المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠١

الفصل الثالث

في

تقرير شبهات من ينكر

التكليف لا بالبناء على مسألة الجبر

أعلم أن هذه الطائفة ذكروا الشبهات من وجوه :

الشبهة الأولى : (١) : قالوا : إما أن يكون حكم العقل في التحسين والتقبيح معتبرا ، وإما أن لا يكون [وعلى التقديرين ، فالقول بالتكليف والنبوة باطل (٢)] [أما بيان أن على تقدير إثبات تحسين العقل وتقبيحه ، كان القول بالتكليف باطلا (٣)] [فمن وجوه :

الحجة الأولى : قالوا : هذه التكاليف ، إما أن تكون مشتملة على فائدة ومصلحة ، وإما أن لا تكون (٤)] والقسمان باطلان ، فبطل القول بالتكليف. وإنما قلنا : إنه لا يجوز القول بكونها مشتملة على الفائدة والمصلحة ، فهو أن تلك الفائدة. إما أن تكون عائدة إلى المعبود. أو إلى العابد ، أو إلى ثالث يغايرهما. ولا يجوز أن تكون عائدة إلى المعبود ، لوجوه :

الأول : إنه ثبت بالدليل : كونه متعاليا عن النفع والضر.

__________________

(١) الحجة (ت ، ط).

(٢) سقط (ت).

(٣) سقط (ط ، ت).

(٤) سقط (ت).

٢١

والثاني : إن المحتاج لا يكون كامل القدرة ، ومن كان كذلك لم يحصل الوثوق بوعده ووعيده.

والثالث : إن البشر في غاية الضعف. وهذه العبادات أفعال قليلة وحركات ضعيفة ، فلو كان الإله قد بلغ في الضعف إلى حيث ينتفع بهذه الحركات الخسيسة ، فهو في الضعف والعجز في الغاية. وذلك محال.

وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يقال : إن تلك الفوائد عائدة إلى العابد لوجهين :

الأول : إن جميع الفوائد محصورة في جلب المنافع ، ودفع المضار ، والله تعالى قادر على تحصيلها بأسرها من غير واسطة هذه التكاليف. ولا تتفاوت حال القدرة على تحصيل هذه المطالب ، بسبب أن يأتي الإنسان بحركات معدودة. فإن كانت قدرته وحكمته تتفاوت بسبب هذه الأفعال الخسيسة الصادرة عن الإنسان ، فهو في غاية الضعف. وإذا كان كذلك ، كان توقيف إيصال تلك المنافع [ودفع تلك المضار ـ على هذه التكاليف ـ عبثا محضا.

والثاني : إن تلك المنافع (١)] [الحاصلة من هذه الأفعال (٢)] إما أن تحصل في الدنيا أو في الآخرة. والأول باطل. لأنها في الدنيا محض التعب والكلفة والمشقة. وأما في الآخرة فبعيد أيضا. لأنه قادر (٣) على أن يدخلهم الجنة ويخلصهم من النيران من غير هذه الوسائط.

قالت المعتزلة : «الوجه في حسن التكليف : أن التفضل بالتعظيم قبيح. فلما أراد الله تعالى تعريض العبد [لاستحقاق التعظيم ، لا جرم كلفه ليحصل له (٤)] استحقاق التعظيم ، عند إتيانه بما كلف به».

واعلم أن هذا ضعيف من وجوه :

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ط).

(٣) قادر في حسن التكليف على أن يدخلهم (ت) ، (ط).

(٤) سقط (ت).

٢٢

الأول : إن التعظيم عبارة عن فعل ، أو قول ، أو ترك فعل ، أو ترك قول ، يقتضي حصول سرور في القلب ، أو لذة في البدن. وقد بينا : أنه لا سرور ، ولا لذة ، إلا والله تعالى قادر على إيصاله الى العبد من غير هذه الوسائط.

الثاني : إن استحقاق التعظيم قد يحصل بالأفعال السهلة [فإن التكلم بكلمة الشهادة (١)] بعد سبق المعرفة : عمل سهل. وهو يوجب الثواب العظيم. فلو كان المقصود من التكليف حصول هذا الاستحقاق ، لكان من الواجب [في الحكمة (٢)] أن نبالغ في تقوية أبداننا حتى يسهل العمل علينا ، فنصير مستحقين للثواب بسببه ، من غير حصول الكلفة والمشقة.

الثالث : إن الحاصل بسبب هذا التكليف عند الطاعة [حصول هذه الزيادة ، وهو هذا الاستحقاق العظيم. وعند المعصية (٣)] حصول العقاب الشديد الدائم. والعقول السليمة قاضية بأن الفعل الذي تكون المنفعة الحاصلة منه نفعا زائدا [فإنه تجب الحاجة (٤)] إليه [والفعل الذي (٥)] تكون المضرة الحاصلة منه أعظم أنواع الضرر ، فإنه يجب تركه والاحتراز منه بأعظم الوجوه. والله أعلم.

وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن تكون تلك الفوائد عائدة إلى ثالث غير العابد وغير المعبود وذلك لوجهين :

الأول : إنه لا منفعة تحصل لذلك الثالث ، إلا والله تعالى قادر على تحصيلها بغير واسطة هذه التكاليف ، فيكون توسط هذه التكاليف : عبثا.

الثاني : إن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه تعالى الحق الضرر والبلاء بأحد العبدين ، لأجل إيصال النفع إلى العبد الثاني. وهذا محض الظلم.

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) سقط (ت).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) لا حاجة إليه (ت ، ط).

(٥) زيادة.

٢٣

وأيضا : فليس إيصال الضرر إلى أحدهما ، لأجل حصول النفع للثاني ، أولى من العكس. فثبت بهذا البيان : أنه لا يجوز أن يقال : التكليف إنما هو حسن لوجه حكمة ومصلحة.

وأما القسم الثاني : وهو أنه حسن ذلك من الله تعالى من غير فائدة ولا حكمة. فهذا أيضا باطل لأنا في هذا القسم إنما نتكلم على تقدير أن يكون القول بتحسين العقل وتقبيحه معتبرا. ومعلوم أن على هذا التقدير فإلحاق المضار والآلام والمتاعب بالغير من غير حكمة وفائدة قبيح في العقل. فكان هذا القسم باطلا. فيثبت أن على تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه معتبرا. لو حصل التكليف. لحصل ، إما لفائدة أو لا لفائدة ، وثبت فساد القسمين ، فوجب أن يكون القول بالتكليف باطلا ، على تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه معتبرا.

الحجة الثانية في بيان أنه مع القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وجب أن يكون التكليف قبيحا : هو أن نقول : إما أن يقال : إن لله تعالى في هذه التكاليف فائدة ومنفعة [وإما أن يقال : إنه منزه عن جميع المنافع والفوائد العائدة إليه. وإنما كلفه بهذه (١)] الأفعال لأجل الفوائد العائدة إلى ذلك العبد ، أو لأجل الفوائد العائدة إلى ذلك الثالث. أو لا لشيء من الفوائد. والأقسام الأربعة باطلة.

أما القسم الأول : وهو أن يكون المقصود من هذه التكاليف : عود الفوائد إلى الله تعالى ، فهو باطل على ما بيناه في الوجه الأول.

وأما القسم الثاني : وهو أن يكون المقتضى لحسن هذه التكاليف عود المنافع والمصالح إلى العباد ، فهذا باطل ، لأن معنى إيجابها : ترتب العقاب على تركها ، فيصير المعنى كأن الله تعالى يقول للعبد : أيها العبد حصل لنفسك المصلحة الفلانية ، وإن لم تحصلها لنفسك ، فأنا أعذيك أبد الآباد. فيقول العبد : يا إله العالمين : هذا الحكم متناقض. لأنه إذا كان [لا مقصود لك من

__________________

(١) سقط (ت).

٢٤

هذا التكليف إلا حصول منافع مخصوصة إليّ ، كان (١)] كل المقصود رعاية أحوالي [فتعذيبي على تركها يناقض رعاية أحوالي (٢)] فكان الجمع بينهما متناقضا. ومثاله : أن يقول السيد لعبده : اجتهد في هذا اليوم في كسب درهم لنفسك ، فقصّر العبد في ذلك ، فأخذه السيد ، وقرض أعضاءه بمقاريض من النار. فيقول العبد : أيها السيد : هل كنت في ذلك الدرهم لنفسك؟ أو كنت فارغا عن جميع المطامع العائدة إليك ، وإنما أمرتني بكسب ذلك الدرهم لمصالح نفسي فقط؟ فإن كان الأول ، كان هذا التعذيب حسنا ، لأني سعيت في تفويت مطلوبك. وأما إن كان الحق هو الثاني ، كان هذا الفعل باطلا. لأن العبد يقول : إنما أمرتني بكسب ذلك الدرهم لنفسي ، ولتكون منافعه عائدة إليّ ، لا إليك. فلما [قصرت في تحصيله ، فأنا ما قصرت إلا في تحصيل المنفعة لنفسي. وتعذيب الإنسان لأجل أنه (٣)] قصر في تحصيل مصالح نفسه ، قبيح في العقول. لأن رعاية مصالحه ، إن لم تكن واجبة الرعاية ، كان تكليفه لتحصيل ذلك الدرهم لنفسه : غير واجب. وإن كانت واجبة الرعاية ، فأهم المهمات له : إزالة العقاب. فكان إيصال العقاب إليه ، لأجل أنه قصر في حق نفسه : فعلا متناقضا.

وبهذا يظهر الفرق بين الشاهد والغائب [فإن السيد إذا أمر عبده بعمل ، فقصر فيه ، فإنه يستحق الملامة والتعذيب. وذلك لأن السيد إذا أمره بذلك العمل ، ليستفيد منه نوعا من أنواع المنافع ، فلما قصر العبد فيه. فقد فات على السيد تلك المنافع ، فحسن منه تعذيب ذلك العبد. أما هذا في حق الله محال. فكان تعذيب العبد على ترك التكاليف والأعمال : قبيحا. فظهر الفرق بين الشاهد وبين الغائب (٤)].

وأما القسم الثالث والرابع : فهما باطلان بالوجوه المذكورة في الحجة الأولى.

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) من (ل) ، (طا).

٢٥

الحجة الثالثة : لو حسن التكليف ، لحسن إما لأجل النعم السالفة أو لأجل النعم اللاحقة ، وهو الثواب الذي يحصل بعد ذلك ، أو لا لواحد من هذين القسمين. والكل باطل.

أما بطلان القسم الأول : فالدليل عليه من وجوه :

الأول : وهو أن كل من أوصل نعمة قليلة إلى إنسان ضعيف ، ثم إنه يكلف ذلك الضعيف بالأفعال الشاقة ، فإن كل أحد يذمه ، ويقول : إنه أعطاه شيئا قليلا ثم إنه يعذبه عليه ، ويكلفه بتلك التكاليف الشاقة.

ونحن في هذا القسم إنما نتكلم على تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه : معتبرا ، بل نقول : هاهنا حصل في هذه الصورة شيء يوجب الزيادة في القبح ، وذلك لأن إله العالم غني عن جميع العالمين ، فتكليف العبد بهذه الأفعال الشاقة ، مع أنه لا فائدة له في شيء منها [والعبد مضار (١)] يكون في غاية القبح.

الثاني : إن كل نعمة أوصلها إلى العبد [فقد خلق في العبد (٢)] قبل تلك النعمة الاحتياج إليها ، والشهوة لها. وذلك ضرر. فإذا أعطى ذلك الشيء فحينئذ يتقابل الضرر السالف ، بالنعمة الحاصلة. وذلك لا يوجب النعمة. هذا إذا أعطى كل ما أحوج إليها ، وقد حصل عنده من الحاجة بحر ، وقطرة من المحتاج إليه. ومثل هذه المعاملة لا توجب الشكر.

الثالث : إن من أنعم على ضعيف بنعمة ، ثم يتركه مع نفسه ، ولا يكلفه عملا شاقا [في مقابلة تلك النعمة السالفة (٣)] كان ذلك أدخل في المدح والثناء ، والجود والكرم ، مما إذا أتبع ذلك الإنعام بالتكاليف الشاقة. وأكرم الأكرمين هو الله رب العالمين. فكيف يليق بجوده وكرمه ، أن يعامل العبد

__________________

(١) زيادة القبح (ل) ، (طا).

(٢) والعبد مضار : سقط (ت) والعبد أعظم المضار (ل) ، (طا).

(٣) سقط (ت).

٢٦

بالطريق الأدون الأنقص؟

وأما القسم الثاني : هو أن يقال : إنه إنما كلفه لأجل المنافع المستقبلة. فنقول : هذا أيضا ممتنع. وبيانه من وجهين (١) :

الأول : وهو : أنه لما علم من أحوال الكفار والفساق أنهم لا يتوصلون بهذا التكليف إلا لاستحقاق العذاب الشديد ، والآلام العظيمة. كان القول بأنه إنما كلفهم للفوز بالمنافع : كلام متناقض.

الثاني : وهو أنه لو أراد بهم ذلك ، لوجب أن يفرغهم من متاعب الدنيا وآلامها ، وأن يظهر لهم الدلائل الواضحة ، في أن الحق هو ذلك. ولما لم يفعل بهم ذلك ، بل أحوجهم إلى الأشياء الكثيرة ، وعلم أن تلك الحاجات تحملهم على المعاصي ، ثم سلط عليهم الشهوات والشبهات ، وسلط عليهم شياطين الإنس والجن. ومن فعل بالعبد الضعيف الذي يقل عقله ، وتضعف قدرته هذه المعاملة ، ثم يزعم : أنه أراد به الخير ، والفوز بالرحمة ، كانت العقول تنادي عليه : بأنه ما قصد إلا الإساءة إليه والإيذاء. والكلام في هذه المباحث مفرع على تحسين العقل وتقبيحه ، فثبت : أن هذين (٢) الوجهين ينافيان القول بجواز التكليف.

الحجة الرابعة : إنه تعالى كان قادرا على أن يخلق الكل في الجنة ، وأن يوصلهم إلى الخيرات والدرجات ، وأن يحميهم عن منازل الآفات والمخافات. فلو أراد بهم خيرا لخلقهم على هذه الصفة ولما لم يفعل ذلك ، بل سلط عليهم الشهوات والشبهات ، وملأ العالم من الشياطين. علمنا أنه ما أراد بهم خيرا. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : إنه كلفهم لأجل التعريض للمصالح.

أما القول الأول : وهو أنه كلفهم لا لغرض ومصحلة ، فهذا عبث ، والعبث قبيح في العقل ، ونحن إنما نتكلم الآن على تسليم أن يكون تحسين العقل وتقبيحه معتبرا. فيثبت بهذه البيانات : أن على تقدير أن يكون تحسين

__________________

(١) من وجوه : الأصل.

(٢) هذه الوجوه تنافي القبول (ت).

٢٧

العقل وتقبيحه معتبرا في أفعال الله تعالى وفي أحكامه ، وجب الجزم بفساد التكليف ، وبفساد بعثة الأنبياء والرسل.

وأما القول (١) الثاني : وهو أن يكون الحق هو أن تحسين العقل وتقبيحه باطل ، وغير معتبر في أفعال الله تعالى وفي أحكامه. فنقول : فعلى هذا التقدير ، كان القول بفساد التكليف والبعثة : أظهر. لأن على هذا التقدير ، لا يمتنع إظهار المعجز ، على يد الكاذب ، ولا يمتنع إرسال الرسل [بالفحش والكذب وشتم الله وشتم الملائكة ، ولا يمتنع إرسال الرسل (٢)] إلى الجمادات ، ولا يحصل الوثوق بوعد الله تعالى ، ولا بوعيده. وكل ذلك يوجب القول بفساد التكليف [والبعثة. فثبت : أنه لو صح القول بالتكليف (٣)] وبعثة الأنبياء والرسل ، لصح أما على تقدير أن يكون [تحسين العقل وتقبيحه معتبرا ، وإما على تقدير أن لا يكون (٤)] ذلك معتبرا ، وثبت أنه باطل على التقديرين [فكان ذلك أيضا باطل (٥)].

__________________

(١) القسم : الأصل.

(٢) من (ل) ، (ط).

(٣) من (ل) ، (ط).

(٤) من (ل) ، (ط).

(٥) من (ل) ، (ط).

٢٨

الفصل الرابع

في

تقرير شبهات المنكرين للنبوات بالبناء

على أن العقل كاف في معرفة التكليف

وذلك يوجب سقوط القول بالبعثة والرسالة

تقرير (١) كلام هذه الطائفة : أن يقال : القول بصحة البعثة. إما أن يحصل مع القول بتحسين العقل وتقبيحه ، أو مع إبطال هذا الأصل.

والقسمان باطلان. فكان القول بالبعثة : باطلا أما بيان فساد القسم الأول. فيدل عليه وجوه :

الأول : إن الأفعال على ثلاثة أقسام : قسم قضى العقل فيه بالحسن فكان فعله صوابا ، وحكم العقل بكونه واجب القبول. وقسم ثان قضى العقل فيه بالقبح والمنع. فكان حكمه أيضا واجب القبول (٢) وقسم ثالث توقف العقل فيه. فلم يحكم فيه لا بحسن ولا بقبح. فنقول : هذا القسم على قسمين ، لأنه إما أن يكون تركه ممكنا أو ممتنعا. فإن كان تركه ممكنا على سبيل السهولة واليسر ، كان تركه واجبا. لأن الانفكاك عنه ممكن ، ولم يعلم أنه حسن أو قبيح ، فكان الإقدام عليه إقداما على فعل ، لا حاجة إليه. مع أن احتمال الضرر قائم فيه ، والعقل يقضي في مثل هذه الصورة بوجوب الترك والاحتراز ، لأن الخوف لازم له ، فالإقدام عليه التزام لضرر الخوف من غير حاجة [ولا

__________________

(١) من عنوان الفصل في (ل) : أن العقل كاف في معرفة بطلان التكليف ... الخ.

(٢) الرد (ت).

٢٩

ضرورة ، والتزام الضرر من غير الحاجة (١)] قبيح عند العقل ، فكان حكم العقل حاصلا في هذا القسم بوجوب الترك.

وأما القسم الثاني وهو أن لا يكون تركه ممكنا ، فههنا حكم العقل حاصل فيه بالجواز. لأن العقل علم أن إله العالم حكيم رحيم وأنه لا يكلف عباده فوق قدرتهم وطاقتهم ، فإذا كان ذلك الفعل مما لا يقدر العبد على الانفكاك عنه ، فلو أمره الله تعالى بالانفكاك عنه ، لكان قد كلفه ما لا طاقة له به وذلك قبيح عند العقل. ونحن إنما نتكلم الآن على تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه معتبرا. فيثبت : أن حكم العقل حاصل في هذا القسم أيضا. فقد ظهر بهذا البحث : أن حكم العقل حاصل في جميع أقسام الأفعال. وإذا كان العقل كافيا في معرفة الله تعالى وما يجب وما يجوز ، ويحرم. لم يكن في البعثة فائدة. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال تحسن بعثة الأنبياء والرسل؟ لوجوه :

الأول : تأكيد ما في العقول.

الثاني : إنه قد يحصل في بعض الأشياء منافع ومصالح ، لا يمكن الوقوف عليها ، بمجرد العقول ، فتحسن بعثة الأنبياء والرسل ، ليدلوا عليها ، ويعرفوا الخلق ما فيها من المنافع والمصالح.

الثالث : إن عقول الخلق ناقصة قاصرة عن معرفة الله تعالى ومعرفة كيفية طاعاته. فكانت الحكمة في بعثة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام : إرشادا للخلق ، إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته ، ومعرفة كيفية طاعاته.

الرابع : إنما أمر الله تعالى بهذه العبادات الشرعية ، لتكون [ألطافا (٢)] في الواجبات العقلية. وهذا قول المعتزلة.

قلنا :

أما الأول : فضعيف. لأنه لما كان العقل مستقلا بمعرفة وجوه الحسن

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) سقط (ل) ، (طا).

٣٠

والقبح ، والمصلحة والمفسدة ، كان أصل المقصود حاصلا ، وأما مراتب التأكيد فغير مضبوطة. فإنه لو حصل مع ذلك النبي جمع من الملائكة ، كان التأكيد أكثر ، ولو حصل معه جمع من العساكر المعصومين ، لكان التأكيد أبلغ. ولكن لما حصل المقصود الأصلي ، لم يكن إلى هذه الزوائد حاجة. فكذا هاهنا. ولأن المقصود من التأكيد : السعي في دفع المفسدة ، بأقصى الوجوه ، والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ يقولون : إن من أعرض عن متابعتنا فإنه يستحق أعظم العقاب. وعلى هذا التقدير تصير البعثة سببا لأعظم أنواع المفاسد. وهو استحقاق العذاب الدائم ، على تقدير مخالفتهم ، وترك متابعتهم. وهذا متناقض.

وأما الوجه الثاني : وهو قوله : «المقصود من البعثة : التنبيه على ما في الأشياء من المنافع» فنقول : تمك المنافع إن كانت ضرورية التحصيل ، كانت معلومة للكل. لأن على هذا التقدير لا تحصل الحياة إلا بها. وإن كانت غير ضرورية التحصيل. فحينئذ لا يلزم من فواتها حصول ضرر أصلا ، فوجب الاحتراز عنها. على ما بيناه في تقرير الدليل. وأما قوله : «هذه العبادات ألطاف في فعل الواجبات العقلية» فنقول : هذا باطل لوجهين :

الأول : إن معنى كون فعل الأول لطفا في فعل الثاني : هو أن فعل الأول يدعو الفاعل إلى فعل الثاني. وهذا المعنى بتقدير حصوله ، يكون حالة وجدانية من النفس بالضرورة. ونحن البتة لا نجد من أنفسنا : الإتيان بالصلاة والصوم يدعونا إلى رد الوديعة ويحملنا على ترك الظلم.

فثبت : أن هذه الحالة لو كانت موجودة ، لكان العلم بحصولها : علما ضروريا. وثبت: أن هذا العلم الضروري مفقود ، فوجب أن لا يكون هذا المعنى حاصلا.

والثاني : إنه لو كان وجوب هذه العبادات الشرعية ، لأجل أن تصير ألطافا في الواجبات العقلية ، لكان المكلف إذا رد الوديعة ، وترك الظلم ؛ وجب أن لا يجب عليه شيء من هذه العبادات. لأن بعد حصول المطلوب

٣١

فيه ، كان إيجاب اللطف عبثا. وذلك عند كم باطل.

الحجة الثانية في بيان أن العقل كاف في معرفة المهمات : هو أن نقول : المطلوب إما معرفة الأشياء الغائبة عن الحواس ، أو معرفة الأشياء (١) الحاضرة عند الحواس. أما الأول فنقول : العقول كافية في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه. والدليل عليه : أن معرفة نبوة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ متفرعة على معرفة الإلهيات ، فلو فرعنا معرفة الإلهيات على النبوات ، وقع الدور. وأنه باطل.

وأما معرفة مهمات المعاش ومصالح الدنيا فإنها غير موقوفة على بعثة الأنبياء والرسل. لأنا نرى من لا يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ، يسعى في تحصيل هذه المصالح على أحسن الوجه. فعلمنا : أن التصرف فيها لا يتوقف على بعثة (٢) الأنبياء ، ولأن العقول الوقادة ، والخواطر الغواصة ، وافية بتحصيل هذه المطالب. وأما كيفية العبادات ، فهي أيضا معلومة بالعقول. لأن كل عمل يكون الإخلاص لله تعالى فيه أكمل وأتم ، كان إلى القبول أقرب ، وكل عمل يشوبه غرض [من الأغراض العاجلة (٣)] فإنه لا يكون في محل القبول. وأيضا : لما شهد العقل : بأن الدنيا فانية ، وبأن الآخرة باقية ، حكم صريح العقل : بأنه يجب السعي في تقليل حب الدنيا ، وتقوية حب الآخرة.

فهذه الأصول هي المطالب الأصلية للخلق ، والعقول وافية فيها بأسرها. فعلمنا : أن العقول وافية بمعرفة جميع مهمات الدنيا والآخرة والدين.

الحجة الثالثة : إن العلم بنبوة الأنبياء ، ووصول التكاليف من الله تعالى إلى الخلق ، لا يتم إلا بعد أن يعرف بالعقل ، معرفة الله تعالى بذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه. وإذا كان العقل وافيا بهذه المطالب العالية الشريفة ، كان أيضا وافيا بمعرفة مصالح الدنيا والآخرة. على ما بيناه في

__________________

(١) الأشياء الغير الغائبة عن الحواس (ت ، ط).

(٢) معرفة (ل) ، (طا).

(٣) سقط (ت).

٣٢

الطريقة الثانية. وكان أيضا : وافيا بكيفية العبادات. وإذا كان العقل وافيا بهذه المطالب ، كان أيضا وافيا بمعرفة [مصالح الدنيا ، لأن الوافي بمعرفة (١)] المهمات العالية الشريفة ، أولى أن يكون وافيا بمعرفة المهمات النازلة الخسيسة. وإذا ثبت هذا ، فنقول : ظهر أن معرفة نبوة الأنبياء ، مفرعة على قبول حكم العقل في جميع هذه المطالب العالية.

وعند هذا نقول : حكم الأنبياء والرسل ، إن كان على وفق حكم العقل ، ففي حكم العقل غنية. وإذا كان على خلافه كان الفرع معارضا للأصل ، وعند وقوع التعارض بين الأصل والفرع ، كان ترجيح الأصل على الفرع أولى من ضده. فثبت : أن حكم العقل يجب أن يكون راجحا على كل التقديرات. وهذا الكلام على تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه [معتبرا في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، وإذا قلنا : إن تحسين العقل وتقبيحه غير معتبر ، فالقول (٢)] بفساد البعثة والنبوة ألزم وأظهر ، على ما بيناه في الطريقة المتقدمة [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) سقط (ت).

(٣) من (ل) ، (طا).

٣٣
٣٤

الفصل الخامس

في

حكاية شبهات من يقول :

القول بخرق العادات محال

اعلم أنه قبل الخوض في تقرير هذا النوع من الشبهات ، لا بد من التنبيه على مذاهب الخلق فيه. فنقول : أما أبو الحسن الأشعري رحمة الله عليه فإنه جوز انخراق العادات (١) من كل الوجوه ، وبيانه يذكر في مسائل :

الأولى : إن عنده قبول الحياة والعلم والقدرة والشهوة والنفرة ، لا يتوقف على حصول البنية والتركيب ، فالجوهر الفرد قابل لهذه الصفات. فعلى هذا التقدير لا يمتنع كون الجوهر [موصوفا بجملة أنواع العلوم ، موصوفا بجميع أنواع (٢)] القدر ، حتى يكون ذلك الجوهر الفرد (٣)] أكمل العلماء وأقوى القادرين ، ولا يمتنع أن يكون الإنسان الموصوف بالمزاج المعقول يكون ميتا جمادا.

المسألة الثانية : إن الجمهور يقولون : إن عند حصول الشرائط الثمانية

__________________

(١) قال ابن تيمية المتوفي سنة ٧٢٨ ه‍. في كتابه النبوات : «قالت طائفة : لا تخرق العادة إلا لنبي ، وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان وبكرامات الصالحين ، وهذه طريقة أكثر المعتزلة وغيرهم كأبي محمد بن حزم وغيره ، بل يحكى هذا القول عن أبي إسحاق الأسفراييني ، وأبي محمد بن أبي زيد ... الخ» وكلام هذه الطائفة هو الحق. فإن أفعال السحرة والكهان وكرامات الصالحين ليست من الأمور الخارقة للعادة.

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) سقط (ت).

٣٥

يكون الإبصار واجبا. وتلك الشرائط الثمانية هي هذه :

أحدها : أن تكون الحدقة سليمة عن الآفات والعيوب.

وثانيها : أن يكون الشيء بحيث يصح إبصاره.

وثالثها : أن لا يكون المرئي في غاية القرب من الحدقة.

ورابعها : أن لا يكون في غاية البعد.

وخامسها : أن لا يكون في غاية اللطافة.

وسادسها : عدم الساتر والحاجب.

وسابعها : أن لا يكون في غاية الصغر.

وثامنها : أن يكون مقابلا للرائي ، أو في حكم المقابل له.

فعند حصول هذه الشرائط ، أطبقت الفلاسفة والمعتزلة على أن الابصار يكون واجبا. وأما عند اختلالها [أو اختلال (١)] بعضها [فإن الابصار (٢)] يكون ممتنعا. وأما أبو الحسن الأشعري فمذهبه : أن عند حصول هذه الأشياء يجوز أن لا يحصل الإبصار ، وعند عدمها يجوز أن يحصل. فعلى هذا لا يمتنع أن يحضر عندنا جبال شاهقة ، وأصوات عالية ، ونحن لا نبصرها ، ولا نسمعها ، ولا يمتنع أيضا أن يبصر الأعمى الذي يكون بالمشرق : بقّة (٣) بالمغرب. فهذا مذهبه :

المسألة الثالثة : إن مذهبه أنه يجوز انقلاب الجبال ذهبا إبريزا. ويجوز انقلاب مياه الأودية دما ، وغيره ، ويجوز حدوث الإنسان من غير الأبوين. وبالجملة فينكر جميع التأثيرات والطبائع والقوى. وأما الفلاسفة فإنهم أطبقوا على إنكار خوارق العادات ، إلا أنه يلزمهم القول بالاعتراف بها في المسائل :

المسألة الأولى : إنهم جوزوا حدوث إنسان (٤) بالتولد لا بالتوالد. وقرروا ذلك بأن قالوا : البدن الإنساني إنما تولد من مقادير مخصوصة من العناصر

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) بقية المغرب (ت).

(٤) حدوث التولد ، لا بالتولد (ت).

٣٦

الأربعة. فتلك المقادير اختلطت وامتزجت ، في مدة معلومة ، فحصل بسبب ذلك الامتزاج ، كيفية مزاجية معتدلة. وإذا تم حدوث البدن بهذا الطريق ، وجب حدوث النفس المتعلقة بتدبيره وحينئذ يتم تكون الإنسان. قالوا : إذا ثبت هذا فنقول : إنه لا يمتنع حصول أجزاء مخصوصة من العناصر الأربعة على تلك المقادير المعلومة ، ولا يمتنع اختلاطها. وعند اختلاطها لا بد وأن يتكون ذلك المزاج ، وعند تكونه لا بد وأن تحدث تلك النفس. والموقوف على الممكن : ممكن فكان حدوث الانسان المعين على سبيل التولد : ممكنا ، وإذا كان ممكنا ، كان انخراق العادات على قولهم لازما.

المسألة الثانية (١) : إن هيولى عالم الكون والفساد : هيولى مشتركة بين الكل. وإنما اختص هيولى الجسم المعين بالصورة [المعينة لأن شكلا فلكيا ، اقتضى كون تلك المادة مستعدة لقبول تلك الصورة (٢)] الخاصة [للتشكلات النامية (٣)] والأشكال الفلكية غير مضبوطة ، وغير معلومة. وبهذا التقدير فإنه لا نوع من أنواع الخوارق إلا وهو ممكن محتمل. فهذا شرح مذاهب الفلاسفة في هذا الباب.

وأما المعتزلة فكلامهم في هذا الباب : مضطرب. فتارة يجوزون خوارق العادات ، وأخرى يمنعون منه. وليس لهم بين البابين : قانون معلوم ، وطريق مضبوط. فهذا هو التنبيه على مذاهب الناس في هذا الباب.

واحتج المانعون من انخراق العادات بوجهين :

الأول : أن قالوا : العلوم قسمان (٤) : بديهية وكسبية ، والكسبيات مفرعة على البديهيات ، وإذا كان كذلك كان كل كسبي يوجب القدح في

__________________

(١) الرابعة (ت).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) من (ت).

(٤) في (ط) : العلوم قسمان بديهية وكسبية. والكسبيات مفرعة على البديهيات ، وإذا كان كذلك ، كل كسبي يوجب القدح في البديهي ، كان كالفرع على البديهات .... الخ وفي (ت) : العلم قسمان بديهية وكسبية ، والكسبيات مفرعة على البديهيات ، وإذا كان كذلك كان فاسدا ، فعلمنا أن العلوم الكسبية ... الخ.

٣٧

البديهي ؛ كان كالفرع القادح في الأصل ، وكل ما كان كذلك كان فاسدا.

فعلمنا : أن العلوم الكسبية يمتنع كونها قادحة في العلوم البديهية ، ثم لما أردنا أن نبحث عن حقيقة العلوم البديهية ، لم نجد لها معنى إلا العلم الحاصل في النفس ابتداء ، على سبيل الجزم ، من غير أن يقدر الإنسان على تشكيك نفسه فيه ، وكل ما كان كذلك كان علما بديهيا. إذا عرفت هذه المقدمة. فنقول : إنا إذا رأينا إنسانا شابا قطعنا بأنه كان جنينا في رحم أمه ، ثم بعد الانفصال من رحم أمه ، كان طفلا ، ثم صار شابا. ولو أن قائلا قال: إنه ما كان كذلك ، بل إنه حدث الآن شابا ، من غير هذه المقدمات والسوابق. قطعنا : بأنه كاذب في هذا القول ، وجزمنا بأن الذي يقوله : باطل وبهتان. فلما كان هذا الجزم حاصلا ابتداء ، من غير أن يستفاد ذلك الجزم من دليل متقدم ، ومن قياس سابق ، علمنا : أنه جزم بديهي ، وعلم أولي ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو قلنا : إن حدوث إنسان شاب ، ابتداء من غير تلك المقدمات والسوابق ممكن لزم أن يحصل مع هذا التجويز ذلك القطع والجزم. لكنا بينا أن ذلك القطع والجزم بديهي فثبت أن الحكم بهذا التجويز حكم نظري ، يوجب القدح في البديهي. وقد بينا : أن كل ما كان كذلك ، فإنه باطل ، فوجب أن يكون الحكم بهذا التجويز باطلا. فيثبت بهذا الطريق : أن القول بانخراق العادات عن مجاريها : قول باطل. إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر له أمثلة.

المثال الأول : لو أن إنسانا جوز أن تنقلب مياه البحر والأودية دما عبيطا وأن تنقلب الجبال ذهبا إبريزا ، لقضى كل عاقل بالجنون عليه.

المثال الثاني : لو أن إنسانا (١) جوز أن ينقلب الحمار الذي في بيته إنسانا حكيما محيطا بدقائق المنطق والهندسة ، مدرسا فيها ، وأن تنقلب ما في الدار من الخنافس والديدان: أناسا ، حكماء فضلاء ، وجوز إنه إذا رجع إلى بيته ، وجد حماره قائما مقام بطليموس في تدريس كتاب المجسطي ووجد الخنافس

__________________

(١) لو أننا جوزنا (ت ، ط).

٣٨

والديدان : علماء فضلاء ، يبحثون مع ذلك الحمار في دقائق الهندسة والمنطق والإلهيات ، لقضى كل عاقل عليه بأعظم أنواع الجنون.

المثال الثالث : لو أن إنسانا شاهد مغارة خالية عن جميع أنواع العمارات ، ثم جوز أن يحصل فيها قصور عالية ، وأبنية رفيعة ، وأنهار جارية ، من غير أن يتكفل بتلك العمارات أحد من البشر ، ومن غير إحضار الخشب واللبن والمسامير ، لقضى كل عاقل عليه بالجنون. فيثبت : أن بدائه العقول قاضية بوجوب استمرار هذه الأحوال على مناهجها الأصلية ، ومجاريها المألوفة المعتادة ، وثبت أن تجويز انقلابها عن مجاريها يقدح في العلوم البديهية ، فوجب أن يكون القول به باطلا.

الوجه الثاني في بيان أن ذلك محال : أن نقول : اختصاص كل جسم بصفته المعينة ، إما أن يكون لأجل أن اختصاصه بتلك الصفة واجب ، أو إن لم يكن واجبا ، لكنه أولى من غيره ، أو لم يحصل هذا الوجوب ، ولا هذه الأولوية. فإن حصل مع الوجوب ، كان محالا ، وإن حصل مع الأولوية فتلك الأولوية إن كانت لنفس الذات ، امتنع زوالها ، وإن كان حصولها لصفة أخرى ، كان الكلام في الثاني كما في الأول ، فيلزم أن يكون حصول أولوية كل صفة ، لأجل تقدم صفة أخرى لا إلى أول. وذلك يوجب القول [بقدم العالم ، وهذا يبطل القول (١)] بالنبوة. وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : اختصاص كل جسم بصفته المعينة ، لأجل أن الفاعل المختار ، خصصه بتلك الصفة من غير مرجح أصلا. فنقول : إذا جوزتم هذا ، فجوزوا أيضا أن يخلق تلك المعجزة لا لمرجح أصلا ، وذلك يقدح في قولنا إنه إنما خلق المعجز لأجل التصديق.

وإذا ثبت هذا فحينئذ يخرج المعجز من أن يكون دليلا على الصدق. فالحاصل : أن اختصاص كل جسم بصفته المعينة. إن كان على سبيل الوجوب

__________________

(١) سقط (ت).

٣٩

أو على سبيل الأولوية ، امتنع حصول انخراق العادات ، فتبطل المعجزات. وإن كان لا على سبيل [الوجوب ولا على سبيل (١)] الأولوية ، فذلك يقدح في كون المعجز دليلا على الصدق. والله أعلم.

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

٤٠