المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠١

القسم الثاني

في تقرير القول

بالنبوة عن طريق اخر وهو قدرة النبي

على تكميل الناقصين

١٠١
١٠٢

الفصل الأول

في

تمييز هذا الطريق عن الطريق المتقدم

فنقول (١) : أعلم أن القائلين بالنبوات فريقان : أحدهما : الذين يقولون : إن ظهور المعجزات على يده ، يدل على صدقه. ثم إنا نستدل بقوله على تحقيق الحق ، وإبطال الباطل. وهذا القول هو الطريق الأول ، وعليه عامة أرباب الملل والنحل (٢).

والقول الثاني : أن نقول : إنا نعرف أولا أن القول في الاعتقادات ما هو؟ وأن الصواب في الأعمال ما هو؟ فإذا عرفنا ذلك ، ثم رأينا إنسانا يدعو الخلق إلى الدين الحق ، ورأينا أن لقوله أثرا قويا في صرف الخلق من الباطل إلى الحق ، عرفنا أنه نبي صادق ، واجب الاتباع. وهذا الطريق أقرب إلى العقل ، والشبهات فيه أقل. وتقريره لا بد وأن يكون مسبوقا بمقدمات :

المقدمة الأولى : أعلم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير

__________________

(١) عبارة النسخ : «القسم الثاني من كتاب النبوات في تقرير القول بالنبوة على طريق آخر ، وفيه فصول. الفصل الأول في تمييز ... الخ».

(٢) وهو الصحيح لأن الناس لما كانوا يكرهون من يتميز عليهم ، يطلبون من الذي يقول لهم : إني نبي ، يطلبون منه شيئا خارقا للعادة ، وهو المعجزة. والله تعالى يظهر المعجزة دلالة على أنه صادق ، وهذا واضح من معجزات صالح وموسى وعيسى عليهم‌السلام. أما الطريق الثاني وهو كون النبي كاملا ، ويقدر على تكميل الناقصين ، فقول يقول به من الفلاسفة من ينكر خرق العادات ، وينكر الملائكة. وهو قول باطل ، لأن القرآن أشار إلى المعجزات في إثبات النبوة ...

١٠٣

لأجل العمل به ، والمراد منه : أن كمال حاله محصور في أمرين :

أحدهما : أن تصير قوته النظرية كاملة بحيث تتجلى فيها صور الأشياء وحقائقها ، تجليا كاملا تاما ، مبرأ عن الخطأ والزلل.

والثاني : أن تصير قوته العملية كاملة بحيث يحصل لصاحبها ملكة ، يقدر بها على الإتيان بالأعمال الصالحة. والمراد من الأعمال الصالحة : الأحوال التي توجب النفرة عن السعادات البدنية ، وتوجب الرغبة في عالم الآخرة ، وفي الروحانيات. فقد ظهر بهذا : أن لا سعادة لإنسان إلا بالوصول إلى هاتين الحالتين. وهذه المقدمة مقدمة أطبق الأنبياء على صحتها ، واتفق الحكماء الإلهيون على صحتها أيضا. ولا يرى في الدنيا عاقل كامل ، إلا ويساعد عليها.

المقدمة الثانية : إن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

أحدهما : الذين يكونون ناقصين في هذه المعارف ، وفي هذه الأعمال ، وهم عامة الخلق ، وجمهورهم.

وثانيهما : الذين يكونون كاملين في هذين المقامين ، إلا أنهم لا يقدرون على علاج الناقصين [وهم الأولياء

وثالثهما : الذين يكونون كاملين في هذين المقامين ، ويقدرون أيضا على معالجة الناقصين (١)] ويمكنهم السعي في نقل الناقصين من حضيض النقصان ، إلى أوج الكمال. وهؤلاء هم الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فهذا تقسيم معلوم مضبوط.

المقدمة الثالثة : إن درجات النقصان والكمال في القوة النظرية ، وفي القوة العملية كأنها غير متناهية بحسب الشدة والضعف والقلة والكثرة. وذلك أيضا معلوم بالضرورة.

المقدمة الرابعة : إن النقصان وإن كان شاملا للخلق ، عاما فيهم. إلا

__________________

(١) سقط (ت).

١٠٤

أنه لا بدّ وأن يوجد فيهم شخص كامل بعيد عن النقصان. والدليل عليه وجوه :

الأول : إنا بينا أن الكمال والنقصان واقع في الخلق على مراتب مختلفة ، ودرجات متفاوتة. ثم إنا كما نشاهد أشخاصا بلغوا في جانب النقصان وقلة الفهم والإدراك ، إلى حيث قربوا من البهائم والسباع ، فكذلك في جانب الكمال ، لا بد وأن توجد أشخاص كاملة فاضلة ، ولا بد وأن يوجد فيها بينهم شخص يكون أكملهم وأفضلهم ، وهو يكون في آخر مراتب الإنسانية ، وأول مراتب الملكية.

الثاني : إن الاستقراء يدل على ما ذكرناه. وذلك الجسم العنصري جنس تحته ثلاثة أنواع : المعدن. والنبات. والحيوان. وصريح العقل يشهد بأن أشرف هؤلاء الثلاثة : الحيوان ، وأوسطها النبات ، وأدونها المعادن. ثم نقول : صريح العقل يشهد بأن الحيوان جنس تحته أنواع كثيرة [وأشرفها هو الإنسان. وأيضا : فالإنسان تحته أصناف (١)] مثل الزنج والهند والعرب والروم والإفرنج والترك. ولا شك أن أفضل أصناف الإنسان وأقربهم إلى الكمال : سكان وسط المعمورة ، وهم سكان الموضع المسمى بإيرانشهر. ثم إن هذا الصنف من الناس مختلفون أيضا في الكمال والنقصان ، ولا شك أنه يحصل فيهم شخص واحد ، هو أفضلهم وأكملهم [فعلى هذا قد ثبت أنه لا بد وأن يحصل في كل دور شخص واحد هو أفضلهم وأكملهم (٢)] في القوة النظرية والعملية. ثم إن الصوفية يسمونه بقطب العالم. ولقد صدقوا فيه ، أنه لما كان الجزء الأشرف من سكان هذا العالم الأسفل هو الإنسان ، الذي حصلت له القوة النظرية التي بها يستفيد الأنوار القدسية من عالم الملائكة ، وحصلت له القوة العلمية التي يقدرها بها على تدبير هذا العالم الجسماني على الطريق الأصلح ، والسبيل الأكمل. ثم إن ذلك الإنسان الواحد هو أكمل الأشخاص

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ل).

١٠٥

الموجودين في ذلك الدور (١) كان المقصود الأصلي من هذا العالم العنصري ، هو وجود ذلك الشخص. ولا شك أن المقصود بالذات هو الكامل. وأما الناقص فإنه يكون مقصودا بالعرض [فثبت : أن ذلك الشخص هو الكامل وثبت : أن ذلك الشخص (٢)] هو القطب لهذا العالم العنصري ، وما سواه فكالتبع له. وجماعة [من (٣)] الشيعة الإمامية ، يسمونه بالإمام المعصوم. وقد يسمونه بصاحب الزمان. ويقولون. بأنه غائب. ولقد صدقوا في الوصفين أيضا. لأنه لما كان خاليا عن النقائص ، التي هي حاصلة في غيره ، كان معصوما من تلك النقائص. وهو أيضا صاحب الزمان ، لأنا بينا : أن ذلك الشخص هو المقصود بالذات في ذلك الزمان ، وما سواه فالكل أتباعه. وهو أيضا : غائب عن الخلق لأن الخلق لا يعلمون أن ذلك الشخص هو أفضل أهل هذا الدور [وأكملهم وأقول ولعله لا يعرف ذلك الشخص أيضا : أنه أفضل أهل الدور (٤)] لأنه وإن كان يعرف حال نفسه إلا أنه لا يمكنه أن يعرف حال غيره ، فذلك الشخص لا يعرفه غيره ، وهو أيضا لا يعرف نفسه. فهو كما جاء في الأخبار الإلهية أنه قال تعالى : «أوليائي تحت قبابي ، لا يعرفهم غيري».

فثبت بهذا : أن كل دور لا بد وأن يحصل فيه شخص موصوف بصفات الكمال. ثم إنه لا بد وأن يحصل في هذه الأدوار المتلاحقة : دور يحصل فيه شخص واحد يكون هو أفضل من كل أولئك الذين كل واحد منهم صاحب دوره ، وفريد عصره ، وذلك الدور المشتمل على مثل ذلك الشخص ، إنما لا يوجد في ألف سنة ، أو أكثر ، أو أقل ، إلا مرة واحدة ، فيكون ذلك الشخص هو الرسول الأعظم ، والنبي المكرم ، وواضع الشرائع ، والهادي إلى الحقائق. وتكون نسبته إلى [سائر أصحاب الأدوار كنسبة الشمس إلى سائر الكواكب. ثم لا بد وأن يحصل في أصحاب الأدوار إنسان ، هو أقربهم (٥)] إلى

__________________

(١) الوقت (ت ، ؤ).

(٢) من (ت ، ط).

(٣) من (ت).

(٤) من (ل).

(٥) من (ل ، ط) واعلم أن كلام فخر الدين منقوض بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين.

١٠٦

صاحب الدور ، في صفات الفضيلة. فيكون ذلك الشخص بالنسبة إليه ، كالقمر بالنسبة إلى الشمس ، وهو الإمام القائم مقامه ، المقرر شريعته. وأما الباقون فنسبة كل واحد منهم إلى صاحب الدور الأعظم ، كنسبة كوكب من الكواكب السيارة إلى الشمس. وأما عوام الخلق فهم بالنسبة إلى أصحاب الأدوار مثل حوادث هذا العالم بالنسبة إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب. ولا شك أن [عقول الناقصين تكمل بأنوار (١) عقول أصحاب الأدوار ، وتقوي بقوتها.

فهذا كلام معقول مرتب على الاستقراء الذي يفيد القطع واليقين.

المقدمة الخامسة : إن ذلك الإنسان الذي هو أكمل الكاملين ، وأفضل الفضلاء والعلماء ، يكون في آخر الأفق الأعلى من الإنسانية. وقد علمت أن آخر كل نوع : متصل بأول النوع الذي هو أشرف منه. والأشرف من النوع البشري هم الملائكة فيكون آخر البشرية متصلا بأول الملكية. ولما بينا أن ذلك الإنسان موجود في أعلى مراتب البشرية ، وجب أن يكون متصلا بعالم الملائكة ومختلطا بهم ، ولما كان من خواص عالم الملائكة : البراءة عن العلائق الجسمانية ، والاستيلاء على عالم الاجسام ، والاستغناء في أفعالها عن الآلات الجسمانية ، كان هذا الإنسان موصوفا بما يناسب هذه الصفات [فيكون قليل الالتفات إلى الجسمانيات ، قوي التصرف فيها ، شديد الانجذاب إلى عالم الروحانيات (٢)] فتكون قوته النظرية مستكملة بأنواع الجلايا القدسية ، والمعارف الإلهية ، وتكون قوته العملية مؤثرة في أجسام هذا العالم بأنواع التصرفات. وذلك هو المراد من المعجزات. ثم بعد الفراغ من هذين المقامين تكون قوته الروحانية ، مؤثرة في تكميل أرواح الناقصين في قوتي النظر والعمل. ولما عرفت أن النفوس الناطقة مختلفة بالماهيات ، فقد تكون بعض النفوس قوية كاملة في القوة النظرية ، وضعيفة في القوة العملية ، وقد تكون بالضد منه ، فتكون قوية في التصرف في أجسام العالم العنصري ، ضعيفة في

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) سقط (ت).

١٠٧

المعارف النظرية الإلهية. وقد تكون كاملة قاهرة فيهما [جميعا ، وذلك في غاية الندرة ، وقد تكون ناقصة فيهما (١)] جميعا. وذلك هو الغالب في أكثر الخلق.

إذا عرفت هذه المقدمات. فنقول : مرض النفوس الناطقة شيئان : الإعراض عن الحق ، والإقبال على الخلق [وصحتها شيئان : الإقبال على الحق ، والإعراض عن الخلق (٢)] فكل من دعا الخلق إلى الإقبال على الحق [والإعراض عن الخلق (٣)] فهو النبي الصادق. وقد ذكرنا : أن مراتب هذا النوع من الناس : مختلفة بالقوة والضعف والنقصان ، وكل من كانت قدرته على إفادة هذه الصحة ، أكمل ، كان أعلى في درجة النبوة ، وكل من كانت درجته في هذا الباب أضعف ، كان انقص في درجة النبوة [فهذا ما أردنا شرحه وبيانه من حال النبوة. والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (ت).

(٤) من (ل).

١٠٨

الفصل الثاني

في

أن القرآن العظيم يدل

على أن هذا الطريق هو الطريق

الأكمل الأفضل في اثبات النبوة

[أعلم أنا سنذكر سورا من القرآن ونفسرها ، ليظهر من ذلك التفسير : صحة هذا الطريق الذي ذكرناه. فمنها : سورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) فنقول قد علمت أن الأصل هو الإلهيات ، والفرع هو النبوات. فلا جرم جرت العادة في القرآن أنه يقع الابتداء بتقرير الإلهيات ، ثم يقع (٢) الشروع في تقرير النبوات بعدها. ففي هذه السورة بدأ بالإلهيات ، فقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ومعناه : أنه أعلى من مناسبة جميع الممكنات. ومشابهة كل المحدثات (٣) لأنها مركبة من المادة والصورة باعتبار ، ومن الجنس والفصل باعتبار ثاني ، ومن قبول التغير والفناء ، إما في الذات ، وإما في الصفات [وهو سبحانه أعلى من كل هذه الأشياء في كل هذه الصفات (٤)] وفيه لطيفة أخرى لا يمكن ذكرها.

واعلم أن أكثر الدلائل المذكورة في القرآن على إثبات الإله تعالى ، محصورة في قاعدة واحدة ، وهي حدوث الصفات ، وهي إما في الحيوانات ، وإما في النبات. والحيوان كذلك له بدن ونفس. فقوله : (خَلَقَ فَسَوَّى) إشارة إلى ما في أبدانها من العجائب. وقوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) إشارة

__________________

(١) أول سورة الأعلى.

(٢) إلى هنا : في (ت) في الفصل الثاني في أن القرآن العظيم يدل ... الخ.

(٣) من هنا مذكور في (ت) في فصل تقرير طريقة الفلاسفة.

(٤) من (ل).

١٠٩

إلى ما في نفوسها من الغرائب. فنبه بهذين الضابطين على ما لا نهاية له من العجائب والغرائب ، ثم أتبعه بذكر الدلائل المأخوذة من النبات ، وهو قوله : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى).

ولما قرر أمر الإلهيات ، أتبعه بتقرير أمر النبوات. وقد علمت أن كمال حال الأنبياء عليهم‌السلام. في حصول أمور أربعة : أولها : كمال القوة النظرية (١) وثانيها : كمال القوة العملية. وثالثها : قدرته على تكميل القوة النظرية لغيره. [ورابعها : قدرته على تكميل القوة العملية التي لغيره (٢)] ولا شك أن كمال حاله في القوتين [مقدم على قدرته على تكميل غيره في هاتين القوتين (٣)] ولا شك أن القوة النظرية أشرف من القوة العملية. فهذا البيان يقتضي أن يقع الابتداء أولا بشرح قوته النظرية. وثانيا بشرح قوته العملية. وثالثا : بكيفية حاله في القدرة على تكميل القوة النظرية التي للناقصين ورابعها : كيفية حالة في القدرة على تكميل القوة العملية التي للناقصين (٤)] فإذا ظهر كماله في هذه المقامات الأربعة ، فحينئذ يظهر أنه بلغ في صفة النبوة والرسالة إلى الغاية القصوى.

إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لما ذكر أصول الإلهيات ، وأراد الشروع في صفات النبوة ، بدأ أولا بكمال حاله في القوة النظرية ، فقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) يعني : أن نفسك نفس قدسية آمنة من الغلط والنسيان (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يحصل بمقتضى الجبلة الإنسانية ، والطينة البشرية. ثم أتبعه ببيان كمال حاله في القوة العملية فقال : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) ومعناه : أنا نقوي دواعيك في الأعمال التي تفيد اليسر والسعادة في الدنيا والآخرة. ثم لما بين كمال حاله في هذين المقامين ، أتبعه بأن أمره بأن يشتغل بتكميل الناقصين ، وإرشاد المحتاجين ، فقال : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) فقوله : (فَذَكِّرْ) أمر له بإرشاد الناقصين ، وقوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) [تنبيه على

__________________

(١) العلمية (ت).

(٢) سقط (ت).

(٣) سقط (ت).

(٤) من (ل).

١١٠

أنه ليس كل من سمع ذلك التذكير : انتفع به (١)] فإن النفوس الناطقة : مختلفة ، فبعضها ينتفع بذلك التذكير ، وبعضها لا ينتفع به ، وبعضها يضره سماع ذلك التذكير ، لأن سماعه يثير في قلبه دواعي الحسد والغيظ والغضب والإصرار على الجهل. ثم لما نبه تعالى على أن المستمع لذلك التذكير قد ينتفع به ، وقد لا ينتفع به ، أتبعه ببيان خاصية كل واحد من هذين القسمين ، فبين أن صفة من ينتفع بهذا التذكير ، هو أن يكون الخوف غالبا على قلبه ، والخشية مستولية على روحه. ولأجل ذلك الخوف : يطلب زاد المعاد ، فلا جرم أنه ينتفع بإرشاد هذا المحق. وأما الذي لا ينتفع بهذا التذكير ويتباعد عنه ، ويجتنب من القرب منه ، فهو النفس الموصوفة بكونها أشقى النفوس ، فإنها تبقى في عناء هذا العالم ، وبعد الموت تقع في نيران الحسرة والوحشة. ولما بين هذا ، أزاله في صفته ، فقال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ، وَلا يَحْيى) وإنما قال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) لما ثبت أن النفس لا تموت بموت البدن ، وإنما قال : (وَلا يَحْيى) لأنها وإن بقيت حية ، لكنها بقيت في العذاب. والموت خير من هذه الحياة ، فلهذا قال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ولما بين من لا ينتفع بذلك التذكير ، بين كمال حال من ينتفع به ، فقال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) وذلك لأن المقصود من تعليم الأنبياء ، وتذكيرهم وإرشادهم : أمران : أحدهما : إزالة الأخلاق الذميمة الجسمانية (٢) عن النفس. والثاني : تحصيل الصفات الحميدة الروحانية في النفس ، ولما كانت إزالة ما لا ينبغي مقدمة على تحصيل ما ينبغي ، لا جرم ابتدأ بقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) والمراد منه : تزكية النفس وتطهيرها عن الصفات المذمومة ، ولما ذكر ذلك ، أتبعه بتحصيل ما ينبغي ، وذلك إما في القوة النظرية ، أو في القوة العملية. ورئيس المعارف النظرية : ذكر الله تعالى ومعرفته ، ورئيس الأعمال الفاضلة : خدمة الله تعالى. فلهذا قال : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) وهو إشارة إلى استسعاد الإنسان في تكميل [قوته

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) الروحانية (ل).

١١١

النظرية بإرشاد الأنبياء. وقوله : (فَصَلَّى) إشارة إلى استسعاده في تكميل (١)] قوته العملية بإرشادهم وهدايتهم. ثم عاد إلى بيان أحوال المعرضين عن الانتفاع بإرشاد الأنبياء عليهم‌السلام. وهدايتهم. وبين أن ذلك الإعراض إنما تولد عن حب الدنيا وقوة الرغبة فيها [فقال: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢) ثم بين أن الرغبة في الروحانيات التي تحصل في عالم الآخرة راجحة على لذات هذه الدنيا من وجهين :

أحدهما : أنها خير من اللذات الجسمانية. وقد سبق تقريره في كتاب «النفس (٣)».

والثانية : أنها أبقى من هذه الجسمانيات. وذلك معلوم بالضرورة.

واعلم : أنه ظهر بهذه الآيات أمور أربعة : فأولها : أحوال الإلهيات. وثانيها : صفات النبي (٤) والرسول. وثالثها : انقسام المستمعين إلى من ينتفع بإرشاد الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وإلى من لا ينتفع به ، وبيان أحوال كل واحد من هذين القسمين. ورابعها : التنبيه على أن خيرات الآخرة أفضل وأبقى من خيرات هذه الحياة الدنيا. والأفضل الأبقى ، أولى بالتحصيل. وعند هذا قد تم كل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ ، ومعرفة صفات الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ومعرفة أحوال النفس ، ومعرفة الآخرة.

ثم ختم السورة بقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) والمعنى : أن كل من جاء من الأنبياء وأنزل الله عليه كتابا وصحيفة ، فلا مقصود منه إلا هذه المراتب الأربعة المذكورة ، ومن وقف على أسرار هذه السورة على الوجه الذي لخصناه ، علم أن حقيقة القول في النبوة : ليس إلا ما ذكرناه.

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ت).

(٣) التفسير (ط).

(٤) الله والرسول (ط).

١١٢

ومن جملة السور اللائقة بهذا المعنى سورة العصر. فبدأ بقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) وذلك لأنا بينا أنه حصل في بدنه تسعة عشر نوعا من أنواع القوى ، وكلها تجره إلى الدنيا وطيباتها ولذاتها. وهي الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة ، والشهوة والغضب ، والسبعة النباتية. فمجموعها تسعة عشر ، وهي الزبانية الواقفة على باب جهنم : الجسد.

وأما العقل ، فإنه مصباح ضعيف. إنما حصل بعد استيلاء تلك التسعة عشر على مملكة البدن ، وإذا كان كذلك ، فالظاهر أن حب الدنيا يستولي على النفوس والأرواح. فإذا مات البدن ، بقيت النفس في الخسران والحرمان. فلهذا قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ثم إنه استثنى من هذا الخسران ، إنسانا يتناول ترياق الأربعة ، وهو ترياق روحاني من أخلاط أربعة روحانية. أولها : كمال القوة النظرية ، وهو قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) وثانيها : كمال القوة العملية [وهو قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وثالثها : السعي في تكميل القوة النظرية للغير ، وهو قوله : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) ورابعها : السعي في تكميل القوة العملية (١)] للغير ، وهو قوله : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) وإنما عين الصبر ، لأن البلاء الأكبر في دعاء الشهوة إلى الفساد ، والغضب إلى الإيذاء ، وسفك الدماء ، كما أخبر عن الملائكة أنهم قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)؟ (٢) فإذا قدر الإنسان على الصبر ، عن إجابة الشهوة والغضب ، فقد فاز بكل الخيرات في القوة العملية.

ومن جملة الآيات الدالة على صحة ما ذكرناه : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طلبوا منه المعجزات القاهرة في قوله : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٣) ثم إنه تعالى قاله له : (قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟ يعني : كون الشخص إنسانا موصوفا بالرسالة ، معناه : كونه كاملا في قوته النظرية والعملية ، وقادرا على معالجة الناقصين في

__________________

(١) من (ل ، ط).

(٢) البقرة ٣٠.

(٣) الإسراء ٩٠.

١١٣

هاتين القوتين. وليس من شرط حصول هذه الصفة ، كونه قادرا على الأحوال التي طلبتموها مني.

ومن جملة الآيات الدالة على صحة ما ذكرناه أيضا : أنه تعالى لما قال في سورة الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) أورد عليه سؤالا ، وهو أنه : لم لا يجوز أن يكون هذا من تنزيل الشياطين؟ فقال جوابا عنه : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) ثم بين الجواب ، فقال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) والمعنى : أنه إن كانت الدعوة إلى طلب الدنيا (٢) وطلب اللذات والشهوات ، كان ذلك الداعي أفاكا أثيما ، والذين يعينونه عليه هم الشياطين. وأما أنا فأدعو إلى الله ، وإلى الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، ولا يكون هذا [بإعانة الشياطين (٣)] بل بإعانة الله تعالى. فاستدل بكون دعوته إلى الله تعالى وإلى الحق ، على كونه نبيا صادقا ، لا ساحرا خبيثا. ولما أورد عليه سؤالا آخر ، وهو : أن لكل واحد من الشعراء شيطانا يعينه على شعره ، فلم لا يجوز أن يكون حالك كذلك؟ أجاب عنه بقوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) والمعنى : أن الشاعر إنما يدعو إلى الطمع في الدنيا وإلى الترغيب في اللذات البدنية ، وأما أنا فأدعو إلى الله تعالى وإلى الدار الآخرة ، فامتنع أن يكون الناصر والمعين في هذه الطريقة : هو الشياطين.

فظهر الفرق وقد ظهر بهذه الآيات : أن الطريق الذي ذكرناه في إثبات النبوة هو الطريق الأكمل الأفضل [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) الشعراء ١٩٢.

(٢) النساء (ط).

(٣) سقط (ت).

(٤) من (ل).

١١٤

الفصل الثالث

في

صفة هذه الدعوة الى الله تعالى

أعلم : أن حرفة النبوة والرسالة عبارة عن دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق ، إلى خدمة الحق. ومن الإقبال على الدنيا ، إلى الإقبال على الآخرة. فهذا هو المقصود الأصلي.

إلا أن الناس لما كانوا حاضرين في الدنيا ، ومحتاجين إلى مصالحها ، وجب أن يكون له خوض في هذا الباب أيضا ، بقدر الحاجة.

فنقول : خوض الرسول ـ عليه‌السلام ـ إما أن يكون فيما يتعلق بالدين ، أو فيما يتعلق بالدنيا ، أما القسم الأول. وهو فيما يتعلق بالدين ، فيجب عليه البحث في أمور ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي : فهو أن يرشدهم إلى أن هذا العالم محدث ، وله إله ، كان موجودا في الأزل ، وسيبقى في الأبد ، وأنه منزه عن مماثلة الممكنات [وأنه موصوف بالصفات المعتبرة في الإلهية والكمال ، وهي القدرة النافذة في جميع الممكنات (١)] والعلم الساري في جميع المعلومات [والوحدانية المطلقة بمعنى كونه منزها عن الأجزاء والأبعاض (٢)] والفردانية بمعنى كونه منزها عن الضد والند ، والصاحبة والولد ، ثم يجب عليه

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) من (ل).

١١٥

أن يبين لهم (١)] أن كل ما يدخل في الوجود ، فهو بقضاء الله تعالى وبقدره ، وأنه منزه عن الظلم والعبث والباطل. كما قال بعضهم :

الحمد لله. ذي الآلاء. والنعم

والطول والفضل والإحسان والكرم

منزه الفعل عن عيب ، وعن عبث

مقدس الملك عن عزل ، وعن عدم

واعلم : أن هذا الذي ذكرناه يتفرع عليه أنواع من البحث :

النوع الأول :

لا يليق بصاحب الدعوة إيراد هذه المطالب ، كما يورده أهل الجدل والاستدلال. لأن ذلك الطريق يحمل السامعين على الاعتراض عليه ، وعلى إيراد الأسئلة عليه. فإذا اشتغل بالجواب عنها ، فربما أوردوا على تلك الأجوبة : أسئلة اخرى. ويحصل فتح باب المشاغبات والمجادلات. ولا يحصل المقصود البتة. بل الواجب إيراد البيانات البرهانية مخلوطة بطريقة الخطابة من الترغيب والترهيب ، فإن بسبب ما فيه من [قوة المقدمات البرهانية يبقى مستعظما في العقول ، وبسبب ما فيه من (٢)] طريقة الخطابة يكون تأثيره في القلوب أكمل ، ويكون بعد السامعين عن سوء الأدب ـ الذي يحصل بسبب المشاغبات ـ أتم.

النوع الثاني :

أنه لا يجوز أن يصرح بالتنزيه المحض ، لأن قلوب أكثر الخلق ، تنفر عن قبول مثل هذا الكلام. فإذا وقع التصريح به ، صار ذلك سببا لنفرة أكثر الخلق عن متابعته. بل الواجب عليه أن يبين أنه ـ سبحانه وتعالى ـ منزه عن مشابهة المحدثات ، ومناسبة الممكنات. كما قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ،

__________________

(١) آخر النقل من (ط) ، (ت) وفي (ت) بعد هذا الموضع : «وأما القسم الثاني ، وهو أن يكون التقدير أن يكون حكم العقل في التحسين والتقبيح مردودا باطلا ... الخ. وهذا قد سبق في فصل «الشبهات المبينة على أنه ظهر على الأنبياء أعمال تقدح في صحة نبوتهم» ومن أول «وفيه لطيفة أخرى لا يمكن ذكرها» إلى هنا : مذكور في (ت) : في فصل «تقرير طريقة الفلاسفة».

(٢) من (ل).

١١٦

وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١) ثم بعد ذلك يقول : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (٢) ـ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٣) ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٤).

ويمنعهم عن البحث في هذه المضائق [والخوض في هذه الدقائق (٥)] إلا إذا كان من الأذكياء المحققين ، والعقلاء المفلقين فإنه بعقله الوافر يقف على حقائق الأشياء. وأيضا

يبين لهم : كون العبد صانعا فاعلا ، قادرا على الفعل والترك ، والخير والشر. ويبالغ فيه ، فإنه إن ألقى إليهم الخير المحض تركوه ، ولم يلتفتوا إليه. ويبين لهم أيضا : أنه وإن كان الأمر كذلك ، إلا أن الكل بقضاء الله ـ تعالى ـ وقدره ، فلا يعزب عن علمه وحكمه : مثقال ذرة في السموات والأرض ، ثم يمنعهم بأقصى الوجوه عن الخوض في هذه الدقائق ، فإن طباع أكثر الخلق بعيدة عن هذه الأشياء.

وبالجملة : فأحسن الطرق في دعوة الخلق إلى عبودية الحق. هو الطريق الذي جاء به سيد الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام. وذلك لأنه يبالغ في تعظيم الله تعالى في جميع الوجوه على سبيل الإجمال ، ويمنعهم من الخوض في التفصيل. فيذكر في إثبات التنزيه قوله : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٦) وإذا كان غنيا على الإطلاق ، امتنع كونه مؤلفا من الأجزاء ، وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون متحيزا. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون حاصلا في الأمكنة والأحياز. وذكر أيضا قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٧) ولو كان جسما ، لكان ذاته مثلا لسائر الأجسام ، بناء على قولنا : إن الأجسام بأسرها متماثلة. ثم إنه ذكر في جانب الإثبات : ألفاظ كثيرة ، وبالغ فيها. وهذا هو الواجب. لأنه لو لم يذكر هذه الألفاظ ، لما قرر عند الأكثرين كونه موجودا. وأيضا : بالغ في

__________________

(١) الشورى ١١.

(٢) الأنعام (٦١).

(٣) فاطر ١٠.

(٤) طه ٥.

(٥) سقط (ل).

(٦) محمد ٣٨.

(٧) الشورى ١١.

١١٧

تقرير كونه عالما بجميع المعلومات ، فقال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (١) وقال : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) (٢) ثم لم يقع في بيان أنه عالم لذاته ، أو بالعلم. وأيضا بين كون العبد فاعلا وعاقلا وصانعا وخالقا ومحدثا ، في آيات كثيرة. ثم بين في سائر الآيات : أن الخير والشر كله من الله تعالى ، ولم يبين أنه كيف يجمع بين هذين القولين ، بل أوجب الإيمان بهما على سبيل الإجمال. وأيضا : بين أنه لا يعزب عن مشيئة الله تعالى ، وإرادته وقضائه وتقديره [شيء البتة (٣)] ثم بين أنه لا يريد الظلم والعبث والباطل ولا يفعله. فالحاصل : أن طريقة نبينا في الدعوة هي تعظيم الله تعالى من جميع الجهات المعقولة ، والمنع من الخوض في بيان أن تلك الجهات هل تتناقض أم لا؟ فإنا إن قلنا : القبائح من أفعال العباد ، وحصلت بتخليق الله تعالى ، فقد عظمناه بحسب القدرة ، لكن ما عظمناه في الحكمة. وإن قلنا : إنها ليست من الله تعالى ، فقد عظمناه بحسب الحكمة ، ولكن ما عظمناه بحسب القدرة.

[وأما القرآن فإنه يدل على تعظيم الله تعالى بحسب القدرة (٤)] وبحسب الحكمة معا ، فقال [في الأول (٥)] : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٦) وقال في الثاني : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٧) ثم منع الناس من أن يخوضوا في تقرير هذا التعارض وفي إزالته. بل الواجب على العوام : الإيمان المطلق بتعظيم الله تعالى في القدرة وفي الحكمة. وفي الحقيقة ، فالذي قاله هو الصواب. فإن الدعوة العامة لا تنتظم إلا بهذا الطريق.

__________________

(١) الأنعام ٥٩.

(٢) الرعد ٨.

(٣) من (ت).

(٤) سقط (ل).

(٥) سقط (ط).

(٦) النساء ١٧.

(٧) النساء ٧٩.

١١٨

وأما القسم الثاني من المباحث المتعلقة بالأديان : ما يتعلق باليوم الحاضر. وذلك هو أن يكون العبد مشتغل الزمان بخدمة المعبود. وتلك الخدمة ، إما أن تعتبر في القلب ، وهو بالمعارف والعلوم. وإما بالبدن ، وهو الإتيان بالطاعات البدنية. وإما بالمال ، وهو الزكوات والصدقات. ولما كان جمهور الخلق محتاجين إلى مرشدين يرشدونهم إلى هذه المعارف ، وهم الأنبياء ، لا جرم وجب على الأنبياء أن يوجبوا عليهم الإيمان بالأنبياء والرسل.

والقسم الثالث من المباحث المتعلقة بالأديان : ما يتعلق باليوم المستقبل ، وهو معرفة الآخرة ، وأحوال ما بعد الموت.

فهذه الأقسام الثلاثة : أهم للأنبياء والرسل في أن يشتغلوا بتعريف أحوالها. وتفصيل آثارها.

واعلم : أن المهمات على قسمين : أحدهما : إزالة ما لا ينبغي. والثاني : تحصيل ما ينبغي. والأول متقدم على الثاني. لأن اللوح إذا حصل فيه نقوش فاسدة ، فالواجب إزالتها أولا ، حتى يمكن تحصيل النقوش الصحيحة فيه ثانيا. فثبت : أن إزالة ما لا ينبغي متقدمة على تحصيل ما ينبغي.

فلهذا السبب أول ما ذكره الله تعالى في القرآن هذه المراتب. وهي سبعة :

المرتبة الأولى : إزالة ما لا ينبغي ، وهو المراد بالتقي. فلهذا بدأ الله بذكره ، فقال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١) وأما سائر المراتب بعد ذلك فهي إشارة إلى تحصيل ما ينبغي. وأشرف ما يتعلق بالإنسان هو النفس ، وأوسط المراتب : البدن ، وأدونها المال ، ولهذا ذكر بعد قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) : قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فإن محل الإيمان هو القلب ، وبعده قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) لأنها تتعلق بالبدن ، وآخره قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) لأنه يتعلق بالمال ، ولما ذكر هذه الأحوال الأربعة المتعلقة بالإلهيات ، أرفدها بذكر مرتبتين متعلقتين بالنبوات ، فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ

__________________

(١) البقرة ٢.

١١٩

إِلَيْكَ) وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بالرسول الحاضر ، ثم قال بعده : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وهو إشارة إلى وجوب الإيمان بسائر الأنبياء المتقدمين ، وعند هذا تم ما يحتاج إليه في باب النبوات. ثم قال : في المرتبة السابعة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وهو الإشارة إلى الإيمان بالبعث والقيامة. ثم لما ذكر هذه المراتب السبعة ، وهي الأحوال المتعلقة بالأمس واليوم والغد ، فقد تمت المطالب ، وكملت المصالح. فلهذا قال بعده : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وذلك لأن الإنسان ما دام يكون في الدنيا ، فهو في الطريق. وأحسن أحوال المسافر إلى المقصد أن يكون على هدى من معرفة الطريق ، وإذا مات فقد وصل المسافر إلى المقصد. وأحسن أحواله أن يكون قد أفلح في ذلك السفر ، وفاز بالخيزات. فثبت بما ذكرنا : أن هذا الطريق في الدعوة : أحسن الطرق.

ولو اشتغلنا ببيان ما في هذه الشريعة من أنواع الأسرار القدسية ، والأنوار العلوية ، لطال الكلام [فاكتفينا بما سبق من الكلام. والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (ط ، ل).

١٢٠