١ / ٢٩٦] ويشدد على نفسه فيها كما يشاهد بعض أشراف الناس يتنزه عن أشياء يفعلها غيره.

قلت : وانظر قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [سورة الفرقان : ٧] قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".

٣٠٠