المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠١

الفصل الثاني عشر

في

تقرير شبهة من يقول : ان الله

تعالى لو أرسل رسولا الى الخلق

لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة

وهذه الشبهة قد ذكرها الله تعالى في القرآن مرارا وأطوارا. قالوا : الدليل عليه : أن كون الرسول من جملة الملائكة ، أفضى إلى الغرض [والأفضى إلى الغرض (١)] هو الذي يفعله الفاعل الحكيم. فيفتقر هاهنا إلى تقرير هذين المقامين :

المقام الأول : وهو بيان أن كون الرسول من جملة الملائكة أفضى إلى الغرض فيدل عليه وجوه :

الأول : إنه لما كان الملك في غاية القوة والقدرة والشدة. فالناس يخافونه ، ويهابونه ، فكان انقيادهم لطاعته أكمل ، فكان أفضى إلى المقصود (٢).

والثاني : إنه إذا كان ملكا ، وكان لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج ولا يرغب في تحصيل المال والجاه. كان وثوق الناس بصدقه أقوى ، وبعدهم عن الكذب والريبة أكمل ، فكان هذا الطريق أفضى إلى الغرض.

والثالث : إن منصب رسالة الله تعالى أعظم المناصب وأعزها وأشرفها ،

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) المطلوب (ط).

٨١

والحكيم إذا فوض أعظم المناصب وأجلها إلى بعض عبيده ، فإنه لا يليق به إلقاء ذلك العبد في الذل والهوان. ونرى أن الرسول البشري واقعا في الذل والهوان ، بسبب الجوع والفقر [والخوف من الأعداء (١)] والفرار من قرية إلى قرية أخرى ، وطلب الأموال القليلة من أصحابه.

فيثبت بهذه الوجوه : إن إرسال الرسول من الملائكة أفضى إلى المقصود [من إرساله من البشر (٢)].

[فإن قالوا : إرسال الرسول من الملائكة ، يوجب أنواعا من المفاسد.

أولها : أن الأمة إما أن يشاهدوا ذلك الملك على صورته الأصلية ، أو على صورة أخرى مستعارة ، والأول يوجب الخوف الشديد ، وزوال العقل. ألا ترى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى جبريل عليه‌السلام على خلقته الأصلية (٣) غشى عليه. والثاني باطل. لأنه إذا رأى الملك على صورة الإنسان ، فحينئذ لا يبقى بينه وبين الإنسان فرق.

وثانيها : إن الملائكة فيهم شدة عظيمة (٤) وقهر شديد ، فهم لا يسامحون البشر في زلاتهم ومعاصيهم ، بخلاف الرسول البشري.

وثالثها : إن الجنس إلى الجنس أميل. فإلف الناس برسول يأتيهم من جنسهم ، أكمل من إلفهم بالملك.

قلنا : أما السؤال الأول فمدفوع. فإنا نقول : خلق الخوف ، والفزع في قلوب العباد من الله تعالى ، فكان يجب أن يجعل قلوب البشر ، بحيث إذا شاهدوا الملك ، لم يفزعوا منه ، فيصير هذا المعنى معجزة على صدق ذلك الملك.

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) الأولى (ت).

(٤) قوة شديدة (ت).

٨٢

ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الناس يشاهدون ذلك الملك في صورة البشر (١)؟ ويكون الفرق بينه وبين سائر البشر : أن لا يحتاج إلى الأكل والشرب والملبوس والمنكوح ، وهذا القدر من التفاوت لا يوجب الخوف الشديد ، ويحصل الامتياز بينه وبين سائر الناس. وأما قوله ثانيا الملائكة لهم قهر شديد فهم لا يسامحون البشر. قلنا : الملائكة لا يعصون الله فيما يأمرهم ، فإذا أمرهم بالرفق لم يفعلوا شيئا من التشديد.

وأما قوله ثالثا : الجنس إلى الجنس أميل. فنقول : حصول الميل في القلب ، ليس إلا من الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فيثبت بما ذكرنا : أن إرسال الرسول من زمرة الملائكة ، أفضى إلى المقصود. ونقول : لو كانت الرسالة جائزة ، لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة [لأن الحكيم (٣)] إذا أراد تحصيل مطلوب ، وكان له إليه طريقان ، وكان أحد الطريقين أفضى إلى حصول ذلك المطلوب من الطريق الثاني ، فإنه يجب عليه بمقتضى حكمته ، أن يرجح الطريق الأفضل الأكمل.

الوجه الثاني في تقرير هذه الشبهة : إن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به. ونرى البشر ناقصين في هذين الوصفين ، فاحتاجوا إلى شخص يكون كاملا فيهما ، حتى يصير ذلك الكامل مكملا للناقصين ، وذلك المكمل يجب أن يكون مبرأ عن النقصان في هذين الوصفين ، وإلّا لافتقر إلى مكمل آخر ، ولزم التسلسل ، وكل من كان بشرا فإنه لا ينفك عن الشهوة والغضب ، وبسبب حصول هذين الوصفين (٤) يكون النقصان حاصلا فيهم. أما الملائكة فهم مقدسون عن الشهوة والغضب ، والخيال والوهم ، مستغرقون في المعارف الإلهية ، مواظبون على الطاعات والعبادات. فكانت بعثتهم لأجل تكميل الناقصين أولى.

__________________

(١) الملائكة (ت).

(٢) الأنفال ٦٣.

(٣) سقط (ت).

(٤) هذين الوصفين (ت).

٨٣

الوجه الثالث : إن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مقرون بأنهم إنما يستفيدون [ما لهم (١)] من الكمالات من الملائكة. قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ على قلبك) (٢) وقال [في صفة القرآن (٣)] انه لقول رسول كريم (٤) وقال : علمه شديد القوى (٥) وقال : (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وقال : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (٧) وقال : (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) فلما ثبت باتفاق الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أنهم إنما يستفيدون ما لهم من الكمالات ، من الملائكة السماوية ، والأرواح الفلكية كان إرسال الملك إلى الخلق : أولى وأكمل. فهذا تقرير كلام هذه الطائفة [والله أعلم (٩)].

__________________

(١) من (ط).

(٢) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) من (ط) ، (ل).

(٤) التكوير ١٩.

(٥) النجم ٥.

(٦) البقرة ٨٧.

(٧) آل عمران ١٢٥.

(٨) مريم ١٧.

(٩) من (ل) ، (طا).

٨٤

الفصل الثالث عشر

في

البحث عن الطريق الذي يعرّف

الرسول كونه رسولا من عند الله عزوجل

قال الطاعنون في المعجزات : هب أن الأمة يعرفون بواسطة المعجزات كون الرسول إنسانا أمينا صادقا في دعواه. أما الرسول فكيف يعرف كونه رسولا؟ وذلك لأن ثبوت رسالته ، إما أن يكون لأجل أن الله تعالى يرفع الواسطة من البين. ويقول : أيها العبد أنت رسولي إلى الخلق ، وإما أن يكون لأجل أن الله تعالى يرسل إليه ملكا ، ويقول له ذلك الملك : أنت رسول الله تعالى إلى الخلق.

أما القسم الأول : فبعيد. وأكثر الأنبياء مطبقون على أنهم إنما جاءتهم الرسالة من عند الله بواسطة الملك. فيبقى القسم الثاني ، فنقول : كما أن الأمة مفتقرون في التمييز بين المدعي المحق ، وبين المدعي المبطل إلى الحجة ، فكذلك الرسول لا يمكنه التمييز بين الملك المعصوم ، وبين الشيطان المرجوم ، إلا بالمعجز. لكن لا سبيل إلى هذا المعجز. وذلك لأن الرسول البشري لا يعرف ما يوافق العادة ، في عالم الملائكة ، وما يخالف العادة هناك. فكل معجز يأتي به الملك في تقرير أنه محق ، فإن الرسول البشري يجوز أن يكون ذلك أمرا موافقا للعادة في عالم الملائكة. وبهذا التقدير فإن ذلك الملك لا يقدر على تقرير الحجة على كونه ملكا معصوما. فإن قالوا : إنه إذا أتى الملك بفعل خاص ، ثبت بالدليل أنه لا يقدر على إحداثه أحد إلا الله سبحانه وتعالى ـ فحينئذ يعرف

٨٥

النبي كونه ملكا معصوما لا شيطانا مرجوما. فنقول : هذا أيضا [لا يفيد. وذلك لأن ذلك الفعل ، وإن كان فعلا (١)] لا يقدر أحد على إيجاده إلا الله تعالى ، إلا أنه لا يمتنع في العقل أنه ـ تعالى ـ أجرى العادة في عالم الملائكة بأن كل من دعا الله ، وتضرع إليه في طلب ذلك الفعل ، فإنه تعالى يفعله إجابة لدعاء ذلك الداعي ، وإذا كان هذا المعنى محتملا ، لم يكن ظهوره على يد هذا الملك : دليلا على كونه صادق اللهجة في ادعاء الرسالة [فيثبت أن الملك لا يمكنه تعريف الرسول البشري كونه صادق القول في ادعاء (٢)] كونه رسولا من عند الله إلى ذلك الإنسان. بقي أن يقال : إنه تعالى يخلق في ذلك الإنسان علما بديهيا ضروريا ، بأن ذلك الذي وصل إليه ملك صادق ، لا شيطان كاذب ، فإنه إن لم يحصل هذا المعنى ، امتنع كون الرسول البشري ، عالما بأن ذلك الواصل ، ملك من عند الله تعالى وإذا وقع الشك في الأصل ، فوقوعه في الفرع أولى [والله أعلم بالصواب (٣)].

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (ث).

(٣) من (ل) ، (طا).

٨٦

الفصل الرابع عشر

في

الشبهات المبنية على أنه ظهر

على الأنبياء أعمال تقدح في صحة نبوتهم

فالشبهة الأولى : قالوا : ثبت بالدلائل العقلية : أن كمال حال الإنسان في الدنيا والآخرة في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به [وأشرف المعارف معرفة الله تعالى (١)] وأشرف الأعمال : الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة. فيثبت : أن سعادة الخلق مربوطة بتحصيل هذين الأمرين ، وكل ما سوى هذين المطلوبين فهو عبث عديم الفائدة. وإذا ظهرت هذه المقدمة. فنقول : إنا نرى الأنبياء والرسل ينسخ بعضهم ، شرائع بعض المتقدمين ، وهذا النسخ والتبديل (٢) إما أن يكون قد وقع في هذا الذي بينا أنه هو المقصود الأصلي ، والغرض الأشرف. أو في أمور زائدة عليها ، مغايرة لها. والقسم الأول : باطل قطعا. لأنا لما بينا : أن كمال السعادة والخير ، موقوف على تحصيل هذين المطلوبين ، فكل من جاء بتقريره وتأكيده كان محقا ، وكل من

__________________

(١) إن النسخ ـ وهو لا يكون إلا في الأوامر والنواهي ـ ما حدث إلا مع ثلاثة من الرسل. أولهم نوح عليه‌السلام. والناس ظلوا على شريعته إلى زمان موسى عليه‌السلام. وكل نبي من بعد نوح إلى موسى كان على شريعة نوح. وظل الناس على شريعة موسى إلى زمان محمد عليه‌السلام. وكل نبي من بعد موسى إلى محمد كان على شريعة موسى. والناس يعلمون أنه إلى زمان موسى كان الجنس البشري يصارع قوى الطبيعة ، ويكتشف أسرارها للبقاء والاستقرار ، ولما صار البقاء حاصلا ، أرسل إليه الله موسى نورا وهدى للناس لينظم لهم معايشهم ـ عن أمره تعالى ـ وفي زمان محمد أراد الله تعالى أن يخفف التشريعات على الناس. فكان القرآن (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) فالرسل الثلاثة هم : نوح وموسى ومحمد عليهم‌السلام.

٨٧

جاء برفعه وإزالته وإبطاله ونسخه كان مبطلا ، فلو كان النسخ والتغيير والتبديل واقعا في هذا القسم ، كان الآتي بالنسخ مبطلا كاذبا ، وحينئذ يلزم تكذيب الأنبياء وذلك لا يجوز. وأما القسم الثاني وهو أن يقال : التفاوت في الشرائع ما وقع في هذه القواعد الشريفة ، والمهمات الأصلية. وإنما وقع في الفروع والزوائد. فنقول : الاختلاف في مثل هذه الزوائد والتوابع إما أن لا يفيد [منفعة أصلا ، أو إن أفاد منفعة فإن تلك المنفعة (١)] تكون قليلة جدا. ومثل هذا الاختلاف لا يليق به حمل الناس على أحد [القولين ، ومنعهم من القول الثاني ، بالقتل والنهب والإيلام والإيذاء (٢)] ورأينا أن الأنبياء يفعلون ذلك. فكان هذا قادحا في طريقتهم.

ومثاله : إن المقصود الأصلي من الصلاة : أن يكون القلب مشتغلا بنية العبودية ، واللسان بالذكر والثناء ، والأعضاء مزينة بأنواع الخدمة. وهذا المقصود حاصل بالصلاة التي يؤتى بها على مذهب [اليهود ، وبالصلاة التي يؤتى بها على مذهب النصارى ، وبالصلاة التي يؤتى بها على مذهب (٣)] المسلمين. فثبت : أن ما هو المقصود [الأصلي حاصل على كل التقديرات (٤)] ثم إنا نرى الأنبياء يبالغون في حمل [الناس على طريقتهم وفي منع الناس عن طريقة من تقدمهم (٥)] ويزعمون : أن العمل بالطريقة المتقدمة : كفر. يوجب حل الدم ، ويوجب العذاب الدائم ويوجب نهب الأموال وسبي الأولاد. وأيضا : المقصود من الصوم : قهر النفس. وذلك لا يتفاوت بأن يقع ذلك الصوم في شهر رمضان ، أو في شهر آخر. فالمبالغة في تعيين هذا الشهر ، والمنع من سائر الشهور يكون عديم الفائدة. وكذلك المقصود من القبلة : أن يكون الإنسان عند اشتغاله بخدمة الله تعالى ، مستقرا ثابتا. حتى يتفرغ قلبه للاشتغال بخدمة الله تعالى. وهذا المقصود لا يتفاوت بأن تكون القبلة هي

__________________

(١) سقط من (ت).

(٢) من (ل) (طا).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) سقط (ت). وفي (ط) : كلا التقديرين.

(٥) سقط (ت).

٨٨

الكعبة أو غيرها. وكذلك المقصود من اجتماع الخلق الكثير في الموضع الواحد ، لأجل أداء الطاعات والعبادات أن تصير كثرة الأرواح المتوجهة إلى استنزال رحمة الله تعالى ، سببا لقوة ذلك التأثير ولتكميله ، وهذا لا يتفاوت بأن تكون تلك الجمعية حاصلة في يوم الجمعة ، أو في يوم السبت ، أو في يوم الأحد.

إذا عرفت هذا ، فنقول : ظهر بهذا البحث : أن الأشياء التي اختلفت الشرائع فيها : أمور لا فائدة البتة ، بحسب المطالب الأصلية. فلم يبق إلا أن يقال : الغرض من التشديد في إظهارها : أن يصير ذكر ذلك المتقدم مندرسا ، وأن يصير ذكر هذا الثاني باقيا ، فيما بين الناس. ولا فائدة في ذلك إلا طلب الرئاسة في الدنيا [والتفوق على الخلق. فلما شرعوا القتل والنهب والإيذاء والإيلام ، لتقرير هذه المعاني ، علمنا : أنه ليس بصواب. وظهر أن المقصود منه ليس (١)] إلا طلب الرئاسة في الدنيا ، فيكون باطلا.

الشبهة الثانية للقوم : قالوا : إن حكم العقل في التحسين والتقبيح. إما أن يكون معتبرا ، وإما أن لا يكون ، وعلى التقديرين ، فالقول بالنبوة : مشكل. أما القسم الأول : وهو أن يكون التقدير : أن يكون حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولا. فنقول : إنه متى كان الأمر كذلك ، كانت بدائه العقول قاضية بأن الإنسان إذا كان قلبه خاليا عن [الالتفات إلى الدنيا وشهواتها ، وكان خاليا عن (٢)] الاشتغال بغير الله تعالى ، وكان غريقا في نور معرفة الله تعالى ، وفي ذكره ، فهذا الإنسان إذا مات ، وجب أن يكون من السعداء الأبرار ، لكنا نرى أن الأنبياء يقولون : إن من كان حاله على ما ذكرناه ، ثم إنه غفل عن الإقرار بالنبوة والرسالة ، أو كان متوقفا فيه ، كان كافرا من أهل العذاب الدائم ، والعقاب المخلد ، ولما ثبت أن حكم العقل في الإنسان المذكور أن يكون من السعداء الأبرار ، وثبت أن حكم الشرع فيه أن يكون من الأشقياء الكفار ، ثبت : أن حكم الشرع مخالف لحكم العقل ، ولما

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

٨٩

كان التقدير في هذا القسم أن يكون حكم العقل في التحسين والتقبيح معتبرا ، وجب أن يكون ضده مردودا [باطلا.

وأما القسم (١) الثاني وهو أن يكون التقدير : هو أن يكون حكم العقل في التحسين والتقبيح مردودا [(٢) باطلا. فنقول : يبطل القول بالنبوة والرسالة ، لأن على هذا التقدير لا يصح من الله تعالى إظهار المعجز على يد الكاذب ولا يقبح منه أيضا أن يكذب في وعده ووعيده. وعلى هذا التقدير ، فإنه يبطل القوة بالنبوة والرسالة.

والشبهة الثالثة : قالوا إنا وجدنا هذه الشرائع مشتملة على أمور باطلة ، فكان القول بها باطلا. بيان الأول من وجوه :

الأول : إن القول بالتشبيه غالب على الشرائع ، وذلك يوجب الجهل بالله تعالى ، والجاهل بالله ـ تعالى ـ لا يمكن أن يكون رسولا حقا من عند الله ـ تعالى ـ وإنما قلنا : إن القول بالتشبيه غالب على الشرائع ، وهو لأنا نبين حصول هذا المعنى في هذه الأديان الأربعة الظاهرة.

أما دين الإسلام : فالقول بالتشبيه ظاهر في القرآن. وأما الأحاديث فإنها مملوءة من ذلك. ولذلك فإن أكثر من شرع في رواية الأخبار : جزم بالتشبيه ، وليس لقائل أن يقول : إنه إنما ذكر هذه الألفاظ على سبيل الاستعارة والمجاز. لأنا نقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : إن للتعبير عن المعاني الصحيحة ، بالعبارات المشتملة على المجازات والاستعارات ؛ حدا معينا ، وضابطا معلوما. فأما هذه الآيات الكثيرة ، والأخبار الكثيرة ، فهي ألفاظ صريحة في الدلالة على المعاني الموجبة للتشبيه ، حتى أنا لو أردنا أن نعبر عن تلك المعاني بألفاظ أقوى منها [وآكد

__________________

(١) من أول : وأما القسم الثاني وهو أن يكون .. الخ في موضعه في (ط) وفي (ل). وهو في فصل «صفة الدعوة إلى الله تعالى» في (ت) والنسخ المشابهة لها.

(٢) سقط (ل) ، (طا).

٩٠

دلالة على التشبيه منها (١)] لم نجد البتة. وذلك يدل على أنه ما أريد بذكر تلك. الألفاظ إلا تقوية القول بالتجسيم.

والثاني : هب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكنهم لو كانوا معتقدين للتنزيه والتوحيد ، لكان من الواجب عليهم ، أن يذكروا الألفاظ الدالة على التنزيه ، صريحة فيه ، حتى يصير التصريح بهذا الحق ، سببا لتأويل تلك الألفاظ الموهمة للباطل. لكنا لم نجد البتة في الكتاب ، ولا في الأخبار مثل هذه البيانات. فظهر أن القوم كانوا مصرين على القول بالتجسيم.

وأما دين اليهود : فالتشبيه المذكور [في التوراة ، بالنسبة إلى المذكور (٢)] في القرآن ، كالبحر بالنسبة إلى القطرة ، وكالجبل بالنسبة إلى المدرة.

وأما دين النصارى : فمدار الأمر فيه على الحلول والاتحاد. والأب ، والابن ، والروح القدس. وهذا أرك أقوال مذاهب القائلين بالتجسيم والتشبيه.

وأما المجوس : فقولهم بوجود الإلهين ، وقولهم بوقوع المحاربة بينهما ، واستعانة الإله الخيّر ، بجند الملائكة ، واستعانة الإله الشرير بجند من الشياطين : مما ينفر العقل عنه ، وتنبو الطبائع عن سماع مثله.

فثبت بهذا : أن القول بالتشبيه غالب على هذه الشرائع.

الوجه الثاني : في بيان هذا المعنى : إن القرآن مملوء من الجبر ، ومن القدر والآيات الواردة فيه أكثر من عدد الرمل والحصى. ولا شك أنها متناقضة ، وأن التوفيق بينها لا يحصل إلا بتعسف شديد ، وهذا يدل على أن صاحب هذا الكتاب كان مضطرب الرأي في الجبر والقدر ، غير جازم بأحد الطرفين.

الوجه الثالث : إنه ما ظهر من الأنبياء سعي تام في البحث عن ذات الله

__________________

(١) سقط (ل) ، (طا).

(٢) سقط (ت).

٩١

تعالى وصفاته ، وكيفية ما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، وكيفية أفعاله. ولم يتكلموا في إثبات النفس وحدوثها وبقائها ، بل تركوا هذه الأصول بالكلية ، وأكثروا المبالغة في تقرير موضوعاتهم الجديدة ، وفي نسخ موضوعات المتقدمين.

إذا ثبت هذا ، فنقول : إطباقهم على التساهل في الأمور العالية العظيمة ، وعلى التشديد في الأمور الهينة (١) يدل على أن المطلوب من هذه الشرائع : تقرير مطالب الدنيا.

الوجه الرابع : إن الشرائع مشتملة على التكليف بالقتل ، وأخذ المال. وهذا على خلاف العقل. لأنا نقول : خالق هذا الكافر ، كان في أول الأمر قادرا على أن لا يخلقه ، وبعد أن خلقه فهو قادر على أن يميته. فإن كان الصلاح في [إفنائه وإعدامه. فلم خلقه؟ وإن كان الصلاح في (٢)] إبقائه وإحيائه. فلم أمر بقتله؟ فإن قالوا : لم لا يجوز أن يحصل للقاتل بسببه [ذلك المقتول (٣) نوع مصلحة؟ فنقول : لكنه حصل للمقتول أعظم أنواع الضرر ، وهو القتل في الدنيا ، والوصول إلى أشد العذاب في الدنيا والآخرة ، لأجل أن يصل العبد الثاني إلى نوع من أنواع الخير والراحة. فإنه ليس السعي في تعذيب أحدهما لأجل إيصال النفع إلى الثاني. أولى من العكس.

الوجه الخامس : وهو أن المعتبر إما معرفة الله تعالى بذاته وصفاته ومعرفة اليوم الآخر. وإما تحصيل مصالح المعاش. وكلا الأمرين غير موقوف على متابعة الرسول المعين ، لأن الذين تركوا هذه المتابعة ، فقد فازوا بهذين النوعين من المصالح. فثبت : أنه لا يتوقف شيء من المصالح على متابعتهم.

فهذا منتهى القول في حكاية (٤) شبهات الطاعنين في النبوات.

__________________

(١) الأمور الإلهية السهلة (ت ، ط).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) حكاية شبهة القائلين الطاعنين (ت).

٩٢

الفصل الخامس عشر

في

الاشارة الى أجوبة هذه الشبهات

أعلم (١) : أنا وإن بالغنا في حكاية هذه الشبهات. إلا أن العاقل إذا أحكم معرفة أصول ثلاثة ، ووقف على قوتها ، زالت عنه هذه الشبهات بأسرها ، وذلك من كمال نعم الله تعالى على العباد ، حيث هداهم إلى هذه الأصول الثلاثة ، ليتوسلوا بها إلى دفع (٢) هذه الشبهات.

فالأصل الأول : أن نقول : لا شك أن القول بإثبات النبوات ، فرع على القول بإثبات الفاعل المختار. فمن نازع في ذلك الأصل ، فإنه لا يجوز له الخوض في إثبات النبوات البتة. بل يجب عليه الشروع في تلك المسألة. وأما من سلم أن إله العالم فاعل مختار ، فنقول : إنا ندعي أنه لا مؤثر البتة لإخراج شيء من العدم إلى الوجود ، إلا ذلك الواحد. وإذا ثبت هذا ، فقد بطل القول بوجود مؤثر آخر سواه ، سواء قيل : إنه كوكب ، أو فلك ، أو عقل ، أو نفس ، أو روح علوي ، أو روح سفلى. والذي يدل على صحة هذا الأصل وجوه :

الأول : أنه لما ثبت أنه تعالى قادر على بعض المقدورات ، وجب أن يكون ذلك الشيء ، إنما صار بحيث يصح أن يكون مقدورا له لإمكانه. لأنا

__________________

(١) في (ت) : الفصل الخامس في معرفة أجوبة هذه الشبهات.

(٢) دفع هذا العالم من الشبهات (ل) ، (طا).

٩٣

لو رفعنا الإمكان ، لبقي : إما الوجوب وأما الامتناع. وهما يحيلان المقدورية. وما يوجب امتناع كونه مقدورا [يمتنع أن يقتضي صحة كونه مقدورا (١)] فثبت : أن المعنى الذي لأجله صار بعض الأشياء ، بحيث يصح أن يكون مقدورا لله تعالى هو [الإمكان. وبديهة العقل حاكمة بأن المفهوم من الإمكان مفهوم واحد (٢)] في جميع الممكنات ، فوجب القطع بأن [ما لأجله صار بعض الممكنات بحيث يصح أن يكون مقدورا لله تعالى ، فهو قائم (٣) في] جميع الممكنات. وإذا حصل الاشتراك في المقتضى ، وجب حصول الاشتراك في الأثر ، فوجب القطع بأن [جميع الممكنات بحيث يصح أن تكون مقدورة لله تعالى. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون الله (٤)] قادرا عليها بأسرها ، لأن كونه تعالى قادرا ، صفة من صفات ذاته. وتلك الصفة : نسبة مخصوصة ، بين ذاته المخصوصة ، وبين المقدورات ، وهو كونه بحيث يصح منه إيجادها. وهذه الصحة (٥) ليست ذاتا قائمة بنفسها ، بل هي من باب النسب والإضافات ، فتكون ممكنة لذاتها ، فلا بد لها من مؤثر ، وذلك المؤثر هو ذات الله تعالى ، سواء قلنا : إن تأثير تلك الذات في هذه الصحة ابتداء ، أو بواسطة وعلى التقديرين فنسبة اقتضاء ذاته إلى حصول القدرة على بعض الممكنات ، كنسبة ذلك الاقتضاء إلى البواقي. لأنا بينا أن كل الممكنات متساوية [في صحة المقدورية. وإذا كانت النسبة متساوية ، فلو اقتضت تلك الذات المخصوصة ، حصول الاقتدار على بعضها دون البعض. مع أنا بينا أن النسبة متساوية (٦)] فحينئذ يلزم رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح ، وهو محال. ولما بطل هذا القسم ، بقي قسمان : أحدهما : أن لا يقدر على شيء أصلا ، إلا أن هذا باطل. لأنا بينا : أن القول بالنبوات ، فرع على إثبات كونه تعالى قادرا. والثاني : أن يكون قادرا على الكل. وذلك هو الحق. لأنه لما بطل ما

__________________

(١) سقط (ل) ، (طا).

(٢) سقط (ت).

(٣) سقط (ت).

(٤) سقط (ت).

(٥) الصفة (ط).

(٦) من (ل) ، (طا).

٩٤

عداه من الأقسام ، وجب أن يكون هذا القسم هو الحق. فثبت : أنه تعالى قادر على جميع الممكنات.

فنقول : إنه (١) لم يحصل في الوجود. موجود مؤثر ، ولا موجد إلا الله تعالى. والدليل عليه : وهو أنا لو فرضنا شيئا آخر سواه. يكون له صلاحية التأثير والإيجاد ، فعلى هذا التقدير ، قد اجتمع على ذلك الأثر مؤثران مستقلان باقتضاء الوجود والأثر. فإما أن يقع ذلك الأثر بهما معا ، أو لا بواحد منهما ، أو بأحدهما دون الثاني. والأقسام الثلاثة باطلة.

أما القسم الأول وهو وقوعه بهما : فنقول : هذا محال. وذلك لأن الأثر المعين مع المؤثر التام المستقل ، يكون واجب الوجود لذاته ، وما يكون واجب الوجود لذاته ، يمتنع أن يكون واجب الوجود لغيره ، فعلى هذا ، ذلك الأثر لكونه مع هذا المؤثر [يمتنع استناده إلى ذلك المؤثر ، ولكونه مع ذلك المؤثر. يمتنع استناده إلى هذا المؤثر (٢)] فإذا كان حاصلا معهما معا يلزم [أن يكون استناده إلى كل واحد منهما بعينه ، استغناء عن كل واحد منهما فيلزم (٣)] أن يكون (٤) ذلك الأثر ، مستندا إليهما معا وغنيا عنهما معا. وهو محال. فثبت: أن هذا القسم باطل.

وأما القسم الثاني وهو امتناع وقوعه بواحد منهما : [فنقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : إنه لما امتنع وقوعه بواحد منهما (٥)] لزم أن يقال : إنه لا يقع البتة ، أو إن وقع فقد وقع بغير مؤثر. وذلك محال. لأنه يلزم أن لا يدخل شيء من الممكنات في الوجود ، أو إن دخل في الوجود ، إلا أنه يحدث من غير مؤثر أصلا وكلاهما باطلان.

__________________

(١) وجب أن لا يحصل (ل) ، (طا).

(٢) سقط (ت).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) أن لا يكون (ت).

(٥) من (ل) ، (طا).

٩٥

والثاني : أن من المعلوم أن كل واحد من هذين السببين المستقلين ، لو انفرد ، لكان مستقلا بالتكوين والتأثير ، إلا أن حضور الآخر منعه من التأثير. فنقول : المانع لهذا المؤثر ، ليس هو ذات المؤثر الثاني ، ولا شيء من صفاته ، بل كون هذا الأثر صادرا من هذا يمنع صدوره من ذاك ، ولذاك بالضد. ومعلوم : أن المعلول لا يحصل إلا عند حصول العلة. فإذا كان المانع من صدور [ذلك الأثر عن هذا ، ليس إلا صدوره عن ذاك ، والمانع من صدوره (١)] من ذاك ليس إلا صدوره عن هذا ، وثبت أن المعلول لا يوجد إلا عند وجود العلة ، فلو امتنع الطرفان ، لزم القول بحصول الطرفين ، حتى يكون كل واحد منهما مانعا من الثاني ، فيلزم من امتناع استناده إليهما معا ، حصول استناده إليهما معا [وكنا قد ذكرنا في القسم الأول : أنه يلزم من حصول استناده إليهما معا ، امتناع استناده إليهما معا (٢)] وكل ذلك محال.

وأما القسم الثلث وهو أن يقع بأحدهما دون الثاني : فنقول : هذا باطل لوجهين :

الأول : إن العقل يقتضي أن يندفع الأضعف بالأقوى ، ولا شك أن ممكن الوجود ، أضعف من واجب الوجود. وعلى هذا التقدير فلا موجد ولا مؤثر (٣) إلا الله.

الثاني : إن كل شيء يخرج من العدم إلى الوجود فهو في نفسه ، إما شيء واحد وإما مركب من أشياء ، يكون كل واحد منها في نفسه شيئا واحدا ، والشيء الواحد في نفسه لا يقبل التفاوت أصلا. وإذا كان هو في نفسه غير قابل للتفاوت [كانت القدرة على إيجاده غير قابلة للتفاوت أصلا ، وإذا كان كذلك (٤)] امتنع أن يقال : إن أحد المؤثرين أقوى وأكمل في التأثير بالنسبة إلى ذلك الشيء الواحد.

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) إلا الحق سبحانه وتعالى (ت ، ط).

(٤) من (ل) ، (طا).

٩٦

بلى قد يعقل كون أحدهما قادرا على أشياء سوى ذلك الواحد ، لكن المطلوب هاهنا بيان القدرة والقوة بالنسبة إلى ذلك الشيء الواحد لا تقبل التفاوت. وإذا (١) حصل الاستواء بين هذين المؤثرين ، كان [القول بأن (٢)] أحدهما أولى بالتأثير ، موجبا [رجحان (٣)] أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح ، وهو محال. فثبت بما ذكرنا : أن جميع الممكنات مقدورة لله تعالى. وثبت : أنه متى كان الأمر كذلك ، كان القول بإثبات مؤثر غير الله تعالى ؛ يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فكان القول به محالا ، فثبت بهذا البرهان الكامل : أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله أصلا.

الحجة الثانية : إن الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر. فإما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر بعينه أو لا بعينه ، والثاني باطل. لأن كل ما كان موجودا في نفس الأمر ، فهو متعين في نفسه ، فما لا يكون متعينا في نفسه [امتنع كونه موجودا في نفسه (٤)] وما كان ممتنع الوجود ، امتنع أن يكون علة لوجود غيره ، ولما بطل هذا القسم ، بقي [القسم الأول وهو أن الإمكان علة الحاجة إلى شيء بعينه ، فوجب أن يكون كل (٥)] ممكن محتاجا في وجوده إليه ، وإذا كان كذلك ، فلا مؤثر إلا الواحد.

فهذا هو أحد الأصول الثلاثة التي لا بد من معرفته في هذا الباب.

الأصل الثاني من الأصول التي عليها مدار إثبات النبوات : أنه لا يمتنع أن يكون الشيء معلوم الجواز والإمكان ، ومع ذلك فإنه يكون الجزم والقطع حاصلا بأنه لم يوجد ، ولم يحصل.

وبيانه : أني إذا رأيت زيدا ، ثم غمضت العين ، ثم إني نظرت إليه في المرة الثانية ، فإني أعلم بالضرورة أن هذا الذي أراه ثانيا ، عين الذي رأيته

__________________

(١) وإذا حصل الاستواء (ت).

(٢) سقط (ت).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (ت).

(٥) سقط (ت).

٩٧

أولا ، مع أن التجويز القطعي قائم بكونه مغايرا لذلك الأول. وبيانه : أن الحادث إما أن لا يفتقر إلى المؤثر أو يفتقر إليه ، والقسم الثاني (١) فمؤثر العالم إما أن يكون موجبا أو مختارا. وظاهر أنه ليس وراء هذه الأقسام الثلاثة قسم البتة.

أما القسم الأول : وهو أن يقال : لا مؤثر لهذه الحوادث. فعلى هذا التقدير يكون الوجود بعد العدم ، والعدم بعد الوجود : حاصلا بمحض الاتفاق من غير سبب أصلا. وإذا جاز ذلك ، جاز أيضا أن يقال : [اتفق أن ذلك الشخص (٢)] الأول قد عدم في تلك اللحظة اللطيفة ، وحصل الشخص الثاني على سبيل الاتفاق. لأن القول بالاتفاق ، لما كان واقعا في بعض الصور ، كان احتماله قائما في كل الصور.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : مؤثر العالم موجب بالذات ، فذلك الاحتمال أيضا ، قائم ، لأن فيضان الآثار الحادثة عن ذلك المبدأ القديم ، لا بدّ وأن يكون موقوفا على حصول شكل فلكي خاص. وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إنه حصل شكل فلكي عجيب غريب ، اقتضى فناء ذلك الشخص الأول في تلك اللحظة اللطيفة ، وحصل شيء آخر يماثله دفعة؟

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : مؤثر العالم فاعل مختار. فعلى هذا التقدير : القول بأنه أفنى الشخص الأول في تلك اللحظة اللطيفة ، وأوجد شخصا آخر يماثله من كل الوجوه : محتمل. فثبت بهذا البرهان القاطع : أن تجويز هذا المعنى قائم على جميع التقديرات. ثم إنا مع علمنا بهذا التجويز ، نعلم بالضرورة أن هذا الشخص الذي [أراه في هذه اللحظة هو عين الشخص الذي (٣)] رأيته قبل ذلك بلحظة أو بيوم أو بشهر.

واعلم أنك إذا عرفت حقيقة الحال في هذا المثال ، أمكنك معرفة أمثلة

__________________

(١) الأول (ت ، ط).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) سقط (ت).

٩٨

خارجة عن الحد والإحصاء ، موافقة لهذا المطلوب.

وأما الأصل الثالث : فهو أن تعلم أن تحسين العقل وتقبيحه باطل ، لا عبرة به ، ولا التفات إليه ، في أفعال الله تعالى ، وفي أحكامه.

وإذا عرفت هذه الأصول الثلاثة ، فحينئذ يظهر القول بصحة النبوات ، ظهورا ، لا يبقى فيها شك ولا شبهة. وتقريره : أن نقول : فاعل جميع هذه المعجزات هو الله تعالى [لأنا بينا في الأصل الأول أنه لا مؤثر ولا موجد ولا مكون إلا الله تعالى (١)] ثم نقول : وإنه تعالى إنما خلقها لأجل تصديق هذا المدعي. فأما قولهم : إنه يجوز أن يكون قد خلقها لأغراض أخرى. فنقول : ذلك التجويز قائم في الجملة. لأنا نقول : قد بينا أن قيام تجويز الوجوه الكثيرة قد لا يمنع من حصول القطع والجزم بواحد منها ، كما ذكرناه في المثال في القسم الثالث (٢) فندعي : أن الأمر في هذه المسألة كذلك.

والدليل عليه : أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما أمر القوم ببعض التكاليف ، فأبوا ، وأصروا طلب من الله ـ تعالى ـ أن يوقف الجبل فوق رءوسهم. ثم إنهم كانوا يشاهدون أنهم كلما قصدوا الطاعة والامتثال ، فذلك الجبل ، يتباعد عن رءوسهم ، وكلما قصدوا العود إلى العتو والإصرار والكفر. فذلك الجبل يقرب منهم بحيث خافوا من وقوعه عليهم. ومن المعلوم أن حصول هذه الحالة على هذا الوجه ، يفيد العلم الضروري بأنه تعالى إنما أوقف الجبل فوق رءوسهم ، لأجل أن يتبادروا إلى الطاعة والامتثال. وتجويز أن يكون الغرض من إظلال ذلك الجبل. شيئا آخر سوى هذا المقصود ، لا يقدح في حصول العلم الضروري ، بأنه لا مقصود منه سوى ذلك. فإنا قد بينا أنه قد يحصل القطع والجزم مع قيام مثل هذا التجويز. فثبت بالأصل الأول (٣) : أن خالق كل المعجزات هو الله تعالى ، وثبت بالأصل الثاني : أنه لا حكمة لله ـ تعالى ـ في خلق تلك المعجزات ، إلا التصديق. وهذا يفيد العلم اليقيني بأن الله تعالى إنما

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) في المثال (ط) من الثالث (ل) ، (طا).

(٣) فثبت بهذه الأصول (ت ، ط).

٩٩

خلق هذه المعجزات لأجل تصديق الأنبياء والرسل. والعلم الضروري ، حاصل بأن الكذب على الله ـ تعالى ـ محال. لأنه صفة نقص. وشهادة الفطرة دالة على أن صفة النقص محال على الله ـ تعالى ـ وعند هذا يحصل الجزم واليقين بأن ظهور المعجزات يدل على صدق الأنبياء [عليهم‌السلام (١)].

وأما قولهم بعد ذلك : ما الفائدة في النسخ؟ وما الفائدة في التوجه إلى الكعبة ، دون بيت المقدس؟ فجوابه : أن نقول : أحكام الله ـ تعالى ـ غير موقوفة على تحسين العقل وتقبيحه ، فيفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

فقد ظهر بما ذكرناه : أن الموقوف على معرفة هذه الأصول الثلاثة ، يحصل الخلاص عن بحار تلك الشبهات [والحمد لله الذي هدانا إلى الدين القويم ، والصراط المستقيم. والله أعلم (٢)].

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

١٠٠