تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

تارة يقصد به مجرد الرحمة له والشفقة عليه ، وكذلك الزوجة في ما ممكن هنا عقلا فيصح دخول النفي الشرعي عليه.

وتارة بقصد التلذذ به وبالزوجة فهذا محال هنا عقلا ، فلا يصح نفيه إذ لا فائدة فيه.

قال ابن عرفة : وهذا الأولى أنهم ذكروه لما قلناه : لكن هو المناسب بسبب نزول الآية ، لأنهم ادعوا نسبة الولد والزوجة إلى الله تعالى بدليل قوله في الآية : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).

قال ابن عرفة : وكان بعضهم يفسر هذه الآية بمعنى آخر وهو أن الإقبال على ما لا فائدة فيه ، إن كان لقصد شغل البال به عن شيء آخر فهم يهود وإلا فهو لعب ، فأتت الآية رد على المعتزلة ، في إيجابهم مراعاة الأصلح عقلا ، فقال الله تعالى (لَوْ أَرَدْنا أَنْ) نخلق شيئا لتحصيل منفعة أو لدرء مفسدة عنكم لفعلنا ذلك في أنفسنا من أحق عنكم ... (١) عما يجب المصلحة ويدرأ المفسدة ، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها وإنما لن يحقق شيئا عبثا بل .... (٢) كل نوع من النبات والحيوانات والجماد لمنفعة ومصلحة علمها من علمها وجعلها من جعلها فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح عقلا بهذه الشرطية وأسلم به سمعا ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [سورة ص : ٢٧] ، ولذلك لاتخذناه من لدنا في أنفسنا لاستغنينا عن جلب المصالح ودرء المفاسد.

فإن قلت : ما أفاد قوله تعالى : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ، وأنت لا يجوز لك أن تقول : قم إن قمت ، ولا تقول أو أردت القيام قم إن قمت ، ؛ لأن الشرط عين الجزاء فلا فائدة في الجزاء ، قال قلت : إن لازم الشرطية الأولى منفي فلذلك دخل عليه الشرط في الثانية.

قوله تعالى : (فَيَدْمَغُهُ).

هذا تشبيه أمر مفعول للمحسوس.

قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

__________________

(١) كلمة غير واضحة بالمخطوطة.

(٢) الكلمة غير واضحة بالمخطوطة.

١٦١

غلب فيه العاقل على غيره ؛ أي إذا ملك العاقل فأحرى غيره ، فيدخل فيه السماوات والأرض ، ؛ لأن ملك المظروف يستدعي ملك الظرف.

قوله تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ).

أي لا يطلبون الاستكبار.

ابن عرفة : ومنهم من قال استفعل إذا لم يكن للطلب ، فيكون للمبالغة أي لا يبالغون في التكبر ، ولا في التحسر.

وأورده الزمخشري : كيف نفى الأبلغ دون ما تحته ، وأجاب بأنه لو فرض هناك آخر فما كان إلا بعد الطلب.

قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ).

قيل لابن عرفة : استدل بعضهم بقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة البقرة : ١٦١] ، فظاهره أن الملائكة يستقلون باللعنة ولا يسبحون ، وأجيب باحتمال ، وأجيب أيضا بأن تقول لعنهم يسبح.

وأجاب ابن عرفة ناقلا عن عز الدين ابن عبد السّلام بأنه لا مانع لاجتماع الأمرين على الخبر الواحد واحدا وهو جواب حسن.

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ).

ابن عرفة : إما بمعنى جعلوا واتخذوا الله إبراهيم خليلا أو بمعنى سيروا.

قال : دام هنا منقطعة بمعنى بل ، والإضراب بها انتقال ؛ لأن فيها وله من في السماوات والأرض ، وهذا لا يصح إبطاله.

قوله تعالى : (هُمْ يُنْشِرُونَ).

النشور الإحياء ، يقال : وأنشر الله الموتى ونشرها (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [سورة الروم : ٢٠] ، وقال تعالى (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [سورة الملك : ١٥].

وقال الزمخشري : إن قلت : ما أفاد بقوله (هُمْ) ، قلنا : أفاد الخصوصية ؛ أي اتخذوا آلهة من الأرض لا يقدرون على الإنشاء الأعم وحدهم [٥٤ / ٢٦١].

ورده ابن عرفة : بأن أم مقدرة ببل ، والهمزة فهو استفهام في معنى النفي فلا يصح جريانها على الفعل من البناء على المضمر للاختصاص ، ؛ لأنه إذ نفى اتخاذهم آلهة

١٦٢

مختصة بإحياء الموتى لا يلزم منه نفي اتخذهم آلهة مشاركة لغيرها في إحياء الموتى ، مع أنهم ادعوا المشاركة ؛ فقوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [سورة الزمر : ٣] ، فالصواب حملها على ما أجاب به الزمخشري : في سورة البقرة في قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ) [سورة البقرة : ١٦٧] ، لما رآها مصادفة لمذهبه.

قال : إن الضمير لمطلق الربط ؛ كقوله : هم يفرشون لك كل مضرة ، وهذا أفاد كمال الملازمة كما تفرق بين قوله زيد ناطق زيد كاتب.

قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

أي لو وجد فيهما آلهة غير الله ، وليس المراد به الكون في السماء والأرض لئلا يلزم عليه كون الله في السماء ، وإنما المراد الوجود كما قال الزمخشري في حديث سودة حين قال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله الطيبين وسلم : أين الله تعالى؟ فقالت : في السماء ، فقال لربها : أعتقها فإنها مؤمنة.

قال : مرادها نفي الإلهية الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات السماء مكانا الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).

ابن عرفة : يؤخذ منه جواز أن يقال : سبحان من تواضع كل شيء لعظمته ، قيل لابن عرفة : كيف يستقيم أن يقال : وهم من خوف خائفون ، ؛ لأن الإشفاق هو الخوف ، وأجاب ابن عرفة : فإن الإشفاق أخص.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما).

قيل : فتقنا السماء بالماء والأرض بالنبات ، وقيل : غير ذلك.

قال ابن عرفة : وكان بعضهم يقول : يحتمل أن يراد بقوله (كانَتا رَتْقاً) أنهما كانتا جوهرا واحدا (فَفَتَقْناهُما ؛) بخلاف الإعراض ، وهذا جار على مذهب أهل السنة في أن الجواهر كلها عندهم متساوية في الحد والحقيقة ، وإنما تختلف بالأعراض.

وأورد الفخر : أن الرؤية أن تكون بصرية ولا علمية ؛ لأن الكفار لم يعبروا ذلك ولا علموه ، وأجاب : بأنهم علموه من الرواية والإنجيل.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ).

١٦٣

قال ابن عرفة : فيها رد على الحكماء القائلين بأن الأرض في مركزها الطبيعي لما احتيج إلى إرساها بالجبال خوفا أن تميد بهم ، إذ لا تميد إلا إذا لم يكن في مركزها الطبيعي.

قوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ).

إن قلت : لم عبر بإن دون إذ مع أن موته محقق ؛ فأجاب بأن الملازمة غير محققة ، وهي ملزومية موته لخلودهم.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ).

أم مخصوص بالقديم لقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [سورة المائدة : ١١٦] ، وقوله تعالى : (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) دليل على أن الموت أمر وجودي ، وعلى أن النفوس باقية بعد الموت بإبقاء الله تعالى لأنها إذا ذاقت الموت فهي ذائقة.

قال ابن عرفة : والعدم لا يذوق موتا.

قوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ).

قال ابن عرفة : لم عبر في الأول بالفعل ، وفي الثاني بالاسم ، وهلا قالوا : أتيت بحق أم أنت من اللاعبين ، أو كان يقال : أجئتنا بالحق أم جئتنا باللعب ، أم أنت من اللاعبين ، الثاني : أنهم قصدوا تحقيق كونه من اللاعبين ، وإنه أمر ثابت عندهم ولازم الإتيان بأنه بحق أمر مشكوك فيه عندهم غير ثابت.

قوله تعالى : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا).

قال المصري : هو محتمل الإرادة للاستفهام الحقيقي بأن يكون لم يعلموا أنه الفاعل ولا إرادة التقرير ؛ لأن يكونوا قد علموا ولا يكونوا استفهام عن الفعل ولا تقديرا ؛ لأن الهمزة لا تدخل عليه ، ولإنه عليه‌السلام قد أجابهم بالفاعل بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا).

قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).

قيل : إما نافية بالفعل ، وهو علم تعلق ، ويحتمل أن جملة النفي في موضع مفعول واحد أن تحدث علم إلى واحد في موضع مفعولين إن تعدت إلى اثنين.

قال أبو حيان : ورد الأول بأنه إذا كانت تعدت إلى مفعول فخرجت عن علم الأفعال التي تعلق وصارت بمعنى صرف فلا تعلق.

١٦٤

وأجاب ابن عرفة : بأن مراده بالتعلق.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ).

يؤخذ منها تجريح من شهد فيه أنه رجل سوء.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ).

فعاقبهم بالغرق ، وقد كان الفقيه ابن إسحاق إبراهيم ابن عبد الرفيع جرح بها بعض في مرأى لما شهد فيه بذلك الفقيه عبد الله المراجلي.

قوله تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ).

قال ابن عطية : ذكر القصص في القرآن إما تسلية للنبي صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم ، وإما تخويف لقومه ، وذلك بحسب الواقع.

قال بعضهم : وكذلك لم يتكرر قضية يوسف عليه الصلاة والسّلام ؛ لأنها خارجة عن القسمين.

قال ابن عرفة : أو يقال : إن الأصل عدم التكرار ؛ فهي واردة على الأصل ولشهرتها ؛ فلذلك لم يتكرر بخلاف غيرها من القصص لأنها لم تشتهر كشهرتها والعامل في نوحا تقديره إما وذكر قصة نوح ، أو آيتنا نوحا ورده أبو حيان.

وأجاب ابن عرفة بأن هذا الإتيان خاص.

وكذلك ذكر ورده بعض الطلبة : بأن آتينا الأول أعم ، وليس فيه خصوصية عما تقدم ، فيكف تكون هنا خاصة.

فأجاب ابن عرفة : بأنه لا مانع بأن يكون تقولا بالتشكيك ، فهو شاك وأخص ونادى بالدعاء في قومه ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [سورة نوح : ٢٦].

قوله تعالى : (فَنَجَّيْناهُ).

تفسيرا لما وقعت به الإجابة.

فإن قلت : لم قال : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) ، ولم يقل : ولم (وَنَصَرْناهُ) على القوم؟ قلت : أجيب بثلاثة أوجه :

١٦٥

الأول : لابن عطية : نحن نصرناه يعني خلصناه وعصمناه ؛ لأن هذا الأمر ليس من سببه ولا له تكسب بوجه ولا قدرة على إخراقهم ؛ بل لا قدرة له على تخليص نفسه منهم.

ورده السفاقسي بأن هذا مرادف له.

قال ابن عرفة : هذا لا يليق به ؛ أي لا يضمن الفعل إلا معنى فعل غير مرادف له في المعنى.

الجواب الثاني : قال الزمخشري : نصر مطاوع النصر ، وسمعت هذليا يدعو على سارق يقول : اللهم انصره منه ، أين تقديره عدى بمن كما عدى انتصر بها.

ابن عرفة : ويراد بأنه لا يلزم من تعدي فعل بحرف تعدي فعل بحرف تعدي غيره به ، والصواب تقديره بأن فعل المطاوعة لازم للفعل الذي جعل مطاوعا له ، فانتصر لازم لنصر ، وما عرض للازم فهو عارض للزومه ، واستدلال الزمخشري بما سمعه وتركه الاستدلال بالقرآن ضعيف بجواز كون الهذلي ممن لا يوثق بعربيته ، ولفظ القرآن أوثق من شعر الآحاد ، وهو في القرآن كذلك ولو شاء الله ما انتصر منهم.

قلت : وقال ابن عرفة : كلام الزمخشري مردود بوجهين :

الأول : أن كلام الله ما انتصر منهم الهذلي إلا به فلا إشكال فيه كما في الآية.

الثاني : أنه ترك الاحتجاج بالقرآن ، وهو قوله تعالى : (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) [سورة محمد : ٤] ، قال : تقدير كلامه أنه يقول : نصر مطاوعة أن يتعدى بعلى ومن ، فكذلك يتعدى إذ كل ما لزم الأخص عم لزم الأخص.

ورده بعض الطلبة بأن نصر يتعدى بنفسه ، والنصر قاصر فبطل قولهم كل ما لزم المطاوع لزم مطاوعة.

وأجاب ابن عرفة بأن عدم التعدي أمر عادي ، وكل ما انتفى عن الأعم لا يلزم أن ينتفي عن الأخص ، إنما اللزوم بينهما في الثبوت لا في العدم.

قال : وكان بعضهم يقدر كلام الزمخشري بأن الأعم الأغلب في نصر ، إنما يرد فيمن عاقب من ناوأه من غير أن يتقدم له عليه ذنب يستحق به العقوبة ، قال تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [سورة الشورى : ٤١].

قال : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [سورة القمر : ١٠] وقد وقعت هنا نصر فدل بمعنى أنها انتصر فهذا الذي حمل الزمخشري على ذلك الجواب.

١٦٦

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ).

نصرا على أنه إذا جرح باللفظ عمل عليه مثل هو أذن ، وشارب خمر وقاطع طريق ، وإذا جرح بلفظ منهم مثل شرير ونحوه ، فلا شيء فيه إذ فعله شرير في استخلاص حقه ، وإن قال : هو رجل سوء ، فإن كان القائل عدلا فقيها لم يستفسر ولا استفسر على أن فيه خلافا.

قوله تعالى : (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ).

قال ابن مالك : أكثر ما يقع أجمعين تابعا لغيرها عن ألفاظ التوكيد.

ورده السفاقسي بهذه الآية ؛ مع أن ابن مالك لم يقل : أنها لم تقع إلا معها ؛ بل قال إنه الأكثر. [٥٤ / ٢٦٢] فيها ، ويحتمل أن يكون أجمعين هنا حالا ، فلا يكون بينهما دليلا عليه.

وقوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ).

الثانية بدل من الأولى بدل اشتمال.

ابن عرفة : قال بعضهم : إذ يحكمان في شأن الحرث إذ نفشت.

قال ابن الحاجب : المسألة التي لا قاطع فيها.

قال القاضي الباقلاني : كل مجتهد فيها مسبب ، وحكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهد.

وقيل : المسبب واحد لم اختلف ، فقيل : إن لله تعالى في كل قضية حكما دليلا عليه ، فإذا صادف المكلف كان كدفين شاب.

وقال الأستاذ أبو بكر ابن فورك ، وأبو إسحاق الإسفراييني : دليله ظني لمن ظفر به فهو المسبب.

وقال الليثي والأصم : دليله قطعي والمخطئ آثم ونقل عن الأئمة الأربعة التصويب والتخطية ، فإن كان فيها قاطع فقصر فهو مخفي أعم ، وإن لم يقصر فالمختار أنه مخطئ غير آثم.

ثم قال ابن عرفة : وعادتهم يستشكلون القول بأن لله تعالى في القضية حكما لا دليل عليه ، وهو كدفين ، قالوا : لأنه يلزم عليه أن يكون بعض أحكام الشريعة لا دليل عليه وهذا باطل ، فأجاب بعض الطلبة بأن المراد لا دليل على تصوره وتصويبه.

١٦٧

وقال بعضهم : القول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي ثبوته إلى نفيه ؛ لأنه يقول : من قال المصيب واحد ؛ لأن هذا القائل من جهلة مجتهدين فهو مصيب ، وأجيب : بأن ذلك في الأصول والعقليات والعقول بأن كل واحد مجتهد مصيب إنما هو في الفروع والأحكام الشرعية.

قال ابن عطية : ذهبت فرقة إلى أن المصيب في العقليات واحد والحق في طرف واحد فمن صادفه وأصابه وله أجران ومن لم يصادفه فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في عدم الإصابة ، وله أجر واحد وهو غير مقدور.

قلت : واستشكله ابن عرفة ؛ لأن قوله غير مقدور يقتضي أن عليه الخروج ، فكيف يقول الإثم عليه؟ وأجيب : بأن مراده بعدم عذره أن يسميه مخطئا ؛ لأنه يثبت عليه الخروج.

قال ابن عطية : ويؤخذ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وسلم : " كل مجتهد مصيب" العالم المجتهد فيخالف نصا كقول سعيد بن المسيب في المطلقة ثلاثا : أنها تحل لزوجها بمجرد عقد الثاني عليها النكاح وطلاقه إياها.

ابن عرفة : حقه أن يفرق بين أن يقصر النظر أو لا كما تقدم لابن الحاجب.

فإن قلت : ابن المسيب لم يقصر النظر ، فكيف حكم بالحيلة؟ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وسلم : " لا حتى تذوق عسيلته ، ويذوق عسيلتك : فالجواب : أن ابن المسيب قصر في طلب الحديث : فلو بحث عنه لفسر عليه ؛ لأنه قصر في النظر فيه ، لأنه نص حلي ، قال ابن عطية : وداود وسليمان عليهما‌السلام توصلا إلى ذلك إما بوحي ، أو اجتهاد منهما.

ابن عرفة : أو أحدهما بوحي والآخر باجتهاد ، ومن هو الموحى إليه منهما فجاءت القسمة رباعية ، ويدل على أنه باجتهاد.

قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ).

والفهم قال الفخر : المخلص العلم والشعور ، والفهم بمعنى واحد.

وكان بعضهم يرد عليه ويقول : الفهم يقتضي النظر والبحث ، فدل قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ، على أنه تروي في القضية ونظر واجتهد.

قوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ).

١٦٨

قال ابن عطية والزمخشري : إنما جمع الضمير ؛ لأن المراد الحاكم والمحكوم عليه لهما ، واحتج بها ابن التلمساني على أن أقل الجمع ثلاثة ، وأجاب : عن إرادة الجمع بأن يلزم عليه أن يكون موضع الضمير وفقا ونصيا في حالة واحدة وهو باطل.

وأجاب بعضهم بأن الممتنع من ذلك إنما هو الأمور اللفظية الواقعة ، وأما الأمور التقديرية فلا يمتنع أن يكون الموضع على تقدير نصبا ورفعا على تقدير ، ولم يأخذ مالك بحكم أحد منهما.

قال ابن عطية : (وَداوُدَ) معطوف على وآيتنا ورده بعض الطلبة بلزوم التكرار ؛ لأن قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) يعني معه ، وأجيب : بأنه عطفهم عليه ينفي عنهما النقص المتوهم في الحكومة في هذه القضية ، وأفاد قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) حصول ذلك لهما بالإطلاق في كل قضية.

قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ).

قال ابن عرفة : اختلفوا هل يستثنى الله من هذه الأفعال اسم أم لا؟ كقوله تعالى : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [سورة العلق : ٤] ، فمنهم من أجازه فيما ليس فيه إيهام ومنعه في الموهم ، فلذلك يقول الحكام : العلم الأولى يصفونه بالأول ؛ لأنه موهم واختلفوا هل يطلق على هذه الصنائع المختصة بشيء دون آخر كالخياطة والتجارة علم أو لا؟ وكذلك المنطق والنحو اختلفوا هل هو علم أو صناعة؟

قوله تعالى : (مِنْ بَأْسِكُمْ).

يحتمل الإضافة للفاعل والمفعول.

وكان بعضهم يقول : إن أريد التأثير أثر الضرب والطعن والإضافة للمفعول ، لأنها أخص من ذلك.

قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ).

عبر بالاستفهام دون صريح اللفظ بالشكر ؛ لأنه أبلغ المخاطب لا يهتم إلا بالموافقة خلاف الأمر الشكر ؛ لأنه قد يمتثله فيخالف ، ويحتمل أن يريد (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) داود وشاكرون الله تعالى ، فيؤخذ منه أن من شكر بالنعمة يستلزم شكر من تسبب فيها فانعم بها على أنعم عليك.

قوله تعالى : (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ).

١٦٩

مع أنك إذا قلت : فلان يحمل الصخرة ويحمل الرطل لم يكن له فائدة ، ؛ لأنه إذا حمل الثقيل فأحرى أن يحمل ما دونه ، وأجيب بأن المراد ويعملون عملا غير (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سورة سبأ : ١٣] ، ويكون المراد أنهم نوعان : نوع يغوص ، ونوع يعمل عملا آخر.

فرده ابن عرفة : بأن ذلك بعيد من لفظ دون ، قال : والجواب الآخر يحتاج إلى إضمار.

قال : وإنما عادتهم يجيبون بأنه إن جعلنا اللفظ باعتبار القوة والقدرة فهو تكرار كما قلتم ، وإن جعلناه باعتبار الامتثال والطاعة فهو تأسيس ، لأن من يطيعك في حمل الثقيل قد تأنف نفسه عن طاعتك في حمل الخفيف لكونه يستحقره ؛ كقولك : يتآزر الجيش العظيم ويجمل للسلطان فعله إذا جلس فهذا ليس بتأكيد ، وإنما هو تأسيس لهذا الاعتبار.

قوله تعالى : (لَهُمْ حافِظِينَ).

هذا احتراس ، أي حالهم مستعدين في أمورهم لئلا يأتون على غير الوجه المراد منها ، فهو إشارة إلى أن جميع الأشياء بخلق الله وقدرته.

قوله تعالى : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

ولم يقل : لحقني أو أصابني مع أن المس أخف ، وقد طال زمن ، فمر هذا إشارة إلى أن هذا بالنسبة إلى غيره كالمبدأ ، وهذا على جهة التلطف منه في الدعاء ، ولذلك لم يقل فارحمني.

قوله تعالى : (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ).

هذا العطف على جهة الترقي ؛ لأن كشف الضر أمر حاجيّ ضروري ، إذ هو من دفع المؤلم ، فآتينا الأهل والمال أمر تكميلي ، ؛ لأن من جلب الملائم فأعطاه الأمر التكميلي بعد الأمر الحاجي أقوى وأبلغ ، قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في سورة ص (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) [سورة ص : ٤٢] فذكر السبب في كشف الضر هنا ، لم يذكر له سببا ، وقال تعالى هناك (أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا)(١) [سورة فصلت : ٥٠] ، وقال هنا (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) ، وقال هناك (وَذِكْرى لِأُولِي

__________________

(١) وردت في المخطوطة : واتيناه رحمة منا ووردت في المصحف : أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا ، وقد أثبتنا ما في المصحف.

١٧٠

الْأَلْبابِ) [سورة ص : ٤٣] ، وقال هنا (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ، فأجاب بأنه أسند الفعل هناك لشيطان ، قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [سورة ص : ٤١] أشعر أن وقوعه به كان سببا ، أن يقرن رفعه بسبب وهنا لم يذكر لنزوله به سببا فلم يقرن رفعه بسبب ، وإن كانت القضية واحدة لكن هذا في الحكاية عنها ، وقال هنا (ذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ، لأنهم أعلى درجة من أولي الألباب ، ؛ لأن أولي الألباب أن تذكروا صاروا من العابدين ، وإن لم يتذكروا لم يكونوا من العابدين.

قوله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ).

قال ابن عطية : إسماعيل أبو العرب المعروفين اليوم.

قال ابن عرفة : يريد أن أبوته للعرب لم تنقطع ، لأنه أب لهؤلاء بأعيانهم.

قال : وترتب المعطوفات ليس بصواب باعتبار التقدم الزماني ، وإنما هو باعتبار علو المنزلة والقدر أو باعتبار الشهوة وعدمها.

قوله تعالى : (وَذَا الْكِفْلِ) [٥٤ / ٢٦٣].

قال الزمخشري : قيل : خمسة من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام ذو اسمين إسرائيل ويعقوب ، وإلياس وذا الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذو النون ، ومحمد وأحمد.

ابن عرفة : لا يريد أنهما اسمان علمان ؛ لأن النحويين حكوا عن الفارسي : أنه منع تسمية الشخص الواحد باسمين علمين ، وأجازه غيره ، قال : والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم اسمه الحقيقي محمد ، وأما أحمد فمشتق من الحمد ، ؛ لأنه الفعل ، فإن قلت : منعه من الصرف ووزن الفعل والعلمية ، قلت : له اسمان باعتبار ملتين ، واسمه أحمد في التوراة ، ومحمد في ملتنا.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ).

مع أن النبوة أعلى درجة من الصلاح ، ولكن صلاح كل شيء بحسبه ، فصلاح الأنبياء أكمل من صلاح غيرهم.

قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً).

قال ابن عرفة : وكان بعض القراء يقول في قول الشاطبي في سورة الفرقان : ونأكل منها النون [...] وجزمنا ويجعل [.....] صاحبه لحمل الضر ؛ إشارة إلى ما ورد في الحديث : " يكون أول طعامهم زيادة كبد الحوت" وهو حديث شائع ذائع ، وليس هو

١٧١

قصد الشاطبي ؛ لأنه معنى حسي ، وإنما قصد الشاطبي التنبيه على قراءة قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [سورة الفرقان : ٧] ، قلت : إنما يجيء هذا على قضية النون لا على رفعها.

قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى).

قال الزمخشري : وعن ابن عباس ، أن معاوية قال له : ضربتني أمواج القرآن البارحة ، ففرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك قال : وما هي يا معاوية فقرأ هذه الآية ، قال : أو يظن أن نبي الله لن نقدر عليه ، فإن هذا من القدر لا من القدرة.

قال ابن عرفة : أي من الإرادة ، أي يظن أن لن نريد عقوبته.

قال ابن عرفة : وتحمل الآية على ظاهرها ؛ لأن إمام الحرمين ذكر في الشامل خلافا هل يتعلق القدرة بنقيض الواقع أم لا ، فذهب أهل السنة المنع ، والمعتزلة أجازوه ، فنحن الآن جلوس هنا فهل يصح أن يقال : غير قادر على أن يوجدنا في هذا الزمان نفسه في موضع آخر أم لا؟ أهل السنة منعوا ذلك ، والمعتزلة أجازوا إطلاق ذلك ، والواقع في الوجود معلوم ، والمستقبل مظنون ، فإذا كنت ظانا أنك تقوم غدا ، وغلب ذلك على ظنك فتقول هذا مذهب المعتزلة أن الله غير قادر على جلوسي غدا ، فكذلك يونس عليه‌السلام ، تعلق ظنه لشيء ، فظن أن القدرة على نقيضه منفية.

قوله تعالى : (فَنادى).

ولم يقل : قال إشارة إلى رفع صوته بذلك ، أو إشارة إلى النداء تنبيه من أراد إقباله عليك.

قوله تعالى : (فِي الظُّلُماتِ).

دليل على الظلمات أمر وجودي ، وجمع الظلمات بناء على أن العرض لا يبقى زمانين ، أو لكون النداء المدة بعد المرة ، فكل نداء في الظلمات ، أو بناء على الظروف لابد أن تكون أوسع من الظرف ، وفيه دليل على أن الظروف في الظروف في الشيء مظروف في ذلك الشيء ؛ لأن يونس نادى في بطن الحوت ، والحوت في بطن حوت آخر أكبر منه والحوت الكبير في البحر.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).

١٧٢

ولم يقل : وكذلك ننجي المسبحين ، كما قال : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) [سورة الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٤] مراعاة لأول القصة في التسبيح ، وأول القصة (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) فمن حصل له هذه الكلمة نجا ، وأن لم يكن مسبحا.

قوله تعالى : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ).

قال ابن عرفة : عادتهم يقولون : ما أفاد قوله (بَيْنَهُمْ؟) فكانوا يجيبون بأن مادة التقسيم تفيد الانقسام بين الشخصين ، فلو قال : تقسموا أمرهم لأفاد أن كل واحد منهم أخذ منه قسما بخلاف قوله : تقطعوا لحمهم ، أو أمرهم بأنه يحتمل ؛ لأن يكون تقطعوه وأخذ بعضهم بعضه ، والبعض الآخر أخذه أجنبي ، أو أخذ كله بعضهم ، فلو قال : بينهم أفاد قسمة بين المتقطعين أنفسهم.

قوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ).

التنوين عوض عن ضمير مضاف أو مجرور ، فإنه قدر مضافا كان كلا ، وإن قدر مجرورا ؛ فإن كلية أي كل منه وهو أولى لإفادته تعلق علم الله بالجزئيات ، وفي الآية الوعد له طائع والوعيد للعاصي.

وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

الآية حجة لأهل السنة في أن الإيمان هو مجرد التصديق ، وأنه غير العمل الصالح ، ولو كان هو نفس العمل لكان قوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) تأكيدا وأجاب بعض الطلبة : بأنهم يقولون إن الإيمان هو الأعمال الصالحة الواجبة ، والآية تناولت مطلق الأعمال واجبها ومندوبها.

قوله تعالى : (حَتَّى فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ).

ذكر ابن عرفة : ما قال المفسرون وذا عن بعضهم إن حتى غاية.

كقوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ).

لما ورد من أن الشمس إذا طلعت من مغربها تغلق باب التوبة ولا يقع بعدها عمل صالح ، فلا يكتب الأعمال الصالحة ، وإنما يكتب السيئة مع إن يأجوج ومأجوج مقارب أو مقارن طلوع الشمس من مغربها.

وزاد أنه وقف بعض النحويين ، وهو ابن خروف : على أن الغاية إنما هي لازمة بحتى الجارة فقط ، فإن قلت : لم هنا فتحت ، وقال في الكهف : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [سورة الكهف : ٩٨] ، الفتحة أخف من الدك ، بأن

١٧٣

الفتح يصدق بأن يفتح فيه باب واحد ، والدك يقتضي فتح جميعه ، وانظر حديث حذيفة ، حيث قال أحمد في الفتن : أن بينك وبينهما بابا ، قال : يفتح أو يكسر ، قال : يكسر.

قال عمرو : ذلك أحرى أن لا يعلق أبدا ، فالجواب : أنه اعتبر في ذلك حال السد نفسه لخروجها في سياق القوة ، والشدة ؛ لقوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) [سورة الكهف : ٩٧] ، الآية وفي الآية اعتبر حال المسدود عليه.

فإن قلت : فما هو الواقع ، قلت : يفتح أولا ثم يجعل ذلك دكا ، والدك أما بهدمه كله أو بنزوله في الأرض وغيبته فيها حتى لا يظهر منه شيء على وجهها ، فلا يحتاج إلى ما أجاب به الفخر قال : كيف صح عدمه وهو من حديد وأفراغ ، وأجاب بأن الله يلينه لهم فلا يقدرون على هدمه.

قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ).

الضمير عائد على بني آدم في خروجهم من القبور لتوافق قراءة بحدث ، وهو القبر لقراءة الحرف حب ، ولا يتناقض الحديث الوارد ، بأن يأجوج ومأجوج لا يطلعون إلى أعالي الجبال حيث يكون عيسى ومن معه.

قال ابن عطية : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم : أخرج بعث النار من ذريتك ، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، ففزع الناس ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : إن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل".

قال ابن عرفة : الحديث صحيح خرجه البخاري ومسلم ، إلا أنه مشكل من كل ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون ، فيكون الرجل الواحد عشر عشر العشر فهو مخالف لقوله : إن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل.

قال ابن عرفة : وهذا الحديث مقتضي أن يأجوج ومأجوج بلغتهم الدعوة ، إما دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو دعوة من قبله من الأنبياء لقوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء : ١٥].

قوله تعالى : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا).

فإن قلت : فهلا قيل : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) ، أو يقولون قد كنا في غفلة بل كنا في ظلم؟ فالجواب : أن الغفلة سبب في الظلم وإضافة

١٧٤

الحكم إلى السبب أقوى من إضافته إلى مسببه ، فلذلك جعلهم مظلومين في الغفلة ، وإنما حاطت بهم حتى كانت سببا في ظلمهم.

قوله تعالى : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها).

قال ابن عرفة : الإشارة إليهم بلفظ القريب تحقيرا لهم ؛ كقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [سورة الأنبياء : ٣٦] ، قال بعضهم وفيها رد على [٥٥ / ٢٦٤] النحويين في قولهم : أن لو يمتنع الورود لامتناع كونهم آلهة ، والتقدير هنا لكنهم وردوها فليسوا بآلهة.

قوله تعالى : (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ).

أخص من الورود ؛ لأن الخلود ورود للزيادة.

وأورد ابن عرفة : تشكيكا ، ولم يجب عنه ، قال : هذا إما خطاب للمؤمنين أو للمشركين ، وعلى التقديرين فلا فائدة فيه ، المؤمنون مقرون بأنهم واردوها فلا حاجة إلى الاستدلال عليهم والمشركون مكذبون بورودهم النار ، فلا فائدة في هذا الدليل ، وأجيب : بوجهين :

الأول : قال ابن عرفة : الخطاب للمشركين في الدنيا ، والدليل يفيد بصحيحه إلى المعجزة الدالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في جميع ما جاء به ، ومن جملة ما أخبر به أن آلهتهم تدخل النار ، فلو كانت آلهة ما أدخلوها وهو قد علم صادقا لم يجربوا عليه كذبا يتصدقونه في ذلك.

القول الثاني : قال ابن عبد السّلام : هذا للكافرين في الدار الآخرة حين عاينوهم في النار.

قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ).

صوت المعذب وهو كنهيق الحمير ، أو شبهة ، إلا أنه من المصدر.

قال ابن عرفة : هذا غير صحيح بدليل قوله تعالى : في صفة جهنم (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)(١) فلو كان الزفير صوت المعذب لما وصفت به جهنم لأنها يعذب بها ،

__________________

(١) وردت في المخطوطة : إذا سمعوا لها شهيقا وزفيرا ووردت في المصحف : سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ، وقد أثبتنا ما في المصحف.

١٧٥

ولا تعذب هي بحال والصحيح ما قاله ابن سيده في المحكم والجوهري في الصحاح : الزفير ، إخراج الصوت من الصدر يمد فيه.

قوله تعالى : (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ).

قيل : لا يسمعون خيرا ، وقيل : لا يسمعون شيئا من أصل.

ابن عطية قيل : يجمعون في توابيت حتى لا يسمعون شيئا.

ابن عرفة : اختلفوا في أصول الدين في السماع هل هو بقوة يخرج من صوت المتكلم يقرع آذان السامع أو بغير ذلك ، وتقدم إبطال الأول بسماعنا الصوت من خلف حائط كثيف دون من يسمعه من هو دون الحائط مما يجيء هذا إلا على قول من زعم أن السماع بالهوى الذي يقرع السمع ، فلذلك جعلوا في توابيت.

قوله تعالى : (نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ).

قال ابن عرفة : اليوم يحتمل أن يراد به الديرة والقطعة من الزمان ، ويوم القيامة الذي مقداره ألف سنة ، وهو الظاهر ، والطي هو جعل السطح المستوي الأجزاء مثنيا بعضه على بعض ، والسجل إما اسم رجل وإما الكتاب ، وإما المراد به ما يفعله أهل المشرق من أنهم يكتبون ويطوون السماء ، المراد بها الجنس ، قال تعالى (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [سورة الزمر : ٦٧].

قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).

يحتمل أن يريد به آدم عليه‌السلام ، وحده أو ذريته أو كل شيء كما بدأناه نعيده ، فيكون رادا على الحكماء القائلين بعدم الإعادة ، وأنها إيجاب بعد عدم لا جمع بعد تفريق.

قوله تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).

في هذه الأمور ثلاثة أمور التهييج بالاتصاف على الاتصاف بالصلاح ، وتشريف الصالحين ، وتوبيخ من لم يعمل بعملهم.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ).

أن هذا الأمر مبلغا لدرجة القوم العابدين ، وإما قال : (عابِدِينَ) ، ولم يقل : صالحين ، إشارة إلى وصف الصلاح إنما يحصل لمن اتصف بالعبادة والزيادة على الواجب.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

١٧٦

قال أبو حيان : رحمة أما مفعول من أجله ، أو حال.

ابن عرفة : فعلى الأول تكون الرحمة من فعل الله تعالى ، وما أرسلناك إلا لنرحم بك للعالمين ، وعلى أنه حال الرحمة من صفته ، وما أرسلناك إلا لترحم المؤمنين.

قوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ).

إن قلت : عبر في الجهر بالاسم وفي العلم بالفعل ... (١) ؛ لأن الكتم فعل قلبي وخواطر القلب كثيرة التجدد والاختلاف ، والجهر أمر ظاهر ، والأمور الظاهرة أقرب إلى الثبوت والتفرد ، لأن الإنسان ما يظهر إلا ما يثبت عليه.

فإن قلت : الجهر مسموع ، هلا قيل : يسمع الجهر من القول؟ فالجواب : أنه إشارة إلى علمه به قبل وقوعه ، ولو قيل : يسمع لتناول إلا ما وقع.

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

١٧٧

سورة الحج

قال ابن عرفة : حكى الزمخشري ، وابن عطية السورة : هل هي مكية أو مدنية؟ سبعة أقوال.

قال ابن عطية : وروي عن أنس أن أول السورة نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله سلم فنادى بها الناس واستمع الناس إليه ، فقال : " أتدرون أي يوم هذا؟ فهمسوا ، فقال : يقول الله تعالى : لآدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، قال : فاغتم الناس ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : أبشروا فمنكم رجل مؤمن ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل".

قال ابن عرفة : في فهم هذا الحديث إشكال ، فإن أوله مناقض لآخره ، والصواب أن تقول : منكم رجل من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون رجلا فلابد من تأويله.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

قال ابن عرفة : تقدر لنا أن عرف القرآن فيما أشتمل على أمر اعتقادي (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ومن أشتمل على أمر فرعي أن يفتح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة البقرة : ١٠٤] ، ووقع في البقرة (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [سورة البقرة : ٢٨٢] ، وفي النساء (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [سورة النساء : ١] ، لكن الأمر المعنوي أبلغ ؛ لأنهم إذا أمروا واتقوا مع استحضار مقام الرأفة والرحمة فأحرى مع استحضار العظمة والجلال.

قوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).

فإن بعضهم يقول : هذا من الأمر المطلق المعني مثل حرص الثاني في رصد الجندب ، وكذلك زلزل.

قالوا : وهي إما مضافة للفاعل ؛ أي أن تزلزل الساعة الناس أو الأرض شيء عظيم ، أو للمفعول : أي أن تزلزل الساعة الناس في نفسها واتسع في الظرف ، كما قيل : تمر عليه بزمان ، والعظم إما في الكمية مثل رجل عظيم ، أو في الكيفية مثل الأمر العظيم ، فإن أريد بالزلزلة الحركة ، وهي معنى من المعاني فالعظم في الكيفية ، وأن أريد الذات احتمل الأمرين.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ).

١٧٨

جمع الفاعل هنا لم قال : (وَتَرَى النَّاسَ) فأفرده.

فأجاب الزمخشري : أن المرأى هناك الزلزلة وكل أحد يراها ، والمرئي وكل أحد يرى غيره ولا يرى نفسه.

قال ابن عرفة : وأجاب بعضهم : بأن الأولى ليس فيها ما يمنع من إسناد الفعل إلى الجميع ، والثانية فيها المانع ، وهو وصف السكر ؛ لأن السكران لا يرى شيئا.

قال ابن عرفة : وفي الآية انطباق ، وهو تارة يكون بين الشيء ، وهذه كقوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [سورة التوبة : ٨٢] ، كقول الشاعر :

لا تضحكي يا سلم من رجل

منحك المشيب بوجهه فبكى

ابن عرفة : وتارة يكون بين المنفي والإثبات ، كقوله :

يفضي إليّ من حيث لا أعلم النوى

ويرسل إلى الشوق من حيث لا أعلم

أنشدهما ابن مالك في المصباح ، ومنه قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة يوسف : ٢١] ، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، ومنه هذه الآية ، وذكر ابن الحاجب أن من تحقيق المجاز من جهة نفيه وهذه الآية منه ؛ لأن قوله تعالى : (وَما هُمْ بِسُكارى) دليل على شكرهم مجازا.

قال ابن عرفة : وفي الآية سؤال ، وهو أنه قال تعالى في الأولى (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ)(١) ، وفي الثانية : (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) فهلا قال : يوم تذهل كل ذات رضاع ، أو يقال : وتمنع كل حامل وكل مرضعة؟ قال : وعادتهم يجيبون بأن ذو تفيد مبادئ الشيء وأوائله ، فلو قيل : أو تضع كل حامل لا تناول الحمل اللفظ المحقق ووضعه أسرع وأقرب من وضع العلقة والمضغة ، فلما قال : (كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) أفاد وضع العلقة أو المضغة ، فهو أصعب من وضع ما فوقها ، ؛ لأن الذي فوقه من باب أحرى.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

احتراس ؛ لأن الآيتين متناقضتان فأفاد [٥٥ / ٢٦٥] أن سكرتم باعتبار ما نالهم من العذاب فوجوده لوجوده العذاب ، ونفيه باعتبار ذاته.

__________________

(١) وردت في المخطوطة : يوم تذهل كل مرضعة ووردت في المصحف : يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ، وقد أثبتنا ما في المصحف.

١٧٩

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ).

قال ابن عرفة : الحجة : هي إقامة الدليل على الدعوى.

والمعارضة : هي إتيان الخصم بدليل يدل على خلاف دعوى المدعي ، والقدح وهو إبدال دليل المدعي.

والمجادلة : تعرف بالمعارف المقلة سأل فجوابه.

قال ابن عرفة : والحسة لفظة أعجمية كان بعضهم يقول : أظنها القوة والشدة.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ).

قال ابن عرفة : فإن بعضهم يقول : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أخص من أنتم لوجهين :

أحدهما : إن كنتم في ريب يقتضي إحاطة الريب فيهم من جميع جهاتهم لأجل حلولهم فيه يقتضي اللفظة.

وفي الثاني : أن لفظة كان يقتضي كونهم فيه ، والكون ملازم للإنسان ولا بدل عنه بخلاف الريبة ، وعبر بإن ؛ لأن المراد في الريب مكانه غير واضح ، وأطلق الريب هنا على معناه اللغوي ، وهو مطلق الاحتمال ، فيتناول الظن والشك والوهم ، باعتبار المعنى ومن كان مصمما على عدم البعث فهو قائل لأن يكون شاكا فيه فيدخل في الآية ، وجواب الشرط مقدر (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) فانظروا وتأملوا فإنا خلقناكم ، والمراد أنا خلقنا أصلكم من تراب ، أو كما قال الفخر : ابن آدم يتغذى بالنبات ، والنبات من التراب.

قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ).

قال ابن عطية : العلقة هي الدم البسيط.

ورده ابن عرفة : ؛ لأن الفقهاء فرقوا بينها ، وبين الدم.

فقال ابن قاسم في الأمة : إنها إذا وضعت من سيدها الدم المجمع ، فإنه إذا جعل في الماء الساخن ينقطع ، وقوله البسيط يعني الطري.

وقوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).

أي متممة وغير متممة.

قال ابن عطية : وغير مخلقة هي التي تسقط غير متممة البنية.

١٨٠