المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠١

الفصل السادس

في

شبهات القائلين بأن المعجزات لا يمكن

أن يعلم أنها حدثت بفعل الله وبتخليقه. وبيان

أنه متى تعذر العلم بذلك امتنع الاستدلال

بها على صدق المدعي

أعلم (١) : أن المنكرين بينوا هذا الاحتمال [من وجوه :

الاحتمال الأول (٢) : قالوا : الإنسان إما أن يكون عبارة عن هذه البنية المتولدة من هذا المزاج المخصوص ، وإما أن يكون عبارة عن جوهر مجرد متعلق بهذا البدن. وليس المقصود من ذكر هذا الترديد : وقوع الشك في هذه المسألة (٣) بل بيان : أن الاعتراض قائم على جميع التقديرات.

أما إذا قلنا : الإنسان عبارة عن هذا البدن المتولد ، من هذا المزاج المخصوص. فنقول : لا شك أن الأمزجة المختلفة [والأجسام لها بحسب أمزجتها المختلفة ، أحوال مختلفة ، وصفات متباينة ، ونرى أن الأجسام النباتية والمعدنية. لها (٤)] بحسب أمزجتها المختلفة ، آثار مختلفة ، وخواص متباينة. فلم لا يجوز أن يكون الحال في الأمزجة الإنسانية أيضا كذلك؟

وعلى هذا التقدير ، فإنه لا يمتنع أن يقال : إنه اختص بدن هذا النبي بمزاج مخصوص ، ولأجل ذلك المزاج ، قدر على الإتيان بمثل هذه المعجزات.

__________________

(١) الفصل السادس في شبهات القائل (ط).

(٢) سقط (ت).

(٣) المسائل (ت).

(٤) سقط (ت).

٤١

وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، امتنع القطع على أن خالق هذه المعجزات هو الله تعالى. وإما إذا قلنا : الإنسان عبارة عن جوهر النفس الناطقة المجردة. فنقول : إنه لا يمتنع أن تكون النفوس الناطقة يخالف بعضها بعضا في الماهية. وعلى هذا التقدير كانت نفس ذلك الرسول مخالفة لحقائق سائر النفوس ، فتلك النفس لحقيقتها المخصوصة قدرت على الإتيان بهذه الخوارق ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، امتنع القطع على أن خالق هذه المعجزات هو الله تعالى. واعلم أنه لا حاجة بالسائل إلى إقامة الدلالة على أن الأمزجة مختلفة ، وأنها متى اختلفت أوجبت هذه الآثار. وكذلك فلا حاجة به إلى إقامة الدلالة على إثبات النفوس الناطقة ، وعلى إثبات أنها مختلفة ، وعلى إثبات أنها لما كانت مختلفة ، وجب اختلاف آثارها. بل يكفي في مقام السؤال [بيان أن هذا الاحتمال (١)] قائم في أول العقل ، وأنه مع قيام هذا الاحتمال ، لا يمكن القطع بأن خالق هذه المعجزات هو الله تعالى.

ثم نقول : الذي يزيده تقريرا : هو أن الناس مختلفون في الصفات والأحوال اختلافا عظيما.

فمنهم من يكون عظيم الرغبة في أحوال القوة [النطقية ، عظيم النفرة عن أحوال القوة (٢)] الشهوانية والغضبية. ومنهم من يكون بالضد منه. والراغبون في أحوال القوة النطقية ، منهم من يكون شديد الاستعداد لعلم مخصوص ، وشديد البعد عن علم آخر.

وقد أشرنا إلى اختلاف هذه الأحوال في باب مراتب النفوس البشرية بحسب التعقلات.

وأما الراغبون في أحوال القوة الشهوانية. فمنهم من تكون شهوته في المتناولات. ومنهم من تكون شهوته في جمع المال. ومنهم من تكون شهوته في الجود والكرم. ومنهم من تكون شهوته في الزهد.

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) سقط (ت).

٤٢

وأما الراغبون في المتناولات فشهواتهم مختلفة ، فكل واحد منهم يشتهي نوعا آخر من الطعام ، ويبغض النوع الآخر.

وأما الراغبون في جمع المال فهم أيضا مختلفون ، فمنهم من يحب العقارات ، ومنهم من يحب المراكب الجميلة ، والثياب الحسنة. ومنهم من يحب أثاث البيت ومنهم من يحب جمع المال ودفنه في الأرض.

وأما الراغبون في الجود والكرم ، فمنهم من يحب الإطعام ، ولا يحب بذل النقود ، ومنهم من يسهل عليه بذل النقود ، ولا يحب الإطعام.

وأما الراغبون في الزهد ، فمنهم من يكون زاهدا في أموال الناس ، فاجرا في الفروج ، ومنهم من يكون مقداما على القتل (١) والإيذاء ، ممتنعا عن الفواحش ، ومنهم من يكون عظيم الفحش باللسان ، إلا أنه يكون بعيدا عن القتل وإفساد المال.

واعلم أن تمام الكلام في تفاصيل أحوال الناس في الصفات : محال. إلا أن التنبيه على هذه الأقسام يكفي في تنبه العقل لتمام هذه الأقسام.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : اختلاف الناس في هذه الصفات لا بد وأن يكون ، إما لاختلاف جواهر النفوس أو إن كانت [النفوس متساوية في تمام الماهية إلا أن اختلاف هذه الآثار إنما كان لاختلاف (٢)] الأمزجة والآلات البدنية. وعلى كلا التقديرين (٣) فإنه لا يمتنع حدوث إنسان مخالف لسائر الناس ، إما في جوهر النفس ، وإما في الآلات البدنية ، والتركيبات المزاجية. ولأجل تلك الخصوصية ، قدر على الإتيان بما يعجز عنه غيره.

الاحتمال الثاني : إنا نشاهد الأدوية المختلفة مختلفة في التأثيرات على ما سيأتي في شرح هذا الباب ـ

__________________

(١) التعبد (ت).

(٢) سقط (ت).

(٣) وعلى هذه التقديرات (ت).

٤٣

على سبيل الاستقصاء ـ في باب «السحر المرتب على قوى الأدوية» ومن جملة هذه الخواص. حجر المغناطيس. والفلاسفة أطنبوا في هذا الباب ، وحكوا تأثيرات عجيبة غريبة. وهب أنا لا نعرف صدقهم فيما قالوه ، لكنا لا نعرف أيضا كذبهم فيما قالوا ، بل يجب علينا أن نتوقف في التصديق والتكذيب [وأن نجوز الاحتمال] (١)] في الكل. وإذا ثبت قيام هذا الاحتمال ، فلم لا يجوز أن يقال : إن مدعي الرسالة وجد دواء استعمله في نفسه أو غيره أفاده الفائدة المخصوصة؟ ومع قيام هذا الاحتمال ، فسدت دلالة المعجز على صدق لرسول.

فإن قالوا : هذا مدفوع من وجوه :

الأول : إنا لو جوزنا حصول دواء يصير مستعمله ، قادرا على قلب العصا ثعبانا ، وعلى فلق البحر ، وعلى إظلال السحاب (٢) فجوزوا وجود دواء من استعمله قدر به على تخليق السموات والأرضين. ومعلوم أن من جوز ذلك فقد خرج عن العقل.

والثاني : إن أكثر (٣) هذه الخواص المذكورة في الكتب ، لما جرّبت وجدت باطلة. وهذا يدل على أنها أكاذيب ، وليس لشيء منها حقيقة.

الثالث : إنه لو حصل هذا الدواء ، لعرفه غيره [ولو عرفه غيره (٤)] لقدر على أن يأتي بمثل ما أتى به الرسول عليه‌السلام ، ولحصلت المعارضة ، فلما لم تحصل ، علمنا أنه من عند الله.

[الرابع : إن الاطلاع على هذا الدواء ، إن كان حاصلا لغيره ، وجب أن يقدر الغير (٥)] على معارضته ، وإن لم يكن حاصلا لغيره ، كان اختصاصه

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) الجبل (ت ، ط).

(٣) أكثر الناس (ت).

(٤) سقط (ل) ، (طا).

(٥) سقط (ت).

٤٤

بمعرفة خاصية ذلك الدواء ، شيئا على خلاف العادة ، فيكون معجزة ، ويكون صاحبها صادق اللهجة.

قلنا : أما الجواب عن الأول : أن نقول : المقرون بمعجزات الأنبياء. قاطعون بأن أحدا من الأنبياء لم يقدر على الإتيان بخلق السموات والأرضين على سبيل المعجزة. فثبت : أن الاتفاق حاصل على جميع التقديرات بأن القدرة على الإتيان بالمعجزات ، لا توجب القدرة على خلق السموات والأرضين ، وإذا كان هذا الفرق واجبا ، فلم لا يجوز مثله في الدواء؟ وهو أن يقال : لا يمتنع وجود دواء يفيد القدرة [على المعجزات ، ويمتنع وجود دواء يفيد القدرة (١)] على خلق السموات والأرضين.

وتمام الكلام أنه يحصل في كل مقام طرفان متباينان ، وأوساط متشابهة. فحصول دواء يوجب قلع الأفلاك ، وانتشار الكواكب مفقود وحصول دواء يوجب زيادة في قوة النفس والبدن موجود.

وأما معجزات الأنبياء ، فلم يظهر أنها من القسم الأول ، أو من الثاني ، فحينئذ يبقى الشك قائما.

وأما الجواب عن الثاني : وهو قوله : «أكثر هذه الخواص أكاذيب» فنقول : كما لا يمكننا الجزم بصحة كل ما ذكرتموه. كذلك لا يمكننا الجزم بفساده ، بل الواجب الإقرار بقيام الاحتمال. وقد صنّف أبو بكر. أحمد بن وحشية. كتابا في التعفينات ، وذكر فيه أشياء متولدة التعفينات. ويدعي حدوث آثار عجيبة. منها. ولم يدل دليل ولا شبهة على كونها باطلة. فوجب التوقف فيها.

والجواب عن الثالث : إنه لعله اختص هو بمعرفة ذلك الدواء ، وهذا غير ممتنع في العقول ، أو لعله وإن عرفه غيره ، إلا أن ذلك الغير ، حصل له ما يمنعه من استعمال ذلك الدواء ، أو من إظهاره.

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

٤٥

والجواب عن الرابع : وهو قوله : «اختصاصه بمعرفة ذلك الدواء ، يوجب أن يكون معجزا» فنقول : هذا باطل. لأن حصول إنسان في كل عصر يختص بمعرفة أشياء لا يعرفها غيره : أمر معتاد ، وإذا كان هذا معتادا ، فقد خرج ذلك عن أن يكون معجزا.

فهذا تمام القول في هذا السؤال.

الاحتمال الثالث : أن يقال : إن أرباب الملل والنحل أطبقوا على إثبات الجن والشياطين ، واتفقوا على أنهم يقدرون على الإتيان بما يعجز عنه البشر. وأيضا : فهب أن أرباب الملل لم يتفقوا على هذا المعنى ، إلا أن تجويزه قائم في أول العقل. وإذا كان كذلك ، فبتقدير أن يصح ذلك ، لم يمتنع [أن يصح (١)] أن يكون الفاعل لهذه المعجزات واحدا من الجن ، أو الشياطين. ومع قيام هذا الاحتمال ، كيف يمكن الجزم بأن فاعل هذه المعجزات هو الله تعالى؟ والعجب : أن الناس يجوزون دخول الجني في بدن المصروع ، ويجوزون أن يتكلم [الجني على لسان المصروع (٢)] وأنه يخبر عن الغيوب على لسان المصروع. فلما جوزوا ذلك ، فلم لا يجوزون أن الذئب لما تكلم مع الرسول عليه‌السلام ، أو الجمل [لما تكلم معه (٣)] أو الذراع المسموم لما تكلم معه ، فذلك الكلام إنما حصل لأجل [أن الجني نفذ في بطن ذلك (٤)] الذئب والجمل والذراع وتكلم؟ ومع قيام هذا الاحتمال ، فكيف قطعوا بأنه معجز حصل بخلق الله تعالى؟

ولم لا يجوزون أن يقال : إن انقلاب العصا حية ، كان من هذا الباب؟ وأيضا : فلم لا يجوزون أن [يقال : إن (٥)] فصاحة الجن ومردة الشياطين كانت وافية بمثل فصاحة القرآن ، فأتوا بهذا القرآن من عند أنفسهم ، وألقوه

__________________

(١) من (ت).

(٢) يتكلم على لسان (ت).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) سقط (ت).

(٥) من (ط).

٤٦

على الرسول؟ [ومع هذا الاحتمال ، فكيف يمكن القطع بأنها من فعل الله؟ (١)].

واعلم : أن هذا السؤال : قد ذكره الله تعالى في القرآن ، فقال في سورة الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢).

ثم قال بعده : «وما تنزلت به الشياطين [وما ينبغي لهم وما يستطيعون. إنهم عن السمع لمعزولون» والتقدير : [إنه لما ادعى (٣)] أنه تنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين على قلبه. فكأن قائلا قال : ولم لا يجوز أن يقال : إنه من تنزيل الشياطين؟ فلهذا السبب قال : «وما تنزلت به الشياطين (٤)» ثم إنه أجاب عنه بقوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ : عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ ، وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٥).

وستعرف حقيقة هذا الجواب بعد ذلك.

واعلم أن كفار قريش كانوا يؤكدون هذا السؤال بوجه آخر ، فيقولون : إنه من المشهور عند جمهور العرب : أن لكل شاعر صاحبا من الجن يعينه على الشعر ـ ويهديه إلى دقائقه ، ويرشده إلى مضايقه. فقالوا لمحمد عليه‌السلام : لما كان هذا مشهورا في حق الشعراء ، فلم يجوز مثله في حقك؟ فأجاب عنه في آخر هذه الآيات بقوله : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) وستعرف حقيقة هذا الجواب في الفصول الآتية. والمقصود هاهنا : بيان أن هذا السؤال مشهور ، مذكور من أول الأمر.

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٤.

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) سقط (ت).

(٥) الشعراء ٢٢٠ ـ ٢٢٢.

(٦) الشعراء ٢٢٣.

٤٧

فإن قالوا : هذا مدفوع من وجوه :

الأول : إن الأنبياء عليهم‌السلام ، إنما جاءوا بلعن الشياطين والجن والأبالسة ، فكيف يعقل كون الأبالسة أعوانا لهم في تقرير المعجزات؟

والثاني : إنه لو فعل الجني ذلك ، لوجب على الله تعالى أن ينصر إنسانا يأتي بمعاصيه ، لئلا يحصل التلبيس. وحيث لم يفعل ، علمنا أنه ليس من فعل الجن ، بل من فعل الله تعالى.

الثالث : إن الجن لم يبلغوا في القدرة إلى هذا الحد العظيم. إذ لو قدروا عليه ، لوجب أن يصل منهم الشر العظيم إلى الأنبياء والعلماء الذين يشتغلون بلعنهم ، وسوء القول فيهم.

قلنا : أما الجواب الأول فضعيف : لأنه لا يبعد أن يقال : إنهم لشدة رغبتهم في إبقاء الشبهات والأباطيل ، يتحملون ذلك الطعن واللعن ، ومع ذلك فيعينون هؤلاء الدعاة على سبيل الكذب ، ليحصل غرضهم من ترويج هذه الشبهات. وأيضا : فلعل المراد بهذا اللعن : طائفة منهم ، والآتون بهذه المعجزات : أقوم آخرون.

وأما الجواب الثاني : فضعيف أيضا لأنه مع قيام هذا الاحتمال أعني كون هذه المعجزات أفعالا للجن. لو جزم المكلف بكونها صادرة من الله تعالى ، لكان التقصير من المكلف ، حيث جزم لا في موضع الجزم. وهذا كما قلنا : في إنزال الآيات المتشابهة ، فإنها وإن كانت عظيمة الإبهام لهذه الأباطيل ، إلا أنه لم يقبح صدورها من الله تعالى ، لقيام الاحتمال فيها ، فكذا هاهنا.

وأما الجواب الثالث فضعيف : لأن الأنبياء عليهم‌السلام أطبقوا على إثبات القوة العظيمة لهم. فإنكار هذه القوة يوجب تكذيب الأنبياء. وذلك من أعظم المطاعن في نبوتهم.

الاحتمال الرابع : قالوا : أكثر أهل الدنيا أطبقوا على إثبات الملائكة.

٤٨

والقرآن دل على أن بعد الإيمان بالله تعالى ، لا يجب الإيمان بشيء آخر ، إلا بالملائكة. فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (١) والقرآن دل أيضا : على أنهم أصحاب القدر الظاهرة ، والقوى الغالبة ، فإن جبريل عليه‌السلام قلع مدائن قوم لوط من قعور الأرض ، ورفعها إلى قريب من السماء ، ثم رماها على الأرض. وأيضا : القرآن (٢) يدل على أن القرآن إنما وصل إلى محمد عليه‌السلام من قبل جبريل ، فإنه قال : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) (٣) وقال في سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ) (٤) وقال : (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [فبين أن هذا القرآن إنما وصل إلى محمد عليه‌السلام بواسطة رسول كريم (٦)] وقال أيضا : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى)» (٧).

إذا عرفت هذا فنقول : إنا قبل العلم بعصمة الملائكة عن القبائح والأكاذيب والأضاليل ، نجوز أن تكون هذه المعجزات ، وإنما ظهرت على الأنبياء من قبلهم وبإعانتهم ، وعلى هذا التقدير فلا يبقى في هذه المعجزات فائدة البتة ، ما لم نعلم كون الملائكة معصومين من الأباطيل والأكاذيب. والعلم بعصمتهم لا يحصل من الدلائل العقلية ، بل من الدلائل النقلية. فعلى هذا يتوقف حصول العلم [بعصمتهم على العلم (٨)] بصحة الدلائل النقلية [والعلم بصحة الدلائل النقلية يتوقف على (٩)] العلم بصدق الرسل ، في ادعاء

__________________

(١) البقرة ٢٨٥.

(٢) في (ت) : تكرير.

(٣) البقرة ٩٧.

(٤) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥) التكوير ١٧ ـ ١٩.

(٦) سقط (ل) ، (طا).

(٧) النجم ٥ ـ ٦.

(٨) سقط (ت).

(٩) من (ط).

٤٩

الرسالة. والعلم بصدقهم يتوقف على عصمة الملائكة ، وذلك دور ، والدور باطل.

والذي يقرر هذا السؤال وجهان :

الأول : إن الناس اتفقوا على وجود شيء قادر قاهر مستول على هذا العالم ، وهو المسمى : «إبليس» وأنه لا يدعو إلا إلى الأباطيل والكفر ، واتفقوا أيضا على وجود شيء قادر قاهر يدعو إلى الخير والصلاح والدين. فإذا ظهر على يد الرسول هذا المعجز ، فكيف يعرف أنه من إعانة الأرواح الطاهرة المطيعة ، وليس من إعانة ذلك الروح المفسد المؤذي؟

والوجه الثاني : إنا نورد هذا السؤال على عبارات الصائبة والفلاسفة. وذلك لأن الكل اتفقوا على [إثبات الأرواح الفلكية ، واتفقوا عليها (١)] أن لكل واحد منها نوعا آخر من التأثيرات في هذا العالم (٢) والشرائع أيضا ناطقة بذلك. فإنهم أثبتوا ملكا هو ملك الجبال ، وملكا آخر ، هو ملك البحار ، وملكا ثالثا ، هو ملك الأمطار ، ورابعا هو ملك الأرزاق ، وخامسا هو ملك الموت ، وسادسا هو ملك الحرب والقتل. والهند اتفقوا على ذلك ، على ما شرحنا مذاهبهم في هذا الباب. وإذا كان الأمر كذلك ، فلم لا يجوز أن تكون هذه المعجزات من أفعال هذه الأرواح؟ بل نقول : إن هذا القول هو القول المتفق عليه بين الصائبة والفلاسفة ، وأهل الهند وأصحاب الطلسمات. وإذا كان هذا قولا متفقا عليه بين هذه الفرق فما لم تذكروا في إبطاله دليلا ، لم يحصل المقصود البتة.

الاحتمال الخامس : أن نقول : اتفقت الفلاسفة على أن للأجرام الفلكية ، والاتصالات الكوكبية تأثيرات مخصوصة في أحوال هذا العالم ، وقد اشتهر في ألسنة (٣) المنجمين : أن للكواكب الثابتة : عطايا عظيمة في السعادة

__________________

(١) سقط (ل) ، (طا).

(٢) في هذه الحالات (ت).

(٣) الألسنة (ل) ، (طا).

٥٠

والنحوسة ، والذكاء والبلادة ، واتفقوا أيضا على أن للقرانات آثارا عظيمة في هذا الباب. واتفقوا على أنه لا تختلف أحوال تلك القرانات [إلا (١) بسبب وقوع الثوابت في البيوت المناسبة لها. واتفقوا على أن لسهم السعادة تأثيرا قويا في إعطاء السعادات ، ولسهم الغيب تأثيرا قويا في إعطاء [المعارف الحقة والوقوف على المغيبات (٢)] وعلماء الأحكام من الزمان الأقدم إلى عهدنا هذا ، مصرون على صحة هذه الدعاوى ، وجازمون بأن كل من جرب أحوال الطوالع ، علم يقينا أن لهذه الأسباب آثارا قوية في هذا الباب.

إذا عرفت هذا فنقول : نحن لا ندعي صحة هذه الأصول ، ولا ندعي (٣) أنها معلومة أو مظنونة ، بل نقول : لا أقل من أن يكون احتمال أن يكون الأمر على ما قالوه قائما. وبتقدير أن تصح كل هذه الأشياء أو بعضها. فإنه لا يمتنع أن يكون اختصاص مدعي النبوة والرسالة بهذه المعجزات ، إنما كان لأجل اشتمال طالع مولده على حالة من هذه الأحوال. فلعله وقع سهم السعادة وقوعا عجيبا يقتضي حصول هذه السعادات. ولعله وقع سهم الغيب في طالعه وقوعا يقتضي قدرته على الإخبار عن الغيوب.

وأنا أقول : إني قد رأيت إنسانا لم يتفق في طالع مولده شيء من الأشياء الكاملة ، إلا أنه كانت «الشعري اليمانية» واقعة على درجة تاسعة. فلا جرم بلغ في العلوم النقلية والعقلية مبلغا عاليا ، من غير حاجة إلى تحمل تعب في المطالعة والتحصيل.

وإذا ثبت أن هذا الاحتمال قائم ، ظهر أنه لا سبيل البتة إلى القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على الأنبياء : من فعل الله تعالى.

وحكى «محمد بن زكريا الرازي» في بعض كتبه : أنه رأى رجلا يهوديا ، كان يستخرج الخبيء والضمير على أحسن الوجوه ، وبقي على تلك الحالة

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) ولا ندعي انتهاؤها إلى العلم والظن ، ولا أقل من يكون احتمال الأمر ... الخ» (ت).

٥١

[سنين. ثم زالت عنه تلك الحالة (١)] قال : فأخبرني جماعة من المنجمين : أن الجان يخبر ذلك الرجل. لأنه وقع في قسمه ، ما يوجب التكهن. فلما زالت تلك القسمة ، زالت تلك الصفة عن ذلك الرجل.

الاحتمال السادس : اتفقت الفلاسفة والصائبة على أن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة ، مطلعة على جميع أحوال هذا العالم. وفي الناس من يدعي : أن الرجل إذا واظب على قراءة رقى مخصوصة [أياما مخصوصة (٢)] على شرائط مخصوصة ، فإنه يتجلى له روح ذلك الكوكب ، ويعينه على مقاصده وأغراضه. وكتب أصحاب الطلسمات في دعوة الكواكب مملوءة من هذه الكلمات.

إذا عرفت هذا الكلام فنقول : إنه وإن لم يثبت بالدليل صحة ما ذكروه ، إلا أنه لا أقل من الاحتمال. ومع قيام هذا الاحتمال ، لا يمكن القطع بأن خالق المعجزات هو الله تعالى. بل [لا يمتنع أن (٣)] يكون فاعلها هو هذه الكواكب ، ومن نظر في كتب السحر والطلسمات ، رأى حكايات عجيبة في هذا الباب. وكتاب «تنكلوشا» كتاب مشهور ، موجود في أيدي الناس ، وفيه من هذا الباب شيء كثير ، وقول من يقول : إنه من باب الخرافات كلام ما به بأس ، إلا أنه لا يدفع السؤال. لأن السائل لا حاجة به إلى إقامة [الدليل على صحة ما ذكره في السؤال. وإنما المجيب هو المحتاج إلى إقامة (٤)] الدلالة على أن ذلك الوجه محال باطل قطعا.

واعلم أن الفرق بين هذا السؤال ، وبين ما قبله :

أما في السؤال الأول جعلنا الكواكب ، موجبة بالذات ، لهذه الآثار العجيبة ، بحسب الشرائط المختلفة ، والأشكال الفلكية المتعاقبة.

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) سقط (ل) ، (طا).

(٣) سقط (ت).

(٤) من (ل) ، (طا).

٥٢

وأما في هذا السؤال فقد جعلنا الأفلاك والكواكب ، أحياء ناطقة ، مختارة في الفعل والترك.

والاحتمال السابع : اتفقت الفلاسفة على إثبات العقول والنفوس. فقبل إقامة الدلالة على إبطال القول بها ، كان احتمال وجودها قائما. وعلى هذا التقدير ، فلم لا يجوز أن يكون فاعل هذه المعجزات هو هذه العقول والنفوس؟ والفرق بين هذا السؤال [وبين سؤال الملائكة : هو (١)] أن الملائكة عند المتكلمين شيء مغاير لهذه العقول والنفوس ، فأوردنا سؤال الملائكة على حسب ما يعتقدون [في وجود الملائكة (٢)] وأوردنا هذا السؤال هاهنا على حسب مذاهب الفلاسفة في العقول والنفوس.

الاحتمال الثامن : أن نقول : لا شك أن أجسام هذا العالم العنصري ، مشتركة في الهيولى. وتلك الهيولى قابلة لجميع الصور والأعراض على البدن. وإذا ثبت هذا فنقول : اختصاص كل واحد من هذه الأجسام بصفته المعينة [وصورته المعينة ، إما أن يكون لأجل أن ذلك الجسم كان أولى بقبول تلك الصفة والصورة من سائر (٣)] الأجسام أو لم يكن كذلك. والثاني باطل. وإلا لزم أن يكون اختصاص ذلك الجسم بتلك الصفة مع كونه مساويا لسائر الأجسام في القبول ، وفي عدم الأولوية ، يكون رجحانا ، لأحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح ، وهو محال. ولما بطل هذا القسم ، ثبت أن القسم الأول حق. فنقول : واختصاص ذلك الجسم بذلك الاستعداد الخاص ، لا بد وأن يكون لأجل استعداد آخر ؛ إلى غير النهاية ، فتلك الاستعدادات إن حصلت دفعة واحدة ، لزم حصول أسباب ومسببات لا نهاية لها ، دفعة واحدة. وهو محال ، وإن حصلت على سبيل التعاقب ، وهو أن يكون كل استعداد سابق ، علّة لحصول الاستعداد اللاحق ، فحينئذ يكون حصول هذا

__________________

(١) من (ل) وفي (ط) : هذا السؤال وما قبله (٣).

(٢) سقط (ت).

(٣) من (ط) ، (ل).

٥٣

المعجز (١) المعين الذي هو فعل خارق للعادة من لوازم الأحوال السالفة ، التي لا أول لها. وحينئذ تخرج عن كونها دالة على الصدق.

والحاصل : أنه إن كان ذلك الجسم مساويا ، لسائر الأجسام ، وكان ذلك الوقت مساويا لسائر الأوقات ، في قبول ذلك الحادث المعين ، فحينئذ قد ترجح الممكن لا لمرجح. وإذا جاز هذا ، فلم لا يجوز حدوث المعجز ، لا لغرض أصلا؟ وذلك يبطل القول بدلالة المعجز على الصدق.

وأيضا (٢) : إما أن يتوقف حدوث ذلك الحادث على كون ذلك الجسم موصوفا بذلك الاستعداد الخاص ، فحينئذ يكون حدوث هذا المعجز من لوازم الأحوال السالفة. وعلى هذا التقدير ، فإنه يخرج عن كونه دليلا على صدق المدعي.

وطريق ضبط هذه الاحتمالات أن نقول : فاعل هذه المعجزات ، إما أن يكون هو النبي أو غيره. فإن كان هو النبي ، فيحتمل أن يكون اقتداره على خلقها لأجل مزاجه المخصوص ، وأن يكون لنفسه المخصوصة. وأما إن كان غيره فذلك الغير ، إما أن يكون جوهرا جسمانيا [أو جوهرا مجردا. فإن كان جسما فهو إما أن يكون (٣)] جسما ، عنصريا وهو الدواء المخصوص ، أو جسما فلكيا وهو القرانات ، والاتصالات الحاصلة بحسب السيارات والثوابت ، أو ممزوجا من القسمين ، أو جسما مغايرا لهذين القسمين ، وهو الذي يقال : إن الملائكة أجسام نورانية علوية قادرة على الأعمال الشاقة. وأما إن كان ذلك الغير روحانيا ، فإما [أن تكون (٤)] هي الأرواح السفلية ، وهي الجن الشياطين. أو الأرواح العلوية ، وهي : العقول والنفوس. والله أعلم.

__________________

(١) هذه المعجزات (ط ، ت).

(٢) من (ط) ، (ل).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) من (ل) ، (طا).

٥٤

الفصل السابع

في

حكاية شبهات القائلين بأن على تقدير أن يثبت

أن خالق المعجزات هو الله سبحانه وتعالى

إلا أن ذلك لا يدل على أنه تعالى

انما خلقها لأجل تصديق المدعي للرسالة

فالشبهة (١) الأولى : أن يقال : الفعل إما أن يتوقف على الدواعي أو لا يتوقف. فإن توقف الفعل على الدواعي ، فصدور الفعل منا يتوقف على حصول الدواعي لنا. وحدوث تلك الدواعي يكون من الأسباب العالية ، وحينئذ تكون جميع القبائح الصادرة من العباد ، معلولة وموجبة عن فعل الله تعالى ، وفاعل السبب فاعل للمسبب ، فحينئذ يكون فاعل جميع القبائح هو الله تعالى وتقدس. وإذا ثبت هذا ، فحينئذ لا يمتنع من الله تعالى إظهار المعجز على يد الكاذب. وعلى هذا التقدير فإنه لا يبقى المعجز دليلا [على الصدق (٢)] على القسم الأول.

وأما القسم الثاني وهو أن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على انضمام الدواعي إليه. فنقول : فعلى هذا التقدير لا يمتنع أن يقال : إنه تعالى خلق هذا المعجز. لا لشيء من الدواعي والأغراض أصلا. وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، امتنع القطع بأنه تعالى ما خلق هذا المعجز ، لغرض تصديق المدعي ،

__________________

(١) عنوان الفصل في ت هكذا :

«على تقدير سبب أن خالق المعجزات هو الله سبحانه وتعالى ، إلا أن ذلك لا يدل على أن ذلك خلقه لأجل تصديق المدعي للرسالة» : الفصل السادس ... الخ».

(٢) من (ل) ، (طا).

٥٥

لأنه لما بطل أصل التعليل [المكيف بالكيفية المخصوصة (١)] [فقد بطل (٢) التعليل].

الشبهة الثانية : إنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على أنه يمتنع أن تكون أفعال الله تعالى وأحكامه ، معللة بالأغراض والمقاصد ، وعلى هذا فيمتنع أن يقال : إنه تعالى إنما خلق المعجز لأجل تصديق المدعي.

الشبهة الثالثة : هب أن أفعال الله تعالى وأحكامه قد تكون معللة بالدواعي والأغراض [إلا أنه قد تكون أيضا غير معللة بالدواعي والأغراض (٣)] والدليل عليه : أن القول بإثبات النبوة ، فرع على إثبات حدوث العالم [وهذه القاعدة لا يمكن تقريرها ، إلا إذا قلنا : إنه تعالى خصص إحداث العالم (٤)] بوقت معين ، لا لمخصص ولا لمرجح البتة. وهذا يقتضي القطع بأن الله تعالى قد يفعل الفعل ، لا لغرض ولا لداع أصلا. وإذا ثبت هذا ، فلم لا يجوز أن يكون خلق المعجزات من هذا الباب؟ وعلى هذا التقدير ، لا يدل المعجز (٥) على التصديق ، فنفتقر هاهنا إلى بيان أن تخصيص إحداث العالم بالوقت المعين ، لا يمكن أن يكون معللا بشيء من الأغراض والدواعي. والدليل عليه : أن اختصاص ذلك الوقت بذلك الغرض المعين. إما أن يكون لذاته أو لغيره. ولا جائز أن يكون لذاته. لأنه لو جاز أن يختص ذلك الوقت بذلك الغرض المعين لذاته ، فحينئذ لم يبعد أن يختص ذلك الوقت بسائر الآثار المخصوصة به وإذا جاز ذلك لم يمتنع أن يقال : المقتضي لحدوث العالم في ذلك الوقت هو نفس ذلك الوقت. وعلى هذا التقدير فإنه لا يمكن الاستدلال بحدوث العالم على وجود الصانع. وأما إن كان اختصاص ذلك الوقت بتلك الخاصية ليس لذاته ، بل لأجل أن فاعل العالم ، خصص ذلك الوقت بذلك الغرض ، وبتلك

__________________

(١) سقط (ل) ، (طا).

(٢) بطل أصل (ط).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) سقط (ت).

(٥) فلا دليل في المعجزة (ت).

٥٦

المصلحة ، عاد الكلام في تخصيص ذلك الوقت بذلك الغرض. ويلزم التسلسل ، وهو باطل. ولما بطل هذان القسمان ، ثبت : أن القول بحدوث العالم ، لا يتم لنا إلا إذا قلنا : إن الفاعل المختار يفعل الفعل لا لغرض [ولا لمرجح (١)] أصلا. وإذا ثبت هذا ، فحينئذ يمتنع القطع بأنه تعالى إنما خلق هذا المعجز ، في هذا الوقت لغرض التصديق.

الشبهة الرابعة : هب أنه لا بد لله تعالى في كل فعل من غرض معين ، ومن حكمة معينة ، فما الدليل على أنه لا غرض لله تعالى من فعل هذا المعجز إلا تصديق هذا المدعي؟ فإن في الأغراض كثرة. وأقسام حكمة الله تعالى في تدبير هذا العالم لا محيط بها أحد البشر.

ثم إنا نذكر احتمالات أخرى غير ما ذكرتم :

فالاحتمال الأول : إنه لا شك أن هذه الحوادث المعتادة منتهية إلى أول. وإلا لزم القول بحدوث حوادث لا أول لها ، وذلك يوجب قدم العالم [وقدم العالم (٢)] يقدح في إثبات الفاعل المختار ، والقدح في الفاعل المختار يمنع من القول بصحة النبوة. فثبت : أنه لا بد من الاعتراف بوجوب انتهاء هذه الحوادث المعتادة إلى أول ومبدأ. فهذا النوع من الحوادث ابتدأ في ذلك الوقت ، ثم استمر بعده على نسق معلوم. إذا ثبت هذا فنقول : لعل هذا الذي حدث الآن ابتداء عادة ستصير عادة مستمرة ، بعد ذلك. فإن قالوا : لما شاهدنا أن هذا الشيء لم يحدث بعد ذلك ، علمنا أنه ليس حدوثه لأجل أنه ابتداء عادة.

قلنا : العادات قد تكون متكررة في أزمنة متقاربة وقد تكون متكررة في أزمنة متباعدة. مثل : إن العادة جارية بحدوث الصيف في كل سنة مرة واحدة ، وبحدوث قران العلويين في كل عشرين سنة مرة واحدة. فلم يلزم من

__________________

(١) من (ط) ، (ل).

(٢) وهو (ت ، ط).

٥٧

عدم حدوث مثل هذا الحادث بعد هذه المدة ، أن لا يكون حدوثه لأجل إنه ابتداء عادة؟

الاحتمال الثاني : لعله حدث لأجل أنه تكرير عادة متباعدة. مثل : ما ضربنا من الأمثلة ، ومثل : أن الكواكب الثابتة تنتهي إلى أول برج الحمل في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة. فلعل هذا الحادث الذي حدث ، إنما حدث لأنه تكرير عادة متطاولة متباعدة.

الاحتمال الثالث : لعله إنما حدث معجزة لنبي آخر ، أو كرامة لولي (١) آخر ، في طرف آخر من أطراف العالم. فاتفق كلام هذا الكاذب ودعواه في ذلك الوقت ، فحدث هذا المعجز على وفق دعواه ، لهذا السبب.

الاحتمال الرابع : قد ثبت أنه تعالى قد يقوي الشبهة في بعض المواضع ، حتى أن المكلف إذا احترز عن تلك الشبهة القوية بالكد العظيم والعناء الشديد ، استوجب الثناء العظيم. فههنا إذا خلق الله تعالى هذا المعجز عقيب دعوى ذلك الشخص ، أوهم حدوثه عقيب دعواه إنه إنما حدث تصديقا له في دعواه. لكن العاقل لما علم أن ذلك وإن كان موهما. لكنه غير موجب [للتصديق (٢)] لاحتمال أنه تعالى إنما أحدث ذلك المعجز ، عقيب دعواه (٣) تشديدا على المكلف وتقوية للشبهة عليه. فإذا عرف هذا الاحتمال ، ولم يحمله على التصديق استحق به مزيد الثواب ، حيث احترز عن هذه الشبهة القوية. فيكون المقصود من إظهار المعجز ذلك. ألا ترى أن الله تعالى أنزل المتشابهات الكثيرة في كتابه ، ولا مقصود منها سوى ما ذكرناه. فكذا هاهنا.

الاحتمال الخامس : لعل هذا النبي كان قد علم ، إما بواسطة علم

__________________

(١) الأستاذ أبو عبد الله الحليمي من أهل السنة ، وجمهور المعتزلة ينفون الكرامات عن الأولياء : بأنه لو ظهرت الخوارق من الأولياء ، لالتبس النبي بغيره ، لأن الخارق إنما هو المعجزة. وبأنها لو ظهرت على أيديهم لكثرت بكثرتهم ، وخرجت عن كونها خارقة للعادة [تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص ١٨٥ طبعة الأزهر].

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) دعوى ذلك المدعي (ت).

٥٨

النجوم ، أو بواسطة علم الرمل (١) أو بواسطة تعبير الرؤيا أن الحادث الفلاني ، الخارق للعادة ، سيحدث في اليوم الفلاني ، والناس كانوا غافلين عنه ، ثم إنه في ذلك اليوم ادعى النبوة ، وادعى حدوث ذلك الحادث المعجز. فلما حدث على وفق دعواه ، ظن الناس أنه إنما عرفه بإلهام الله تعالى وإخباره.

الاحتمال السادس : لعلّه تعالى إنما خلق ذلك المعجز في ذلك الوقت [لأنه تعالى إن خلق ذلك المعجز ، في ذلك الوقت (٢)] كان ذلك لطفا في حق بعض المكلفين ، في الدعاء إلى فعل بعض الواجبات العقلية ، وترك بعض المقبحات العقلية.

الاحتمال السابع : أن نقول : إن السائل لا يجب عليه تعديد الاحتمالات وتفصيلها ، بل يكفيه أن يقول : لم قلتم : إنه لا حكمة لله تعالى في خلق هذا المعجز ، عقيب دعوى هذا المدعي إلا تصديقه؟ وعلى المستدل إقامة الدلالة على نفي سائر الاحتمالات (٣) فإذا لم يقدر عليه بطل دليله. فههنا يجب على المستدل : إقامة الدلالة على نفي سائر الاحتمالات.

فإن قالوا : هب أنه لا يتعين هذا الفرض ، لأنه ظاهر الاحتمال ، فلو خلق الله تعالى ذلك المعجز. لغرض آخر ، مع أنه يوهم التصديق إيهاما قويا ، لكان ذلك إلقاء للشبهة [في العقول. وإنه قبيح.

قلنا : لا نسلم أن إلقاء الشبهة (٤)] المحتملة قبيح. والذي يدل عليه وجوه :

الأول : إنه تعالى أنزل المتشابهات الكثيرة ، ولا شك أنها توهم الأباطيل. إلا أنها لما كانت محتملة ، لم تقبح. فكذا هاهنا.

الثاني : إنه تعالى أبقى «إبليس» وجنوده ، وهم يسعون في الوساوس ،

__________________

(١) الرمل (ت ، ط).

(٢) من (ط).

(٣) الأقسام (ت ، ط).

(٤) من (ل) ، (طا).

٥٩

وإلقاء الأباطيل في الخواطر. وأمات الأنبياء والصلحاء ، وهم يسعون في تقرير الدلائل. ولا شك أن ذلك يوهم السعي في الإضلال.

الثالث : إن الشبهات الكثيرة : موجودة في العالم. فإنا رأينا حدوث الحوادث ، عقيب أحوال الكواكب ، وعقيب امتزاجات الطبائع ، ودوران الشيء مع الشيء يوهم العلية. بدليل : أن الأطباء إنما عرفوا طبائع الأدوية بهذا الطريق. فثبت : أن هذه الأحوال توهم أن تدبير العالم متعلق بأحوال هذه الكواكب. ثم إنه تعالى خلق هذا الشيء مع كونه سببا للشبهة.

الرابع : إنا نشاهد العالم مملوءا من الآلام والأسقام ، والآفات والمخافات. ثم إن المبتلي بهذه الأحوال قد يبالغ في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى ، فلا يجاب ولا يلتفت إليه. وذلك يوهم الشبهات.

الخامس : إنه قد يتفق في بعض الأوقات أن يكون الرجل المواظب على الطاعات والعبادات ، يقع في أنواع من البلاء والعناء [والرجل (١)] المواظب على الفسق والكفر قد يحصل له في الدنيا أنواعا من الراحات والطيبات. وذلك يوجب الشبهة.

فيثبت بما ذكرنا : أن مع القول بوجوب حكمة الله تعالى ، ومع القول بجريان تحسين العقل وتقبيحه في أحكام الله تعالى ، لا يجب على الله تعالى الاحتراز عما يوهم الباطل [وبالله التوفيق (٢)].

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

٦٠