موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبدالله بن عمر أنّه كان يؤذّن بحيّ على خير العمل أحياناً.

وروى فيها عن عليّ بن الحسين أنّه قال : هو الأذان الأوّل.

وروى المحبّ الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنّه أذّن بذلك ، قال المحب الطبري : رواه ابن حزم ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة ابن سهل البدري ، ولم يَروِ ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعاً ، وقول بعضهم : وقد صحّح ابن حزم والبيهقي والمحبّ الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن عليّ بن الحسين ...» (١).

وجاء في كتاب الاعتصام بحبل الله : ... وفي الجامع الكافي : قال الحسن بن يحيى بن الحسين [بن زيد المتوفّى ٢٦٠] : أجمع آل رسول الله على أن يقولوا في الأذان والإقامة (حيّ على خير العمل) وأن ذلك عندهم سنّة ، قال : وقد سمعنا في الحديث أنّ الله سبحانه بعث ملكاً من السماء إلى الأرض بالأذان ، وفيه : حيّ على خير العمل .. ولم يزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤذن بحيّ على خير العمل حتّى قبضه الله إليه ، وكان يُؤَذَّنُ بها في زمان أبي بكر ، فلما وَلِيَ عمر قال : دعوا حيّ على خير العمل لا يشتغل الناس عن الجهاد. وكان أوّل من تركها (٢).

وقال الاستاذ عزّان في مقدمة كتاب (الأذان بحيّ على خير العمل) : ... وقال الإمام المؤيّد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (المتوفى ٤١١ هـ) : ومذهب يحيى ـ يعني الهادي ـ وعامة أهل البيت التأذين بحيّ على خير العمل (٣).

وقال القاضي زيد بن محمّد الكلاري ـ وهو من أتباع المؤيّد بالله ولم يعاصره ـ :

__________________

(١) نيل الاوطار ٢ : ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) الاعتصام بحبل الله ١ : ٢٧٨ عن الجامع الكافي مخطوط.

(٣) شرح التجريد مخطوط.

٢٦١

التأذين به ـ أي بحيّ على خير العمل ـ إجماع أهل البيت لا يختلفون فيه ، ولم يرد عن أحد منهم منعه وإنكاره ، وإجماعهم عندنا حجّة يجب اتّباعها (١).

وقال الإمام محمّد بن المطهر المتوفى ٧٢٨ هـ : ويؤذن بحيّ على خير العمل ، والوجه في ذلك اجماع أهل البيت (٢) ...

وقال العلاّمة صلاح بن أحمد بن المهدي المتوفى ١٠٤٨ هـ : أجمع أهل البيت على التأذين بحيّ على خير العمل (٣).

وقال العلاّمة الشرفي المتوفى ١٠٥٥ : وعلى الجملة فهو ـ أي الأذان بحيّ على خير العمل ـ إجماع أهل البيت ، وإنّما قطعه عمر (٤).

وقال العلاّمة المحقق الحسن بن أحمد الحلال المتوفى ١٠٨٤ هـ ـ بعد أن ذكر اتفاق العترة على التأذين بحيّ على خير العمل ـ : وإجماع العترة وعليّ : ، وهما معصومان عن تعمد البدعة (٥).

وقال شيخنا (٦) السيّد العلاّمة مجد الدين حفظه الله : وقد صحّ إجماع أهل البيت : على الأذان بحيّ على خير العمل (٧).

وذكر في أمالي أحمد بن عيسى : ذهب آل محمّد أجمع إلى أثبات حيّ على خير العمل مرّتين في الأذان بعد حيّ على الفلاح.

__________________

(١) شرح القاضي زيد للتحرير مخطوط.

(٢) المنهج الحلي شرح مسند الإمام زيد بن علي ١ : ٧٧ مخطوط.

(٣) شرح الهداية : ٢٩٤.

(٤) ضياء ذوي الابصار مخطوط ١ : ٦١.

(٥) ضوء النهار ١ : ٤٦٩.

(٦) الكلام لعزّان.

(٧) المنهج الاقوم في الرفع والضم : ٣٥.

٢٦٢

وفي شرح الأزهار : ومنهما : حيّ على خير العمل ، يعني أنّ من جملة ألفاظ الأذان والإقامة حيّ على خير العمل ؛ للأدلّة الواردة المشهورة عند أئمّة العترة وشيعتهم وأتباعهم وكثير من الأمّة المحمديّة التي شحنت بها كتبهم.

قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسن في الأحكام : وقد صحّ لنا أن حيّ على خير العمل كانت على عهد رسول الله يؤذّنون بها ، ولم تُطرح إلّا في زمن عمر بن الخطّاب ، فإنه أمر بطرحها وقال : أخاف أن يتّكل الناس عليها ويتركوا الجهاد ، وفي المنتخب : وأمّا «حيّ على خير العمل» فلم تزل على عهد رسول الله حتّى قبضه الله ، وفي عهد أبي بكر حتّى مات ، وانما تركها عمر وأمر بذلك فقيل له : لم تركتها؟ فقال : لئلا يتّكل الناس عليها ويتركوا الجهاد (١). انتهى ما قاله عزّان.

وقال الصنعاني : إن صحّ إجماع أهل البيت ـ يعني على شرعية حيّ على خير العمل ـ فهو حجة ناهضة (٢).

وقال المقبلي عن أئمّة الزيديّة : ولو صحّ ما ادعي من وقوع إجماع أهل البيت في ذلك لكان أوضح حجّة (٣).

ونحن في الفصل الرابع «حيّ على خير العمل وتاريخها العقائدي والسياسي» من هذا الباب سنوكّد هذا الإجماع عند أهل البيت ، وعند الشيعة بفرقها الثلاث ، ونوضّح سير هذه المسألة وكيف صارت شعاراً لنهج التعبد المحض في العصور المتأخرة بعد أن أُذِّن بها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف صار حذفها وإبدالها

__________________

(١) الاحكام ١ : ٨٤ ، شرح الازهار ١ : ٢٢٣ ، البحر الزخار ٢ : ١٩١ ، الأذان للعلوي بتحقيق عزّان : ١٥٣.

(٢) هذا ما حكاه عزّان في كتابه «حيّ على خير العمل بين الشرعية والابتداع» : ٦٨ عن كتاب منحة الغفار المطبوع بهامش ضوء النهار.

(٣) انظر : مقدمة الأذان بحيّ على خير العمل لعزّان : ١٧.

٢٦٣

بـ «الصلاة خير من النوم» شعاراً لخصومهم ، وهو دليل قوي على ما نر يد قوله من وقوع الملابسات في هذه الشعيرة الإسلامية.

مؤكّدين بأنّا ببياننا لهذه الأقسام الثلاثة أردنا أن نوضح وجهة نظرنا في جزئية هذا الفصل من فصول الأذان ، ولا نريد أن نحكّم آراءانا فوق كلام الباري وأقوال الرسول كما يفعله بعض متعصبي المذاهب الذين يرجّحون كلام إمام مذهبهم على القرآن والسنة المطهرة ، مثل ما فعله الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين إذ قال :

«ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قولَ الصحابة ، والحديثَ الصحيح ، والآيةَ ، فالخارجُ عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مضلٌّ ، وربّما أدّاه ذلك للكفر ؛ لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر» (١).

يستبين ممّا سبق أنّ الشـيعة لم ينفردوا بهذا القـول ، بل هناك نقول عن الشـافعي وبعض الأعلام في القـول بجزئية «حيّ على خـير العـمل». ومن المفيد أن نقف قليلاً عند هذا الأمر لنـؤكد على صحـة ما قلـناه من أنّ هذا الفصـل «حيّ على خير العمل» كان جـزءاً من الأذان على عهـد رسـول الله إذ أمر النـبيّ مـؤذّنـه بالتـأذين به ، لكن المقـدرات السـياسية بعد رسـول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاءت محوه وإزالته.

وممّا يؤيّد قولنا هذا ما قاله القاسم بن محمّد بن عليّ نقلاً عن «توضيح المسائل» لعماد الدين يحيى بن محمّد بن حسن بن حميد المقرئ ما لفظه : ومنها إثبات حيّ على

__________________

(١) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ٣ : ١٠ ط دار احياء التراث العربي ، وقد رد الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي القاضي الأول بالمحكمة الشرعية بدولة قطر على كلام الصاوي في كتاب أسماه (تنزيه السنة والقرآن عن كونهما مصدر الضلال والكفران) هذا ما قاله العلاّمة الخليلي مفتي سلطنة عمان في كتابه الحق الدامغ : ١٠.

٢٦٤

خير العمل ، قال : رواه الإمام المهدي أحمد بن يحيى في بحره عن أخير قولَي الشافعي قال : وقد ذكر الروياني أنّ للشافعي قولاً مشهوراً بالقول به. وقد قال كثير من علماء المالكية وغيرهم من الحنفية والشافعية إنّه كان «حيّ على خير العمل» من ألفاظ الأذان.

قال الزركشي في كتابه المسمى بالبحر ما لفظه :

«ومنها ما الخلاف فيه موجود [في المدينة] كوجوده في غيرها ، وكان ابن عمر ـ وهو عميد أهل المدينة ـ يرى إفراد الاذان ويقول فيه «حيّ على خير العمل» انتهى بلفظه (١).

إلى أن قال القاضي يحيى بن محمد بن حسن بن حميد [المقري] : فصحّ ما رواه الرويـانـي أنّ للشـافعـي قـولاً مشهوراً في إتيان «حيّ على خير العمل» (٢).

وفي الروض النضير : وقد قال كثير من علماء المالكية وغيرهم من الحنفية والشافعية أنّه كـان «حـيّ على خـير العـمل» مـن الفـاظ الأذان (٣).

وفي الاعتصام بحبل الله : وروى الإمام السروجي عن شرح الهداية للحنفية أحاديث «حيّ على خير العمل» بطرق كثيرة (٤).

وبعد هذا اتضح سقم ما انفرد به أهل السنة والجماعة من القول بكراهة الإتيان بحيّ على خير العمل في الأذان (٥) ؛ لأنّ فعل ابن عمر وإن قلنا بعدم دوامه فهو بيان

__________________

(١) الاعتصام بحبل الله المتين ١ : ٣٠٧.

(٢) الاعتصام بحبل الله ١ : ٣٠٨.

(٣) الروض النضير ١ : ٥٤٢.

(٤) الاعتصام ١ : ٣١١.

(٥) انظر المجموع للنووي ٣ : ٩٨.

٢٦٥

لجواز الإتيان بها ، وفعل أبي أمامة بن سهل بن حنيف يؤكد جزئيتها وأنّها كانت على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا تأذين الإمام عليّ وعليّ بن الحسين ، فهو دليل على مشروعية هذا الفصل ، ويضاف إليها أقوال العلماء فإنّها تدل في أقل التقادير على عدم حرمة الإتيان بها.

ففي كتاب «الكبر يت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر» على هامش يواقيت الجواهر للشعراني ، التصريح بعدم الكراهية ، قال فيه [أي الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية] : ما عرفتُ مستند مَن كره قول المؤذن «حيّ على خير العمل» فإنّه روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بها يوم حفر الخندق ...

وحكى الشيخ حسن فخر الدين البلتستاني عن صاحب (حاشية منهية) من علماء الهند : إنّ ابن تيمية زعم في منهاجه على بدعة «حيّ على خير العمل» في الأذان ، فهذا تشدّد منه نحن لا نوافق معه في ذلك (١).

وقال مهمّش مراتب الإجماع ما هذا نصه : فلا يكون هذا ـ حيّ على خير العمل ـ بدعة الروافض كما يزعم ابن تيمية (٢).

وبهذا عرفت أنّ «حيّ على خير العمل» فصل قد أُذِّن به على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموعمل به الصحابة وأهل البيت ، وذهب بعض الأعلام إلى شرعيته وعدم كراهة الإتيان به.

نعم ، إنّ أتباع النهج الحاكم تركوه ، ولم يرووا فيه إلّا القليل ، وقالوا عن الموجود أنّه قد نسخ؟!

__________________

(١) حاشية منهية : ٢. انظر : كلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية ٤ : ١٦٥.

(٢) مراتب الاجماع لابن حزم : ٢٧ ، انظر : منهاج السنة النبوية ٦ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٢٦٦

هذا وقد تمخض من كلّ ما سبق أُمور :

١ ـ اتفاق الفريقين على أصل شـرعيتها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانفراد أهل السـنة والجماعة بدعوى النسخ ، وقد تحدى السيّد المرتضى أن يأتوه بالناسخ ، بقوله :

وإنّما ادعي أنّ ذلك نُسخ ورفع ، وعلى من ادعى النسخ الدلالة وما يجدها.

٢ ـ ذكرنا في القسم الثاني الدليل الثاني من أدلّتنا على جزئـية الحيعلة الثالثة وهو فعل الصحابة وأهل البيت ، فذكرنا فيه اسم ثلاثين شخصاً أذّنوا بـ «حيّ على خير العمل» من الصحابة والتابعين وأهل البيت.

٣ ـ إجماع العترة واتفاق الشيعة بفرقها الثلاث على الحيعلة.

٤ ـ واخيراً ختمنا الكلام عن جزئية الحيعلة الثالثة بما حكي عن الشـافعي وبعض الاعلام من القول بجزئيتها. وسوف نُثبت لاحقاً ـ إن شاء الله ـ وجود ملازمـة بين القـول بـ «حـيّ على خـير العـمل» وعدم القـول بـ «الصـلاة خـير من النوم» ؛ لأنّ القائل بشـرعـية أحدهـما لا يقول بشـرعية الآخر. وحـيث ثـبت عن الشـافعي رجـوعـه ـ في أواخر أيام حياتـه ـ عن التثويب لعـدم ثبـوت صحـة حديث أبي محذورة عنده يرجح المنسـوب من القول بـ «حيّ على خـير العمل» إليـه ، ومثله الكلام عن مالك وغيرهم من الأحناف والمذاهـب الأخرى.

٢٦٧
٢٦٨

الفصل الثاني

حذف الحيعلة؟

وامتناع بلال عن التأذين؟

٢٦٩
٢٧٠

قبل البدء في بيان بحوث هذا الفصل لابدّ من معرفة معنى ما قاله أحد الصادِقَيْن (١) فيما رواه عنه أبو بصير ، أنّه قال : إنّ بلالاً كان عبداً صالحاً فقال : لا أُؤَذِّنُ لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتُرِكَ يومئذ «حيّ على خير العمل» (٢).

ولو ثبت هذا الخبر وصح الحديث لصار زمن سقوط حيّ على خير العمل من الأذان بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي عهد أبي بكر بالذات ، وهذا يخالف المشهور بين الطالبيين والمتّفق عليه عند الشيعة الإمامية ، والزيديّة ، والاسماعيليّة ، فإنّهم جميعاً قد أطبقوا على إسقاطها في عهد عمر بن الخطّاب ، فما يعني ما رواه أبو بصير إذاً؟

الحديث الآنف هو بصدد التعر يف ببلال الحبشي مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه كان صلب العود شجاعاً في مبادئه ، وعبداً صالحاً ، ومعناه : لو كان بلال مؤذناً في العصور اللاَّحقة لما تُرك حيّ على خير العمل ؛ وذلك لإيمانه وتقواه وثباته على العقيدة ، لكن لما ترك بلال ـ بل اضطُرَّ إلى ترك ـ الأذان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في ذلك فرصة للآخرين بالزيادة والنقيصة فيه (٣).

ولك الحقّ أن تسأل عن علّة ترك بلال للأذان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن الأقوال التي قيلت في ذلك ، وهل يصح حقاً ما نقل عن بلال بأنّه طلب من أبي بكر

__________________

(١) أي الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهم‌السلام.

(٢) من لا يحضره الفقيه باب الأذان والإقامة ١ : ١٨٤ ح ٨٧٢.

(٣) كزيادة (الصلاة خير من النوم) فيه أو نقيصة (حيّ على خير العمل) منه.

٢٧١

أن يذهب إلى الشام كي يرابط على ثغور المسلمين ، أو أنّه قال : لا أطيق أن أؤذّن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو غير ذلك؟

إنّ الدقّة في معرفة سير الأحداث تفرض علينا أن نقول : إنّ ترك بلال للأذان لم يكن لمجرّد حالة نفسية وردّة فعل تجاه وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ بلالاً كان أتقى وأورع من أن يترك منصباً نصبه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته ، ذلك لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصّبه مؤذِّناً شخصيّاً له ، بل أعطاه دور مؤذّن الإسلام ، فكيف يترك هذا الدَّور الشريف لمجرّد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وهو أعلم الناس بما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل الأذان والمؤذنين.

بل كيف تعقل صياغة عذر ترجيحه للجهاد في الشام على التأذين للمسلمين ، مع أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين أن ينضووا تحت لواء أُسامة وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة ، ومن الثابت أنّ بلالاً كان مستثنى من هذا الأمر الجهادي ، حيث أطبق التاريخ والمـؤرّخون على أنّه كان عند رسـول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤذّن له حتّى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة ، فكيف تـرك التـأذين ورجّح الجهاد؟!

إن هذا ما لا يعقل في حق بلال ، خصوصاً وأنّه لم يُعهد عنه اتخاذه موقفاً مرتبكاً عند موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما حدث ذلك لعمر بن الخطّاب (١) ، بل تلقّى الحادث كباقي المسلمين بألم وأسى ، واضعاً نصب عينيه قوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (٢) ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ في أحداث سنة ١١ هـ ، وأُسد الغابة ٣ : ٢٢١.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) الزمر : ٣٠.

٢٧٢

فما قيل في ترك بلال للأذان لمجرّد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن الركون إليه بحال من الأحوال ، خصوصاً وأنّ بلالاً لو بقي على أذانه لكان ذلك أقوى للمسلمين وأثبت لنفوسهم ، حيث يظلّون يعيشون مع الرسول وذكرياته السماو ية العطرة ، بل يكون ذلك أبْعَثَ للمسلمين على الجهاد ، لأنّه يذكّرهم بأ يّام كان ينادي فيها بمحضر النبيّ بالصلاة جامعة للجهاد والخروج والقتال.

على أنّنا نرى أنّهم يستعيضون عن بلال بسعد القرظ الذي لم يؤذن على عهد رسول الله إلّا ثلاث مرّات بقباء ـ ان صح النقل ـ وأبي محذورة الذي كان يستهزئ بالأذان وبرسول الله (١) ، فلماذا لم يخرج سـعد القرظ للجهاد إذا كان الجهاد أفضل من التأذين؟!

وإذا كان بلال قد ترك الأذان لترجيح الجهاد عليه ، فلماذا لا نرى له أيّ مشاركة في قتال المرتدين؟! ولماذا لم يرد اسمه مع أبي بكر في حروب الردّة؟ ونحن نعلم بأنّ حروب الردة قد طالت ـ بين موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدء فتوح الشام ـ فاصلة زمنية تقارب سنة (٢) أو أقل.

ولماذا لم يؤذِّن بلال في هذه المدّة لأبي بكر ، إذ كان بوسعه أن يؤذّن له ، حتّى إذا بدأت مسيرة جيوش المسلمين للشام تركه واشتغل بالجهاد؟

إنّ بقاء بلال في المدينة ولو فترةً قصيرة لم يؤذّن فيها لأبي بكر ، إنّما يعني شيئاً؟ فما هو؟ حتّى إذا بدأت الجيوش بالزحف نحو الشام ، خرج بلال ـ طائعاً أو مكرها ـ إلى الشام وبقي فيها.

__________________

(١) هذا ما سنوضّحه لك في الباب الثاني من هذه الدراسة «الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة» فانتظر.

(٢) بدأت حروب الردة بعد أربعين أو ستين أو سبعين يوماً من وفاة النبيّ ، وانتهت بمقتل مسيلمة في ربيع الاول سنة ١٢ هـ.

٢٧٣

وعليه لا يصحّ التبر ير المطروح من ترك بلال الأذانَ ترجيحاً للجهاد عليه ، بل يبدو أنّ هذا العذر والتبرير اختُلِقَ لدعم فكرة حذف الحيعلة الثالثة ترجيحاً للجهاد عليها ـ وهي فكرة عمر بن الخطّاب التي صرّحت بها روايات عديدة ـ بدعوى أنّ الجهاد ـ لا الصلاة ـ هو خير العمل ، ومعنى كلامهم أن بلالاً ترك الأذان ترجيحاً للجهاد عليه!!

فإذا لم يصح هذا التبرير فلنا أن نقول : إنّ هناك أمراً آخر دعاه إلى اتخاذ هذا الموقف. فما هو؟

يبدو أنّ وراء ترك بلال للأذان سرّاً كامناً ، لأنّه ترك الأذان بمجرّد تسلّم أبي بكر للخلافة ، ويظهر أنّه بقي في المدينة مدّة يسيرة قد لا تتجاوز وقت وفاة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تتجاوزها بأيام قلائل.

وما قيل من أنّ بلالاً أذّن لأبي بكر مدّة خلافته ، ثمّ رجّح الجهاد في زمان عمر فهو شيء لا يصحّ ؛ لأنّ بلالاً كانت له مشاركات في فتوح الشام ، وهذا يعني أنّه كان مع جيوش المسلمين ، وقد تفطّن ابن كثير إلى ذلك قائلاً :

ولمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك بلال الأذان ، ويقال : أذّن للصدّيق أيّام خلافته ، ولا يصحّ (١).

وقد علق النووي في المجموع على كلام ابن قسيط الذي قال بأن بلالاً كان يسلم على ابي بكر وعمر في آذانه يقول : وهذا النقل بعيد أو غلط ، فان المشهور المعروف عند أهل العلم بهذا الفن ان بلالاً لم يؤذن لابي بكر ولا عمر وقيل اذن لابي بكر رضي الله عنهم ، ورواية ابن قسيط هذه منقطعه فانه لم يدرك ابا بكر ولا عمر ولا بلالاً رضي الله عنهم (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ٤ : ٧ / ١٠٤ احداث سنة عشرين من الهجرة.

(٢) المجموع ٣ : ١٢٥.

٢٧٤

وكأنّ امتناع بلال من التأذين لأبي بكر بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يَرُق لرجال النهج الحاكم ، لأنّه تبدو منه معالم معارضته للخلافة الجديدة ، من هنا وضعوا شتى المختلقات لتوجيه عدم تأذينه له ، وكأنّ الأقرب للواقع أنّه اضطُرّ إلى ترك المدينة متّجهَّا نحو الشام ، إذ كانت الشام منفى المعارضين ، وكان ستار الجهاد خير وسيلة لإبعاد المعارضين ، حيث ذهب سعد بن عبادة الأنصاري مكرهاً إلى الشام فقتل هناك غيلة ، ونفي في زمان عثمان أبو ذر ومالك الأشتر وغيرهما من المعارضين إلى الشام وحبوس معاوية (١) ، ولا يستبعَد أن يكون بلال قد رأى ـ نتيجة ضغوط أبي بكر وعمر عليه كما ستعلم ـ أنّ الذهاب إلى الشام أسلَمَ له ، وأبعد عن عيون السلطة.

ويؤكّد لنا أنّ وراء امتناع بلال من التأذين لأبي بكر أمراً مخفيّاً ، عدمُ امتناعه من التأذين لأهل البيت ، حيث أذَّن لفاطمة الزهراء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة ، وأذّن لولديها الحسن والحسين عليهما‌السلاممرّة أخرى بعد وفاة فاطمة ، وذلك ما لم يختلف فيه المؤرخون وأرباب السير.

روى الصدوق : أنّه لما قُبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتنع بلال من الأذان وقال : لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن فاطمة قالت ذات يوم : إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذّن أبي بالأذان ، فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان ، فلمّا قال : «الله أكبر الله أكبر» ذكرت أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأ يّامه فلم تتمالك من البكاء ، فلمّا بلغ إلى قوله «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» شَهِقت فاطمة شهقةً وسـقطت لوجـهها وغُشي عليها ، فقال الناس

__________________

(١) تاريخ اليعـقوبي ٢ : ١٧٢ وفيه نفـي أبي ذر إلى الشـام ، وتاريخ الطبري ٤ : ٣١٧ ـ ٣٢٦ / احداث سنة ٣٣ وذكر فيه تسير عثمان جماعة من أهل الكوفة إلى الشام منهم مالك الأشتر.

٢٧٥

لبلال : أمِسـكْ يا بلال ، فقد فارقت ابنةُ رسول الله الدنيا ، وظنّوا أنّها قد ماتت ، فقَطَع أذانه ولم يُتمّه ، فأفاقت فاطمة وسألته أن يُتّم الأذان فلم يفعل ، وقال لها : يا سيّدة النسوان ، إني أخشى عليك مما تُنزلينه بنفسك إذا سمعتِ صوتي بالأذان ، فأعفته عن ذلك (١).

وهذا يدلّ على وجود بلال في المدينة قبل وفاة الزهراء عليها‌السلام ، ولم يكن قد خرج منها بعدُ إلى الشام ، وهذا يؤكد أنّ أبا بكر بقي أربعين يوماً (٢) ـ على أقل التقادير ـ يدبّر أموره قبل أن يجهز لقتال المرتدين ، وظل يقاتل المرتدين مدّة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنة قبل أن يسيِّر الجيوش التي فتحت الشام بعد أن كان جيش أسامة رجع عن وجهة الشام دون قتال.

وقد علمتَ أنّ بلالاً لم يشارك في قتال المرتدين ، بل صرّحوا بأنّه أقام في المدينة إلى أن خرجت بعوث الشام (٣).

كان بلال إذاً في المدينة ولم يؤذّن لأبي بكر ، فلماذا لم يؤذّن لأبي بكر؟! إنّه تساؤل يفرض نفسه ، ويبحث عن اجابة.

روى إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء ، حدثني أبي محمد بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن بلال ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : إنّ بلالاً رأى في منامه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول له : ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٩٨ / ح ٩٠٧ ، وانظر : الدرجات الرفيعة : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٢) وقيل : ستين يوماً ، وقيل سبعين يوماً ، انظر : تاريخ الطبري ٣ : ٢٤١ ، واليعقوبي ٢ : ١٢٧.

(٣) انظر : كنز العمّال ١٣ : ٣٠٥ ح ٣٦٨٧٣ ، مختصر تاريخ دمشق ٥ : ٢٦٥. بل قال ابن أبي حاتم أنّه خرج إلى الشام في خلافة عمر. انظر : المراسيل : ١٠٨ ، وعنه في تهذيب الكمال ١٧ : ٣٧٣.

٢٧٦

فانتبه حزينا وجلاً خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة [من الشام] ، فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه.

فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمّهما ويقبِّلهما ، فقالا له : يا بلال ، نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذّنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمفي السَّحَر ، ففعل ، فَعَلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه ، فلمّا أن قال : «الله أكبر الله أكبر» ارتجّت المدينة.

فلما أن قال : «أشهد أن لا إله إلّا الله» زاد تعاجيجها ، فلما أن قال : «أشهد أن محمّداً رسول الله» خرج العواتق من خدورهنّ ، فقالوا : أبُعِث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فما رؤي يوماً أكثر باكياً وباكية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك اليوم (١).

لقد ثبت أنّ بلالاً أذّن لفاطمة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبل خروجه إلى الشام ، وأذّن للحسن والحسين بعد وفاة فاطمة عند رجوعه من الشام لزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل روي أنّه كان يرجع كلّ سنة مرّة إلى المدينة فينادي بالأذان للمسلمين إلى أن مات (٢) ، فلماذا لم يؤذّن للخليفة الأوّل ، ومن بعده. للثاني؟!

إنّ حقيقة امتناع بلال من التأذين تتجاوز مسألة ترحيله إلى الشام للمشاركة في الجهاد ، بل إنّ المسألة لَتصل إلى معارضته لأصل خلافة أبي بكر وعمر ولأنّه أبى

__________________

(١) تاريخ دمشق ٧ : ١٣٦ ترجمة رقم ٤٩٣ قال : انبأنا أبو محمد بن الاكفاني ، نا عبدالعزيز بن أحمد ، نا تمام بن محمد ، نا محمد بن سليمان ، نا محمد بن الفيض ، نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء ، ثم ذكر باقي الاسناد ، والنص عنه ، ومختصر تاريخ دمشق ٤ : ١١٨ ، ٥ : ٢٦٥ ، أسد الغابة ١ : ٢٠٨. وانظر : تهذيب الكمال ٤ : ٢٨٩ ، حيث أبدل «الحسن والحسين» بـ «بعض الصحابة».

__________________

(١) تاريخ دمشق ٧ : ١٣٦ ترجمة رقم ٤٩٣ قال : انبأنا أبو محمد بن الاكفاني ، نا عبدالعزيز بن أحمد ، نا تمام بن محمد ، نا محمد بن سليمان ، نا محمد بن الفيض ، نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء ، ثم ذكر باقي الاسناد ، والنص عنه ، ومختصر تاريخ دمشق ٤ : ١١٨ ، ٥ : ٢٦٥ ، أسد الغابة ١ : ٢٠٨. وانظر : تهذيب الكمال ٤ : ٢٨٩ ، حيث أبدل «الحسن والحسين» بـ «بعض الصحابة».

(٢) انظر : الدرجات الرفيعة : ٣٦٧ ، نقلاً عن كتاب المنتقى.

٢٧٧

ـ كما يبدو ـ أن يؤذّن لهما بالأذان الذي بُدِّل فيه وغُيِّر ، والذي سخّروا له من بعد سعد القرظ مولى قريش ، الذي ظل مؤذّناً حتّى للحجّاج الثقفي ، ولم يكن له أيّ دور في المدينة في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال النووي في تهذيب الاسماء : جعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سعد القرظ مؤذناً بقباء ، فلما ولي أبو بكر الخلافة وترك بلالٌ الأذان نقله أبو بكر إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليؤذن فيه فلم يزل يؤذن فيه حتّى مات في أيّام الحجاج بن يوسف الثقفي ، وتوارث بنوه الأذان. وقيل : الذي نقله عمر بن الخطاب (١).

ولكنّ بلالاً مع ذلك لم يمتنع عن التأذين لأهل البيت والمسلمين المخلصين ـ ولذلك قال جعفر بن محمّد : رحم الله بلالاً فإنّه كان يحبنا أهل البيت (٢) ـ ، بل إنّه امتنع عن التأذين لرجال النهج الحاكم ورؤوس الخلافة وحدهم.

روى الشيخ المفيد بسنده عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : وكان بلال مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم بيته ولم يؤذّن لأحد من الخلفاء (٣).

__________________

(١) تهذيب الأسماء ١ : ٢٠٧.

(٢) الاختصاص : ٧٣. ويدل على اختصاص بلال بعليّ وأهل البيت وعدم إيمانه بشرعية خلافة أبي بكر ، ما روي في تفسير الحسن العسكري : في ان بلالاً كان يعظّم أمير المؤمنين عليه‌السلام ويوقره أضعاف توقيره لأبي بكر ، فقيل له في ذلك مع أنّ أبا بكر كان مولاه الذي اشتراه واعتقه من العذاب ، فأجاب من ذلك بأحسن جواب ، فكان فيما قال : ان حقَّ عليٍّ أعظم من حقه ، لأنّه أنقذني من رق العذاب الذي لو دام عليّ وصبرت عليه لصرت الى جنات عدن ، وعليّ انقذني من رق العذاب الأبد ، واوجب لي بموالاتي له وتفضيلي إيّاه نعيم الأبد «تفسير العسكري ٦٢١ / ح ٣٦٥».

هذا وقد بقى بلال إلى آخر لحظات عمره الشريف موالياً لمحمّد وآل محمّد ، وقد ردد قبل موته نفس الشعار الذي ردده عمار في صفين من بعد :

غداً سنلقى الأحبّة

محمّــداً وحــزبـــه

«مختصر تار يخ دمشق ٥ : ٢٦٧».

(٣) الاختصاص : ٧٣.

٢٧٨

وقال الـمزّي : ويقال : إنّـه لم يؤذّن بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا مرّة واحدة ، في قَدمة قَدِمها لزيارة قبر النبـيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلب إليه الصحابة ذلك فأذّن ، ولم يُتمّ الأذان ... (١)

وفي كتاب أصـفـياء أمير المؤمنـين ، روى عن ابن أبي البـختـري ، قال : حدّثنا عبدالله بن الحسن : انّ بلالاً أبى أن يبايع أبا بكر ، وإنّ عمر جاء وأخذ بتلابيبه ، فقال : يا بلال ، إنّ هذا جزاء أبي بكر منك؟! إنّه أعتقك فلا تجيء تبايعه؟!

فقال بلال : إن كان أبو بكر أعتقني لله فليدعني له ، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا (٢).

وأمّا بيعته فما كنت أبايع أحداً لم يستخلفه رسول الله ، وإنّ بيعة ابن عمّه يوم الغدير في أعناقنا إلى يوم القيامة ، فأيّنا يستطيع أن يبايِع عَلَى مولاه؟

فقال له عمر : لا أمّ لك ، لا تُقِمْ معنا!

فارتَحَلَ إلى الشام (٣) ...

__________________

(١) انظر كلام المزي في تهذيب الكمال ٤ : ٢٨٩ ، ومثله ما حكاه الحصني الشامي «ت ٨٢٩ هـ» في كتابه دفع الشبه عن الرسول : ١٨٢ عن الحافظ عبدالغني المقدسي في كتابه الكمال في ترجمة بلال ـ وأنّه قد قال بهذا القول قبل المزّي ـ. وقد يكون مقصود المزّي والمقدسي من جملة «طلب إليه الصحابة» هو طلب الحسن والحسين ، إذ لم يقل أحد بأنه أذن للصحابـة على نحو العمـوم ، وكذا لا يصـحّ ما قاله بأن بلالاً لم يـؤذّن بعد النبيّ إلّا مـرّة واحدة ؛ لثبوت تأذينه لفاطمة الزهراء قبل رحلته إلى الشام.

(٢) لا يخفى عليك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي اشترى بلالاً وأعتقه ، لكن بواسطة أبي بكر إذ كانت عنده علاقات حسنة مع كفار قريش ولم يكن وَتَرهم.

(٣) الدرجات الرفيعة : ٣٦٧ ، عن كتاب أصفياء أمير المؤمنين. وقد روى الوحيد البهبهاني قريباً من هذا في التعليقة (انظر : معجم رجال الحديث ٤ : ٢٧٢) ..

٢٧٩

وفي كتاب كامل البهائي ـ لعماد الدين الطبري (١) ـ : إنّ بلالاً امتنع عن بيعة أبي بكر والأذان له (٢).

فعلى هذا يكون بلال قد عارض خلافة أبي بكر ، وامتنع من التأذين له مع بقائه بالمدينة ، لعدم إيمانه بشرعية خلافته ، ولأنّه وعمر أرادا منه ما يأباه ، خرج إلى الشام مكرهاً لا ترجيحاً للجهاد على منصبه النبوي في التأذين ، ولاردّة فعل منه تجاه وفاة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإنّ بلالاً لم يبايع لهما ، وبقي معارضاً للغاصبين في صفّ عليّ وغيره من عيون الصحابة ، وقد أذّن في هذه المدّة لفاطمة ، وكان على اتصال بأهل البيت ، ثمّ إنّهم بعد وفاة فاطمة وإجبار عليّ على البيعة ، ونفي سعد بن عبادة إلى الشام ، وكسرهم سيف الزبير ، ووو .... أجبروا بلالاً على مغادرة المدينة تحت غطاء القتال في جبهات الشام ، وكان قد عاد إلى المدينة لز يارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأذّن للحسن والحسين.

وبهذا ، فإنّ مختلقة تأذينه لعمر (٣) في الجابية بالشام ، قد وضعت للتغطية على

__________________

(١) الذي فرغ من تأليفه سنة ٦٧٥ هـ. ق.

(٢) الأربعين للماحوزي : ٢٥٧ ، نقلاً عن كامل البهائي.

(٣) وضعت روايات مفادها أنّ بلالاً أذّن لعمر في الجابية ، وقد وردت بأربعة طرق :

أوّلها : ما رواه الطبري في تاريخه ٤ : ٦٥ / أحداث سنة ١٧ هـ ، قال : «كتب إلي السري ، عن شعيب ، عن سيف [بن عمر التميمي] ، عن مجالد عن الشعبي». وهذا الإسناد فيه سيف بن عمر الوضاع المتّهم بالزندقة.

ثانيها : ما رواه البيهقي في سننه ١ : ٤١٩ ، وابن عساكر في تاريخه ١٠ : ٤٧١ ، والذهبي في سيره ١ : ٣٥٧ ، وكلها تنتهي إلى «أبي الوليد أحمد بن عبدالرحمن القرشي ، حدّثنا الوليد بن مسلم ، قال : سألت مالك بن أنس ...». وهذا الإسناد فيه أحمد بن عبدالرحمن القرشي الذي لم يسمع من الوليد بن مسلم قط ، وكان شبه قاصٍّ ، وقالوا عنه : لا تقبل شهادته على تمرتين. ناهيك عن الوليد بن مسلم الذي كان رفّاعاً للحديث كثير الخطأ وروى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل ، وكان رديء التدليس.

٢٨٠