المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠١

تمهيد

أعلم : أنا ما رأينا إنسانا عنده من هذا العلم شيء معتبر ، وما رأينا كتابا مشتملا على أصول معتبرة في هذا الباب. إلا أنا لما تأملنا كثيرا ، حصلنا فيه أصولا وجملا. فمن جاء بعدنا ، وفاز بالفوائد والزوائد في هذا الباب ، فليكن شاكرا لنا ، حيث رتبنا له هذه الأصول المضبوطة ، والقواعد المعلومة.

والكلام فيه مرتب على مقدمة ، ومقالة (١).

__________________

(١) ومقالات : الأصل. ولاحظ : أن المؤلف لم يذكر إلا مقالة واحدة.

١٤١
١٤٢

مقدمة

في بيان أنواع السحر

النوع الأول : وهو أعظمها قوة ، وأشدها تأثيرا ـ على ما يقال ـ السحر المبني على مقتضيات أحكام النجوم.

وتقرير الكلام فيه : أنه ثبت بالدلائل الفلسفية : أن مبادي حدوث الحوادث في هذا العالم ، هو الأشكال الفلكية ، والاتصالات الكوكبية. ثم إن التجارب المعتبرة في علم الأحكام ، انضافت إلى تلك الدلائل ، فقويت تلك المقدمة جدا. ثم إن التجارب النجومية دلت على اختصاص كل واحد من هذه الكواكب السيارة بأشياء معينة من هذا العالم الأسفل ، فلكل واحد منها طعوم مخصوصة ، وروائح مخصوصة [وأشكال مخصوصة (١)] ومن المعادن كذا ، ومن النبات كذا ، ومن الحيوان كذا.

فإذا طلب من الكوكب حالة مخصوصة ، مناسبة لعمل مخصوص ثم جمع بين الأشياء الفعلية (٢) المناسبة لذلك الكوكب ، ولذلك الأثر ، فحينئذ قد حصل الفاعل القوي على ذلك الفعل ، وحصلت المواد القابلة لذلك الأثر ، المناسبة له. وعند الجمع بين الفاعل وبين القابل ، لا بد وأن يظهر الأثر. فهذا شرح هذا النوع من السحر.

__________________

(١) (ط ، ل).

(٢) الفعلية (ط) السفلية (ت) الفلسفية (ل).

١٤٣

النوع الثاني من أنواع السحر :

السحر المبني على قوة الوهم وتصفية النفس

وتقريره : أنه ثبت في علم النفس : أن النفوس الناطقة من جنس الأرواح الفلكية ، ومولدة منها. وكأنها قطرات من تلك البحار ، وشموع من تلك الشموس ، فلا محالة يكون لها أثر ما ، وقوة ما ، فإذا أعرضت النفس الناطقة عن التوجه إلى سائر الجوانب ، وبقيت متوجهة إلى غرض واحد ، ومطلوب معين ، قويت حينئذ قوتها ، واشتد تأثيرها ، فقدرت على إحداث أحوال غريبة في هذا العالم. وفيه سبب آخر : وهو أنها في حال الصفاء والرياضة تنجذب إلى الروح الفلكي ، الذي هو طباعها التام ، وأبوها الأصلي ، فسيرى من تلك الطباع التام ، قوة إلى جوهر النفس فيعظم لهذا السبب شأنها ، ويقوى تأثيرها.

النوع الثالث : السحر المبني على خواص الأدوية المعدنية والنباتية ، والحيوانية : ويدخل في هذا الباب خواص الأحجار المختلفة ، ويدخل فيه خواص الحيوانات التي نسعى في توليدها بطريق التعفينات ، وقد يكون لكل جزء من أجزاء تلك الحيوانات آثار خاصة. ورأيت كتابا في هذا الباب من مصنفات أبي بكر بن وحشية [ويدخل في هذا الباب : السحر المبني على خواص اعداد الوفق] (١).

النوع الرابع (٢) : السحر [المبني على العزائم والرقى (٣)] ويدخل في هذا الباب السحر (٤)] المرتب على الاستعانة بالأرواح السفلية ، المسماة بالجن والشياطين ؛ والكلام في إثبات هذا الجنس من الأرواح ونفيه قد سبق على الاستقصاء. وجمهور من يخوض في علم التعزيمات إنما يتمسكون بما في هذا الباب.

__________________

(١) من (ل).

(٢) في (ت) : النوع الثالث.

(٣) النوع الرابع : لسحر المبني على العزائم والرقى : سقط (ط).

(٤) [المبني على العزائم والرقى ويدخل في هذا الباب السحر] : سقط (ل).

١٤٤

النوع الخامس من السحر : السحر المبني على الاستعانة بالأرواح الفلكية.

فإنا قد بينا أن أكثر فرق أهل العالم مطبقون على إثبات هذه الأرواح ، وعلى أن لها آثارا عظيمة في هذا العالم. وعند هذا قال بعضهم : إنه يمكن الاستعانة بها بطرق مخصوصة ، وإذا حصل ذلك الاتصال ، فقد حصلت القدرة على خوارق العادات.

النوع السادس من السحر : ما يكون مرتبا على أعمال خفة اليد ، وطرق الشعبذة والسعي في إراءة ما لا وجود له في الخارج ، ومنه نوع يقال له الأخذ بالعيون. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره.

النوع السابع : السحر المرتب على علم الهندسة : ويدخل فيه علم جر الأثقال العظيمة بالآلات القليلة ، ومن جملتها : الأعمال العجيبة الغريبة ، المبنية على ضرورة الخلاء.

النوع الثامن : السحر المبني على الفأل والزجر وهذا النوع أيضا أقسام :

فأحدها : وهو أجودها. علم الفراسة. وهو قسمان :

فراسة روحانية ، وفراسة جسمانية.

وثانيها : علم الرمل.

وثالثها : علم اختلاج الأعضاء.

ورابعها : علم النظر في الأكتاف.

وخامسها : علم ضرب الأحجار ، على ما هو عادة بعض النسوان.

سادسها : علم النظر في الغضون ، والأسرة الموجودة في كف اليدين ، واخمص القدمين ، وكذا علم النظر في الخيلان الموجودة على ظاهر البدن.

وسابعها : العلم المأخوذ من كيفية طيران الطيور عن أو كارها ، واعتبار

١٤٥

السانج والبارح منها ، وكيفية أصواتها عند [التوجه إلى الإنسان ، وعند (١)] الانصراف عنه.

وثامنها : علم التفاؤل بجميع أنواع الحوادث في معرفة العسر واليسر (٢)].

النوع التاسع من السحر : المبني على إطعام الطعام الذي يوجب قلة العقل ، وضعف الرأي وبلادة الطبع. ثم إذا صار الإنسان كذلك فحينئذ يسهل تصريفه وتحريكه كيف أريد.

النوع العاشر : السحر المبني على ترويج الأكاذيب وأنواع المكر والخداع ومنه : الطرق التي توجب تسليط الخوف على القلب. وعند استيلاء الخوف ، يسهل ترويج أي شيء أريد.

فهذه الأقسام العشرة معلومة في الجملة. فأما الذي يقال : إن الساحر يأتي بأعمال يمكنه أن يطير ، وأن يتشكل بأشكال مختلفة في شكله وصورته ، وأن يقفز من بلد إلى بلد في أقل زمان فهو في غاية البعد [إلا إذا حمل ذلك على الاستعانة بالجن ، أو بسائر الأرواح ، وهو في غاية البعد (٣)].

واعلم : أن شيئا من هذه الأقسام لا يتم ولا يكمل إلا عند الاستعانة بالسحر المبني على النجوم. ولو قدر الساحر على أن يجمع أنواعا كثيرة منها ، كان أقوى وأكمل فيما يروم [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) من (ل).

(٣) من (ل).

(٤) سقط (ط).

١٤٦

مقالة في

تقرير الأصول الكلية المعتبرة

في السحر المبني على طريقة النجوم

١٤٧
١٤٨

الفصل الأول

في الطلاسم

قالت الفلاسفة والصابئة : الطلسم عبارة عن تمزيج القوى الفعالة السماوية ، بالقوى المنفعلة الأرضية ، لإحداث ما يخالف العادة ، أو للمنع مما يوافق العادة.

قالوا : وهذا بناء على إثبات القوى السماوية الفعالة ... قالوا : ويدل عليه وجهان :

أحدهما : (١) حجة عقلية صرفة. وثانيهما : حجة إقناعية قوية. أما الحجة العقلية الصرفة. فتقريرها : أن نقول : لا شك في وجود حوادث تحدث في هذا العالم ، وكل حادث فله سبب [فهذه الحوادث لها سبب (٢)] وذلك السبب إما أن يكون حادثا ، وإما أن يكون قديما.

أما القسم الأول : وهو أن القول بأن أسباب هذه الحوادث شيء حادث : فنقول : الكلام في ذلك الحادث ، كما في الأول. وذلك يوجب التسلسل. إلا أن التسلسل على قسمين :

__________________

(١) عبارة (ت) : المقالة الأولى في تقرير الأصول الكلية في السحر المبني على طريقة النجوم. وفيها فصول : الفصل الأول قالت الفلاسفة ... الخ.

(٢) سقط (ت).

١٤٩

أحدهما : أن تحصل جميع الأسباب ، والمسببات دفعة واحدة ، وقد بينا في برهان إثبات واجب الوجود لذاته : امتناعه.

والثاني : أن يكون كل واحد منها مسبوقا بغيره ، لا إلى أول ، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه.

ثم نقول : هذه الحوادث تحتمل قسمين :

أحدهما : أن يحصل في الوجود ، موجود روحاني ، ويكون دائما منتقلا من معقول إلى معقول آخر ، ومن إدراك إلى إدراك ، وبحسب تلك الإدراكات المتعاقبة ، والتصورات المتلاصقة ، تحدث في هذا العالم. ويجب أن يكون الموجود الروحاني أزليا أبديا سرمديا ، ويجب أن يكون شيئا غير الله تعالى. لما ثبت واجب الوجود لذاته : واجب الوجود من جميع جهاته. فيكون التغير عليه محالا ، فصاحب هذه الإدراكات المتغيرة : شيء غير الله تعالى.

فقد ثبت : أن القول بوجود أرواح عالية ، هي المدبرة لأحوال هذا العالم لا بد منه وبهذا الطريق فلا يتم السعي في إحداث شيء غريب في هذا العالم ، إلا بالاستعانة بتلك الأرواح.

وأما القسم الثاني : وهو أن تحصل حركة جسمانية سرمدية دائمة ، مبرأة عن المبدأ والمقطع. فنقول : تلك الحركة إما أن [تكون مستقيمة أو مستديرة ، والأول باطل لأن تلك الحركة. إما أن (١)] تمتد إلى غير النهاية ، فيلزم وجود أبعاد لا نهاية لها ، وهو محال ، وإما أن ترجع ، وحينئذ يحصل بين نهاية (٢) الذهاب ، وبداية الرجوع : سكون لما ثبت أنه لا بد وأن يكون بين كل حركتين من سكون ، وحينئذ لا تكون هذه الحركة دائمة ، مبرأة عن الانقطاع. فثبت (٣) أن كل حركة على الاستقامة ، فإنها تنقطع. فوجب : أن تكون كل

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) بداية (ت).

(٣) فثبت : أن تلك الحركة لا يمكن أن تكون مستديرة (ط) فثبت : أن تلك الحركة لا يمكن أن تكون إلا مستديرة ... وذلك ... الخ (ل).

١٥٠

حركة مستديرة. وذلك يدل على أن المبدأ الأول القريب لحدوث الحوادث. في هذا العالم : هو الحركة المستديرة الحاصلة للأجرام الفلكية. ثم قالت الفلاسفة : الأولى أن يجمع بين القسم الأول والثاني. حتى يكون جوهر الفلك ، كالبدن (١) وجوهر ذلك الروح كالنفس. والتعقلات المنتقلة الدائمة لذلك الجوهر الروحاني ، توجب الحركات لهذه الكرات (٢) الجسمانية ، ويكون مجموعها أسبابا لحدوث الحوادث في هذا العالم.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : السبب المقتضي لحدوث هذه الحوادث [موجود قديم أزلي. فنقول : تأثير ذلك الأزلي في حدوث الحوادث (٣)] إن كان غير موقوف على شرط حادث [فهو محال ، وإلا لزم كون هذا الحادث قديما وإن كان موقوفا على شرط حادث (٤)] عاد الكلام في كيفية حدوث ذلك الشرط الحادث ، ويلزم التسلسل ، ويعود جملة ما ذكرناه في القسم الأول.

فيثبت بهذا البيان : أن حدوث الحوادث في هذا العالم ، منوطة ومربوطة بالحركة المستديرة الفلكية ، المبرأة عن الانقطاع والتغير.

ثم نقول : الأجرام الفلكية بسائط ، والأجزاء (٥) المفترضة في الكرة البسيطة ؛ متشابهة بالطبع ، والماهية [والأسباب المتماثلة في الطبع والماهية (٦)] لا تفيد إلا معلومات متماثلة. فكان يجب أن تكون حوادث هذا العالم متساوية ، وذلك باطل. ولما بطل هذا ، وجب أن يحصل في الأجرام الفلكية ، أجسام (٧) مختلفة في الطبيعة والماهية. ولا بد وأن تكون تلك الأشياء متحركة. ويحصل لها بسبب حركاتها المختلفة : نسب مختلفة ، وتكون تلك النسب المختلفة ، مبادي لحدوث [الحوادث المختلفة في عالم الكون والفساد ، ومعلوم

__________________

(١) كالقلب (ت).

(٢) الحركات (ت).

(٣) من (ل).

(٤) من (ل).

(٥) والأجرام (ل).

(٦) سقط (ت).

(٧) (ت).

١٥١

أن تلك الأجسام المختلفة المركوزة (١)] في جواهر الأفلاك ليست [إلا (٢)] الكواكب. فثبت بما ذكرنا : أن مبادي الحوادث الحادثة في هذا العالم ليست إلا الاتصالات الكوكبية المختلفة. فهذا هو البرهان الذي عليه تعويل الفلاسفة في إثبات هذا المطلوب.

وأما الحجة الثانية ـ وهي الحجة الإقناعية ـ فهي أنهم قالوا : إنا قد ذكرنا وجوها كثيرة دالة على أن أحوال هذا العالم ، مرتبطة بأحوال الشمس في كيفية حركتها ، تحت منطقة البروج ، فإن بهذا السبب تصير الشمس تارة شمالية ، وتارة جنوبية ، ولأجل هذا الاختلاف تحصل الفصول الأربعة ، وبسببها تختلف أحوال هذا العالم ، [وأيضا : بسبب طلوع الشمس وغروبها في اليوم ، تختلف أحوال هذا العالم (٣)] وهذا استقراء قوي ، وبيان تام في استناد أحوال هذا العالم بحركات الكواكب.

ثم تأكد هذا البيان بنوع آخر من البيان ، وهو : أن الناس منذ كانوا من قديم الدهر ، كانوا متمسكين بعلم النجوم ومعولين عليها. فإنك ترى لكل علم أولا ، وإنسانا هو أول الناس خوضا فيه. إلا العلم الإلهي ، وعلم النجوم ، فإنك لا تصل إلى تاريخ ، إلا وترى أن هذين العلمين كانا موجودين قبله ، ولو كان هذا العلم باطلا ، لامتنع إطباق أهل الدنيا من الدهر الداهر ، إلى هذا اليوم ، على التمسك به والرجوع إليه. فهذه الوجوه ، بيانات ظاهرة في صحة هذا العلم [والله أعلم] (٤).

__________________

(١) من (ل) وعبارة (ت) ، و (ط) : النسب المختلفة مبادي لحدوث حادث ، والحوادث المذكورة في جواهر الأفلاك ... الخ.

(٢) ليست إلا الكواكب (ل) ليست للكواكب (ت).

(٣) سقط (ت).

(٤) من (ل).

١٥٢

الفصل الثاني

في

بيان أن الوقوف

على أصول هذا العلم عسر جدا

اعلم (١) : أن صعوبة هذا العلم تظهر من وجوه ثلاثة :

الأصل الأول : إنه يعسر علينا معرفة جميع النيرات الفلكية. وبيانه من وجوه :

الأول: إن الاستقراء يدل على أن رؤية الصغير من المسافة البعيدة : ممتنعة. وإذا ثبت هذا فنقول : إن أصغر كوكب من الكواكب الثابتة وهو الذي تمتحن برؤيته القوة الباصرة ، مثل الأرض بضع عشرة مرة. فلو قدرنا أن هذه الكواكب حصلت في الفلك الأعظم ، لصارت المسافة (٢) أعظم ، فحينئذ كان يمتنع إبصاره لا محالة. وإذا ثبت هذا ، فنقول : إنه يقال : إن عطارد جزء من ثلاثين ألف جزء من كرة الأرض. فهو في غاية الصغر ، فلو قدرنا حصول كواكب مساوية لعطارد في الجرم على الفلك الأعظم [أعني الجرم الأول (٣)] لكانت رؤيتها ممتنعة قطعا. فثبت : أن عدم إبصارنا لأمثال هذه الكواكب ، لا يدل البتة على عدمها. فإن قالوا : لو حصلت هذه الكواكب الصغيرة ، لم تكن

__________________

(١) الفصل الثاني في بيان هذا العلم عسر جدا : إن صعوبة العلم تظهر من وجوه ثلاثة الأول ... الخ (ت).

(٢) المسافة أبعد ، وكان يمتنع (ت).

(٣) سقط (ت).

١٥٣

لها قوة وتأثير أصلا. لأجل أن صغرها يوجب ضعفها. فنقول : هذا باطل لأن عطارد مع غاية صغره ، تقاربه سائر السيارات مع عظم أجرامها. بل نقول : الرأس والذنب نقطتان ، وأصحاب الأحكام أثبتوا لهما آثارا عظيمة بل نقول : سهم السعادة ، وسهم الغيب نقطتان وهميتان ، والأحكاميون أثبتوا لهما آثارا قوية. وأيضا النقط التي تنتهي إليها تسييرات درجة الطالع فقط : وهمية ، والقوم أثبتوا لها آثارا قوية.

الوجه الثاني : في بيان أن عدد النيرات الفلكية غير معلومة ، وهو أنه ثبت بالدليل أن المجرة ، ليست إلا أجراما كوكبية صغيرة الحجم ، مرتكزة في فلك الثوابت ، إلا أنها لصغرها لا يتميز بعضها عن البعض ، فنشاهد جملتها على صورة لطخة سحابية ، وهذا يدل على أن الوقوف التام على معرفة أعداد الكواكب : ممتنع الحصول.

الثالث : إن المحققين ذهبوا إلى أن المحو ، المحسوس في وجه القمر ، إنما حصل بسبب أن كواكب صغيرة ارتكزت في وجه القمر. وقال آخرون : إنه حصل في وجه الشمس فوق النقطة التي هي كالمركز لقرص الشمس : نقطة سوداء ، كالخال في وجه الشمس. إلا أنها لا تظهر لأجل قوة نور الشمس. وقد تعرض عوارض مخصوصة. تصير تلك النقطة السوداء كالمشاهدة ، وكل هذه الاعتبارات تدل على أن العقول البشرية ، قاصرة عن الإحاطة بعدد نيرات الأفلاك.

الرابع : إن أصحاب الأحكام أثبتوا شيئا ، يسمونه بالكبد ، وأثبتوا حظّا (١) من التأثير له ، وإذا جاز ثبوته ، فلم لا يجوز ثبوت غيره؟

الوجه الخامس : في بيان أن الأمر كما ذكرناه : إن الفلاسفة أطبقوا على أن الفلك جوهر بسيط ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : يجب أن تكون طبائع البروج متساوية في تمام الماهية ، وإلا لزم التركيب ، وإذا ثبت هذا ، فتأثير الكوكب

__________________

(١) إلى كلمة حظا في (ط) وما بعد ذلك ساقط إلى الشرط التاسع في الفصل السادس في التلبية على أصول أخرى.

١٥٤

حال كونه في برج ، يجب أن يكون مساويا لتأثيره حال كونه في سائر البروج ، لما ثبت في العقول أن حكم الشيء حكم مثله. ومعلوم أن ذلك على خلاف علم النجوم ، فأما أن يقال : إن طبائع البروج مختلفة بحسب الماهيات ، فذلك قول مردود عند الفلاسفة. أو يقال : إنه حصل في كل برج كواكب صغيرة لا نراها ولا نشاهدها ، ولأجل حصول تلك الكواكب في تلك البروج ، صارت طبائع البروج مختلفة في التأثرات. وذلك هو المطلوب.

الوجه السادس : إن الدلائل النجومية قد تختل وتفسد في كثير من الأوقات ، وما ذاك إلا بسبب ما ذكرنا. أنه حصلت هناك كواكب لا نعرفها. ولأجلها تختلف أحوال هذه الآثار [والله أعلم (١)].

الأصل الثاني من الأصول الموجبة لصعوبة هذا العلم :

أن نقول : إنه يعتبر الوقوف على معرفة مواضعها من الفلك بعد العمل بها. وذلك من وجوه :

الأول : إن الشيخ أبا علي بن الهيثم. صنف رسالة في أنواع الخلل الواقع في آلات الرصد ، وعد منها قريبا من ثلاثين وجها من الوجوه التي لا يمكن الاحتراز عنها.

الثاني : إن الإرصادات إذا تطاولت مدتها ، اختلت الأعمال المبنية عليها ، لأن صاحب الرصد ، وقع في حساباته المسامحات بالروابع والخوامس ، وما بعدها من الأجزاء ، فإذا طالت المدة ، اجتمعت تلك الكسور وكثرت ، وحصل التفاوت العظيم بسببها كما في هذا الزمان الذي نحن فيه. وهو أوائل الستمائة من الهجرة.

الثالث : إن الدقيقة الواحدة من الفلك ، تكون مثل كلية الأرض ، مرارا ، خارجة عن الضبط والتعديد ، ويقال : إن الفرس الجواد ، عند العدو الشديد ، إذا رفع يده ثم وضعها ، فإن في مثل ذلك الزمان القليل واللحظة

__________________

(١) من (ل).

١٥٥

اللطيفة يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ، ولا شك أن تلك الحركة تكون في غاية السرعة. إذا عرفت هذا فنقول : إنه إذا حدث حادث ، فالمنجم لا بد وأن يأخذ الاصطرلاب ، ويعرف موضع الكوكب ، وهذه الأعمال إنما تتم في زمان له قدر معين ، والفلك قد تحرك في ذلك الوقت مسافة لا حصر لها ولا حد ، وعلى هذا التقدير تصير معرفة طوالع الحوادث الحادثة في هذا ، كالأمور الميئوس منها.

الأصل الثالث من الأصول الموجبة لصعوبة هذا العلم : إن الوقوف على طبيعة كل كوكب بحسب تأثيره صعب عسير.

وتقريره. أن نقول : لا شك أن الكواكب إما ثابتة وإما سيارة.

أما الكواكب الثابتة فإن تأثيراتها أقوى من تأثيرات السيارة. ويدل عليه وجهان (١).

الأول : إنا بينا أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأجسام مرتبة على ثلاث مراتب.

المرتبة الأولى : الذي لا يتأثر. وهما الكرتان العاليتان. أعني الفلك الأعظم ، وفلك الثوابت. وهذه المرتبة أشرف المراتب وأعلاها. والمرتبة الأخيرة : هي مرتبة الجسم ، الذي يتأثر ولا يؤثر وهما الكرتان السافلتان. إحداهما : كرة اللطيف ، أعني الهواء والنار. والثانية : كرة الكثيف أعني الماء والأرض. فهاتان الكرتان : يقبلان الأثر من الكرات العالية ، وليس لها تأثير في شيء آخر. وأما المرتبة المتوسطة. فهي التي تقبل الآثار من السيارات عن الكرتين العاليتين ، وتؤديانه إلى الكرتين السافلتين ، وهو الكرات السبعة التي حصل فيها السيارات السبعة. وهذا الرأي متفق عليه بين الفلاسفة.

والاستقصاء فيه مذكور في باب صفات الكواكب. وهذا الاعتبار يدل

__________________

(١) سقط (ت).

١٥٦

على سبيل الإجمال : أن الثوابت أقوى وأكمل من السيارات.

والوجه الثالث في بيان أن الثوابت أقوى من السيارات : هو أنها أكمل من السيارات في أمور ثلاثة :

أولها : أنها أقرب في درجة المعلولية ، والعبودية إلى المبدأ الأول من هذه السيارات ، وذلك القرب هو المنبع لكل الكمالات.

وثانيها : أنها كثيرة في العدد جدا ، والكثرة مظنة القوة ، وأيضا : فالثوابت التي في العظم الأول [أكبر (١)] قدرا من كل السيارات إلا الشمس. والعظم في الجرمية ، يفيد العظم في القوة.

وثالثها : أنها أبطأ حركة. فيكون بقاؤها في الدرجة الواحدة أدوم. وقد علمت في الطبيعيات : أن دوام المسامتة ، يوجب كمال القوة. فثبت بهذه البيانات : أن الكواكب الثابتة أقوى قوة ، وأكمل تأثيرا من السيارات. وأيضا : الأحكاميون اتفقوا على أنه إذا وقع منها على موضع معين من الطوالع ، أعطت عطايا قوية إما في السعادة ، أو في النحوسة. وإذا ثبت هذا فنقول : إن الأحكاميين اتفقوا على أنهم لم يعرفوا من طبائعها إلا القليل. وإذا كان الأمر كذلك ، فقد ظهر الخبط والصعوبة في هذا العلم ، بسبب الجهل.

وأما السيارات : فنقول : هب أن طبائعها صارت معلومة ، إلا أنه بقيت الصعوبة من وجوه :

الأول : إن امتزاجات الكواكب ، ومناسباتها بحسب كل : حد ، ووجه ، ومثله ومنزل من منازل القمر ، ودرجة معينة من الدرجات الثلاثمائة وستين. تصير غير متناهية ، وما لا ينتهي لا يمكن معرفته؟

والثاني : هب أن مواضع الكواكب وامتزاجاتها صارت معلومة ، إلا أن أحكام طوالع الوقت قد تندفع بحسب الطوالع الأصلية ، وبحسب الأحوال

__________________

(١) زيادة.

١٥٧

الماضية في الفلك. ومن الذي يمكنه الوقوف على جميع الأحوال الماضية في الفلك؟

والثالث : إنه كما يعتبر في حصول الأثر ، حصول العلة الفاعلية فكذلك يعتبر في حصوله العلة القابلية ، ولهذا السبب اتفق المنجمون على أنه إذا ولد على الطالع الواحد : ابن مالك ، وابن قصاب. أو خباز [فإنه لا يتساوى أثر ذلك الطالع فيهم. فعلمنا : أن آثار الطوالع (١)] تختلف بحسب اختلاف أحوال المادة السفلية ، لكن المواد السفلية سريعة التغير ، شديدة التبدل. فكيف يمكن الوقوف على أحوالها؟ فهذا ضبط الوجوه المذكورة في بيان أن الوقوف على أحوال هذا العالم بالتمام. والكمال صعب ، إلا أن العقلاء اتفقوا على أن ما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، فهذا العلم وإن كان صعب المرام من هذه الوجوه ، إلا أن الاستقراء يدل على حصول النفع العظيم منه. وإذا كان كذلك ، وجب الاشتغال بتحصيله ، والاعتناء بشأنه ، فإن القليل منه كثير ، بالنسبة إلى أحوال مصالح البشر [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) زيادة من (ل).

(٢) من (ل).

١٥٨

الفصل الثالث

في

الطريق الذي حصل به

الوقوف على طبائع الأجرام الفلكية

[اعلم : إن الطريق إليه أحد أمور ثلاثة : القياس والتجربة والوحي.

أما القياس (١)] فهو أنهم لما شاهدوا الكمودة في لون زحل ، وهذه الكمودة تناسب السوداء حكموا عليه بكونه باردا يابسا ، ولما شاهدوا الحمرة في لون المريخ ـ وهذا اللون يشبه لون النار ـ حكموا عليه بكونه حارا يابسا.

والمختار عندنا : أن هذا الطريق ضعيف جدا. لا يجوز التعويل عليه. لأنه ثبت في علم الطب : أن الاستدلال بالألوان المخصوصة على حصول الطبائع المخصوصة ، أضعف أقسام الدلائل. بل الحق : أن هذه الألوان دالة دلالة ضعيفة على هذه الطبائع ، فلما أضافوا إليها التجارب ، خرجت التجربة مطابقة لهذا القياس ، فحصلت معرفة طبائعها بناء على مجموع الأمرين ، فذلك القياس هو المبدأ المحرك للعقول. والخواطر ، وهذه التجارب هي التمام والكمال.

واعلم : أن طريق التجربة : هو أنه متى حدث نوع من أنواع الحوادث في هذا العالم ، فإن صاحب التجربة يتعرف أن الأوضاع الفلكية كيف كانت ، تعرفا على [سبيل الاستقصاء والكمال ، فإذا وقع مثل ذلك الحادث مرة ثانية

__________________

(١) من (ل).

١٥٩

وثالثة ورابعة وخامسة (١)] وتعرف الأحوال الفلكية ، وحدها مثل الحالة الأولى فحينئذ يحصل في القلب : ظن قوي بأن ذلك الوضع الفلكي المعين ، يوجب حدوث النوع الفلاني من الحوادث في هذا العالم.

والحاصل : أن التجربة عبارة عن الاستدلال بحدوث الحوادث المخصوصة في هذا العالم ، على معرفة طبائع الأوضاع الفلكية ، فإذا تأكدت تلك التجربة ، فبعدها يستدل بحصول ذلك الوضع الفلكي المعين ، على حدوث ذلك النوع من الحوادث في هذا العالم.

واعلم : أن هذا الاستدلال قد اعتبره أهل الأرض من الزمان الأقدم إلى الآن. فمن أراد أن يصير ماهرا في هذا العلم ، وجب عليه أنه كلما رأى نوعا من الحوادث في هذا العالم ، أن يستقصي في تعرف الوضع الفلكي المقارن لحدوث ذلك الحادث ، ويقابل تجربته بأقوال المتقدمين ، فإذا واظب على هذا الطريق مدة مديدة ، واتفق أن كانت نفسه مناسبة لهذا العلم بحسب الفطرة الأصلية : يبلغ فيه مبلغا عظيما. فهذا بيان طريق القياس والتجربة.

وأما الطريق الثالث وهو طريق الوحي والإلهام : فهذا أيضا متفق عليه عند أصحاب هذا العلم.

حكى : تنكلوشا : أن ذواناي (٢) سيد البشر. لما بلغ في تصفية النفس ، ورياضة الذهن ، لاحت له من الصور الفلكية ، ما لا يمكن وصفه.

واعلم : أنك لا ترى دينا من الأديان ، ولا مذهبا من المذاهب ، إلا وأكثر أصوله يكون مبنيا على النقل عن السلف. فلا يبعد مثله أيضا في هذا العلم [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) من (ل).

(٢) دواباتي شتيه شدة البشر (ت).

(٣) من (ل).

١٦٠