موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

ويجهرون بالبسملة ، ويكبّرون على الميّت خمساً ، وينادون بـ «من مات عن بنت وأخ وأخت فالمال كله لها» ويصرحّون بالصحيح من دين الله في عشرات المسائل التي حرّفها المحرّفون.

وجاء في جامع علي بن اسباط عن الحسن بن جهنم قال : ذكرت لابن عبدالله جعفر بن محمّد عليه‌السلام ما نحن فيه وما للناس فيه من اذلال بني العباس قلت : ومتى الفرج؟ قال : النداء بحي على خير العمل على المنارة (١).

وهذا يشير إلى أنّ الخلاف بين الحكّام والعلويين كان أصولياً ، وليس كما يصوّره البعض بأنّه خلاف حول الخلافة بما هي خلافة فقط ، بل إنّ اختلافهم كان على الشر يعة حكومةً وأحكاماً.

إنّ وقـوف الطـالبيين أمام الحكـام ما هو إلّا انعكاس لنهج أصـيل يقـف في مواجهة الخـلفاء ، ومـا جزئـيّة «حيّ على خـير العمل» إلّا نمـوذج مصغرَّ لهـذا الصـراع الفكـري العقائـدي في الشـر يعة ، وإلـيك الآن بعض النصوص في ذلك :

زيد بن عليّ بن الحسين «١٢٢ ه‍»

روى الحافظ العلوي بسنده إلى يزيد بن معاوية بن إسحاق ، قال : كنّا بجبّانة سالم (٢) ، وقد أَمِنَّا أهل الشام ، فأمر زيدُ بن عليّ معاويةَ بن إسحاق فقال : أذِّن بـ «حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل» (٣).

__________________

(١) الايضاح للقاضي النعمان المطبوع في «ميراث حديث شبيعه» دفتر دهم صفحة ١٠٩.

(٢) أهل الكوفة يسمّون مكان دفن الأموات جبّانة ، كما يسميّها أهل البصرة المقبرة ، وجبانه سالم تنسب إلى سالم بن عمارة بن عبدالحارث (انظر : معجم البلدان ٢ : ٩٩ ـ ١٠٠).

(٣) الأذان بحيّ على خير العمل : ٨٣ للحافظ العلوي.

٣٤١

يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين «١٢٥ ه‍»

أخرج الحافظ العلوي بسنده عن زياد بن المنذر ، قال : حدّثني حسّان ، قال : أذّنت ليحيى بن زيد بخراسان ، فأمرني أن أقول : حيّ على خير العمل ، [حي على خير العمل].

وبإسناده عن صباح المزني ، قال : أذّن رجل كان مع يحيى بن زيد بخراسان ، قال : ما زال مؤذنهم ينادي بحيّ على خير العمل حتّى قُتل (١).

إبراهيم بن عبدالله بن الحسن «١٤٥ ه‍»

أخرج الحافظ العلوي باسناده عن سالم الخزاز ، قال : كان إبراهيم بن عبدالله ابن الحسن يأمر أصحابه إذا كانوا في البادية أن يزيدوا في الأذان «حيّ على خير العمل» (٢).

الحسين بن عليّ (صاحب فَخّ) «١٦٩ ه‍»

روى أبو الفرج الإصفهانيّ أنّ إسحاق بن عيسى بن عليّ ، وَلِي المدينة في أيّام موسى الهادي ، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب ، يُعرف بعبد العز يز بن عبدالله ، فحمل على الطالبيّين ، وأساء إليهم ، وأفرط في التحامل عليهم ، وطالبهم بالعرض [عليه] كلّ يوم ، وكانوا يعرضون في المقصورة ، وأخذ كلّ واحد منهم بكفالة قر ينه ونسيبه ، فضمن الحسينُ بن عليّ ، ويحيى ابن عبدالله

__________________

(١) الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي : ٨٧ وانظر : إمالي أحمد بن عيسى ١ : ٩٧ الحديث ٢٣٦.

(٢) الأذان بحيّ على خير العمل ، للحافظ العلوي : ٨٨ ، ٨٩ ، وبتحقيق عزّان : ١٤٧ ح ١٨٦ ، ١٨٧.

٣٤٢

ابن الحسن : الحسنَ بن محمَّد بن عبدالله بن الحسن ، ووافى أوائل الحاجّ ، وقَدِم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً فنزلوا دار ابن أفلح بالبقيع وأقاموا بها ، ولقوا حسيناً وغيرَه ، فبلغ ذلك العمرىَّ فأنكره ، وكان قد أخذ قبل ذلك الحسن بن محمّد بن عبدالله ، وابن جندب الهذلي الشاعر ، ومولى لعمر ابن الخطاب وهم مجتمعون ، فأشاع أنّه وجدهم على شراب ، فضرب الحسن ثمانين سوطاً ، وضرب ابن جندب خمسة عشر سوطاً ، وضرب مولى عمر سبعة أسواط ، وأمر بأن يدار بهم في المدينة مكشّفي الظهور ليفضحهم ، فبعثت إليه الهاشميّة ـ صاحبة الراية السوداء في أيام محمّد بن عبدالله ـ فقالت له : لا ولا كرامة ، لا تشهّر أحداً من بني هاشم ، وتشنّع عليهم وأنت ظالم ، فكفَّ عن ذلك وخلّى سبيلهم ... إلى أن يقول : ثمّ عرضهم يوم الجمعة ... فدعا باسم الحسن بن محمَّد ، فلم يحضر ؛ فقال ليحيى والحسين بن عليّ : لتأتياني به أو لأحبسنَّكما ، فإنَّ له ثلاثة أيّام لم يحضر العرض ، ولقد خرج أو تغيَّب ... أر يد أن تأتياني بالحسن بن محمَّد.

فقال له الحسين : لا نقدر عليه ، هو في بعض ما يكون فيه الناس ، فابعث إلى آل عمر بن الخطّاب ، فاجمعهم كما جمعتنا ، ثمَّ اعرضهم رجلاً رجلاً ، فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك ، فقد أنصفتنا.

فحلف [العمريّ] على الحسين بطلاق امراته وحريّة مماليكه ، أنّه لا يخلّي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته ، وأنّه إن لم يجئ به ليركبنّ إلى سويقِهِ فيخرّبها ويحرقها وليضربنَّ الحسين ألف سوط ...

فوثب يحيى مُغضَباً ، فقال له : أنا أعطي الله عهداً .. ثمّ وجَّهَ [الحسين] فجاءهُ يحيى ، وسليمان ، وإدريس ـ بنو عبدالله بن الحسن ـ وعبدالله بن الحسن الأفطس ، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا ، وعمر بن الحسن بن عليّ بن الحسن بن الحسين بن الحسن ، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ ، وعبدالله بن

٣٤٣

جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب .. ووجَّهوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم ، فاجتمعوا .. ستّة وعشر ين رجلاً من ولد عليّ ، وعشرة من الحاجّ ، ونفر من الموالي.

فلمَّا أذَّن المؤذِّن للصبح دخلوا المسجد ، ثمَّ نادوا : (أحد ، أحد) ، وصعد عبدالله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عند موضع الجنائز ؛ فقال للمؤذِّن : أذِّن بـ «حيَّ على خير العمل» ، فلمَّا نظر إلى السيف في يده أذَّن بها. وسمعه العمريّ ، فأحسَّ بالشرِّ ، ودهش ... وولَّى هارباً ... فصلَّى الحسين بالناس الصبح ؛ ودعا بالشهود العدول الذين كان العمريّ أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن إليه ، ودعا بالحسن ؛ وقال للشهود : «هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العمريّ وإلّا والله خرجت من يميني ، وممَّا عَلَيَّ». ولم يتخلَّف عنه أحد من الطالبيّين (١).

غير أنّهم حرّفوا الخلاف العقائدي السياسي إلى خلاف سياسي بحت ، فنراهم يشككون في أهداف ثورة صاحب فخ ويتّهمونه وكلَّ الثوار بأنّهم ثاروا للدفاع عن شخص سكّير ـ والعياذ بالله ـ وهو الحسن بن محمّد بن عبدالله بن الحسن (ابن النفس الزكية) (٢)!

ومثله قالوا عن ثورة الإمام زيد وشككوا في دواعي ثورته الخالصة ، زاعمين أنّها جاءت على أثر خلاف ماليّ بينه وبين بعض أعوان السلطة وهو خالد بن عبدالله (٣) أو أنّه وابني الحسن تخاصما في وقف لعلي (١) أو ما شابه ذلك من التهم

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين : ٤٤٣ ـ ٤٤٧ وقد رويناه مختصراً.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ١٩٢ ، ١٩٣ ، الكامل في التاريخ ٥ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٠. وقد أجاب الإمام زيد عن هذه التهمة وقال ليوسف بن عمر : أنّى يودعني مالاً وهو يشتم آبائي على منبره.

فارسل [يوسف] إلى خالد فاحضره في عباءة فقال له : هذا زيد ، زعمت أنك قد أودعته مالاً ،

٣٤٤

الفارغة التي تباين شخصية هؤلاء الأفذاذ ، وما هذا إلّا كصنيع الأمويين مع النصوص والأحداث.

لقد سعت حكومة عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان والحكومة الأمويّة ، إلى تجريد الحيعلة الثالثة من طابعها السياسي ، بل حاولوا إدخالها في إطار اختلاف وجهات النظر والاجتهاد بين الصحابة كما يسمّونه ، لكنّ الأمر أخذ يختلف في العهد العباسي الأول ثمّ من بعده في الحكومات اللاحقة ، إذ راح يتبلور أكثر فأكثر كون الحيعلة الثالثة شعاراً دينيَّاً سياسياً للثوار ، وأخذت الحكومة تتحسس منه ولا تستطيع خنقه.

فإبراهيم بن عبدالله بن الحسن ـ أخو النفس الزكية الذي خرج بالبصرة بعد شهادة أخيه ـ يأمر أصحابه أن يؤذّنوا بالحيعلة سراً كي لا يقف النهج الحاكم وجواسيسه عليهم. وهكذا حال الحسين صاحب فخ ، فإنّه لم يكن تأذينه وأتباعُهُ بالحيعلة الثالثة إلّا معنى آخر للثورة وليعلنوا أنهم هم الأولى بالله ورسوله وخلافته.

طبرستان (سنة ٢٥٠ ه‍)

خرج بطبرستان الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.

وكان سبب ظهوره أنّ محمّد بن عبدالله بن طاهر لمّا ظفر بيحيى بن عمر أقطعه

__________________

وقد أنكر.

فنظر خالد في وجههما ثمّ قال : أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا! كيف أودعه مالاً وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قال : فشتمه يوسف ، ثمّ رده ، (تاريخ الطبري ٧ : ١٦٧).

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٣ احداث سنة ١٢١.

٣٤٥

المستعين بالله العباسي من ضواحي السلطان بطبرستان قطائعَ ، منها قطيعة قرب ثغر الديلم وهما كلار وشالوس ، وكان بحذائهما أرض يحتطب منها أهل تلك الناحية ، وترعى فيها مواشيهم ، ليس لأحد عليها ملك إنّما هي مَوات ، وهي ذات غياض ، وأشجار ، وكلأ.

فوجّه محمّد بن عبدالله نائبه لحيازة ما أُقطِع ، واسمه جابر بن هارون النصراني ، فلمّا قَدِم جابر عَمَد فحاز ما اتّصل به من أرض مَوات يرتفق بها الناس.

وكان في تلك الناحية يومئذ أخوانِ لهما بأسٌ مذكوران بإطعام الطعام وبالإفضال ، يقال لأحدهما : محمّد ، وللآخر : جعفر ، وهما ابنا رستم ، فانكرا ما فعل جابر من حيازة الموات وكانا مُطاعَين في تلك الناحية ، فاستنهضا من أطاعهما لمنع جابر من حيازة ذلك الموات ؛ فخافهما جابر فهرب منهما فلحق بسليمان بن عبدالله بن طاهر وكان عامل طبرستان يومئذ ، وخاف محمّد وجعفر ومن معهما من عامل طبرستان ، فراسلوا جيرانهم من الدَّيلم يذكّرونهم العهد الذي بينهم ، ثمّ أرسل ابنا رستم ومن وافقهما إلى رجل من الطالبيين ـ اسمه محمّد بن إبراهيم كان بطبرستان ـ يدعونه إلى البيعة ، فامتنع ، وقال : لكنّي أدلّكم على رجل منّا هو أقوم بهذا الأمر منّي ، فدلّهم على الحسن بن زيد وهو بالري ، فوجّهوا إليه عن رسالة محمّد بن إبراهيم يدعونه إلى طبرستان ، فشخص إليها ، فأتاهم وقد صارت كلّ الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعته ، فبايعوه كلّهم وطردوا عمّال ابن أوس عنهم ـ وكان هذا من عمال سليمان بن عبدالله عامل طبرستان ـ فلحقوا بسليمان بن عبدالله ، وانضم إلى الحسن بن زيد أيضاً جبال طبرستان.

ثمّ تقدم الحسن ومن معه نحو مدينة آمل ثمّ سارية ، وقيل إنّ سليمان انهزم اختياراً لأنّ الطاهريّة كلّها كانت تتشيّع ، فلمّا أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان تأثّم سليمان من قتاله لشدّته في التشيع ، وقال :

٣٤٦

نبّئتُ خيل ابن زيد أقبلت خَبَباً

تُـريــدنـا لتُــحَسِّـينا ألامَــرَّيْــنا

يا قَومُ إن كانت الأنباءُ صـادقةً

فــالوَيلُ لي ولجميع الطـاهريّينا

أمّا أنا فــإذا اصــطفّت كتائبُــنا

أكونُ من بيـنهم رأَس المُــوَلّينا

فالعُذرُ عنـد رسول الله منبسطٌ

إذا احتـسـبت دمـاء الفاطميّينا

فلمّا التقوا انهزم سليمان ، فلما اجتمعت طبرستان للحسن وجه إلى «جندا» مع رجل من أهله يقال له الحسن بن زيد أيضاً ، فملكها وطرد عنها عامل الطاهرية ، فاستخلف بها رجلاً من العلويين يقال له محمّد بن جعفر وانصرف عنها» (١).

وقد جاء في تاريخ طبرستان لابن اسفنديار الكاتب المتوفّى ٦١٣ هـ قوله :

«استقرّ الداعي الكبير ابن زيد في آمُل ، وأعلن في أطراف طبرستان وكيلان والديلم أنّه : قد رأينا العمل بكتاب الله وسنّة رسوله وما صحّ عن أمير المؤمنين ، وإلحاق حيَّ على خير العمل ، والجهر بالبسملة ، والتكبير خمساً على الميت ، ومن خالف فليس منّا» (٢).

وقد حكى الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة عن تاريخ طبرستان : ٢٤٠ أن الداعي إلى الحق الحسن بن زيد كتب في سنة ٢٥٢ منشورة عن آمل إلى سائر بلاده ، بإعلاء شعائر التشيع من تقديم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والأخذ بما صح عنه في جميع الأصول والفروع من قول «حيّ على خير العمل» والجهر بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» وغير ذلك (٣).

هكذا نجح الحسن بن زيد في تكوين هذه الدولة التي تُعرف بالدولة الزيدية

__________________

(١) انظر : تفاصيل هذا الامر في الكامل لابن الأثير ٥ : ٣١٤ ـ ٣١٧ حوادث سنة ٢٥٠.

(٢) تاريخ طبرستان لابن اسفنديار الكاتب : ٢٣٩ وعنه في تاريخ طبرستان للمرعشي ٨٨١ هـ.

(٣) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٧ : ٢٧٠.

٣٤٧

بطبرستان ، واقتطع من ملك بني العبّاس وآل طاهر طرفاً عظيماً تحميه جبال طبرستان والديلم ، واستمرت هذه الحكومة نحو قرن كامل (٢٥٠ ـ ٣٥٥ هـ) تولى فيها :

١ ـ الحسن بن زيد الداعي ٢٥٠ ـ ٢٧٠.

٢ ـ محمّد بن زيد القائم بالحق ٢٧٠ ـ ٢٧٩.

٣ ـ احتلال الدولة السامية لطبرستان ٢٧٩ ـ ٣٠١.

٤ ـ تولي الحسن الأطروش بن عليّ بن عمر بن زين العابدين ٣٠١ ـ ٣٠٤ على طبرستان مرّة أُخرى.

٥ ـ الحسن بن القاسم بن عليّ بن عبدالرحمن ومعه أولاد الأُطروش ٣٠٤ ـ ٣٥٥.

ويبدو أنّ المنشور الذي أعلنه الداعي الكبير سنة ٢٥٢ هـ ظل ساري المفعول حتّى نهاية هذه الدولة العلوية الزيديّة ، فكانت المآذن تؤذن بـ «حيّ على خير العمل» لأكثر من قرن ، منبّهين على أنّ هذا المرسوم صدر في وقت مبكر جداً من أوائل حكومة هذا الداعي الكبير ، لما له من هيبة دينية وبُعد سياسي ، وما له من أثر في ترسيخ حكومة تقوم على أساس الدين من وجهة نظر علوية ، ويؤكد صحةَ هذا ما نراه اليوم وبعد أكثر من ألف عام في التراث الزيدي ، فلو راجعت كتبهم الفقهية والحديثية القديمة عرفت ثبوتها عندهم ، وهذا الموقف من الحسن بن زيد وغيره هو امتداد لشرعيتها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

حمص / مصر / بغداد (سنة ٢٩٠ ه‍)

جاء في كتاب بغية الطلب في أخبار حلب لابن العديم المتوفى (٦٦٠ هـ) :

«... فصار [صاحب الخال] إلى حمص ودُعي له بكورها وأمرهم أن يصلوا الجمعة أربع ركعات ، وأن يخطبوا بعد الظهر ويكون أذانهم :

٣٤٨

أشهد أن محمّداً رسول الله ، أشهد أن عليّاً ولي الله ، حيّ على خير العمل» (١).

وجاء في كتاب «أخبار بني عبيد» لمحمد بن عليّ بن حماد في ترجمة عبيدالله (٣٢٢ هـ) ـ مؤسس الدولة العبيدية في مصر ـ :

... وكان مما أحدث عبيدالله أن قطع صلاة التراويح في شهر رمضان ، وأمر بصيام يومين قبله ، وقنت في صلاة الجمعة قبل الركوع ، وجهر بالبسملة في الصلاة المكتوبة ، وأسقط من أذان صلاة الصبح : «الصلاة خير من النوم» ، وزاد : «حيّ على خير العمل» ، «محمد وعلي خير البشر» ، ونص الأذان طول مدة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين : حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح مرتين ، حيّ على خير العمل محمد وعلي خير البشر مرتين مرتين ، لا إله إلّا الله مرة (٢).

هذان نصّان أحدهما عن الطالبيين في حلب والآخر في مصر ، وهما يؤكدان أنّ النزاع الفكري بين الطالبيين والنهج الحاكم كان مستمراً عبر جميع القرون ، ولم يختصّ ببلدة دون أخرى.

ويدلّ على أصالة الحيعلة الثالثة ، وامتداد التأذين بها زماناً ، وانتشارها مكاناً ، ما رواه القاضي التنوخي المتوفّى ٣٨٤ هـ عن أبي فرج الاصفهاني فيما حدث في بغداد في نفس تلك الفترة تقريباً ، قال :

أخبرني أبو الفرج الاصفهاني (المتوفّى ٣٥٦ هـ) قال : سمعت رجلاً من القطيعة (٣) ، يؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد

__________________

(١) بغية الطلب ٢ : ٩٤٤.

(٢) اخبار بني عبيد ١ : ٥٠.

(٣) رجّح محقق كتاب نشوار المحاضرة أن يكون المقصود من القطيعة هي قطيعة أمّ جعفر ، وهي محلّة

٣٤٩

أن محمد رسول الله ، أشهد أن عليّاً ولي الله ، محمد وعلي خير البشر ، فمن أبى فقد كفر ، ومن رضي فقد شكر ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على خير العمل ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلّا الله (١) ...

__________________

ببغداد عند باب التبن وهو الموضع الذي فيه مشهد الإمام موسى ابن جعفر ، لكن ترجيحه ليس براجح بنظرنا ، لأن أبا الفرج لو أراد تلك القطيعة لقال : رجلُ من أهل القطيعة أو رجل من قطيعة أمّ جعفر ؛ وذلك لتمييزها عن القطائع الكثيرة الأخرى ـ والتي ذكرها صاحب معجم البلدان ٤ : ٣٧٦ ـ كقطيعة إسحاق ، وقطيعة الرقيق ، وقطيعة الربيع ، وقطيعة زهير ، وقطيعة العجم ، وقطيعة عيسى وغيرها.

وحيث لا يمكن الترجيح أو القول بأن القطيعة هي علم لقطيعة أم جعفر فلابدّ من احتمال أن تكون القطيعة هي تصحيف للقطعية وهي الفرقة التي قطعت بموت موسى ابن جعفر وإمامة عليّ ابن موسى الرضا عليهم‌السلام ، وهم في مقابل الواقفيّة التي وقفت على إمامة موسى بن جعفر الكاظم ولم تقل بإمامة مَن بعده ، ويترجّح احتمالنا حينما نرى التنوخي يأتي بـ «خبر أذان رجل من القطيعة» بعد خبر «حجّام يحجم بالنسيّة إلى الرجعة» وكلاهما يرتبط بأمر تقوله الشيعة الإماميّة الاثنا عشرية.

ويتقوى احتمالنا هذا حينما نرى الإصفهاني ـ الزيدي العقيدة ـ ينقل هذا الخبر ، وهو تأكيد لأذان الإمامية القطعية في الكاظمية ، وأنهم كانوا يؤذّنون بالشهادة الثالثة. ولو أحببت أن تتأكد بأن القطعية هو اصطلاح للشيعة الاثني عشرية راجع كتب الشيخ الصدوق ومقالات الإسلامين للأشعري ١ : ١٧ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٩ ، وخاتمة المستدرك ٤ : ٢٤٨ عن النوبختي في كتاب مذاهب فرق أهل الامة.

وعلى فرض أن يكون المراد قطيعة أمّ جعفر ، فهي أيضاً كانت من الأماكن التي يقطنها الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ، قال الحموي في معجم البلدان ٤ : ٤٤٨ ، وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية لا يوجد فيهم سنيّ ألبتة. وانظر : حول تشيعها الاثني عشري البداية والنهاية ١١ : ٣٠٧ / احداث سنة ٣٧٩ ، وموسوعة العتبات المقدسة «الكاظمية» ٩ : ١١٥.

هذا وقد أضاف المحقق جملة من بعض النسخ تشمئز منها النفوس ولا تتفق مع السير التاريخي وارتباط هند وابن عمر بمسألة الأذان ، فراجع.

(١) نشوار المحاضرة للتنوخي ٢ : ١٣٣.

٣٥٠

ولتأكيد وجود الخلاف الفقهي العقائدي في تلك البرهة من التاريخ إليك كلام المقريزي في (المواعظ والاعتبار) عند ذكره مذاهب أهل مصر ونِحَلِهم ، قال :

قال أبو عمر الكندي في كتاب (أمراء مصر) : ولم يَزَل أهل مصر على الجهر بالبسملة في الجامع العتيق إلى سنة ثلاث وخمسين ومائتين (٢٥٣ هـ) ، قال : ومنع أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمير مصر من الجهر بالبسملة في الصلوات بالمسجد الجامع ، وأمر الحسين بن الربيع إمام المسجد الجامع بتركها وذلك في رجب سنة ثلاث وستّين ومائتين (٢٦٣ هـ) ، ولم يَزَل أهل مصر على الجهر بها في المسجد الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجون.

إلى أن يقول : ... إلى أن قدم القائد جوهر من بلاد إفريقية في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة (٣٥٨ هـ) بجيوش مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى مدينة القاهرة ، فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة ، وعمل به في القضاء وأنكر ما خالفه ، ولم يبقَ مذهب سواه ، وقد كان التشيّع بأرض مصر معروفاً قبل ذلك.

قال أبو عمر الكندي في كتاب الموالي ، عن عبدالله بن لهيعة أنه قال : قال يزيد بن أبي حبيب : نشأت بمصر وهي علويّة فقلبتُها عثمانية (١).

ثمّ عمد المقريزي إلى شرح الأدوار التي مرت بها الشيعة في مصر وكيف كانت علويّة وصارت عثمانيّة حتّى يصل إلى صفحة ٣٤٠ ، وفيها يذكر حوادث سنة (٣٥٣ و ٣٥٦ هـ) وأن «جوهراً» أعلن حيّ على خير العمل وفضّل الإمام عليّاً وأولاده على غيره وجهر بالصلاة عليه وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم ، ممّا سيأتي في ما ننقله عن حوادث مصر في تلك السنة.

__________________

(١) الخطط المقريزية ٢ : ٣٣٤.

٣٥١

هذا نموذج بسيط عن مسار الاتجاهين الفكري. وقد أكدنا اكثر من مرّة على أنّ لكلّ واحد من النهجين قادة وجماهير.

ولما حكم نهج الاجتهاد والرأي ـ في الحكومات الأموية والعباسية أو السلجوقية والأيوبية ـ حكّم آراء الخلفاء وفقههم في الشريعة.

أمّا النهج الشيعي فقد دعا إلى الأخذ بسنة رسول الله عن عليّ وأولاده ، وهؤلاء قد عارضوا النهج الحاكم في زمن الشيخين وعثمان وطيلة الحكم الاموي والعباسي. ولا ننسى أن شعارية «حيّ على خير العمل» وغيرها قد تجسدت في العصر العباسي الأوّل والثاني ، أي بنشوء الدول الشيعية كالدولة الإدريسية في المغرب والحمدانية في حلب ، والبويهية في بغداد ، والزيدية في طبرستان ، والفاطمية في مصر و ...

وقد اتّخذ كلّ اتجاه أُصولا في عمله ، فأحدهم يمنع من تدوين الحديث والآخر يصرّ عليه وإن وضعت الصمصامة على عنقه.

والأوّل يذهب إلى عدم تنصيص النبيّ على أحد بل ترك الأمّة لتختار لإمامتها من تشاء ، والآخر يعتقد بلزوم الوصاية والخلافة وقد عيّن النبيُّ بالفعل علياً إماماً وخليفة من بعده.

والسنيّ يقول باجتهاد النبيّ ، والشيعي لا يرتضي ذلك .. وهلمّ جرّاً.

اذاً يمكن تلمس النهج السني في تصرف الدولتين الاموية والعباسية ، ثمّ بعدهم السلجوقيّة والنوريّة والصلاحيّة والعثمانيّة ، وهذه الدول كانت تسعى لتطبيق ما شُرّع على عهد الخلفاء وما دوّن لهم في عهد عمر بن عبدالعزيز ـ لقول الزهري : (كنّا نكره تدوين الحديث حتّى أكرهنا السلطان على ذلك ، فكتبناه وخفنا أن لا نكتبها للناس) ـ وأخذوا بالمذاهب الأربعة فقط ، اعتقاداً منهم بأنّ أقوال أربابها هي الدين الحق ، غافلين عن دور الحكّام في تأصيل أصول تلك الأحكام الشرعية ، كتدوين الحديث ، وحصر المذاهب بالأربعة وسوى ذلك.

٣٥٢

وفي المقابل نرى النهج العلوي بأمرائه وجماهيره وعلمائه وفقهائه يسعون ـ عند وصولهم إلى الحكم ـ لتطبيق ما عرفوه من سنة رسول الله ونهج الإمام عليّ ، فيصرّون على الإتيان بالحيعلة الثالثة مثلاً ويأبَون بِدعيتها ، وهكذا الأمر في غيرها من المسائل المختلف فيها.

وهذا التخالف بين الجناحين يومئ إلى أنّ الخلاف بين الحكومات العلويّة الشيعيّة والحكومات السنيّة على مرّ التاريخ كان يدور في محاور عقائديّة فكرية استراتيجيّة ، مضافاً لما بينهما من خلاف حول الخلافة ، لأنّ كلّ واحد من الطرفين يستدل على صحّة عمله بأقوال وأفعال من يعتقد به من الصحابة أو أهل البيت.

وعليه فلا يجوز أن نتغافل عن جذور الحيعلة الثالثة وأشباهها في كتب الفقه والحديث والتاريخ ، بل بذكرنا خلافيات الفريقين يمكن الوقوف على جواب سؤالنا السابق ، وأن هذه الأمور هي تشريعات ذات أبعاد سياسية عقائدية.

ولا يمكننا أن ننكر أنّ الشيعة قد كانوا يَمَسّون الصحابة في بعض الأحيان ؛ لما وقفوا عليه في التاريخ من غصب حقّ الإمام عليّ ، ومنع الزهراء من فدك والهجوم على بيتها ، ولعن الإمام عليَّ على المنابر في زمن معاوية ومَن بعده ، وضياع أحكام كثيرة من دين الله و ...

وهذا يوضح أنّ لكلّ واحد من النهجين شعائره ومقدساته. ويجب أن يتّضح لنا أنّ هذا الموقف من الاعتقاد الشيعي أو ذاك الموقـف من الاعتـقاد السـنّي إنّما يبـتني على ما يحمله كلّ طـرف من المتبنّـيات الفكريـة الأيدلوجـية والأصول التـي اعتمد عليها ، والتي تـدلّ على شـرعيّتـه عنده وأنّه لم يكن وليد ساعته!

إنّ كلامنا هذا يرمي إلى بيان البُنَى التحتية للفريقين ، دون الخوض في أصل شرعية حكم الفاطميين أو عدم شرعية حكم العباسيين أو العكس وإلى البحث عن مدى صحّة ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، أو أن

٣٥٣

حكم البسملة هو الجهر أم الإخفات ، وهل يجوز المسح على الخفين أم لا؟ إذ أن شرعية هذه الأحكام وعدمها سبقت هذه المرحلة ، وإن ديمومية هذا الخلاف من قبل الفريقين ينبئ عن وجود أصل مختلف فيه بينهما ، لا كما يصورونه من عدم وجود أصل فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو عن حكومات غير المتعبّدين.

الأندلس «ما بعد سنة ٣٠٠ ه‍»

ذكر ابن حزم الاندلسي في (نَقْط العروس في تواريخ الخلفاء) تحت عنوان : مَن خَطَب لبني العبّاس أو لبني عليّ بالأندلس ، فقال :

عمر بن حفصون خطب في أعماله بريَّةَ (١) لإبراهيم بن قاسم بن إدريس بن عبدالله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب صاحب البصرة ، ثمّ خطب لعبيد الله صاحب افريقية ، وأذّن في جميع أعماله «بحيّ على خير العمل» (٣).

حلب / مصر (سنة ٣٤٧ ه‍)

قال المقريزي في (المواعظ والاعتبار) : «... وأوّل مَن قال في الأذان بالليل : «محمّد وعليّ خير البشر» (٣) الحسين المعروف «بأمير ابن شكنبة» ، ويقال اشكنبة ، وهو اسم اعجميّ معناه : الكرش ، وهو : عليّ بن محمّد بن عليّ بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وكان أوّل تأذينه بذلك في أيّام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة ، قاله الشريف محمّد بن أسعد الجوباني النسّابة.

__________________

(١) بناحية اكشونيت.

(٢) رسائل ابن حزم الاندلسي ٢ : ٨٤ الرسالة الثانية (نَقط العروس في تواريخ الخلفاء) تحقيق احسان عباس بيروت ١٩٨٧.

(٣) هذا اشتباه من الكاتب ، ذلك ان الزيدية كانت تقول بهذا قبل هذا التاريخ حسبما وضحناه.

٣٥٤

ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه «حيَّ على خير العمل ، ومحمّد وعليّ خير البشر» إلى أيّام نور الدين محمود ، فلما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية استدعى أبا الحسن عليّ بن الحسن بن محمّد البلخي الحنفي إليها ، فجاء ومعه جماعة من الفقهاء ، وألقى بها الدروس ، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم : مُرُوهم يؤذّنوا الأذان المشروع (١) ، ومن امتنع كُبّوه على رأسه ، فصعدوا وفعلوا ما أمرهم به ، واستمر الأمر على ذلك.

وأمّا مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم [يعني الشيعة الفاطميين] إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوّب بسلطنة ديار مصر وأزال الدولة الفاطمية في سنة سبع وستيّن وخمسمائة ، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري ، فأبطل الأذان بـ «حيّ على خير العمل» وصار يؤذّن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكّة ، وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين ، فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة في مصر ، فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنفيّة بأذان أهل الكوفة ، وتقام الصلاة أيضاً على رأيهم (٢) ...

ومما يجب الإشارة إليه أنّ دولة سيف الدولة الحمدانيّ المتوفّى سنة ٣٥٦ هـ اتّسعت وشملت حلب وانطاكيه وقنّسرين ومنبج وبالس ومعرّة النعمان ومعرّة مصرين ، وسرمين ، وكفر طاب ، وافامية ، وعزاز ، وحماة ، وحمص ، وطرطوس ، ثمّ تولى بعده أخوه ناصر الدولة. وكانت دولة شيعية اثني عشريّة تعلن عن معتقداتها وآراءها بدون عسف وقسر.

__________________

(١) يعني به الذي ليس فيه «حيّ على خير العمل ، المفسر بمحمد وعلي خير البشر»!

(٢) خطط المقريزي ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٣٥٥

روى ابن ظافر في أحداث سنة أربع وخمسين وثلاثمائة أن سيف الدولة صاهر أخاه ناصر الدولة ، فزّوج ابنيه أبا المكارم وأبا المعالي بابنتَي ناصر الدولة ، وزوج أبا تغلب بابنته «ستّ الناس» وضرب دنانير كبيرة ، في كلّ دينار منها ثلاثون ديناراً وعشرون وعشرة عليها مكتوب : «لا إله إلّا الله محمّد رسول الله. أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب. فاطمة الزهراء. الحسن. الحسين. جبريل :». وعلى الجانب الآخر «أمير المؤمنين المطيع لله. الأميران الفاضلان : ناصر الدولة ، سيف الدولة. الأميران أبو تغلب وأبو المكارم» (١).

وواضح ممّا تقدم أنّ الشيعة كانوا يعلنون عن معتقداتهم بكلّ رصانة وهدوء وبالدليل والمنطق حين تستقرّ بهم الأمور ، بخلاف مَن أمروا بإلقاء مَن يؤذّن بالحيعلة الثالثة وبفضل محمّد وآل محمّد من على رأس المنارة!!

وجاء في الكامل لابن الأثير وتاريخ الإسلام للذهبي في حوادث سنة ٣٥١ هـ : وفيها كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد : لَعَنَ الله معاوية ، ولَعَنَ من غَصَبَ فاطمةَ حقَّها من فَدَك ، ومَن منع الحَسَن أن يُدفن مع جدّه ، ومن نفى أبا ذَرٍّ. ثمّ إنَّ ذلك مُحي في الليل ، فأراد مُعِزُّ الدولة إعادته ، فأشار عليه الوزير المهلّبي أن يُكتَب مكان ما مُحي : «لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وصرّحوا بلعنة معاوية فقط (٢).

وفي ثامن عشر ذي الحجّة من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة (٣٥٢ هـ) عُمل عيد غدير خُمّ وضُربت الدبادب ، وأصبح الناس إلى مقابر قريش للصلاة هناك ، وإلى مشهد الشيعة (٣).

__________________

(١) أعيان الشيعة ٨ : ٢٦٩.

(٢) تاريخ الإسلام : ٨ حوادث ٣٥١ ـ ٣٨٠ هـ ، الكامل في التاريخ ٧ : ٤ ، المنتظم ١٤ : ١٤٠.

(٣) تاريخ الإسلام : ١٢ حوادث ٣٥١ ـ ٣٨٠ هـ.

٣٥٦

القاهرة (سنة ٣٥٦ ه‍)

جاء في كتاب (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) للمقريزي : «... وفي شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة أُخذ رجل يعرف بابن أبي الليث يُنسَب إلى التشيع فضُرب مائتي سوط ودَرّة.

ثمّ ضرب في شوّال خمسمائة سوط ودَرّة ، وجُعل في عنقه غِلّ وحُبِس ، وكان يُتفقَّد في كلّ يوم لئلا يُخفّف عنه ، ويُبصَق في وجهه ، فمات في محبسه ، فحُمل ليلاً ودفن.

فمضت جماعة إلى قبره ينبشوه وبلغوا إلى القبر ، فمنعهم جماعة من الاخشيديّة والكافور يّة فأبَوا وقالوا : هذا قبرُ رافضي ، فثارت فئة ، وضرب جماعة ونهبوا كثيراً حتّى تفرّق الناس.

وفي سنة ستّ وخمسين كتب في صفر على المساجد ذكر الصحابة والتفضيل ، فأمر الأستاذ كافور الإخشيدي بإزالته ، فحدّثه جماعة في إعادة ذكر الصحابة على المساجد فقال : ما أُحدِث ُفي أيّامي ما لم يكن ، وما كان في أيّام غيري فلا أز يله ، ثمّ أمر من طاف وأزاله من المساجد كلها.

ولما دخل جوهر القائد بعساكر المعزّ لدين الله إلى مصر وبنى القاهرة أظهر مذهب الشيعة ، وأذّن في جميع المساجد الجامعة وغيرها «حيّ على خير العمل» وأعلن بتفضيل عليّ بن أبي طالب على غيره ، وجهر بالصلاة عليه وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم ...

وفي ربيع الأوّل سنة اثنين وستّين عَزّر سليمانُ بن عروة المحتسب جماعة من الصيارفة ، فشغبوا وصاحوا : معاوية خال عليّ بن أبي طالب ، فهمّ جوهر أن يحرق رحبة الصيارفة لكن خشي على الجامع ، وأمر الإمام بجامع مصر أن يجهر بالبسملة

٣٥٧

في الصلاة ، وكانوا لا يفعلون ذلك ، وزِيدَ في صلاة الجمعة القنوت في الركعة الثانية ، وأمر في المواريث بالردّ على ذوي الأرحام ، وأن لا يرث مع البنت أخ ولا أخت ولا عمّ ولا جدّ ، ولا ابن أخ ولا ابن عم ، ولا يرث مع الولد الذكر أو الأنثى إلّا الزوج أو الزوجة والأبوان والجدّة ، ولا يرث مع الأمِّ إلّا من يرث مع الولد أو الأنثى إلّا الزوج أو الزوجة والأبوان والجدّة ، ولا يرث مع الأم إلّا من يرث مع الولد.

وخاطب أبو الطاهر محمّد بن أحمد ـ قاضي مصـر ـ القائـدَ جوهـراً في بنت وأخ ، وأنه حكم قـديماً للبنت بالنصـف وللأخ بالباقي ، فقال : لا أفعل ، فلمّا ألـحّ عليه قال : يا قاضي ، هذا عداوة لفاطمة ٣!! فأمسك أبو الطاهـر فلم يراجعه بعد ذلك ... (١)

القاهرة (سنة ٣٥٨ ه‍)

قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان : أقيمت الدعوة للمعزّ في الجامع العتيق ، وسار جوهر إلى جامع ابن طولون ، وأمر بأن يؤذّن فيه بـ «حيّ على خير العمل» وهو أوّل ما أذّن ، ثمّ أذّن بعده بالجامع العتيق ، وجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم (٢).

وقال بعده : وفي يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة أمر جوهر بالزيادة

عقيب الخطبة : اللّهم صلّ على محمّد المصطفى ، وعلى عليّ المرتضى ، وعلى فاطمة البتول ، وعلى الحسن والحسين سبطَي الرسول ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، اللّهمّ صلّ على الأئمّة الطاهرين آباء أمير المؤمنين (٣).

__________________

(١) المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والأثار للمقريزي ٢ : ٣٤٠.

(٢) وفيات الاعيان لابن خلكان ١ : ٣٧٥ وانظر : أخبار بني عبيد ١ : ٨٤.

(٣) وفيات الأعيان ، لابن خلكان ١ : ٣٧٩.

٣٥٨

وجاء في (المنتظم) في حوادث سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة : .. ودخل جوهر إلى مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشر ليلة بقيت من شعبان سنة ثمان وخمسين ، وخطب لبني عبيد في الجامعين بفسطاط مصر وسائر أعمالها يوم الجمعة لعشر ليال بقين من شعبان هذه السنة ، وكان الخاطب في هذا اليوم عبدالسميع بن عمر العباسي.

وقد أشار محقّق الكتاب في الهامش إلى نصّ كتاب جوهر لأهل مصر نقتطف منه مقطع «... وردّ المواريث إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، وأن يقدم من أَمَّ مساجدكم وتزيينها ، وإعطاء مؤذنيها وقومتها ومن يؤمّ بالناس أرزاقهم ، وأن يجري فرض الأذان والصلاة وصيام شهر رمضان وفطره وقنوت لياليه والزكاة والحج والجهاد على ما أمر الله في كتابه وسنّة نبيّه ، وإجراء أهل الذمّة على ما كانوا عليه» (١).

وفي كتاب (العبر في خبر من غبر) : ... وجاءت المغاربة مع القائد جوهر المغربي ، فأخذوا ديار مصر ، وأقاموا الدعوة لبني عُبيد ، مع أنّ دولة معزّ الدولة [البويهي] هذه المدة رافضية ، والشعار الجاهلي يقام يوم عاشوراء ويوم الغدير (٢).

وفي (مآثر الإنافة) للقلقشندي قال : ... دخل جوهر قائد المعزّ الفاطمي إلى مصر سنة ٣٥٨ واستولى عليها وأذّن بـ «حيّ على خير العمل» وقطع الخطبة للعباسيين (٣).

وفي (تاريخ الخلفاء) للسيوطي قال : ... لمّا مات كافور الاخشيدي صاحب مصر اختلّ النظام وقلّت الأموال على الجند ، فكتب جماعة إلى المعزّ [الفاطمي]

__________________

(١) المنتظم ١٤ : ١٩٧.

(٢) العبر في خبر من غبر ٢ : ٣١٦.

(٣) مآثر الانافة للقلقشندي ١ : ٣٠٧.

٣٥٩

يطلبون منه عسكراً ليسلّموا إليه مصر ، فأرسل مولاه جوهراً القائد في مائة ألف فارس فملكها ... وقطع خطبة بني العبّاس ولبس السواد وألبس الخطباء البياض ، وأمر أن يقال في الخطبة : «اللّهم صلّ على محمّد المصطفى ، وعلى عليّ المرتضى ، وعلى فاطمة البتول ، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول ، وصلّ على الأئمة آباء أمير المؤمنين المعزّ بالله» (١).

وفي (سير أعلام النبلاء) (٢) و (نهاية الأرب) (٣) والنصّ للأوّل : ... وضربت السكّة على الدينار بمصر وهي : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليٌّ خير الوصيين ، والوجه الآخر اسم المعز والتاريخ ، واعلن بـ «حيّ على خير العمل» ، ونودي : «من مات عن بنت وأخ وأخت فالمال كلّه للبنت» ، فهذا رأي هؤلاء.

قال الذهبي : ظهر في هذا الوقت الرفض وأبدى صفحته وشمخ بأنفه في مصر والحجاز والشام والمغرب بالدولة العبيديّة ، وبالعراق والجزيرة والعجم ببني بويه ، وكان الخليفة المطيع ضعيف الدست والرتبة مع بني بويه ، وأعلن الأذان بالشام ومصر بـ «حيّ على خير العمل».

وفي (البداية والنهاية) لابن كثير ... دخل أبو الحسين جوهر القائد الرومي في جيش كثيف من جهة المعزّ الفاطمي إلى ديار مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشر بقيت من شعبان ، فلمّا كان يوم الجمعة خطبوا للمعزّ الفاطمي على منابر الديار المصريّة وسائر أعمالها ، وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بـ «حيّ على خير العمل» وان يجهر الأئمّة بالتسليمة الأولى (٤).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٤٠٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٥ : ١٦٠ وتاريخ الإسلام.

(٣) نهاية الارب في فنون الادب / الفن ٥ / القسم ٥ / الباب ١٢ اخبار الملوك العبيديون.

(٤) البداية والنهاية ١١ : ٢٨٤.

٣٦٠