موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

الله من أهل بيت الرسالة وموت الزهراء وهي واجدة على أبي بكر وعمر (١). ولعرفنا أيضاً مدى المفارقة بين ترك برّ فاطمة وترك الدعوة للولاية وبين تأكيدات الرسول على الاهتمام بالعترة تلويحاً وتصريحاً ، مِن مِثل وقوفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ يوم ـ مدة ستة أشهر ـ على باب فاطمة بعد نزول آية التطهير يناديها للصلاة بقوله «الصلاة الصلاة ، إنّما ير يد الله ليذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيراً» (٢).

ومما يَحسُن بنا أن نتفطّن له هو أن هذا الموقف من رسول الله إنّما يُنبئ عن وجود ترابط عميق بين بر فاطمة وولدها ومسألة الصلاة ، وبمعنى آخر بين الولاية والعبادة ، إذ أنّ وقوف الرسول المصطفى على باب فاطمة لمدة ستة أشهر لا يمكن تصوّره لغواً بأيّ حال من الأحوال ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقف داعياً المطهَّرين من عترته إلى الصلاة ، مُعلِماً بوجود لون من التواشج بين الصلاة والعترة. ورسولُ الله حلقةُ الوصل والربط بين ركيزة التوحيد «الصلاة ، الصلاة» وبين الولاية (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ...). ونلحظ في هذا النص : قول الله «القران» ، وفعل الرسول «الوقوف» ، ونتيجة لزوم الاعتقاد بمنزلة العترة والقربى وأن مودتهما وطاعتهما عبادة منجية.

سادساً : إن الخلفاء المتآخرين أيضاً أدركوا سرّ الحيعلة الثالثة فحرصوا أشدّ الحرص على حذفها ، ولم يرضوا بها ممن خطب لهم ولَبِسَ خِلَعَهم وانضوى تحت

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ ـ ٦ : ٢٥٣ ، كتاب المغازي باب غزوة خيبر ح ٧٠٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٧٩ ، كتاب الجهاد باب قول النبي لا نورث إنما تركناه صدقة ، تاريخ المدينة لابن شبة ١ : ١٩٧.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ ، ٢٨٥ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٥١ ح ٣٢٠٥ ، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الاحزاب ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٥٨ ، مصنف ابن أبي شيبة ٦ : ٣٩١ ح ٣٢٢٦٢ ، كتاب الفضائل باب في فضل فاطمة عليها‌السلام.

٣٢١

لوائهمَ ، بل أصرّوا على ضرورة حذفها ؛ لأنّها رمز يشير إلى بطلان حكوماتهم. وسيأتيك ذلك في الفصل الرابع لدى الكلام عن تاريخ الحيعلة في مكّة وحلب سنة ٤٦٣ هـ. وحسبك منها ما كان من القائم بأمر الله العباسي ، حين أخبره نقيب النقباء أبو الفوارس طرّاد بأنّ محمود بن صالح خطب له بحلب ولبس الخلع القائمية ، حيث قال له : أيّ شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون بـ «حيّ على خير العمل»!!

كلّ هذه النصوص توكّد أنّ المراد الأساسي من «خير العمل» هو بر فاطمة وولدها ، والولاية والإمامة التي بها قوام الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وسواها ... لا شيء آخر ، فصار الخليفة ـ حسب كلام الإمام المعصوم ، والاستقراء التاريخي ـ لا يرضى أن يقع (دعاء إليها وتحر يض عليها) ، لأن ذلك يعني التشكيك بشرعيّة خلافته وخلافة مَن قبله ، وهو المعنيّ من كلامه عليه‌السلام (ما نودي بشيء كالولاية).

وجاء في الغَيبة للنعماني عن عبدالله بن سنان أنّه عليه‌السلام قال في معرض كلامه عن علامات ظهور القائم من آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشريف : وأنّه سيكون في السماء نداء «ألا إنّ الحقّ في عليّ وشيعته».

قال عليه‌السلام فـ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) على الحق وهو النداء الأوّل (١) ، ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض ، والمرضُ واللهِ عداوتُنا (٢).

ولو قرأنا تفسير الأئمّة لقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) لعرفنا المنزلة العظيمة للولاية وسبب معاقبة عمر للقائل بها ، لأنّ

__________________

(١) دون النداء الثاني الذي ينادي به إبليس لعنه الله.

(٢) الغيبة للنعماني ١٧٣ ـ ١٧٤ باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم.

٣٢٢

الكلم الطيّب لو كان قد صعد إليه سبحانه وتعالى بنفسه ، فما معنى العمل الصالح يرفعه إذن؟!

روى الكليني بسنده إلى الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : ولايتنا أهل البيت ـ وأهوى بيده إلى صدره ـ فمن لم يتولّنا لم يرفع الله له عملاً (١).

وعن الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : الكلم الطيب هو قول المؤمن : «لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ ولي الله وخليفة محمّد رسول الله حقاً حقا وخلفاؤه خلفاء الله» ، والعمل الصالح يرفعه ، فهو دليله ، وعمله اعتقاده الذي في قلبه بأنّ هذا الكلام صحيحٌ كما قلته بلساني (٢).

وعن فاطمة الزهراء بنت محمّد ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني ، فسمعت أذاناً مثنى مثنى ، واقامة وتراً وتراً ، فسمعت منادياً ينادي : يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي اشهدوا اني لا إله إلّا انا وحدي لا شريك لي ، قالوا : شهدنا وأقررنا ، قال : اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن محمّداً عبدى ورسولي ، قالوا : شهدنا واقررنا ، قال : اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن عليّاً وليي وولي المؤمنين بعد رسولي ، قالوا : شهدنا وأقررنا ... (٣)

وبهذا يفضي بنا البحث إلى أنّ التعليل الحقيقي لمنع عمر بن الخطاب للحيعلة

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٤٠.

(٢) تفسير الإمام العسكري ٣٢٨ ح ١٨٤ وعنه في تأويل الآيات : ٤٦٩ والنص عنه.

(٣) تفسير فرات الكوفي : ٣٤٢ في آخر تفسير سورة الأحزاب.

٣٢٣

الثالثة هو اطلاعه على المقصود من عبارة «حيّ على خير العمل» في الأذان ، ودلالتها على ولاية أهل البيت ، لصرف الانتباه عنها ، وذلك بكتمانها وحذفها ، فمَنَعها تحت غطاء الحفاظ على كيان الدولة الإسلامية وتوسيع رقعتها بالجهاد ، لكن الطالبيين قد أدركوا هذا الأمر وأصرّوا على الإتيان بها رغم كلّ الظروف الحالكة ، وهذا ما ستقرأه بعد قليل إن شاء الله تعالى.

ولذلك كان الإمام عليّ عليه‌السلام في أيّام خلافته يلمح ويشير إلى أنّ حذف «حيّ على خير العمل» كان جوراً عليه وعلى الإسلام ، فكان إذا سمع مؤذّنه يقول «حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل» قال : مرحباً بالقائلين عدلاً (١) ، معرّضاً بمن رفعها ، لأنّ عليّاً هو خير العمل وهو العدل الذي يدور مع القرآن حيثما دار ويدور معه القرآن أيضاً.

والذين ظنّوا أنّ الصلاة تقتصر على شكلها الظاهري دون المحتوى الذي هو الطاعة (٢) سعوا إلى ترسيخ فكرة أن هل البيت ومودتهم ليست خير العمل ، فكان لحذفها من الأذان مغزى عرفه أهل البيت فأنكروا حذفها ، كما عرفه مخالفوهم فأصروا على حذفها.

ومن خلال هذه الدلائل العديدة استبان لنا أنّ «خير العمل» كناية عن إمامة عليّ عليه‌السلام التي هي امتداد لنبوّة النبيّ ، وامتداد للتوحيد ، وهذا ما رواه الباقر والصادق عليهما‌السلام من أئمّة أهل البيت في قوله تعالى : (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٨ / ح ٨٩٠.

(٢) أي طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة وليّه ، والأخيران منتزعان من الأولى ، وقد مرّ عليك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاطمة بضعة مني ... فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله جلّ وعلا.

٣٢٤

عَلَيْهَا) قالا : هو «لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ أمير المؤمنين وليّ الله» ، إلى ها هنا التوحيد (١).

وقد سئل الشريف المرتضى : «هل يجب في الأذان بعد قول «حيّ على خير العمل» «محمّد وعلي خير البشر»؟ فأجاب قائلا : «إن قال : محمّد وعلي خير البشر ـ على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان ـ جاز» (٢).

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ١٥٥ عن الباقر ، ونحوه عن الصادق عليه‌السلام في التوحيد وبصائر الدرجات.

ولا يخفى عليك أن للتوحيد مراتب ، فهناك توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الطاعة ، فإنّه سبحانه وتعالى مع كونه : (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ـ و (هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ، و (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، وهو الذي (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) ، ـ فإنّ هذا المعنى غيرُ معارَض بمثل قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا).

وإن قوله تعالى : (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) لا يعارض ما جاء من الشفاء بالقرآن في قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) وبالعسل (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ).

وكذا قوله : (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ) فإنّه لا يعارض قوله : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) وإلى غيرها من عشرات الآيات.

فلا تخالُفَ إذاً بين نسبة الافعال إلى الله جل جلاله ونسبتها في الوقت نفسه إلى غيره ، فلا يخالف قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) مع قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) وكلاهما من كلام الباري. ومن هنا تأتي مسألة التوحيد ، فتوحيد الطاعة هو يعني لزوم إطاعة من أمر الله بطاعته ، ومن لا يطيع الرسول وأولي الأمر المفروض طاعتهم فانه لم يطع الله لقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ) وهذا لا يخالف قوله : (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فطاعة من أمر الله بطاعته هي طاعة لله ، ومن لم يطع الله ورسوله ومَن أَمر الله بطاعته لم يوحّد الله تعالى حقّ توحيده.

وعليه فطاعة أحدهما جاء على وجه الاستقلال ، والآخر على أنّه مظهر أمره سبحانه ، وليس هذا بشرك أو مغالاة كما يدّعون ، بل هو عين الإيمان وكمال الدين.

(٢) رسائل المرتضى ١ : ٢٧٩ ، مسأله ١٧ ، وجواهر الفقه لابن البراج : ٢٥٧ مسألة ١٥.

٣٢٥

وهذا يعني أنّ هذا التفسير لحي على خير العمل كان سائداً في لسان المتشرعة منذ زمن أهل البيت وحتّى يومنا هذا.

وقد أفتى القاضي ابن البرّاج باستحباب ذكر هذا التفسير ، فقال : ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند «حيّ على خير العمل» : «آل محمّد خير البرية» ، مرتين (١).

وكون عليّ عليه‌السلام هو المراد من «حيّ على خير العمل» ، والنبيّ من «حيّ على الفلاح» ، وطاعة الرب وعبادته من «حيّ على الصلاة» ، فيه من وجوه البلاغة ما لا يخفى ، إذ فيه من انواع البديع ما يسمّى بالتلميح ، وهو أن يشار في الكلام إلى آية من القرآن أو حديث مشهور أو شعر مشهور أو مثل سائر أو قصة أو معنى معروف ، من غير ذكر شيء من ذلك صريحاً. وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود.

قال الطيبي في التبيان : ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) قال جارالله الزمخشري : قوله : (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) فيه دلالة على تفضيل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو خاتم الأنبياء ، وأنّ أمته خير الأمم ، لأنّ ذلك مكتوب في الزبور ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ، قال : وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمته (٢).

فهنا ألمح الله سبحانه وتعالى لعباده بأن الصلاة له لا لغيره ، وأنّ الفلاح الذي قامت به الصلاة هو اتباع رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا الاجتهاد مقابل النص ، وان

__________________

(١) المهذب لابن البراج ١ : ٩٠ باب الأذان والإقامة وأحكامهما.

(٢) انوار الربيع ٤ : ٢٦٦. ومن هذا الباب تلميح أبي العلاء المعري للشريف المرتضى بقصيدة المتنبي : لك يا منازل في القلوب منازل. انظر : أنوار الربيع ٤ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣. هذا وقد أخذ الطيبي والزمخشري هذا عن تفسير النسفي ٢ : ٢٩٠ سورة الاسراء.

٣٢٦

خير العمل هو الإيمان بالإمامة والولاية لعلي عليه‌السلام التي هي امتداد للنبوة والتوحيد ، وبها قوام العبادات التي عمودها الصلاة.

وهناك عشرات إن لم تكن مئات الأدلّة على أنّ خير العمل ولاية عليّ ، وان ضربته يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين ، وأنّ الاعمال لا تُقبل إلّا بولايته ، ومعان أخرى متّصلة بهذا الموضوع. وقولنا في الأذان «حيّ على خير العمل» فيه تلميح لكل تلك المعاني التي صدع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه.

والواقع أن كون أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب هو خير البشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمإنّما هو معنىً قرآني نطقت به آية من سورة «البيّنة» المباركة ، وصرّح به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الآية ، وتداولته المصادر السنيّة ، وكان هذا المعنى ممّا آمن به كبار من الصحابة المعروفين ، حتّى صار في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزءً من الثقافة الإيمانيّة القرآنية السائدة.

فقد روى الطبري بإسناده عن محمّد بن عليّ الباقر لما نزل قوله تعالى : (أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال النبيّ : أنت يا عليّ وشيعتك (١).

والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب بإسناده عن جابر بن عبدالله مرفوعاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عليّ خير البشر من شك فيه فقد كفر (٢).

وغيرها من عشرات الطرق والأسانيد عن الصحابة والتابعين.

وبعد كلّ هذا تعلم أنّ قول «محمّد وآل محمّد خير البرية» أو «محمّد وعليّ خير البشر» عند الحيعلة الثالثة أو بعدها إنّما هو توضيح لمعناها الذي حاول الحكام

__________________

(١) تفسير الطبري ٣٠ : ٢٦٤ ، ورواه السيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣٧٩ ، والحسكاني في شواهد التنزيل ٢ : ٤٥٩ ـ ٤٧٣ ح ١١٢٥ ـ ١١٤٨ بأسانيد وطرق كثيرة.

(٢) الفردوس ٣ : ٦٢ ح ٤١٧٥ ، وانظر ترجمة الإمام عليّ لابن عساكر ٢ : ٤٥٧ ح ٩٨٩ بأسناده عن عائشة.

٣٢٧

كتمه ، وأن هذا التوضيح والتفسير ما هو إلّا استلهام من نصوص القرآن والسنّة ، وسيرٌ على الخطوات الصحيحة التي رسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته.

وستعلم بما لا مزيد عليه ـ في الباب الثالث من هذه الدراسة «اشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع» ـ أن إتيان الأئمّة : وأتباعهم بهذه العبارات ما هو إلّا تفسير لمعنى الحيعلة الثالثة ، وهو من قبيل الإتيان بتفسـير بعض الآيات تفسـيراً مرتبطاً بنصّ الآية ونسقها ، وهذا النوع من التفسير ممّا تحفل به كتب الفريقين بلا أدنى ريـب (١) ، وهو التفسير المقبول الذي اصطلح على تسميته البعض بـ «التفسير السِّياقي».

__________________

(١) انظر : قراءه عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة للآية : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) هكذا : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين).

وحديث عائشة موجود في صحيح مسلم ، كتاب المساجد ، باب الدليل لمن قال : الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، وسنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب وقت صلاة العصر ، وسنن الترمذي ، كتاب التفسير ، تفسير سورة البقرة ، وسنن النسائي ، كتاب الصلاة ، باب المحافظة على صلاة العصر ، وموطأ مالك ، كتاب الصلاة ، باب صلاة الوسطى ، وتفسير الآية في الدر المنثور ١ : ٣٠٢ و ٣٠٣ ، وفي فتح الباري ٩ : ٢٦٥ ، ومسند أحمد ٦ : ٧٣ و ٨٧٨ منه.

أما حديث حفصة فانظر فيه : موطأ مالك كتاب الصلاة ، باب الصلاة الوسطى ، ومصنف عبدالرزاق ، كتاب الطهارة ، باب صلاة الوسطى ح ٢٢٠٢ ، وتفسير الطبري ٢ : ٣٤٣ ، والدر المنثور ١ : ٣٠٢ ، والمصاحف لابن أبي داود : ٨٥ ـ ٨٦.

أما حديث أُم سلمة ، فانظر فيه : الدر المنثور ١ : ٣٠٣ ، والمصاحف لابن أبي داود : ٨٧. وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وعلي بن أبي طالب قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إلى أجل مسمى).

وانظر : قراءة ابن عباس في المعجم الكبير ١٠ : ٣٢٠ ، والسنن الكبرى ٧ : ٢٠٥ ، والمستدرك للحاكم ٢ : ٣٠٥ ، والجامع لاحكام القرآن للقرطبي ٥ : ١٣٠ ، والكشاف ١ : ٥١٩. وفي قراءة ابن مسعود. انظر نيل الأوطار ٦ : ٢٧٤ ، وشرح النووي على صحيح مسلم ٦ : ١١٨.

وفي قراءة أبي بن كعب. انظر جامع البيان للطبري ٥ : ١٩ ، والدر المنثور ٢ : ١٣٩. وهي قراءة علي كذلك.

٣٢٨

الفصل الرابع

حيّ على خير العمل

تاريخها العقائدي والسياسي

٣٢٩
٣٣٠

قد يقترح البعض ضرورة إكثارنا من ذكر مصادر أهل السنة والجماعة حين الكلام عن جزئية «حيّ على خير العمل» وعدم الاكتفاء بما نقلناه ، بل عدم استساغة ما روته طرق الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية وبعض علماء أهل السنّة عن أهل البيت والصحابة ، بزعم أنّ ذلك ليس ملزِماً للآخرين.

هذا الكلام قد يكون له مساغ لو ضربنا بمعطيات التاريخ عرض الجدار ؛ إذ الموقف تجاه المتغيّرات في التاريخ والحديث ، وما فعلته ر يشة الحكام بالنصوص والموازين ، وخنقهم لكلّ ما هو أصيل مما لا يعجبهم ، وخصوصاً بعد أن اتّضح لنا دور الأمويين في التحريف والتعتيم ، كلّ ذلك يدلّك على سرّ انحسار مثل نصوص الحيعلة الثالثة في مدرسة الخلفاء.

بل إنّ تصريح الإمام الباقر والإمام زيد وغيرهما بأنّ عمر بن الخطاب كان وراء رفع «حيّ على خير العمل» إنّما ينم عن الظروف القاسية العصيبة التي جعلت المعاجم الحديثية السنية تكاد تخلو من أمثال هذه الأحاديث رغم ثبوتها على عهد رسول الله ؛ فرأينا أنّه لا محيص من الرجوع إلى التاريخ ، للوقوف على مجريات

٣٣١

الأحداث ، ومنها الوقوف على صحّة وأصالة ما قالته الشيعة وما جاء في الروايات اليتيمة في كتب الفقه والحديث عند أهل السنّة والجماعة ، ومن خلال عرضنا للمسألة من وجهة نظر تاريخية سيقف القارئ على جواب القول السابق وأمثاله.

إنّ ثبوت «حيّ على خير العمل» لم يقتصر على العلويين ـ حسنيين كانوا أم حسينيين ـ بل تعدّاهم إلى بعض أهل السنة والجماعة ، وقد مرّ عليك ما كان بأيديهم من بقايا هذا الأذان الأصيل.

ومن المعلوم أنّ المسلمين انقسموا بعد وفاة رسول الله إلى نهجين :

الأوّل : نهج الصحابة.

والثاني : نهج أهل البيت.

وعُرف النهجان بالتخالف فيما بينهما في كثير من المسائل ، بحيث تجاوز حدَّ النزاع حول الإمامة والخلافة ليشمل كافّة مجالات الشريعة وأحكامها.

وبمعنى آخر : إنّ الخلاف الحاصل بين النهجين قد تجاوز الصعيد السياسيّ ليشمل أصعدة أخرى فكر يّة وعقائدية واجتماعية. وفي حال اعتبار مصدر تشريع الأحكام في الفقه من الأُمور المهمّة والحسّاسة جدّاً ، فلا عجب أن ترى بين قادة النهجين أحكاماً فقهيّة متضادّة ، قد تصل إلى حدّ التناقض في المسألة الواحدة ، فتجد ما يقوله عمر بن الخطاب يخالف ما يقوله عليّ بن أبي طالب تماماً ، فعلى الرغم من التزام وتعبّد عليّ عليه‌السلام بمنهج رسول الله في جواز المتعة مثلاً ، ترى اجتهاد عمر شاخصاً أمامك في قبال شر يعة رسول الله ، محرّما للمتعتين ، قائلاً : «أنا أُحرمهما وأُعاقب عليهما».

لقد أخذ أهلُ السنّة الكثيرَ من فقههم من مجتهدي الصحابة الاوائل ، وخصوصاً الخلفاء ، وانتهجوا سيرة الشيخين ، ولهذا فإنّ الكثير من موارد المنع في فقه أهل السنّة والجماعة يرجع أساساً إلى سنّه عمر بن الخطاب وغيره من مجتهدي

٣٣٢

الصحابة. وقد تمحّل له علماء هذا النهج فحملوا كلّ ما لا يرتضونه من الروايات والأحكام المغايرة لاجتهادات السلف على النسخ والوضع. ولكي يضفوا صبغة شرعية على تلك الأحكام تراهم ينسبون روايات إلى رسول الله تؤيّد ما ذهبوا إليه.

وإيماناً منا بضرورة دراسة ملابسات مثل هذه الأمور في الشر يعة ورفع الستار عنها ، خصصنا هذا الفصل كي نؤكّد على أن الصراع حول جزئية «حيّ على خير العمل» بين الطالبيين والنهج الحاكم له جذوره وأصوله العقائدية والتاريخية ، ولم يكن صراعاً سياسياً بحتاً ، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدّل على عمق الخلاف بين الفريقين.

إذ أنّ استمرار الصراع العقائدي السياسي لمدة طو يلة من الزمن ينبئ عن وجود أصل شرعي مُختلَف فيه عندهم.

ولمّا كان النهج الحاكم ـ على مرّ العصور ـ يدعو إلى «الصلاة خير من النوم» تبعاً للخليفة الثاني والأمويين من بعده ، ولمّا كان الطالبيون لا يؤمنون بشرعية هذا الجزء ، فمن المؤكد أن يكون عدم إتيان الحفّاظ والمحدّثين بما يدل على شرعيّة «حيّ على خير العمل» في الصحاح والسنن قد كان خاضعاً لأمور سياسية.

إنّ الطالبيّين قد وقفوا أمام مثل هذه الهجمات بكلِّ قوّة ، وبذلوا كلّ ما يمكنهم في التعبير عن عدم الرضوخ أمام تغيير السنّة ، وقد كلّفهم ذلك الكثير الكثير ، وتحمّلوا المصاعب العظام من أجل الحفاظ على سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنها الإتيان بـ «حيّ على خير العمل» في أذانهم. وقد جرت بين الطرفين مناوشات كلامية اتّهم فيها كلّ طرف منهما الآخر بالانحراف والبدعة ، محافظاً على شعاريّته ، ورافضاً شعارية الطرف الآخر بكل عنف.

ومن يتصفّح التاريخ يجد بين طيّاته صوراً حيّة لمدى قوّة تمسّك الطالبيّين بهذا الجزء من الأذان ، حتّى وصلت الحال في بعض الفترات إلى أن يكون هو الشعار المحرِّك للثوار والثورة في مراحل مختلفة من التاريخ.

٣٣٣

لقد تمسّك الطالبيّيون بـ «حيّ على خير العمل» وقدّموا قرابين نفيسة من أجل إبقائها سنّة حتّى صارت شعاراً للشيعة في كلّ الأصقاع ، وصبغة عقائديّة يُميَّزون بها عن غيرهم ، وقد استمدّوا العزم من مواقف أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الذي قال حين سمع أذان ابن النبّاح بـ «حيّ على خير العمل» : «مرحباً بالذي قال عدلاً ، وبالصلاة مرحباً وسهلاً» (١).

وقد تجلّت مواقف الشيعة بوضوح في موقف الحسين بن عليّ ـ صاحب فخّ ـ وغيره من الطالبيين (٢) الذين أصرّوا على إعلانها جهاراً في الأذان.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٨٨ ح ٨٩٠ ، وانظر : كتاب الأذان بحيّ على خير العمل : ٤٨ ، ٥٠ للحافظ العلوي.

(٢) وإليك مجمل الحركات الشيعيّة في العصر العباسي الأول «١٣٢ ـ ٢٣٢» :

١. حركة محمّد النفس الزكيّة في المدينة سنة ١٤٥ هـ ، في عهد المنصور العباسي.

٢. حركة إبراهيم ـ أخي النفس الزكية ـ في البصرة سنة ١٤٥ هـ.

٣. حركة الحسين بن علي (صاحب فخّ) في المدينة سنة ١٦٩ هـ ، في عهد الخليفة الهادي.

٤. حركة يحيى بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد الديلم سنة ١٧٥ هـ ، في عهد هارون الرشيد.

٥. حركة إدريس بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد المغرب سنة ١٧٢ هـ ، في عهد الرشيد.

٦. حركة محمّد بن إبراهيم وأبي السَّرايا في الكوفة سنة ١٩٩ هـ ، في عهد المأمون.

٧. حركة محمّد بن جعفر الصادق في مكة سنة ٢٠٠ هـ ، في عهد المأمون.

٨. حركة أبي عبدالله (أخي أبي السرايا) في الكوفة سنة ٢٠٢ هـ ، في عهد المأمون.

٩. حركة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة ٢٠٠ هـ ، في عهد المأمون.

١٠. حركة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة ٢٠٧ هـ ، في عهد المأمون.

١١. حركة محمّد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب في خراسان سنة ٢١٩ هـ ، في عهد المعتصم.

٣٣٤

وعليه فلا يصحّ ما قاله البعض من عدم صحّة تلك الأخبار أو نسخها أو ... ، بل الأمر يرجع إلى أمور أعمق مما يقولون ، والحوادث التاريخية تؤكّد ما قلناه.

إنّ متابعة السير التاريخيّ للأذان وما آل إليه في «حيّ على خير العمل» يكشف لنا عن أُمور عديدة متمادية الأطراف ترجع جذورها إلى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويمكن تلمّس ذلك بوضوح من خلال دراسة التاريخ والسيرة والحديث ، وهذه المسألة من الأهميّة بمكان ، بحيث إنّك كلّما بحثت في مسألة من مسائلها تفتّحت لك أبواب مسائل أُخرى ذات ارتباط عميق بها ، ولا يمكنك تركها أو التهاون بها ، فالمسألة أكبر من كون «حيّ على خير العمل» شعار الشيعة و «الصلاة خير من النوم» شعار السنّة.

صحيح أنَّ الحركات التغييريّة التي قادها الشيعة عبر فترات التاريخ المختلفة تُبيِّنُ أنَّهم قد أظهروا مسألة «حيّ على خير العمل» في الأذان كعنصر تحدٍّ وتعاملوا معها كشعار لهم ـ كما حصل في الدولة الفاطميّة في مصر ، والدولة الزيدية في طبرستان ، والبويهية في بغداد ، والحمدانية في حلب ـ إلّا أنَّ ذلك لا يتجاوز ظاهر المسألة.

ذلك أنّ مصادر الحديث والتاريخ والسيرة تُظِهر لنا بأنّ «حيّ على خير العمل» لها ج ذور وأصالة شرعيّة ، فهي أوسع من أن تتضيق في زاوية كونها شعار فرقة أو طائفة أو مذهب.

نعم ، كان بلال يؤذِّن بها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أذّن مرّة أو مرّتين للزهراء والحسنين في زمن أبي بكر ولم يُتمّ أذانه. ويظهر من جمع الأدلة المارّة وما قلناه أنّه كان يؤذن بـ «حيّ على خير العمل» ، ولذلك امتنع عن الأذان في زمن الشيخين أبي بكر وعمر ؛ إذ جاء في الخطط للمقريزيّ (ت ٨٤٥ هـ) وغيره : (... وأنَّ عمر أراده أن يؤذِّن له فأبى عليه) (١) لماذا؟!

__________________

(١) الخطط المقريزية ٢ : ٢٧٠. وانظر الفصل الثاني من هذا الباب «حذف الحيعلة ، وامتناع بلال عن التأذين».

٣٣٥

إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما ذكره المقريزيّ في باب (ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف) وربطنا ذلك بما توصّلنا إليه من السير التاريخيّ لمسألة الأذان فيما يخصّ المسألة المبحوثة وشعاريّتها ، وما أُثير حولها من محاولات عامدة للحؤول دون ترسيخها في قلوب المسلمين ، وجمعنا ذلك مع ما بحوزتنا من رواياتنا ورواياتهم فسنحصل على ثمرة يانعة تشفي غليل المتطّلع الى الحقيقة ، وعلى نتيجة جليّة لا غبار عليها ، ويستبين عندئذ أنّها لا تتعدَّى كونها في أصلها شعيرة إلهيّة وشعاراً إسلاميّاً أصيلاً يحمل وراءه نهجاً إسلامياً فكرياً يتبع «الرمز» القدوة الحسنة الذي دعا القرآن الكر يم إلى الاقتداء به ، ويرمي بعيداً كلّ ما يمتّ بِصلة إلى الاجتهاد بالرأي والاستحسان المقابل لمنهجيّة التعبّد المحض ؛ ذلك أن «حيّ على خير العمل» سنّة نبويّة ، أمّا «الصلاة خير من النوم» فهي دعوة مُستحدَثة لا تمثل جانباً من رؤية الإسلام.

ولدى مرورنا بالنصوص والأحداث سنوضح ـ وفق منهجنا ـ ملابسات المسألة خلال الصراع الأموي العلوي ثمّ الصراع العباسي العلوي ، والسلجوقي البويهي ، والأيوبي الفاطمي ، وكيفية نشوء الحركات الشيعية في الأمصار ، وذلك فيه التجسيم الحقيقي للصراع بين الرفض والإذعان ، أو قل صراع الأصوليين الإسلاميين ضد الحكّام الأمويين أو العباسيين ومن حذا حذوهم.

لأنّ أصحاب النهج الحاكم ـ أمويّين وعباسيّين وغيرهم ـ كانوا يَدْعُون إلى اتّباع سيرة الشيخيين على نحو الخصوص. أما الثوار والمعارضون من الطالبيين فكانوا يذهبون إلى شرعية خلافة الإمام عليّ وأولاده المعصومين ويَدْعون الناس إلى اتّباع نهج عليّ وولده.

وقد بدأ الخلاف بين النهجين أولاً في موضوع الخلافة ومن هو الأحّق بها ، وهل هناك تنصيب من الله ، أم أنّ الأمر شورى بين الأمة ـ أو أصحاب الحَلّ

٣٣٦

والعقد منهم ـ؟ ثمّ انجرّ هذا الخلاف إلى الشر يعة ، فوجدنا أحكاماً تُغيَّر وأخرى تُستحدَث ، إما دعماً لمواقف الخليفة ، أو للتعرف على رجال الطالبيين ، أو لغيرهما من العلل والأسباب.

وقد استفحل هذا الخلاف بعد مقتل عثمان بن عفان ، فانقسم المسلمون إلى فئتين كبيرتين :

فجلّ أهل البصرة وأهل الشام كانوا ذوي أهواء عثمانيّة في الانتماء الفكري والسياسي ، وأهل الكوفة والأنصار من أهل المدينة وعدد كبير من أهل الحجاز كانوا علويّي الفكرة والعقيدة.

وبعد استشهاد الإمام عليّ وصلح الإمام الحسن تم استيلاء معاوية بن أبي سفيان على الحكم ، فغلبت العثمانيّة على مجريات الأحداث وانحسر الطالبيّون فبدؤوا يعيشون حالة التقيّة.

وإنّما جئنا بهذا الكلام كي نوضح بأن عملنا في هذا الفصل سيكون في محورين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ، لأنهما وجهان لعملة واحدة ، هما :

١ ـ المحور السياسي.

٢ ـ المحور التشريعي.

فقد نفرض أن يتغاضى الحاكم الأموي عن شعارية «حيّ على خير العمل» في بعض الأحيان ، لكن ذلك لا يعني رضاه وسكوته عن ذلك في كلّ الحالات ، لأنّ الحيعلة الثالثة كما علمت لها جانبان تشريعي صلاتيّ وعقائدي سياسي ، فإذا كان الإتيان بها منحصراً في حدّ المسألة التشريعية سكت الحكام عنها على مضض ، وإن اتّخذت طابعها العقائدي السياسي قامت قيامتهم واستبدّ بهم الغيظ ؛ لأنّ معناها العقائدي السياسي هو فرع لمعناها التشريعي الصلاتي الذي هو «محمّد وآل محمّد خير البر ية» و «الولاية» و «بِرّ فاطمة وولدها» ، وهذا

٣٣٧

البعد التشريعي يتلوه البعد السياسي الذي يعني أنّهم أحقّ بالخلافة والحكم من الآخرين.

فلو دعا الإمام الباقر أو الصادق إلى جزئيتها في العهد الأموي ، أو أتى بها عليّ بن الحسين ، فقد يسكت الحاكم عنه على مضض ، لكن ليس معنى هذا سكوتهم كذلك عن الطالبيين الثوار لو أذّنوا بـ «حيّ على خير العمل» ؛ لأنّ الأمويّين لو أرادوا معارضة الإمامين الصادق والباقر وقبلهما الإمام عليّ بن الحسين ، لفتحت أمامهم جبهة جديدة هم في غنى عنها في تلك المرحلة من تاريخ المعارضة ، ولدخل الأمر في إطاره السياسي قبل أوانه.

ذلك أنّ الأمة الإسلامية بدأت تعي الأوضاع بعد شهادة الإمام الحسين سنة ٦١ هـ ، وأخذت تتّضح لها معالم الظلم والمكر الأموي وسعيه لهدم الإسلام ، لأنّ ما فعله يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بعترة رسول الله واستحلاله المدينة المنورة لثلاثة أيّام وضربه مكّة وغير ذلك كان كلّ واحد منها كافياً لإحداث هذا التحول الفكري لدى عامّة الناس.

نعم ، هاجت عواطف الشيعة وغيرهم بمقتل الإمام الحسين ، فتلاوموا وتنادموا لعدم إغاثتهم الإمام عليه‌السلام ، وقد كانت حصيلة هذا الهياج الجماهيري هو نشوء حركة شيعية باسم حركة التوّابين (٦١ ـ ٦٤ هـ) (١) ثمّ تلتها حركة المختار ابن أبي عبيد الثقفي «٦٤ ـ ٦٧ هـ» ثمّ قيام زيد بن عليّ «١٢٢ هـ» بالعراق ، وابنه

__________________

(١) وصف الطبري في تاريخه ٥ : ٥٥٨ هذه الحركة بقوله «فلم يَزَل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ، ودعاء الناس في السرّ من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين ، فكان يجيبهم القومُ بعد القوم ، والنّفرُ بعد النّفر ، فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتّى مات يزيد بن معاوية» عام ٦٤ هـ ، فالثوار قدموا ثورتهم بموته في حين كان ضمن مخططهم الثورة على يزيد وعلى النظام الحاكم عام ٦٥ هـ ، فلم يفلحوا في ذلك.

٣٣٨

يحيى «١٢٥ هـ» بخراسان ، وعبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب الذي قاد حركته في سنة «١٢٨ هـ» في إصفهان.

فالأمويّون والعباسيّون في حدود المسألة التشريعيّة لا يمكنهم الوقوف أمام تأذين عليّ بن الحسين ومحمّد الباقر وجعفر الصادق بـ «حيّ على خير العمل» ، لوجود أمثال عبدالله بن عمر وأبي أمامة بن سهل بن حنيف وغيرهما ممن أذّن بها.

على أنّه يمكن حمل سكوت الأمو يين هذا على أنّهم استهدفوا من عملهم هذا هدفاً سياسياً ، وهو التعرّف على الطالبيين وتجمّعاتهم ، وقد وضحنا سابقاً في كتابنا (وضوء النبيّ) أنّ الطالبيين هم المعارضون الحقيقيون للحكومتين الأموية والعباسية.

واستقراراً على هدفهم هذا سعوا أن يجمعوا الأمة على فقه يخالف فقه الإمام عليّ بن أبي طالب ؛ الذي فيه الجهر بالبسملة ، والجمع بين الصلاتين ، وعدم مسح الخفّين ، والمسح على الارجل ، والتكبير على الميت خمساً ، وغيرها من الأمور الشرعية ذات البُعد الشعاري التي استخدمها النهج الحاكم للتعرف على جماعات الطالبيين.

وفي هذه الظروف وهذا الخضمّ كان من الطبيعي أن تكون الحيعلة الثالثة من تلك المسائل الشرعية السياسية التي كان للحكام من وراء حذفها ومحاربتها هدف بل أهداف.

وفي قبالة ذلك التيار الجارف نجد أنّ الإمامين الباقر والصادق كانا يدعوان إلى الحيعلة الثالثة ، ويؤكّدان على شرعيتها بدون خوف واكتراث من السلطة ، لكن الأمر نفسه لم يكن عند الثوار في ظروف التعبئة السريّة ، بل كانوا يتّقون ويخافون من تعرف السلطة على مواقعهم العسكر ية وتجمعاتهم الثور ية ، فلم يقولوا بـ «حيّ على خير العمل» إلّا في الصحراء وحين يأمنون مكر السلطة.

٣٣٩

ومن المعلوم أنّ الدولة العباسية أُسست على شعار الرضا من آل محمّد (١) وأنّهم قد تذرعوا بطلب ثار الشهداء من أبناء فاطمة : الحسين بن عليّ ، زيد بن عليّ بن الحسين ، وولده يحيى وسواهم.

لكنّهم سرعان ما قلبوا للعلويين ظهر المجنّ فلم يَفُوا بما عاهدوا عليه الأمة ، ولم يحافظوا على الدلالة الصادقة لمقولة «الرضا من آل محمّد» ، بل نقضوا ما بايعوا عليه محمّد بن عبدالله بن الحسن «النفس الزكية» قبل الانتصار.

وبعد خيانة العباسيين لشعار الرضا من آل محمّد ، ادّعَوا أنّهم أولى بالخلافة من العلويين ؛ لمكان العبّاس عم الرسول ، وأنه أولى بالنبي من عليّ وفاطمة وأبنائها! وهنا كان من الطبيعي أن تغيظهم الحيعلة الثالثة المشيرة إلى أولوية عليّ وأولاده المعصومين بالخلافة من بني العبّاس وغيرهم.

وبما أنّ الحكومتين الأمويّة والعباسيّة كانتا تقدّمان الشيخين على الإمام عليّ وتأخذان بسيرتيهما ، فمن المنطقيّ جدّاً أن لا يرتضي العلويّون السكوت عما فعله هؤلاء من ظلم لأهل البيت ومن طمس لـ «خير العمل» ، فلذلك كان العلويون يقفون أمام الاجتهادات الُمحدَثة من قبَلَ الخلفاء كحذف «حيّ على خير العمل» وتشريع صلاة التراو يح ، والتكبير على الميّت أربعاً ، وإخفات البسملة. بل ربّما كان العلويّون يبعدون المرمى ويصيبون المقتل فيصرّحون بأنّ السبب الأوّل في ضياع حقهم في الخلافة وضياع أحكام الدين ما هو إلّا ما فعله الشيخان بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

من هنا جَدَّ العلو يّون لإعادة السنّة إلى موضعها ـ كما كانت في عهد رسول الله وكما أرادها الإمام عليّ ـ فأخذوا يعلنون «حيّ على خير العمل» على المآذن ،

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبري ٧ : ٣٥٨ احداث سنة ١٢٩ و ٧ : ٣٩٠ احداث سنة ١٣٠ هـ وغيرهما.

٣٤٠