المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠١

الفصل الثامن

في

حكاية دلائل من

استدل بظهور المعجز على صدق المدعي

قالوا : إن الملك العظيم ، إذا جلس في المحفل العظيم. ثم قام واحد من القوم ، وقال: يا أيها الناس : إني رسول هذا الملك إليكم. ثم قال : يا أيها الملك إن كنت صادقا في هذا القول ، فخالف عادتك ، وقم من سرير مملكتك. فإذا رأى الناس أن ذلك الملك ، أتى بذلك الفعل الذي التمسه ذلك المدعي علموا قطعا : أنه إنما فعل ذلك تصديقا لذلك المدعي. وإذا ثبت هذا في الشاهد ، وجب أن يكون الحال كذلك في الغائب. فيثبت : أن خلق المعجز يدل على التصديق.

[والاعتراض عليه من وجهين :

الأول : إن حصول ذلك الفعل لا يدل على التصديق (١)] وبيانه : أن القدر المعلوم هو أنه حصل ذلك الفعل ، مقارنا لذلك الطلب ، إلا أن حصول الشيء مع الشيء ، لا يدل على العلية ، لا قطعا ولا ظاهرا.

ونحن نبين هذا القول تارة بطريق الإجمال ، وتارة بطريق التفصيل.

__________________

(١) سقط (ت).

٦١

أما طريق الإجمال ، فمن وجوه :

الأول : إن علم الله تعالى بالشيء المعين ، واجب الحصول مع حصول ذلك الشيء المعين ، لأنه لما ثبت أنه تعالى يجب كونه عالما بجميع المعلومات ، فعلى أي وجه يقع ذلك المعلوم ، يكون العلم متعلقا به ، كما هو عليه في نفسه. ثم إن العلم يمتنع أن يكون علة للمعلوم (١) وبالعكس. أما أن العلم يمتنع أن يكون علة للمعلوم ، فلأن العلم بالشيء ، تابع لذلك المعلوم ، فلو كان المعلوم معللا به ، لزم كون المعلوم تابعا للعلم. وهو دور ، والدور محال (٢).

وأما أن المعلوم يمتنع أن يكون علة للعلم ، فهو ظاهر. فقد ثبت أن الدوران حاصل (٣) قطعا مع علم الله تعالى بجميع المعلومات ، مع أنه يمتنع أن كون واحد منهما علة للآخر.

الثاني : إن المعلول قد يكون مساويا للعلة ، وقد يكون أعم منها. أما الأول فمثل قولنا : طلوع الشمس علة لوجود النهار ، ووجود النهار أيضا لا يحصل إلا عند طلوع الشمس. فههنا العلة والمعلول متساويان. وأما الثاني. فمثل الحمى. فإنه قد يكون لعفونة الخلط ، وقد تكون لسبب آخر. وإذا ثبت هذا فنقول : العلة والمعلول إذا كانا متساويين في العموم والخصوص ، فكل واحد منهما دائر مع الآخر وجودا ، وعدما. والعلية والمعلولية غير مشتركة من الجانبين. فثبت أن الدوران لا يدل على العلية (٤).

الثالث : إن الشيء الذي يدور مع غيره وجودا وعدما ، فإنه لا بد وأن يدور مع فصله المقوم لماهيته ، ومع خاصيته المساوية لماهيته ، فالدوران قدر مشترك بين العلة وبين غيرها ، فيمتنع كونه دليلا على العلية (٥) بعينها. فهذه

__________________

(١) للمعلول (ل) ، (طا).

(٢) باطل (طا).

(٣) الدور باطل (ت).

(٤) أن الدواء لا يدف على العلة (ت).

(٥) العلية (ل) ، (طا).

٦٢

وجوه إجمالية دالة على أن الدوران لا يدل على العلة البتة.

أما التفصيل : فبيانه : أنه لا يبعد في العقل أن ذلك الملك إنما أتى بذلك الفعل في ذلك الوقت ، لأغراض أخرى ، سوى تصديق ذلك الرجل. وبيانه من وجوه :

الأول : إن ذلك [الملك (١)] لعله وقع على ثوبه في تلك الساعة ، حية أو عقرب. فلأجل احترازه عنه ، قام ذلك الملك ، لا لغرض تصديق المدعي.

والثاني : لعله لاح له من البعد شيء ، احتاج إلى معرفته ، فقام ليتمكن من رؤيته كما ينبغي.

الثالث : لعله قام غضبا على ذلك القائل المدعي ، أو استهزاء به ، ويكون مقصوده: أنه وإن فعل ما التمسه منه ذلك الطالب ، لكنه لا يلتفت إليه ، ولا يقيم له وزنا. نعم لا ينكر أن صدور ذلك الفعل من ذلك الملك (٢) في ذلك الوقت على وفق دعوى المدعي ، يوهم إيهاما ضعيفا : أن الغرض هو تصديق ذلك المدعي. فأما أن يقال : إنه يفيد القطع والجزم بأنه لا غرض له فيه إلا هذا التصديق : فبعيد.

والاعتراض الثاني : أن نقول : سلمنا إنه في الشاهد كما ذكرتم. فلم قلتم : إنه يجب أن يكون في حق الله تعالى كذلك؟

والفرق من وجوه :

الأول : إنا إنما قضينا على ذلك الملك بكونه مصدقا لذلك المدعي في دعواه. إذا عرفنا أنه يراعي مصالح ملكه ، وأنه لا يفعل فعلا تتشوش بسببه مملكته. أما إذا اعتقدنا في ذلك الملك : أنه لا يبالي بالمصالح والمفاسد البتة ، فإنه لا يحصل هذا الظن (٣) ، أو إن اعتقدنا فيه أنه يراعي المصالح والمفاسد.

__________________

(١) من (ط).

(٢) المدعي (ت ، ط).

(٣) الطعن (ت ، ط).

٦٣

لكنا نعتقد فيه أنه ملك بعيد الغور ، عظيم الفكر ، كامل العقل قد يأتي بأفعال يظن بها أنها توجب المفاسد العظيمة إلا أنه بعقله الكامل ، وفكره الغائص ، يعرف فيها من وجوه المصالح الخفية ما لا يقف عليه الغير البتة. فإذا اعتقدنا في الملك هذه الصفة ، لم يصر ظاهر أفعاله دليلا على التصديق والتكذيب. ومن المعلوم : أن أقسام حكمة الله تعالى في تدبير السموات والأرض ، فما لا سبيل لأحد إلى الوقوف على معاقده وضوابطه ، فكيف يمكن قياس أحد البابين على الآخر؟

الفرق الثاني : إن الملك في الشاهد لو أتى بذلك المطلوب ، مع أن ذلك المدعي يكون كاذبا. لكان ذلك سعيا منه في [إفساد مملكته ، وذلك بعيد. لأن سعيه في إفساد مملكة نفسه ، سعى منه في (١)] إلحاق الضرر بنفسه ، وأنه بعيد ، بخلاف الحال في هذه المسألة ، فإنه تعالى لا ينفعه شيء ، ولا يضره شيء. فكيف يمكن قياس أحد البابين على الآخر؟

الفرق الثالث : إنا قبل ذلك المجلس شاهدنا صورته ، وعرفنا كيفية تدبيره وضبطه للملكة ، فتتأكد بعض تلك الإمارات بالبعض ، ويتولد من المجموع : الجزم واليقين ، أما في حق لله تعالى فلم يشاهد منه إلا هذا الفعل الواحد ، الدال على صدق هذا المدعي ، وأما البواقي فأحوال عظيمة لا تصل إلى كيفيتها وكميتها عقول الخلق ، فظهر الفرق.

ثم نقول : إن هذه الفروق إنما نحتاج إلى ذكرها ، إذا عرفنا بأن قياس الغائب على الشاهد : طريقة مقبولة في المسائل العقلية. فإنا قد بينا في علم المنطق بالدلائل الكثيرة أنها طريقة ضعيفة لا تفيد الظن المقنع ، فكيف الجزم واليقين؟ [فإنه لا حاجة بنا إلى هذه الفروق ، بل ذكرها يجري مجرى الزيادة ، التي لا حاجة إليها. والله أعلم (٢)].

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

٦٤

الفصل التاسع

في

تقرير نوع اخر من الشبهات في بيان انّ ظهور

الفعل الخارق للعادة الموافق للدعوى مع عدم المعارضة :

لا يدل على صدق المدعي

الشبهة الأولى : إن أقصى ما في الباب : أنكم تقولون : إن المعجز قائم مقام التصديق [بالقول (١)] فنقول : هب أنه كذلك إلا أن الرجل إذا قال : فلان رسولي إليكم فهذا كلام يحتمل التأويل ، ويمكن صرفه عن ظاهره بالدليل. وإذا كان كذلك لم تكن دلالة هذا القول على ثبوت هذا المعنى دلالة قاطعة ، بل كانت دلالة ظنية. فثبت أن دلالة هذا اللفظ على حصول النبوة دلالة ظنية. وثبت : أن أقصى مراتب المعجزات أن تكون قائمة مقام هذا اللفظ [على حصول النبوة. (٢)] فبأن تكون دلالة المعجز على التصديق دلالة ظنية كان أولى.

الشبهة الثانية : إن كون الفعل خارقا للعادة ، لا يدل على الصدق البتة. والدليل عليه : أن جميع الأحوال المعتادة منتهية إلى أول ، لأن الثابت من الأزل إلى ذلك الوقت الأول [هو العدم المستمر. فيكون (٣) حدوثه في ذلك الوقت (٤)] خارقا للعادة [مع أنه لم يدل على الصدق البتة. بقي أن يقال :

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) فكان (ت).

(٤) سقط (ل) ، (طا).

٦٥

إنا لا ندعي أن كون الفعل خارقا للعادة (١)] يدل على الصدق ، بل إنما ندعي حصول هذه الدلالة عند حصول شرط زائد ، وهو كون ذلك المعجز دائرا مع تلك الدعوى ، وجودا وعدما. إلا أنا نقول : إن العقلاء أطبقوا على أن الدوران مع الشيء لا يفيد العلية إفادة قطعية؟

واختلفوا في أنه هل يدل على حصول العلية دلالة ظنية أم لا؟ وقد بينا هذا المطلوب بالوجوه الكثيرة. فيثبت : أن التمسك بهذا الطريق غير جائز.

الشبهة الثالثة : دلالة المعجز على الصدق لو حصلت ، لكانت إما أن تكون مشروطة بعدم المعارضة ، أو لا تكون مشروطة به ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بدلالة المعجز على الصدق.

إنما قلنا : إنه لا يمكن أن تكون هذه الدلالة مشروطة بعدم المعارضة لوجوه :

الأول : إنه إما أن يكفي في كون المعجز ، معجزا ، عدم المعارضة في الحال ، أو المعتبر عدم المعارضة أبدا [أو المعتبر عدم المعارضة في مرتبة متوسطة بين المرتبتين المذكورتين. والأقسام (٢)] الثلاثة باطلة. أما عدم المعارضة في الحال ، فإنه لا يكفي في كون الفعل معجزا. فكم من إنسان يأتي بعمل ، فلا يقدر الحاضرون في الحال على معارضته ، مع أنه لا يكون ذلك العمل معجزا بالاتفاق. وأما القسم الثاني : وهو أن يكون الشرط في كونه معجزا عدم المعارضة أبدا فهذا الشرط مجهول. فمن الذي يمكنه أن يعلم أن أحدا من الواردين بعده إلى قيام القيامة ، لا يمكنه الإتيان بهذه المعارضة؟ وإذا صار هذا الشرط مجهولا [صار المشروط أيضا مجهولا (٣)] فوجب أن تصير المعجزات بأسرها : مجهولة. وأما القسم الثالث : وهو المرتبة المتوسطة بين المرتبتين المذكورتين. فنقول : إن تلك المراتب المتوسطة كثيرة متفاوتة. وليس اعتبار بعضها أولى من اعتبار

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (ت).

٦٦

البواقي [فكان اشتراط واحدة منها ، وإلغاء البواقي (١)] محض التحكم ، وهو باطل [فيثبت أن اشتراط عدم المعارضة ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة ، وثبت أنها بأسرها أقسام باطلة ، فكان القول باعتبار عدم المعارضة باطلا (٢)].

الوجه الثاني في فساد هذا القسم : إن المعتبر عدم المعارضة إما من الحاضرين فقط ، أو من جميع أهل الدنيا ، أو المعتبر مرتبة متوسطة. وإبطال هذه الثلاثة بمثل الكلام الذي ذكرناه في الوجه المتقدم : معلوم.

والوجه الثالث : إن العدم نفي محض ، فيمتنع أن يكون امتيازا عن غيره بوجه من الوجوه. وإذا لم يحصل فيه الامتياز ، امتنع كونه دليلا ، ولا جزء دليل. لأن أقل مراتب الدليل المخصوص ، امتيازه عما سواه.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن دلالة المعجز على الصدق غير مشروطة بعدم المعارضة. فهذا القسم ظاهر الفساد والبطلان. فثبت بما ذكرنا : فساد القسمين ، وثبت بفسادهما : أن المعجز لا يمكن أن يكون دالا على الصدق.

الشبهة الرابعة : قالوا دلالة [المعجز على الصدق دلالة (٣)] غير مناسبة للمطلوب ، فكانت باطلة. ومثاله (٤) : أن الرجل إذا قال : إني عالم بالهندسة. فإذا طالبوه ببيان المسائل الهندسية ، فإنه لا يأتي بها ، ولا يشتغل بالشروع في شرح تلك المسائل ، بل يقول : الدليل على أني عالم بهذا العلم : أني امتنع عن الأكل والشرب [عشرين يوما (٥)] مع أني لا أموت. فإن كل أحد يقول : هذا الدليل لا يناسب هذا المطلوب ، بل يجب أن يبين علمه بالهندسة ، بأن يشرع في تلك المسائل ويشرحها على الوجه. فكذا هاهنا الرسول هو الذي يرشد الخلق إلى معرفة المبدأ والمعاد ، ويهديهم إلى طرق اكتساب المصالح في الدنيا وفي الآخرة ،

__________________

(١) سقط (ت).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) سقط (ت).

(٤) من (م).

(٥) من (س).

٦٧

فوجب أن يبين هذه الدعوى بإظهار هذا المعنى. فأما أن يقول : الدليل على أني كذلك ، أني أقلب العصا ثعبانا ، فهذا الدليل لا يناسب هذا المطلوب. فوجب أن لا يلتفت إليه.

٦٨

الفصل العاشر

في

أن بتقدير أن يكون المعجز قائما مقام

ما اذا صدقه الله تعالى على سبيل التصريح.

فهل يلزم من هذا كون المدعي صادقا؟

قال (١) المنكرون لدلالة المعجزات : إن هذا المعنى غير واجب. ويدل عليه وجوه :

الشبهة الأولى : [إن الدلائل الدالة على (٢)] صحة القول بالجبر ، دالة على أن فاعل جميع أفعال العباد هو الله تعالى. وإذا ثبت هذا ، وجب القطع بأن خالق كل الأكاذيب ، وكل الجهالات هو الله تعالى ، وإذا لم يمتنع من الله تعالى خلق الجهل والضلالة ابتداء ، فبأن لا يمتنع منه ذكر كلام يوجب وقوع التلبيس والجهل والشبهة في قلب العباد ، كان أولى. لأن فعل ما قد يفضي إلى الجهل ، ليس بأعظم من فعل الجهل ابتداء.

الشبهة الثانية : لا شك في حصول الجهالات في قلوب الخلق. ففاعل هذا الجهل. إما أن يكون هو العبد ، أو الله تعالى. والأول باطل. لأنه إما أن يقال : العبد رغب في تحصيل الجهل لنفسه ابتداء مع علمه بكونه جهلا. أو يقال : العبد إنما رغب في تحصيل ذلك [الجهل ، لأنه اعتقد فيه كونه علما ، فلأجل حصول هذا الاشتباه ، رغب في تحصيل ذلك (٣)] الاعتقاد لنفسه.

__________________

(١) الفصل العاشر في تقرير أن تكون ... الخ : (ت).

(٢) من (طا) ، (ل).

(٣) من (ل) ، (طا).

٦٩

والأول باطل من وجهين :

أحدهما : إن من المعلوم بالضرورة : أن العاقل لا يسعى في تحصيل الجهل لنفسه.

والثاني : [إنه متى علم كونه جهلا ، فإنه مع هذا العلم ، يمتنع أن يصير جاهلا بذلك الشيء. فيثبت : أن هذا القسم فاسد. وأن الحق هو القسم الثاني ، وهو أن العبد إنما رغب في تحصيل ذلك الاعتقاد (١)] لنفسه ، لأنه اعتقد أن ذلك الاعتقاد : علم. فعلى هذا إنما رغب في تحصيل هذا الاعتقاد لأجل الجهل السابق. فنعيد التقسيم في ذلك الجهل السابق. فإن كان ذلك لأجل آخر يتقدمه ، لزم منه التسلسل ، وهو محال. فثبت : أن هذه الجهالات تترقى عند التصاعد إلى جهل أول ، وقع في القلب [ومعلوم أن العبد لم يقصد إيقاعه ، فوجب أن يكون وقوعه في القلب (٢)] لأجل أن الله تعالى خلقه فيه. فثبت : أن خالق كل الجهالات في القلوب هو الله تعالى. وإذا ثبت هذا ، فبأن يجوز كونه فاعلا لما يوهم الجهل ، كان أولى.

الشبهة الثالثة : لا شك أن أنواعا كثيرة من الجهالات حاصلة للعبد. فهذه الجهالات. إما أن يقال : إنها حصلت على وفق إرادة الله تعالى [أو على خلاف إرادته (٣)] فإن كان الأول ، كان تعالى مريدا للجهل. وعلى هذا التقدير ، فإنه لا يمتنع منه تصديق الكاذب ، سعيا في إلقاء الجهل في القلوب. وإن كان الثاني ، لزم منه كونه ضعيفا عاجزا مغلوبا. وكل من كان كذلك ، لم يمتنع منه الكذب. فثبت : أن على كلا التقديرين ، لم يكن تصديق الكاذب : محالا من الله تعالى.

الشبهة الرابعة : مدار كلام القائلين بأن تصديق الكاذب محال على الله.

__________________

(١) من (ل) ، (طا).

(٢) من (ل) ، (طا).

(٣) إرادة الله تعالى (طا).

٧٠

على أن الكذب قبيح [وهو من الله محال ١] إلا أنا بينا : أن هذه القاعدة مبنية على القول بتحسين العقل وتقبيحه. وقد عرفت أنه كلام إقناعي ضعيف جدا ، فكان المبني عليه أيضا ضعيفا.

٧١
٧٢

الفصل الحادي عشر

في

الطعن في التواتر

قالوا : إنا ما (١) رأينا شيئا من هذه المعجزات. ولكننا سمعنا من جماعة أنهم قالوا : سمعنا من أقوام آخرين. وهكذا ، على هذا الترتيب إلى أن اتصل هذا الخبر بأقوام ، زعموا : أنهم شاهدوا هذه المعجزات. ونحن لا نسلم أن مثل هذا الخبر يفيد اليقين التام. والذي يدل عليه وجوه :

الشبهة الأولى : إن خبر التواتر حاصل في صور كثيرة ، مع أنكم تحكمون بكونها كذبا. وذلك يقدح في كون التواتر مفيدا للعلم.

__________________

(١) من نصوص التوراة : «فريضة أبدية» [خروج ١٢ : ١٤].

ومن نصوص التوراة : «بناموس أوصانا موسى ، ميراثا لجماعة يعقوب» [تثنية ٣٣ : ٤] «احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها ، لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إلى الأبد ، إذا عملت الصالح والحق في عيني الرب إلهك» [تثنية ١٢ : ٢٨].

واعلم. أن لفظ «الأبد» في لغة التوراة. لا يعني زمانا بلا نهاية. وإنما يعني زمانا طويلا إلى مدة. وعلى سبيل المثال. فإن في التوراة أن الرجل إذا اشترى عبدا من جنس إسرائيل يعتقه في السنة السابعة من شرائه وكذلك الجارية فإن أبى العبد أو أبت الجارية «فخذ المخرز واجعله في أذنه وفي الباب ، فيكون لك عبدا مؤيدا» [تثنية ١٥ : ١٧] وهذا التأييد إلى سنة الخمسين ـ وتسمى سنة اليوبيل ـ فإنها إذا جاءت لا بد من الإعتاق ، وإن لم يرض العبد بالحرية ، وإن لم ترض الجارية بالحرية. فلا بد من الإعتاق. ونص التوراة هو : «وتقدسون السنة الخمسين وتنادون بالعتق في الأرض لجميع سكانها» [خروج ٢٥ : ١٠] ومن هذا نعلم أن لفظ الأبد محدد بمدة. ومعنى أن شريعة التوراة إلى الأبد ؛ أي إلى مجيء النبي المنتظر المشار إليه في الاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية.

٧٣

أما المقام الأول في بيان أن التواتر قد حصل في صور ، اتفق المسلمون بها على كونه باطلا ، فتقريره من وجوه :

الأول : إن اليهود على كثرتهم وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها ، يخبرون عن موسى عليه‌السلام أنه قال : إن شريعتي باقية وأنها لا تصير منسوخة البتة. وأنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «عليكم بالسبت ما دامت السموات والأرض (١)» فهذا الخبر إما أن يكون صدقا أو كذبا. فإن كان صدقا ، فقد بطلت شريعتكم ، وإن كان كذبا ، فقد صار هذا التواتر باطلا.

والثاني : إن اليهود ، مع كثرتهم وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها ، يخبرون : أن التوراة التي معهم ، هي عين التوراة التي أنزلها الله على موسى. والمسلمون ينازعون فيه ، ويقولون : إن هذا الكتاب محرف ومبدل ، وأن الذي أنزله الله على موسى ، لم يبق في أيدي اليهود منه شيء البتة. وهذا أيضا طعن في التواتر (٢).

والثالث : إن اليهود والنصارى على كثرتهم وشدة عداوة بعضهم لبعض ، أطبقوا على صلب عيسى ـ عليه‌السلام ـ وقتله. والمسلمون أطبقوا على تكذيبهم فيه. وهذا أيضا طعن في التواتر (٣).

__________________

(١) من نصوص التوراة : «فيحفظ بنو إسرائيل : السبت ، ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدا أبديا. هو بيني وبين إسرائيل علامة إلى الأبد» [تثنية ٣١ : ١٦ ـ ١٧].

(٢) المسلمون لا يطعنون في تواتر التوراة المتداولة ، فهم يعرفون أنها من كتابة «عزرا» في مدينة «بابل» وتواترت من بعد عزرا. وإنما يستدلون من نصوص التوراة التي كتبها عزرا : على أن التوراة التي بيد اليهود والنصارى اليوم ـ وهي التي كتبها عزرا ـ كتب من بعد موت موسى بزمان طويل. وهذا يعني أن إضافات حصلت لم يشهدها موسى. ويستدلون من مقارنة التوراة السامرية بالعبرانية : أن الاختلاف اللفظي والمعنوي حاصل فيهما. ولو كانت التوراة المتداولة هي الأصلية لكانت واحدة مع جميع فرق اليهود ، ولكانت خالية من الاختلافات. ففي آخر سفر التثنية : «فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب ، ودفنه في الجواء في أرض موآب ، مقابل بين فغور ، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم» وفي التوراة السامرية في الوصايا العشر : تقديس جبل جرزيم ، وليس من إشارة إلى تقديسه في التوراة العبرانية.

(٣) لم يحدث الإطباق. فإن الكتب النصرانية القديمة جاء في بعضها : أن المسيح لم يقتل ولم يصلب ، وهذا يبطل التواتر [اقرأ : إنجيل برنابا. واقرأ ما كتبه جرجي زيدان والمستشرق سيل ، في هذا الموضوع].

٧٤

والرابع : إن النصارى على كثرتهم ، وتفرقهم في الشرق والغرب ينقلون عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ أنه كان يقول بثلاثة : الأب والكلمة ـ الابن ـ وروح القدس ، ويدعو الناس إلى التثليث ، والمسلمون يكذبونهم فيه. فهذا أيضا طعن في التواتر.

الخامس : إن المجوس على كثرتهم ، واستعلاء دينهم قبل ظهور دين الإسلام ، كانوا مطبقين متفقين مدة ألف سنة على ظهور المعجزات العظيمة ، على يد «زردشت» ومن جملتها : أنهم ذوبوا عظيما من النحاس ، وصبوا على رأس «زردشت» فما ضره ذلك البتة. ونقلوا أيضا : أنه انكسرت قوائم فرس «كشتاسب» ثم إنها عادت صحيحة بدعاء «زردشت» والمسلمون يكذبونهم فيه. وهذا أيضا في التواتر.

السادس : إن المانوية على كثرتهم. يخبرون أن «ماني» كان يطير إلى السماء ، ويغيب عن أعين الخلق ، ثم يعود إليهم. وسائر الفرق يكذبونهم فيه.

السابع : إن الكرامية صنفوا كتبا كثيرة في فضائل أبي عبد الله «ابن كرام» ونقلوا عنه أحوالا عجيبة ، مثل : الطيران إلى السماء ، والانتقال من بلد إلى بلد آخر ، في زمان قليل ، وإظهار الطعام والشراب في المفاوز. وسائر الناس يكذبونهم في تلك الروايات. مع أن الكرامية عدد عظيم يبلغون مبلغ التواتر.

والثامن : إن الروافض ادعوا حصول التواتر (١) في ثبوت النص الجلي على إمامة «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه ، وسائر الفرق يكذبونهم فيه. فقد حصل النزاع في التواتر نفيا وإثباتا.

__________________

(١) مع ادعاء حصول التواتر ـ والتواتر هذا غير صحيح ـ أو عدم حصوله. لا يصح في الدين : أن يظهر العداء بين الشيعة وأهل السنة. فإن الخلاف الديني بين الفريقين خلاف يسير لم يصل إلى أصول الدين. وكيف يظهر العداء. وأعداء المسلمين يتمنون التفرقة بين المسلمين ، ليعملوا على هلاكهم؟

٧٥

والتاسع : إن جماعة الصوفية (١) من المسلمين ، ومن النصارى على كثرتهم ، وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها ، ينقلون ظهور الكرامات العظيمة على سلفهم وشيوخهم وأكثر المتكلمين. ولا سيما المعتزلة (٢) مصرون على تكذيبهم فيه.

والعاشر : إنك لا ترى فرقة من فرق الدنيا ، ولا طائفة من طوائف أهل العالم إلا وهم ينقلون عن شيوخهم وسلفهم (٣)] أنواعا من الفضائل والمناقب ، والكرامات. مع أن مخالفيهم ينكرونها بأسرها ، وينقلون عنهم أنواع المثالب والمعايب والفضائح والقبائح. وكل واحد من الخصمين يدعي ظهور تلك الروايات وبلوغها مبلغ التواتر ، وذلك يوجب وقوع التعارض والتدافع في الأخبار المتواترة.

واعلم أن المتكلمين أجابوا عن ادعاء اليهود : حصول التواتر في أن موسى عليه‌السلام قال: «إن شريعتي لا تصير منسوخة» بأن قالوا : إن «بخت نصر» قتلهم بالكلية ، ولم يبق منهم إلا عدد قليل ، يمكن إطباقهم على الكذب. وإذا كان الأمر كذلك ، فقد خرجت روايتهم عن حد التواتر (٤).

__________________

(١) ما أساء إلى الإسلام إلا المتصوفة. ويجب على العلماء تأليف الكتب الكثيرة في نقد التصوف. وذمه ، والتبرؤ ممن يدين بالتصوف من المسلمين. ويجب عليهم هدم القباب والأضرحة وتطهير مساجد الله من البدع والخرافات. وإقناع العوالم من المسلمين بأن الأولياء أحياء أو أمواتا لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا.

(٢) لو لم يكن للمعتزلة من فضل إلا ذم المتصوفة ، لكان هذا الفضل كاف في الحكم عليهم بأنهم من المصطفين الأخيار.

(٣) من (ل) ، (ط).

(٤) الإجابة الصحيحة على أن موسى لم يقل : شريعتي لا تصير منسوخة : أن في التوراة نبوءات أخبر بها موسى عن مجيء نبي من بعده ناسخ لشريعته. ومنها في الأصحاح الثامن عشر من سفر التثنية : «يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلى له تسعون ... الخ فقوله : «له تسمعون» يدل على أن بني إسرائيل مكلفون بسماع كلام النبي المنتظر ، حتى ولو أمرهم بترك شريعة موسى. ويدعي النصارى : أن المشار إليه بهذه النبوءة هو عيسى عليه‌السلام. والنص لا يشير إليه لأنه من بني إسرائيل وقوله : «من إخوتك» تعني جنسا غير بني إسرائيل. ويقول المسلمون : إنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن التوراة نصت على بركة لآل إسماعيل [تكوين ١٧ : ٢٠] والبركة تعني : الملك والنبوة وإسماعيل أخ لإسحاق عليهما‌السلام.

٧٦

وأجابوا عن نقل اليهود والنصارى عن قتل عيسى عليه‌السلام وصلبه : بأن الله تعالى ألقى صورة عيسى عليه‌السلام على إنسان آخر فلهذا السبب حصلت هذه الشبهة.

وأجابوا عن ادعاء المجوس والمانوية ظهور المعجزات على «زردشت» و «ماني»] بأن قالوا : النبوة متفرعة على معرفة الإله ، و «زردشت» و «ماني (١)»] أثبتا للعالم إلهين. وهذا من أعظم أنواع الكفر. والكافر يمتنع ظهور المعجزات على يده.

ثم أجاب القائل عن هذه الأجوبة : فقال : أما قولكم : إنه قل عدد اليهود في زمان «بخت نصر» فنقول : لما جاز هذا ، فلم لا يجوز مثله في جميع أنواع التواتر؟ فإن قالوا : لو وقع ذلك لاشتهر ، لأن الوقائع العظيمة يجب اشتهارها ، بدليل : أنه لما حصلت هذه الواقعة في دين اليهود ، اشتهرت فيما بين الخلق. قلنا : لا نزاع في أن هذه الوقائع العظيمة قد تشتهر. فأما دعوى أنه يجب اشتهارها فهذا غير واجب. والدليل عليه من وجوه :

الأول : إن معجزات محمد عليه‌السلام. مثل : انفجار الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وانقلاع الشجرة من أصلها ، وانشقاق القمر ، وكلام الذئب : وقائع عظيمة [متعالية جدا ، ولم يحدث (٢)] هناك مانع يمنع من نقلها ، مع أنه لم يرو هذه الوقائع إلا الواحد والاثنان. فثبت : أن قولكم : إن الوقائع العظيمة يجب نقلها : ضعيف.

الثاني : إن شعائر الصلوات كانت ظاهرة بادية مدة ثلاثة وعشرين سنة ، ثم إنها ما نقلت كما ينبغي ، فإنهم اختلفوا في كون الإقامة مثناة أو فرادى ، واختلفوا في قراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) واختلفوا في سائر الشرائط.

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ل) ، (ط).

٧٧

الثالث : إن وقائع ملوك العجم على عظمتهم ، بقيت مندرسة غير مذكورة ، والوقائع التي وقعت في زمان عاد وثمود اندرست ، وبعض وقائع نوح عليه‌السلام وغيره قد بقي. فيثبت : أن الوقائع العظيمة قد تصير مندرسة ، وقد تصير باقية ، وأنه لا يجوز الجزم بأحد الحكمين [قطعا (١)].

وأما قوله : إن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه‌السلام على شخص آخر ، فنقول : فهذا من أعظم القوادح في التواتر. لأنكم لما جوزتم هذا المعنى. فلعل الشخص الذي يعتقد فيه أن محمد ما كان محمدا ، بل كان شخصا آخر ، ألقى الله تعالى عليه صورته ومشابهته ، وكذلك القول في جميع أحوال الخلق. وذلك يوجب السفسطة.

وأما قوله : «زردشت» (٢) كان قائلا بإثبات الإلهين فيمتنع ظهور المعجزات عليه. فنقول : هذا الكلام يقوي ما ذكرناه من السؤال ، وذلك لأن «إيران شهر» الذي هو واسطة ممالك العالم ، وأشرف بقاع الدنيا. كلهم كانوا على دين «زردشت» قريبا من ألف ومائتي سنة. وكلهم كانوا ينقلون عنه المعجزات الظاهرة القاهرة. ثم إنكم أقمتم دليلا قطعيا على أنهم كانوا كاذبين في تلك الروايات. فإنكم قلتم : إنه كان كافرا. والكافر يمتنع ظهور المعجزات على يده ، فصار هذا برهانا جليا في أن تلك الأخبار المتواترة كانت كاذبة باطلة. ونحن ما سعينا إلا لبيان أن خبر التواتر [قد يكون باطلا فاسدا. وعلى هذا التقدير ، فالاعتماد على مجرد خبر التواتر (٣)] لا يفيد العلم واليقين.

فهذا تقرير هذه الشبهة من هذا الوجه.

وهاهنا وجوه كثيرة ، سوى ما ذكرناه في ضعف التواتر (٤) ذكرناها في كتاب

__________________

(١) من (ط).

(٢) أردشير (ت).

(٣) من (ل) ، (طا).

(٤) أنظر ما كتبه ابن حزم في ضعف التواتر في كتاب الفصل.

٧٨

«المحصول» (١) وفي كتاب «الأربعين في أصول الدين (٢)» فمن أراد [الوقوف عليها (٣)] فليرجع إلى هذه الكتب [والله أعلم بالصواب (٤)].

__________________

(١) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ، كتاب في علم الكلام. تحقيق الدكتور حسين آتاي. والمحصول كتاب في علم أصول الفقه.

(٢) سنطبع هذا الكتاب قريبا إذا شاء الله.

(٣) سقط (ت).

(٤) من (ل ، طا).

٧٩
٨٠