المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠١

الفصل الرابع

في

بيان أن محمدا عليه الصلاة

والسلام أفضل من جميع الأنبياء والرسل

أعلم (١) أنا بينا : أن الرسول هو الذي يعالج الأرواح البشرية ، وينقلها من الاشتغال بغير الله تعالى ، إلى الاشتغال بعبادة الله تعالى. ولما كان المراد من الرسالة والنبوة : هو هذا المعنى ، فكل من كان صدور هذه الفوائد عنه أكثر وأكمل ، وجب القطع بأن رسالته أعظم وأكمل. وإذا عرفت هذا ، فنقول : إن تأثير دعوة موسى عليه‌السلام كانت مقصورة على بني إسرائيل فقط (٢) وأما دعوة عيسى عليه‌السلام فكأنه لم يظهر لها تأثير إلا في القليل القليل ، وذلك لأنا نقطع بأنه عليه‌السلام ما دعا إلى الدين الذي يقول به هؤلاء النصارى ، لأن القول بالأب ، والابن [وروح القدس : قول بالتثليث (٣)] والتثليث : أقبح أنواع الكفر ، وأفحش أقسام الجهل ، ومثل هذا لا يليق بأجهل الناس ، فضلا

__________________

(١) في (ت) : الفصل الرابع عشر.

(٢) علماء المسلمين اختلفوا في دعوة موسى عليه‌السلام. فبعضهم قال : كانت عالمية بدليل أن فرعون وقومه دعاهم موسى إلى الإيمان ، وبدليل أن ملكة سبأ أسلمت مع سليمان ـ وقد كان سليمان على شريعة موسى ـ وبأدلة أخرى. وبعضهم قال : كانت خاصة وذكر الإمام النسفي في أول سورة آل عمران أن كلمة «الناس» قد تفيد العموم وقد تفيد الخصوص. وسواء كانت دعوة موسى عامة أو خاصة ـ ولقد كانت عامة ـ فإن المسلمين لا يهتمون بهذا ، وإنما يهتمون بإثبات أن القرآن قد نسخ التوراة ـ لأن إثبات النسخ هو القضية الحاضرة. أما الخصوص أو العموم لموسى ، فإن زمانه قد مضى.

(٣) زيادة.

١٢١

عن الرسول المعظم. فعلمنا : أنه ما كانت دعوته البتة ، إلى هذا الدين الخبيث ، وإنما كانت دعوته إلى التوحيد والتنزيه (١).

ثم إن تلك الدعوة ما ظهرت البتة ، بل بقيت مطوية غير مروية. فثبت أنه لم يظهر لدعوته إلى الحق أثر البتة.

وأما دعوة محمد عليه‌السلام إلى التوحيد والتنزيه ، فقد وصلت إلى أكثر بلاد المعمورة ، والناس قبل مجيئه كانوا على الأديان الباطلة. فعبدة الأصنام كانوا مشتغلين بعبادة الحجر والخشب. واليهود كانوا في دين [التشبيه ، وصنعة التزوير ، وترويج الأكاذيب. والمجوس كانوا في عبادة الإلهين (٢)] ونكاح الأمهات والبنات. والنصارى كانوا في تثليث الأب ، والابن وروح القدس. والصابئة كانوا في عبادة الكواكب. فكأن أهل العالم معرضين عن الدين الحق ، والمذهب الصدق ، فلما أرسله الله تعالى إلى هذا العالم ، بطلت الأديان الباطلة ، وزالت المقالات الفاسدة ، وطلعت شموس التوحيد ، وأقمار التنزيه من قلب كل أحد ، وانتشرت تلك الأنوار في بلاد العالم. فثبت : أن تأثير دعوة محمد عليه‌السلام في علاج القلوب المريضة والنفوس الظلمانية ، كان أتم وأكمل من تأثير دعوة سائر الأنبياء. فوجب القطع بأنه أفضل من جميع الأنبياء والرسل ، في كل ما يتعلق بالنبوة والرسالة. وهذا برهان ظاهر من باب برهان الله. فإنا بحثنا عن حقيقة النبوة والرسالة. ثم بينا : أن كمال تلك الماهية ، ما حصلت لأحد من الأنبياء ، كما حصل لمحمد عليه الصلاة والسلام.

__________________

في الفصل الرابع بعد المائة من إنجيل برنابا وما بعده : «قال متى : يا معلم إنك لقد اعترفت أمام اليهودية كلها بأن ليس لله من شبه كالبشر. وقلت الآن : إن الإنسان ينال من يد الله. فإذا كان لله يدان ، فله إذن : شبه بالبشر؟ أجاب يسوع : إنك لفي ضلال يا متى. ولقد ضل الكثيرون هكذا ، إذ لم يفقهوا معنى الكلام ، لأنه لا يجب على الإنسان أن يلاحظ ظاهر الكلام ، بل معناه : أن الكلام البشري بمثابة ترجمان بيننا وبين الله. ألا تعلم أنه لما أراد الله أن يكلم آباءنا على جبل سيناء ، صرخ آباؤنا : كلمنا أنت يا موسى. ولا يكلمنا الله لئلا نموت؟ وما ذا قال الله على لسان أشعياء النبي : أليس كما بعدت السموات عن الأرض ، هكذا بعدت طرق الله عن طرق الناس ، وأفكار الله عن أفكار الناس؟ إن الله لا يدركه قياس ، إلى حد أني ارتجف من وصفه ... الخ».

سقط (ت).

١٢٢

الفصل الخامس

في

بيان أن اثبات النبوة بهذا الطريق

أقوى وأكمل من اثباتها بالمعجزات

اعلم (١) : أن التمسك بطريق المعجزات من باب برهان الإنّ. وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر على سبيل الاحتمال (٢) فإنا نعرف بظهور المعجز عليه ـ عليه‌السلام ـ كونه مشرفا عند الله على سبيل الإجمال. من غير أن نعرف كيفية ذلك الشرف. وأما هذا الطريق الثاني فهو من باب برهان العلم. وذلك لأنا بينا : أن الأمراض الروحانية غالبة على أكثر النفوس [فلا بدلهم من طبيب. ونشاهد : أن هذا الرجل معالج ويؤثر علاجه ويفيد الصحة بقدر(٣)] الإمكان. فهذا يدل على كونه طبيبا حاذقا في هذا الباب. وحينئذ يظهر : أن هذا الإنسان لا حاجة به في معرفته ، إلى أن يكون عالما بدقائق [المنطق والطب والهندسة والحساب. بل كونه عالما بها. مستغلا باستنباط دقائقها (٤)] مما يضره في كونه مستغرقا في معرفة الله تعالى. وعند هذا تزول جملة الشبهات المذكورة في باب نفي النبوات. فإنه دلت المشاهدة على أن محمدا ـ عليه‌السلام كان طبيبا حاذقا في علاج هذه الأمراض كما بيناه ، بل كان روحه قدرت على قلب طبائع أهل الدنيا ، فنقلهم من الباطل إلى الحق ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن

__________________

(١) الخامس عشر في بيان إثبات النبوة كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام (ت).

(٢) الإجمال (ت ، ط).

(٣) سقط (ت).

(٤) من (ل).

١٢٣

الأديان الفاسدة إلى العقائد الصحيحة بقدر الإمكان.

وأما قولهم : «إن النسخ كلام لا فائدة منه» فنقول : قد ذكرنا أن الشرائع على قسمين :

عقلية لا تقبل النسخ. وحاصلها يرجع إلى ما ذكرناه في قوله عليه‌السلام «التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله» ولما كان طريان النسخ عليهما محالا. لا جرم قال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ : أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (١).

وأما القسم الثاني وهو الشرائع الوضعية. وهي الأحوال القابلة للنسخ ـ فالفائدة في النسخ : أن الإنسان إذا واظب على أمر من الأمور مدة مديدة ، صار ذلك كالمألوف المعتاد ، فيأتي بتلك الأعمال للإلف والعادة ، لا للإخلاص والعبادة. فيحسن إبدالها بغيرها ، إزالة لهذه الحالة التي ذكرناها (٢).

وقوله : «شرع النهب (٣) والقتل لتقرير هذا المقصود» فيقال له : إن طبه وعلاجه في الأصول المهمة : إنما يؤثر فيهم ، لو كان مقبول القول فوجب عليه تقرير هذا الطريق في الجزئيات الصغيرة ، ليبقى النفع في الكليات القوية.

وأما قولهم : «الألفاظ الموجبة للتشبيه وردت في القرآن» فنقول : قد بينا أن مخاطبة الجمهور بالتنزيه المحض : معتذر ، فوجب المصير إلى طريقة متوسطة

__________________

(١) آل عمران ٦٤.

(٢) الواضح من القرآن الكريم في هذا الشأن : أن شريعة بني إسرائيل كانت ثقيلة وصعبة على الناس. والله أراد أن يخفف على الناس بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل : «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم».

(٣) في سفر الخروج : «وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس ، وعينا بعين ، وسنّا بسن ، ويدا بيد ، ورجلا برجل ، وكيا بكي ، وجرحا بجرح ، ورضّا برضّ ... الخ» [خر ٢١ : ٢٣].

١٢٤

بين التصريح بالتشبيه ، وبين التصريح بالتنزيه المحض ، ليكون قوله مقبولا عند الجمهور (١).

__________________

(١) القول بالتنزيه للراسخين في العلم ، وما يوهم التشبيه فإن قلوب العوام تصرفه عن ظاهره ، ولو لم يحسنوا التلفظ به. وإن المتشابه يعرف تأويله الراسخون في العلم لا العامة ، ويحسنوا التلفظ به. فقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) هل يصح أن يحمل على الظاهر؟ لا يصح. وهل العامة تعتقد أن الله ينسى شيئا؟ لا يعتقدون. وهل يصح أن نقول : لله نسيان ، بدون تمثيل ولا تشبيه؟ لا يصح.

١٢٥
١٢٦

الفصل السادس

في

تقرير طريقة الفلاسفة في كيفية

ظهور المعجزات على الأنبياء عليهم‌السلام

اعلم (١) : أنا بينا : أن الإنسان له قوتان : قوة نظرية ترتسم فيها صور المعقولات من عالم المفارقات. وقوة عملية ، يقدر بها على التصرف في عالم الجسمانيات.

فالمعجزة الصادرة عن القوة العاقلة الشاعرة : كونه آتيا بالإخبار عن المغيبات. والمعجزة الصادرة عن القوة العملية : كونه آتيا بالأفعال الغريبة الخارقة للعادة.

أما النوع الأول : فطريق الفلاسفة في تقريره : [أن قالوا : قد عرفنا بأن الحس المشترك على وجهين :

أحدهما : أن الحواس الظاهرة (٢)] إذا أخذت صور المحسوسات الموجودة في الخارج. وأدتها إلى الحس المشترك ، فحينئذ تنطبع تلك الصور في الحس المشترك ، وتصير مشاهدة له.

والثاني : إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور بعضها بالبعض. إذا ركبت صورة ، فإن تلك الصورة قد تنطبع في الحس المشترك ،

__________________

(١) الفصل السادس عشر في (ت).

(٢) سقط (ت).

١٢٧

ومتى حصل الانطباع ، وجب أن تصير مشاهدة ، وذلك لأن في القسم الأول ، إنما صارت تلك الصورة مشاهدة ، لأجل أن تلك الصورة انطبعت في الحس المشترك لا لأجل أنها وردت عليها من الخارج ، وإذا كان كذلك ، وجب أيضا في الصور المنحدرة عليه من جانب المتخيلة أن تصير مشاهدة. ومثال الحس المشترك : المرآة. فإن كل صورة تنطبع فيها من أي جانب كان : صارت مشاهدة ، فكذلك الصور المنطبعة في الحس المشترك ، إذا انطبعت فيه من أي جانب كان ، وجب أن تصير محسوسة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الصور التي يشاهدها الأبرار ، والكهنة ، والنائمون ، والممرورون ، ليست موجودة في الخارج ، فإنها لو كانت موجودة في الخارج ، لوجب أن يراها كل من كان سليم الحس ، بناء على أنه متى كانت الحاسة سليمة وكان الشيء الحاضر بحيث تصح رؤيته ، ولم يحصل القرب القريب ، والبعد البعيد ، واللطافة ، والصغر ، وحصلت المقابلة. فعند حصول هذه الشرائط يكون الإدراك والإبصار واجبا. إذ لو جاز أن لا يحصل الإدراك عند حصول هذه الشرائط ، لجاز أن يصير عندنا جبال عظيمة ، وأصوات هائلة ، ولا نراها ولا نسمعها. ومعلوم أن تجويزه يوجب الجهالات العظيمة. فثبت بهذا : أن تلك الصور غير موجودة في الخارج ، فيجب الجزم بأن ورودها على الحس المشترك ، إنما كان من الداخل ، وهو أن القوة المتخيلة ركبت تلك الصور ، فانحدرت إلى الحس المشترك ، فصارت مرئية ، وقد كان الواجب أن تحصل هذه الحالة أبدا ، إلا أن العائق عنه أمران :

الأول : إن الحس المشترك إذا حصلت فيه الصور المأخوذة من الخارج ، ثم يتسع للصور التي تركبها المتخيلة ، فحينئذ تصير الصور ، التي تركبها المتخيلة ، بحيث لا يمكن انطباعها في الحس المشترك.

والثاني : إن القوة العاقلة تكون مسلطة على القوة المتخيلة ، فتمنعها عن تركيب تلك الصور.

١٢٨

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنه إذا انتفى (١) الشاغلان معا ، أو أحدهما ، فإنه يحصل ذلك التلويح ، وذلك التشبيح. أما في وقت النوم فقد زال أحد الشاغلين ، وهو الحس الظاهر ، فلا ينتقل من الحواس الظاهرة إلى الحس المشترك شيء من الصور ، فيبقى لوح الحس المشترك خاليا عن النقوش الخارجية ، فيستعد لقبول الصور التي تركبها المتخيلة [فتنحدر تلك الصور من المتخيلة (٢)] إلى لوح الحس المشترك. فتصير محسوسة. وأما في وقت المرض ، فإن النفس تصير مشغولة بتدبير البدن ، فلا تتفرغ لمنع القوة المتخيلة من تركيب تلك الصور ، فحينئذ تقوى المتخيلة على عملها. وإذا قويت على هذا العمل ، عصت الحس المشترك عن قبول الصور [الخارجية ، فوردت عليه هذه الصور (٣)] فتصير مشاهدة محسوسة [والصور الهائلة التي تصير مشاهدة (٤)] في حالة الخوف. هي من هذا الباب. فإن الخوف المستولي على النفس يصدها عن تأديب المتخيلة (٥) فلا جرم تقدر المتخيلة على رسم صورها (٦) في الحس المشترك كصورة الغول وغيرها. وكذلك قد تستولي على النفس الضعيفة العقل : قوى أخرى كشهوة شيء فتشتد تلك الشهوة ، حتى تغلب العقل. فالمتخيلة تركب صورة ذلك المشتهى ، فتنطبع تلك الصورة في لوح الحس المشترك ، فتصير محسوسة. إذا عرفت هذا ، فنقول : إنه يتفرع عليه المباحث الكثيرة :

الفرع الأول : في سبب المنامات الصادقة والكاذبة :

اعلم أن الصور التي تركبها المتخيلة قد تكون كاذبة ، وقد تكون صادقة. أما الكاذبة فوقوعها على ثلاثة أوجه :

الأول : إن الإنسان إذا أحس بشيء ، وبقيت صورة ذلك المحسوس في

__________________

(١) انتهى (ل).

(٢) سقط (ت).

(٣) سقط (ت).

(٤) سقط (ت).

(٥) يصدرها عن المتخيلة (ت).

(٦) على تصورها (ت).

١٢٩

خزانة الخيال ، فعند النوم ، ترتسم تلك الصورة في الحس المشترك ، فتصير مشاهدة محسوسة.

والثاني : إن القوة الفكرية إذا ألفت صورة ، ارتسمت تلك الصورة في الخيال ، ثم في وقت النوم تنتقل تلك الصورة إلى الحس المشترك ، فتصير محسوسة ، كما أن الإنسان إذا تفكر في الانتقال من بلد إلى بلد ، أو حصل في خاطره رجاء شيء ، أو خوف من شيء ، فإنه يرى تلك الأحوال في النوم.

والثالث : إن مزاج الروح الحامل للقوة المفكرة إذا تغير ، فإنه تتغير أفعال القوة المفكرة. ولهذا السبب ، فإن الذي يميل مزاجه إلى الحرارة يرى في النوم : النيران والحريق والدخان ، ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى [الثلوج ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى (١)] الأمطار. ومن مال مزاجه إلى اليبوسة يرى التراب والألوان المظلمة. فهذه الأنواع الثلاثة ، لا عبرة بها البتة ، بل هي من قبيل أضغاث الأحلام. وأما الرؤيا الصادقة. فالكلام في ذكر سببها ، يتفرع على مقدمتين :

إحداهما : إن جميع الأمور الكائنة في هذا العالم الأسفل مما كان ، ومما سيكون ، ومما هو كائن موجود في علم الباري تعالى. وعلم الملائكة العقلية ، والنفوس السماوية.

[والثانية : إن (٢)] النفس الناطقة من شأنها (٣) أن تتصل بتلك المبادي ، وتنتقش فيها الصورة المنتقشة في تلك المبادي. وعدم حصول هذا المعنى ليس (٤) لأجل البخل من تلك المبادي ، أو لأجل أن النفس الناطقة غير

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ل).

(٣) ومن شأن النفوس الناطقة أن تتصل (ت).

(٤) عبارة عن (ت) هكذا : وعدم حصول ليس هو لأجل تلك المبادي ، أو لأجل المنع من تلك المبادي ، وينقش فيها منها الصورة المنقشة في تلك المبادي ، لأجل أن النفس الناطقة غير قابلة لتلك الصور ، بل لأجل أن النفس الناطقة غير قابلة لتلك الصور ، بل لأجل أن استغراق ... الخ.

١٣٠

قابلة لتلك الصور ، بل لأجل أن استغراق النفس في تدبير البدن ، صار مانعا لها من ذلك الاتصال العام.

إذا عرفت هذا فنقول : النفس إذا حصل لها أدنى فراغ من تدبير البدن ، اتصلت بطباعها بتلك المبادي ، فتنطبع فيها بعض تلك الصور الحاضرة عند تلك المبادي ، وهي الصورة التي هي أليق بتلك النفس. ومعلوم أن أليق الأحوال بها ، ما يتعلق بأحوال ذلك الإنسان وبأصحابه وأهل بلده وإقليمه. وأما إن كان ذلك الإنسان منجذب الهمة إلى تحصيل علوم المعقولات ، لاحت له منها أشياء. ومن كانت همته مصالح الناس رآها ، ثم إذا انطبعت تلك الصور في جوهر النفس الناطقة أخذت المتخيلة التي من طباعها محاكاة الأمور ، في حكاية تلك الصور المنطبعة في النفس ، بصور جزئية تناسبها ، ثم إن تلك الصور تنطبع في الحس المشترك فتصير مشاهدة. فهذا هو سبب الرؤيا في المنام. ثم إن تلك الصور التي ركبتها القوة المتخيلة ، لأجل تلك المعاني قد تكون شديدة المناسبة لتلك المعاني ، فتكون هذه الرؤيا غنية عن التعبير [وقد (١) لا تكون كذلك ، إلا أنها أيضا مناسبة لتلك المعاني من بعض الوجوه ، وهاهنا تحتاج هذه المنامات إلى التعبير. وفائدة التعبير : التحليل بالعكس ، يعني : أن يرجع المعبر عن هذه الصور الحاضرة في الخيال إلى تلك المعاني [وأما القسم الثالث أن لا تكون هذه الصور مناسبة لتلك المعاني (٢)] البتة. وذلك يكون لأحد وجهين :

أحدهما : أن يكون حدوث هذا الخيال الغريب ، إنما كان لوجه من الوجوه. الثلاثة المذكورة في أسباب أضغاث الأحلام.

والثاني : أن يكون ذلك الأجل أن القوة المتخيلة ركبت لأجل [ذلك

__________________

(١) فتكون هذه الرؤية غنية : آخر نسخة (ت) في هذا الفصل. أن القرآن العظيم يدل على أن هذا الطريق هو الأكمل والأفضل في إثبات النبوة : تجد التكملة التي في (ت) وهي ليست في محلها. والصحيح ما في (ط) ، (ل) أي أنه من أول «وقد لا تكون كذلك» في (ت) في فصل تقرير طريقة الفلاسفة.

(٢) سقط (ت).

١٣١

المعنى : صورة ثم ركبت لأجل (١)] تلك الصورة صورة ثانية ، وللثانية ثالثة. وأمعنت في هذه الانتقالات ، فانتهت بالآخرة إلى صورة لا تناسب المعنى الذي أدركته النفس أولا البتة. وحينئذ يصير هذا القسم أيضا من باب أضغاث الأحلام ، ولهذا السبب قيل : إنه لا اعتماد على رؤية الكاذب والشاعر ، لأن القوة المتخيلة منهما قد تعودت الانتقالات الكاذبة الباطلة [والله أعلم (٢)].

الفرع الثاني : في كيفية الإضمار عن الغيب. اعلم أن النفس الناطقة إذا كانت كاملة القوة ، وافية بالوصول إلى الجوانب العالية والسافلة ، وتكون في القوة بحيث لا يصير اشتغالها بتدبير البدن عائقا لها عن الاتصال بالمبادئ المفارقة ، ثم اتفق أيضا أن كانت [قوتها الفكرية (٣)] قوية الفكر قادرة على انتزاع لوح الحس المشترك عن الحواس الظاهرة ، فحينئذ لا يبعد أن يقع لمثل هذه النفس في حال اليقظة مثل ما يقع للنائمين من الاتصال بالمبادئ المفارقة. فحينئذ ترتسم من بعض تلك المفارقات صور تدل على وقائع هذا العالم في جوهر النفس الناطقة. ثم إن القوة المتخيلة لأجل قوتها تركب صورة مناسبة لها ، ثم تنحدر تلك الصورة إلى لوح الحس المشترك فتصير مشاهدة ، وعند هذه الحالة فقد يسمع ذلك الإنسان كلاما منظوما من هاتف ، وقد يشاهد منظرا في أكمل أبهة وأجل صورة وتخاطبه تلك الصورة بما يهمه من أحواله ، وأحوال من يتصل به ، ثم إن كانت هذه الصورة المحسوسة منطبقة على تلك المعاني التي أدركتها النفس الناطقة ، كان ذلك وحيا صريحا ، وإن كانت الصورة الخيالية مخالفة لذلك المعنى العقلي من بعض الوجوه ، كان ذلك وحيا محتاجا إلى التأويل.

والصارف للقوة المتخيلة عن هذا التغيير والتبديل أمران :

الأول : إن الصورة المنطبعة في النفس الناطقة الفائضة من جانب المبادي العالية ، إذا فاضت على نعت الجلاء والوضوح [صارت تلك القوة مانعة

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ل).

(٣) من (ل).

١٣٢

للخيال عن التصرف فيها ، كما أن الصور المحسوسة المأخوذة من الخارج. إذا كانت في غاية الجلاء والظهور (١)] فحينئذ تعجز القوة المتخيلة عن التصرف فيها.

والثاني : إن جوهر النفس الناطقة ، إذا كان في غاية القوة ، فحينئذ يقوى على منع القوة المتخيلة من التصرف في تلك الصور بالتغيير والتبديل.

الفرع الثالث : إن النفوس التي ليس لها من القوة ما تقوى على الاتصال بعالم الغيب في حال اليقظة [فربما استعانت في حال اليقظة] بما يدهش الحس ، ويحير الخيال ، كما يستعين بعضهم بشد حثيث ، وبعضهم بتأمل شيء شفاف ، أو براق لامع ، يورث البصر ارتعاشا. فإن كل ذلك مما يدهش الخيال ، فتبتعد النفس بسبب حيرتها وانقطاعها في تلك اللحظة عن تدبير البدن ، لانتهاز فرصة إدراك الغيب. والشرط في هذا : أن يكون الإنسان ضعيف العقل ، مصدقا لكل ما يحكى له عن مسيس الجن. مثل الصبيان والنسوان والبله. فهؤلاء (٢) إذا ضعفت حواسهم ، وكانت أوهامهم شديدة الانجذاب إلى مطلوب معين ، فحينئذ يقع لنفوسهم التفات في تلك اللحظة إلى عالم الغيب ، وتتلقى ذلك المطلوب. فتارة يسمع خطابا ، ويظن أنه من جني وتارة يتراءى له صورة مشاهدة ، فيظن أنها من أعوان الجن ، فيلقى إليه من الغيب ما ينطق به في أثناء ذلك الغشى ، فيأخذه السامعون ويبنون عليه تدابيرهم في مهماتهم.

هذا منتهى ما قرره الشيخ الرئيس في هذا الباب.

واعلم أن الأصل في جملة هذه التفاريع أصلان :

الأصل الأول : أن يقال : هذه الصور التي يشاهدها الأنبياء والأولياء وغيرهم ليست موجودة في الخارج ، لأنها لو كانت موجودة في الخارج ، لوجب أن يدركها كل من كان سليم الحس ، إذ لو جوزنا أن لا يحصل الإدراك مع حصول هذه الشرائط ، لجاز أن يكون بحضرتنا جبال ورعود ونحن لا نراها ولا

__________________

(١) من (ل).

(٢) والنسوان. والمسألة فيها أولا إذا ضعف جوابهم (ت).

١٣٣

نسمعها ، ذلك يوجب الجهالات.

[فيقال لهم : هذه الجهالات (١)] التي ألزمتموها على هذا القول ، فهي على قولكم ألزم. وذلك لأنا لو جوزنا أن يرى الإنسان صورا ، ويشاهدها ، ويتكلم معها ، ويسمع أصواتها ، ويرى أشكالها. ثم إنها لا تكون موجودة في الخارج ، جاز أيضا في كل هذه الأشياء التي نراها ونسمعها من صور الناس والجبال والبحار وأصوات الرعود ، أن لا يكون لشيء منها وجود في الخارج بل يكون محض الخيال ومحض الصور المرتسمة في الحس المشترك. ومعلوم أن القول به محض السفسطة.

بل نقول : هذا في البعد عن الحق ، والخوض في الجهالة أشد من الأول. لأن على القول الذي نقول نحن به ، جازمون بأن كل ما رأيناه فهو موجود حق ، إلا أنه يلزمنا تجويز أن يكون قد حضر عندنا أشياء ، ونحن ما رأيناها ، وتجويز هذا لا يوجب الشك في وجود كل ما رأيناه وسمعناه ، أما على القول الذي يقولونه فإنه يلزم وقوع الشك في وجود كل صورة رأيناها ، وكل صوت سمعناه ، وذلك هو الجهالة التامة ، والسفسطة الكاملة. فثبت أن القول الذي اخترتموه في غاية الفساد. فإن قالوا : إن حصول هذه الحالة مشروطة بحصول أحوال.

منها : أن يكون الإنسان نائما. ومنها : أن يكون ضعيف العقل ، كما في حق المجانين.

ومنها : أن يكون كامل النفس ، قوي العقل. كما في حق الأنبياء والأولياء ، فإذا لم [يحصل شيء من هذه الأحوال. وكان الإنسان باقيا على مقتضى المزاج المعتدل ، لم يحصل شيء من هذه الأحوال ، فحينئذ (٢)] يحصل القطع بوجود هذه الأشياء في الخارج.

فنقول في الجواب : إن بالطريق الذي ذكرتم ، ظهر أنه لا يحس الإنسان

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ط ، ل).

١٣٤

بوجود صور ، مع أنها لا تكون موجودة أصلا. وإذا ظهر جواز هذا المعنى فنحن إنما يمكننا انتفاء هذه الحالة ، إذا دللنا على أن الأسباب الموجبة لحصول هذه الحالة : محصورة في كذا وكذا. ونقيم على هذا الحصر برهانا يقينيا. ثم نبين في هذا المقام الثاني أنها بأسرها منقضية زائلة بالبرهان اليقيني. ثم نبين في هذا المقام الثالث أن الحكم حال بقائه لا يستغني عن السبب. فإن بتقدير [أن يكون الأمر كذلك لم يلزم من زوال تلك الأسباب زوال هذه الحالة. ثم على تقدير (١) إقامة البراهين الجازمة على صحة هذه المقدمات ، يصير جزمنا بحصول هذه الأشياء المحسوسات في الخارج موقوفا على إثبات هذه المقدمات النظرية الغامضة ، والموقوف على النظري الغامض ، أولى أن يكون نظريا غامضا. وحينئذ تبطل هذه العلوم المستفادة من الحس بطلانا كليا. فثبت : أن القول الذي ذكروه : قول باطل يوجب التزام السفسطة.

[واعلم : أن الذي حمل هؤلاء الفلاسفة (٢)] على ذكر هذه العلل والأسباب : إطباقهم على إنكار الملائكة ، وعلى إنكار الجن [وقد بينا في كتاب «الأرواح» : أنه ليس لهم فيه شبهة ، ولا خيال يدل على نفي هذه الأشياء. وإذا كان أصل هذه الأقوال نفي الملائكة والجن (٣) وقد عرفت أنه ليس لهم فيه دليل. وفيه ما يوجب القول بالسفسطة ، كان هذا القول في غاية الفساد والبطلان.

فهذا تمام الكلام في هذا الأصل.

وأما الأصل الثاني : فهو أن هذه الكلمات مفرعة على إثبات الحواس الباطنة. ونحن قد بينا بالبرهان القاطع القاهر : أن المدرج لجميع المدركات بجميع الإدراكات [هو النفس الناطقة. وأن القول بتوزيع هذه الإدراكات (٤)] على قوى متفرقة ، قول باطل وكلام فاسد. فثبت بهذه البيانات : أن كلامهم

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ت).

(٣) سقط (ت).

(٤) سقط (ت).

١٣٥

في غاية الضعف والفساد.

والحق : أن هذا الباب يحتمل وجوها كثيرة :

فأحدها : إنا قد بينا : أن النفوس الناطقة أنواع كثيرة ، وطوائف مختلفة ، ولكل طائفة منها روح فلكي ، هو العلة لوجودها [وهو المتكفل بإصلاح أحوالها وذلك الروح الفلكي كالأصل والمعدن (١)] والينبوع بالنسبة إليها ، وسميناه بالطباع التام ، فلا يمتنع أن يكون الذي يريها في المنامات تارة ، وفي اليقظة أخرى ، وعلى سبيل الإلهامات ثالثا ، هو ذلك الطباع التام. ولا يمتنع كون ذلك الطباع التام قادرا على أن يتشكل بأشكال مختلفة ، بحسب جسم مخصوص ، هو آلته في جميع أعماله.

وثانيها : أن نثبت طوائف الملائكة ، وطوائف الجن ، ونحكم بكونها قادرة على أن تأتي بأعمال مخصوصة. عندها يظهرون للبشر ، وعلى أعمال أخرى. عندها يحتجبون عن البشر.

والقول بهذا أولى من القول بالتزام السفسطة. فهذا ما نقوله في هذا الباب.

__________________

(١) سقط (ت).

١٣٦

الفصل السابع

في

حكاية قول الفلاسفة في السبب الذي

لأجله يقدر الأنبياء والأولياء على الاتيان

بالمعجزات والكرامات

حاصل كلامهم فيه : أنا بينا في كتاب «النفس» : أن القوة الوهمية التي للإنسان ، قد تكون قادرة على التأثير في الأجسام. وذكرنا الوجوه الكثيرة في تقرير هذا الباب. وعند هذا قالوا : لا يمتنع وجود إنسان تكون نفسه كاملة في هذه القوة ، فلا جرم يقدر على التصرف في هيولى هذا العالم كيف شاء وأراد. ومما يقوي ذلك ؛ أن النفوس الضعيفة إذا اجتمعت فقد يحصل لها نوع من القوة المؤثرة. مثل : الجمع العظيم إذا اجتمعوا على توجيه الفكر إلى شيء معين ، ومثل ما يشاهد في صلاة الاستسقاء وغيرها. وإذا كان هذا محسوسا لم يمتنع كون النفس القوية قادرة على الإتيان بهذه الغرائب والبدائع. واعلم أن حاصل هذا الكلام : أن تلك النفس موصوفة بخاصية ، لأجلها قدرت على الإتيان بهذه المعجزات والكرامات. وكما أن هذا محتمل ، فكذلك سائر الوجوه محتملة. مثل هذه الأحوال إلى الملائكة أو الجن ، أو الاتصالات الفلكية ، أو أفعال الكواكب ، التي هي أحياء ناطقة أو العقول والنفوس. وإذا كان الكل محتملا ، كان جزمهم بإسناد هذه المعجزات إلى القوة النفسانية فقط. ترجيحا من غير مرجح.

وهذا آخر الكلام في هذا الباب. ويتلوه الكلام في السحر. ليحصل الفرق بين المعجز ، والسحر ، والنبي ، والساحر [والله اعلم] (١).

__________________

(١) من (ت).

١٣٧
١٣٨

القسم الثالث من هذا الكتاب

في

الكلام في السحر وأقسامه

١٣٩
١٤٠