موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

صرّح به الذكر الحكيم بقوله (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) لا (المودة للقربى) ، وفي هذا إيماء لطيف إلى أنّهم غير محتاجين إلى مودة الناس ، بل إنّ مودّتهم تؤدّي بالناس إلى الخير والصلاح ، لأنّ التودّد الذي تكون القربى ظرفاً له سيربطهم بالرسالة وصاحبها ارتباطاً وثيقاً ترجع خيراته إلى الناس ، وهو لطف من الله للبشر ، إذ جعل مودّة أهل بيتِ رسولِهِ سبباً لنجاتهم من الهلكة ، وهي من قبيل جعل حب الإمام عليّ وبغضه مقياساً لمعرفة المؤمن من المنافق ، وقد كان المنافقون من الصحابة يُعرَفُون ببغضهم لعليّ بن أبي طالب ، فقد ثبت عن أبي سعيد الخدري قوله :

«إنّا كنّا نعرف المنافقين ـ نحن معاشَر الأنصار ـ ببغضهم عليّ بن أبي طالب» (١).

وورد عن عُبادة بن الصامت قوله : كنا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب ، فإذا رأينا أحداً لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنّه لغير رشدة (٢).

وجاء عن ابن مسعود قوله : ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ببغضهم عليّ بن أبي طالب (٣).

إذاً كان عليّ بن أبي طالب محكًّا للأنصار ولغيرهم (٤) ، وهذا بخلاف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأنصار (لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق) (٥).

__________________

(١) أُسد الغابة ٤ : ٣٠.

(٢) الغريبين للهروي ١ : ٢٢٢ مادة «بور» ، ذكر اول الحديث ، تاج العروس ٣ : ٦١ مادة (بور) ، وغيرهما.

(٣) الدر المنثور ٦ : ٦٦.

(٤) ومن هنا أنشأت عائشة تقول في حق علي عليه‌السلام :

إذا ما التِّبــر حُـكّ عـلى محكٍّ

 تبيـّن غشّـــه من غير شكِّ

وفينا التبر والـذهب المصفّى

عليّ بينـــنا شـــبه المَـــحكِّ

الكنز المدفون للسيوطي : ٦٨.

(٥) صحيح مسلم ١ : ٨٥ ح ١٢٩ كتاب الايمان.

٣٠١

ففي النصّ الأوّل كان شخص عليّ بن أبي طالب هو المعيار لمعرفـة المؤمـن مـن المنافق ، بخلاف الأنصار الذين يرجع حبّهم إلى ما فعلوه من نصـرتهم لنشـر الديـن الإسـلامي والسـعي في إيواء المسـلمين وقيامهـم في مهـمّات الديـن.

قال النووي في شرح مسلم (إنّ من عرف مرتبة الأنصار .... وعرف من عليّ ابن أبي طالب قربه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّ النبيّ له ، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه ثمّ أحب الأنصار وعليّاً لهذا ، كان ذلك من دلائل صحّة إيمانه وصدقه في إسلامه ، لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله ...) (١).

وكلام النووي كما تراه فيه غفلة عن الفرق الشاسع بين الأمر بحب عليّ عليه‌السلام والأمر بحب الأنصار ، لأن حبّ عليّ عليه‌السلام مطلوب بذاته ، بخلاف حبّ الأنصار فإنّه مطلوب لسوابقهم ، ويؤكد ذلك أنّ في الأنصار منافقين ومنحرفين وأصحاب ارتباطات باليهود ـ وإن كانت غالبيّتهم من أنصار الإمام عليّ عليه‌السلام ومخالفين لقريش ـ فلا يعقل أن يكون حبّهم جميعاً لذواتهم ، وإنّما كان الحب لهم كمجموعة لها مواقف محمودة.

ومثل الإمام عليّ كانت الصدّيقة فاطمة الزهراء ، إذ علّق الباري عزّ وجلّ رضاه وغضبه على رضاها وغضبها ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (٢) ، فصار رضى فاطمة معياراً لرضى الله ، وهو دليل على نزاهتها المطلقة وعصمتها وطهارتها التامّة من كلّ ما يشين ، إذ لا يعقل تعلق رضى الله برضى إنسان غير معصوم.

__________________

(١) شرح مسلم ١ ـ ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، كتاب الايمان / باب ٣٣.

(٢) المعجم الكبير ١ : ١٠٨ و ٢٢ : ٤٠١ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤ ، الإصابة ٨ : ٢٦٦.

٣٠٢

ولا يفوتنّك ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر الغفاري ، قال : قال رسول الله : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني».

وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (١).

وفي هذا الحديث دلالة على كمال الإمام عليّ وعصمته ، لأنا نعلم أن رسول الله لا يداهن ولا يجامل ولا يبالغ ، وبذلك يكون معنى الحديث أن إرادة الإمام عليّ منبعثة من إرادة الله ولا يمكن أن تتخلف عن إرادته جل وعلا ، وكراهته منبعثة عن كراهة الله ، ولا يمكن أن تتخلف إحداهما عن الأُخرى ، إذ لو أمكن التخلّف لكان قوله «من أطاعه فقد أطاع الله» غلطاً ، ولكان قوله : «من عصاه فقد عصى الله» باطلاً ، معاذ الله (٢) ، حيث إن طاعة الرسول هي طاعة لله ، وعصيانه هو عصـيان لله ، فيكون من أطاع علياً فقد أطاع الله ورسـوله ، ومن عصـاه فقد عصـى الله ورسوله ..

وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمامين الحسن والحسين ، فهما إمامان قاما أو قعدا ، وسيّدا شباب أهل الجنّة ، فهؤلاء هم القربى المعنيّون في آية المودّة.

وعلى هذا فالدعوة إلى المودّة في القربى ونقل فضائلهم هي مقدِّمة إلى لزوم الأخذ بنهجهم والاهتداء بهداهم ؛ لتعلّق أجر الرسالة بها ، بل هو تعبير آخر عمّا جاء في حديث الثقلين «ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» لانّ مفهوم السنّة لغة : هو الطريق ، والصراط ، والجادّة ، واصطلاحاً : هو اتّباع الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١.

(٢) الحق المبين : ٧٩ للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.

٣٠٣

وقد أرشَدَنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى لزوم اتّباع العترة ، فيكون الابتعادُ عن هؤلاء ابتعاداً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإسلام ، وهو عين الضلالة والهلكة ، لأنّه لا هدى إلّا بالقرآن والنبيّ والعترة ، فعلي مع القرآن ، والقرآن مع عليّ «لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض» (١).

ولو تأمّلت في هذه العبارة لعرفت مكانة الإمام عليّ ولرأيته في رتبة المعيّة مع القرآن ، وهي نسبة تقوم بطرفين ، ويستحيل أن تقوم بطرف واحد ، وعندما قال النبيّ : «عليّ مع القرآن» ، فقد أثبتها ، فلماذا أعاد إثباتها بصيغة أخرى ، فقال : «والقرآن مع عليّ»؟

حاشا أفصح مَن نطق بالضاد مِن اللغو في كلامه ، وحاشا أفصح من نطق بالضاد من التكرار في كلامه ، [دون معنى متوخّى ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] أراد أن يُفهمنا أن مسألة معيّتهما [هي] معيّة من نوع خاص ، ويشير إلى أبعادها العميقة ، ذلك أن المعيّة بين شيئين أو أكثر ، عندما تطلق ، فيقال : زيد مع عمرو ، فهي أعمّ من أن يكون هذا الطرف في الإضافة متقدّماً رتبة على ذاك أو متأخّراً عنه ، بل تدلّ على أنهما معاً بقطع النظر عن رتبة كلّ منهما.

وربّما كان فيها إشارة إلى أنّ المَقْرون أقلّ رتبةً من المقرون به ، لهذا أعاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمصياغة هذه المعية ، ليقول للمفكّرين : لا ينبغي أن تفهموا من قولي : «عليّ مع القرآن» أن عليّاً أقلّ رتبة من القرآن ، بل القرآن مع عليّ أيضاً ، فهما وجودان متعادلان» (٢).

ويؤيّد هذا الاستنتاج ما جاء عن النبيّ : «عليّ مني وأنا من عليّ» (٣) ،

__________________

(١) المستدرك ٣ : ١٢٤ قال صحيح ولم يخرجاه ، الجامع الصغير ٢ : ١٧٧ ، كنز العمال ١١ : ٦٠٣.

(٢) الحقّ المبين : ١٠٥ للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٣٠٠ ح ٣٨٠٣ ، مصنف بن أبي شيبة ٧ : ٥٠٤ ح ٥٨ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ ح ١١٩.

٣٠٤

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلملعليّ : «أنت مني وأنا منك» (١).

ولو جمعنا آية المودة ، مع آية التطهير ، مع حديث الثقلين ، وما جاء في أهل الكساء ، وقوله : لا يزال الدين عزيزاً حتّى يكون منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (٢) ، وقوله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (٣) ، وغيرها من الآيات والروايات ، لعرفنا دلالة هذه النصوص على الولاية التي هي بمعنى الإمامة ، لا بمعنى الصاحب والُمحبّ ، وما شابه ذلك من المفاهيم التي تطرحها مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي.

عرفنا إذاً أنّ الخطاب في آية المودّة هو لعموم المسلمين الذين آمنوا برسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا لخصوص المشركين من قريش حسبما قاله البعض ؛ لكون الآية مدنية وإن كانت السورة مكية ، فلا يُعقل أن يخاطب الرسول أعداءه من المشركين ويطلب منهم أجراً على رسالته.

وكذا لا يصحّ ما قاله البعض الآخر : من أنّ الآية تشير إلى معنى تودّد المسلمين في التقرّب إلى الله ، ومعنى كلامهم هذا أنّ القربى استعملت بمعنى مطلق التقرّب ، وهذا باطل لغو ياً حيث لم يرد هذا المعنى في المعاجم.

ويضاف إليه : كيف يمكن للرسول أن يوقف أجر رسالته على نفسها ، لأنّ المسلم وباتّباعه الرسالة يحصل له القرب إلى الله ، فلا معنى للتودّد والإلحاح في القرب إليه ؛ لأنّه توقيف الشيء على نفسه ، وإن كان كذلك فلا يكون أجر الرسالة بل هو نتيجة الرسالة.

هذا ، وإنّك لو طالعت التاريخ الإسلامي لعرفت أنّ مفهـوم القـربى كان في

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ ـ ٤ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ كتاب الصلح / باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ...

(٢) صحيح مسلم ٦ : ٤ كتاب الامارة ، سنن بي داود ٤ : ١٠٦ ح ٤٢٨٠.

(٣) وسائل الشيعة ١٦ : ٢٤٦ كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٣٠٥

الصدر الأوّل يطلق على عليّ وفاطمة والحسـنين ، ثمّ أطلقت على أبنائهم المعصومين لاحقاً.

روى الحاكم النيسابوري في المستدرك عن الإمام الحسن قوله : وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم فقال تبارك وتعالى : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً) ، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت (١).

وقال أبو إسحاق السبيعي : سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال : قربى النبيّ ، رواهما ابن جرير الطبري (٢).

وعن ابن عبّاس أنّه قال : لما نزلت هذه الآية : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودّتهم؟ قال : فاطمة وولدها : (٣).

وثبت عن عليّ بن الحسين أنّه قال للشامي رداً على تنكيل الشامي به : أما قرأت كتاب الله عزّوجلّ؟

قال الشامي : نعم.

فقال عليّ بن الحسين : أما قرأتَ هذه الآية (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

قال : بلى.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٧٣.

(٢) تفسير ابن كثير ٤ : ١١٣ سورة الشورى.

(٣) تفسير ابن أبي حاكم ١٠ : ٣٢٧٧.

٣٠٦

فقال له عليّ بن الحسين عليه‌السلام : فنحن أولئك ، فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقاً خاصّة دون المسلمين؟

فقال : لا.

فقال عليّ بن الحسين : أما قرات هذه الآية : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)؟

قال : نعم.

قال عليّ بن الحسين : فنحن أولئك الذين أمر الله عزّ وجلّ نبيه أن يؤتيهم حقهم.

فقال الشامي : إنكم لاَنتم هُم؟

فقال عليّ بن الحسين : نعم ، فهل قرأت هذه الآية : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى).

فقال الشامي : بلى.

فقال عليّ بن الحسين : فنحن ذوو القربى ، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقّاً خاصّة دون المسلمين؟

فقال : لا.

قال عليّ بن الحسين : أما قرأت هذه الآية : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

قال : فرفع الشامي يده إلى السماء ثمّ قال : اللّهمّ إنيّ أتوب إليك ـ ثلاث مرات ـ اللّهمّ إني أتوب إليك من عداوة آل محمّد ، وأبرأ إليك ممن قتل أهل بيت محمّد ، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرتُ بها قبل اليوم (١).

وهذا النصّ يؤكّد لنا وضوح دلالة هذه الآيات المباركة ، حيث إنّ الشيخ

__________________

(١) الاحتجاج : ٣٠٧ ، وتفسير ابن كثير ٤ : ١٢٢ سورة الشورى.

٣٠٧

الشامي فهم معانيها بأدنى تأمّل ، وبمجرّد إيضاح الإمام السجّاد عليه‌السلام له المراد من هذه الآيات. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية يبين هذا النص مدى التعتيم الإعلامي الأموي على أهل البيت ، وتحريفات السلطة لمعاني هذه الآيات المباركة ، ولذلك كأنّ الشيخ الشامي من قبل لم يشعر بها وبمعانيها. ولم يعرف المصداق الأكمل لها في زمانه.

ومثله روى حكيم بن جبير ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : كنت أجالس أشياخاً لنا إذ مر علينا عليّ بن الحسين وقد كان بينه وبين أناس من قريش منازعة في امرأة تزوّجها منهم لم يرض منكحها ، فقال أشياخ الأنصار : ألا دعوتنا أمس لما كان بينك وبين بني فلان ، إنّ أشياخنا حدّثونا أنّهم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا محمّد ، ألا نخرج إليك من ديارنا ومن أموالنا لِمَا أعطانا الله بك وفضّلنا بك وأكرمنا بك؟ فأنزل الله تعالى : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ونحن ندلكم على الناس ، أخرجه ابن منده (١).

وجاء في الكافي في حديث طويل عن الباقر عليه‌السلام فيه قوله : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) يقول : أجر المودة الذي لم اسألكم غيره فهو لكم تهتدون به وتنجون به من عذاب يوم القيامة ، وقال لاعداء الله ، اولياء الشيطان أهل التكذيب والانكار : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُتَكَلِّفِينَ) (٢).

وبعد هذا فلنا أن نحتمل أنّ الله تعالى قد ألمح في قوله (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (٣) ، إلى ما تُلاقيه هذه المجموعة الصالحة من قربى الرسول من أمّته بعده.

__________________

(١) اُسد الغابة ٥ : ٣٦٧.

(٢) الكافي ٨ : ٣٧٩ / ح ٥٧٤ ، البرهان ٧ : ٧٩.

(٣) سورة الشورى الآية : ٢٣.

٣٠٨

فعن خالد بن عرفطة ، قال : قال رسول الله : إنكم ستُبتَلَون في أهل بيتي من بعدي (١).

وقال الإمام الباقر : بَليةُ الناس علينا عظيمة ؛ إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (٢).

وجاء عن إبراهيم النظّام قوله : عليّ بن أبي طالب محنة على المتكلم ؛ إن وفى حقَّه غلا ، وإن بخسه حقّه أساء ، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن حادة الشأن صعبة الترقي إلّا على الحاذق الدين (٣).

وقال الشعبي : ما ندري ما نصنع بعليّ ؛ إن أحببناه افتقرنا ، وإن أبغضناه كفرنا (٤).

واشتهر عن محمّد بن إدريس الشافعي قوله : ماذا أقول في رجل أخفت أصدقاؤه فضائله خوفاً ، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً ، وشاع له من بين ذَين ما ملأ الخافقين (٥).

من هذا يتبيّن لنا أنّ آية المودة هي معنىً آخر لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٦) والأخيرة صريحة في نزولها في حجة الوداع ويوم غدير خُمّ.

__________________

(١) كنز العمال ١١ : ١٢٤ / ٣٠٨٧٧.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٦٧ ، مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٠٦ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢٨٨ ح ١١ عن الإرشاد.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢١٥ باب في حساده.

(٤) المناقب للخوارزمي : ٣٥٠ الفصل ١٩ وعنه في بحار الأنوار ٢٩ : ٤٨١.

(٥) حلية الابرار ٢ : ١٣٦ (للبحراني) ، مشارق أنوار اليقين للبرسي : ١٧١ ، وقيل هي للخليل بن أحمد اللغوي الشهير كما جاء في ملحقات السيّد المرعشي على إحقاق الحق ٣ : ٤٠٦ ، ٤ : ٢. وقد نسب العلاّمة الحلي هذه المقولة لأحد الفضلاء دون ذكر اسمه انظر : كشف اليقين : ٤.

(٦) المائدة : ٦٧.

٣٠٩

ولا يصحّ ما قالوه من أنّها نزلت في أوّل البعثة لمّا خاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التبليغ ، فهدّده الله وطمأنه.

أو ما قالوه من أنّها نزلت في مكّة قبل الهجرة فاستغنى بها النبيّ عن حراسة عمّه أبي طالب.

أو ما قـالـوه من نـزولهـا في المديـنة في السـنة الثانية للهـجرة بعد غـزوة أحـد.

لأن القول الأوّل يكذّبه كون السورة مدنية ؛ فلا يعقل أن يأتي خبرٌ كان في أوّل البعثة في آخر سورة من القرآن ، ولو صحّ ذلك القول وما يليه وأنّ الله كان قد عصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما معنى صلاة الخوف وما فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعداء في السنوات الأخيرة من حياته الشريفة؟

وأكثر من ذلك ، هو أنّ الرسول لو كان قد حُمِيَ هذه الحماية في بدء الدعوة واسـتغنى عن حماية أبي طالب ، فما معنى تلك النصوص الصـادرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القـبائل والتي يطـلـب منهـم أن يحمـوه؟ بل ما معنى هجرته من مكّة إلى المـدينة المـنوّرة؟

فالآية صريحة في نزولها في آخر حياته الشريفة ، وبعد حجة الوداع ، إذ لو كانت في بدء الدعوة فلا معنى لعبارة (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إذ لم ينزل إليه إلّا الشيء اليسير ، وهذه الجملة تدلّ على الماضي الحقيقي وهو يتطابق مع نزولها في آخر حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخصوصاً حينما نرى توقّف أمر الرسالة عليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)!

وعليه فالآيتان ـ آية التبليغ وآية المودّة ـ دالتان على شيء واحد مرتبط بأجر الرسالة وتبليغها ، وهما أمران مَولَويّان من الباري جل شانه (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) و (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) ، وكلاهما يرتبط بأمر الولاية والخلافة الإلهية ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخاف من رجوع أمّته القهقرى

٣١٠

وهي كائنة لا محالة ـ وذلك لاجتماع قريش على العصبية والقبلية وسعيهم لإبعاد الإمام عليّ عن الخلافـة وإمـرة المؤمنين ؛ لأنّه وَتَر قريشاً وكَسَر شـوكتها وعظمتها.

على أنّك لو تأمّلت كلمات الأنبياء : قبل النبيّ محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرأيتهم يوقفون أجرهم على الله ، ففي سورة الشعراء حكاية عن قول نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قولهم : (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (١).

وقوله : (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٢).

وقوله : (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣).

وقوله : (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٤).

وقوله : (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٥).

وهكذا نجد أنّ كلمات هؤلاء الأنبياء الكرام : كانت واحدة متطابقة تعبّر عن معنىً واحد محدّد معلوم ، هو أنّهم لم يطلبوا من الناس أجراً على الرسالة ، وإنّما أجرهم «على ربّ العالمين».

__________________

(١) الشعراء : ١٠٩.

(٢) الشعراء : ١٢٧.

(٣) الشعراء : ١٤٥.

(٤) الشعراء : ١٦٤.

(٥) الشعراء : ١٨٠.

٣١١

أما الرسول المصطفى فيقول : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (١) وقال تعالى : (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (٢).

وقال على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٣) فما يعني ذلك ، وعلى أيّ شيء يدل؟

إن المقدمة السابقة قد تكون وضحت جواب هذا الأمر ، خصوصاً بعدما عرفت أنّ رسالة المصطفى هي الرسالة الخاتمة ، فلا يمكن إبقاء هذه الرسالة إِلاَّ بـ (ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) و (مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) وهما القرآن والعترة ، وذلك لوجود نصوص كثيرة تشير إلى أنّ أهل البيت هم (الذكر) و (السبيل) إلى الله ، وهو ما اصطلح عليه في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالثقلين ، فيصير معنى الآية وكلام النبيّ لزوم اتّخاذ السبيل إلى الله وهم القربى ، وأنّ اتّخاذ هذا السبيل سيعود نفعه على الناس ، (عليكم). أمّا أجر رسول الله فهو على الله لقوله سبحانه في سورة سبا (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤). ومعنى الآية : أني قمت بواجبي ، وأدّيت ما علَيَّ ، ولا أسألكم عليه من أجر بعد المودّة إن أجري إلّا على الله ، لكن لو أردتم الانتفاع من هذه الرسالة والنجاة فاتصلوا بالسبب الممدود بين الأرض والسماء وهو القرآن والعترة.

وبهذا فلا تناف بين قوله : (لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وبين قوله : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى اللهِ) (٥).

__________________

(١) الانعام : ٩٠.

(٢) يوسف : ١٠٤.

(٣) الفرقان : ٥٧.

(٤) سبأ : ٤٧.

(٥) للإمام الباقر بوضح بهذا الصدد انظر : روضة الكافي ٨ : ٣٧٩.

٣١٢

إنّ هذا لَيقترب بنا من فهم المعنى العميق لـ «حيّ على خير العمل» الذي نصّ عليه أهل البيت : الذين هم أعلم الناس بدين الله بما فازوا به من تطهير الله تعالى إيّاهم تطهيراً شاملاً ، في المعرفة والمعتقد ، وفي المواقف والعمل. وهذا المعنى الذي يتضمنه «حيّ على خير العمل» هو الولاية أو برّ فاطمة وولدها أو ما شابه ذلك ، لما اتّضح لك في الصفحات السابقة من أنّ الأذان هو بيان لاُصول العقيدة ، ولمّا كانت الولاية امتداداً للرسالة فلا غرابة في أن تكون أجر الرسالة ، خصوصاً مع ما نعرف من تأكيدات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أهل بيته وقرباه المنتجبين.

لقد أكّد رسول الله على العترة بدءًا من (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١).

ومروراً بحجة الوداع التي خطب فيها رسول الله خمس مرات ، وختماً بالكتاب الذي منعوه من كتابته في آخر حياته الشريفة.

قال الحلبي في سيرته : «خطب النبيّ خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر ، والرابعة يوم القرّ بمنى ، والخامسة يوم النَّفر الأوّل بمنى» (٢).

وقد روى مسلم وأحمد وغيرهما ـ خطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مرجعه من حجة الوداع إلى المدينة ـ عن زيد بن أرقم ، قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب الله منه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال : وأهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي.

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤ ، وانظر : في تفسيرها كتب التفاسير والتواريخ اخبار أول البعثة.

(٢) السيرة الحلبية ٣ : ٣٣٣.

٣١٣

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟

قال : نساؤه من أهل بيته؟! ولكنّ أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

قال : ومن هم؟

قال : هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.

قال : كلّ هؤلاء حرم الصدقة؟

قال : نعم (١).

وعن أبي هريرة : من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خُمّ لمّا أخذ النبيّ بيد عليّ بن أبي طالب فقال : ألستُ وليَّ المؤمنين؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : من كنتُ مولاه فعليّ مولاه.

فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم! فأنزل الله عزّوجلّ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) (٢).

عَود على بدء

كانت هذه مقدمة أتينا بها كي نوضّح وجه أفضلية الولاية على العبادات الأربع الأخرى ، إذ الصلاة تتركها الحائض ، والصوم يتركه المريض ، والزكاة والحج ساقطان عن الفقير ، أمّا الولاية فهي واجبة على الصحيح والمر يض والغني والمعسر ، لأنّها مفتاحهنّ ، وبأهل البيت تُعرف الأحكام ، وتُقبل العبادات ، ويُعبد

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ : ١٢٢ ، مسند أحمد ٤ : ٣٦٧.

(٢) تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٣٣ ، الدر المنثور ٢ : ٢٥٩ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٩٠.

٣١٤

الله ، فهم باب الله الذي منه يُؤتى «وبالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف» (١) لأنّه الضمان الإلهي للشر يعةَ. ونحن نعلم بأن الشر يعة مرت بمرحلتين :

١ ـ التأسيس على يد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ الصيانة من الانحراف ، وهو دور الأئمة المفترضي الطاعة ، وهو ما كان يؤكّد عليه الرسول للأمة ، يحذّرها من الابتعاد عنهم لأنّ ذلك سيؤدّي بهم إلى الضلال.

وقد كان النهج الحاكم في تعارض مع هذه الصفوة الطاهرة ، فما من الصفوة إلّا مقتول أو مسموم ، وقد ثبت في علم السياسة والاجتماع أنّ جميع الثورات الفكر ية ، إذا مات زعماؤها ، وتولّى إدارتها غير الأكفاء انحرفت عن مسارها الذي اختطّه لها صاحبها ، أمّا إذا واصل المسيرة الأكفاء الذين يختارهم صاحب الثورة والتغيير ، فإنها تبقى حيّة نابضة ، ولا تنحرف عن منهاجها الأصلي. هذا عن القسم الأوّل من السؤال.

أمّا ارتباط برّ فاطمة وولدها بالأذان والصلاة ـ كما في بعض الروايات ـ (٢) فهو معنى تفسيري للجملة ، ومن قبيل بيان المعاني المشكلة والمتشابهة أو الخفية والمجملة في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فالإمام قد يكون أراد بتوضيحه ذلك بيان ما هو المقصود في العلم الالهي ، وبيان ما حدث بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عقوق لفاطمة ؛ فبعد إقصاء عليّ عليه‌السلام عن الخلافة ـ أي ترك الولاية التي هي خير العمل ـ

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ٢٢٤ ، كمال الدين وتمام النعمة : ٦٧٧ ، معاني الأخبار : ٩٧.

(٢) كرواية معاني الاخبار : ٤٢ ، وعلل الشرائع ٢ : ٢٥٦.

٣١٥

عقّوا فاطمة فغصبوا منها فدكاً (١) ، وروّعوها ، وهددوها بحرق دارها (٢) حتّى ماتت غاضبة عليهما (٣) ، كما عقّوا ولدها فمضوا مسمومين مقتولين مشرّدين. ولو تمسك القوم بالولاية التي هي خير العمل لبَرّوا فاطمة وولدها ، ولما خرجت الخلافة من أهلها ، ومن هنا نعلم أن تفسير الحيعلة الثالثة تارة بالولاية ، وأخرى ببرّ فاطمة وولدها ، إنّما هما وجهان لعملة واحدة ، وعبارتان تدلان على معنى مشترك واحد ، وهو أنّ محمّداً وعليّاً وأولادهم المعصومين هم خير البرية.

ولعلّ القارئ الكريم قد وقف على جذور هذا الأصل الديني من القرآن والعترة فيما وضّحناه سابقاً في البحوث التمهيدية ، من أنّ تشريع الأذان سماويٌّ ، وهو يحمل في طياته سمات معنو ية وأسراراً عالية ، وأنّه بيان لأصول العقيدة وكليّات الإسلام ، لأنّ الأذان ليس إعلاماً لوقت الصلاة فقط ، بل إنّ آثاره تجري في عدة أمور ، فهو بيان لما ابتنى عليه الدين الإسلامي من التوحيد والنبوة ـ والإمامة في نظر الإمامية ـ.

__________________

(١) انظــر : شــرح نهج البـلاغـة ١٦ : ٢٠٩ ـ ٢٥٣ و ١٧ : ٢١٦ ، الاحتجاج ١ : ٢٦٧ ، الاختصاص : ١٨٣.

(٢) جاء في تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ بسند معتبر ، قال : أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. وقد كانت فاطمة في البيت ، فقالوا لعمر : إنّ في البيت فاطمة! قال : وإنْ (انظر الإمامة والسياسة ١ : ١٢ ، اعلام النساء ٤ : ١١٤).

(٣) جاء في صحيح البخاري ٢ : ٥٠٤ كتاب الخمس باب ٨٣٧ باب فرض الخمس ح ١٢٦٥ بسنده عن أم المؤمنين عائشة أنّها اخبرته : أن فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألت ابا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله ، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت ، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر.

٣١٦

إنْ إكمال الدين وإتمام النعمة لا يكون إلّا بإمامة عليّ وولده ، وهذا ما دلّلت عليه الكتب الكلامية ، ودلّت عليه الآيات الكريمة التي منها آية التطهير وآية الولاية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ ...) وآية المباهلة ، وسورة الدهر ، وغيرها من عشرات الآيات والأحاديث ـ إن لم نقل المئات ـ دالّة عليه ، وهذا ما يجب أن يعتقد به كلّ مسلم ؛ إذ عرفتَ أنْ لا صلاة كاملة ومقبولة إلّا بولايتهم.

إنّ عبارة «حيّ على خير العمل» الدالة على الإمامة هي جزء من الأذان ؛ لما تظافرت به روايات الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية ، ولوجودها حتّى في مصادر أهل السنّة ، وقد أذّن بها كبار الصحابة ، وحكي عن الإمام الشافعي والإمام مالك القول بجزئيتها ، وسنزيد المسألة وضوحاً وجلاءً في الباب الثالث (أشهد أنّ عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع) من هذه الدراسة ، ضمن بحثنا عن شرعية الشهادة الثالثة أو بدعيتها.

ما وراء حذف الحيعلة الثالثة

نصَّ التفتازاني والقوشجي وغيرهما على دافع الخليفة عمر بن الخطّاب إلى حذف هذا الفصل من الأذان ، واتّفق الزيديّة والإسماعيليّة والإماميّة على ثبوت هذا الحذف عنه ، في حين جرى التعتيم على هذه النقطة في أغلب كتب أهل السنّة ، على الرغم من تأكيد كثير من النصوص التاريخيّة والحديثية المتناثرة في المصادر على حذف عمر لحيّ على خير العمل للدافع الذي أعلنه.

إنّ ما ذكر من تعليل لحذف الحيعلة الثالثة قد يكون وجيهاً عند عمر بن الخطّاب ؛ لانسجامه مع نفسيته ومنهجه في فهم النصوص ، وللظروف التي كان يعيشها من غزوات وحروب وتوسيع لرقعة الدولة ، وهو ممّا يستوجب بالطبع جمع الطاقات وتوظيفها للغرض المنشود ، وعدم السماح للمتقاعدين في التشبث بعلل

٣١٧

قد تبعدهم عن الجهاد ، من جملتها الاتكال على الصلاة أو الولاية باعتبارهما خير العمل.

لكنّ هذا السبب في منع عمر بن الخطاب ترد عليه عدة أمور :

أوّلها : إنّ الغزوات والحروب كانت أعظم وأكثر على عهد رسول الله ، وكانت ظروف انبثاق الدولة الإسلاميّة الفتيّة وبداية انطلاقها لنشر دين الله أدعى إلى حذف هذه الحيعلة من قِبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لو صحّ هذا التعليل ـ من الظروف التالية التي عاشها الخليفة بعد استقرار أمور الدولة بشكلها الذي كانت عليه. فلماذا لم يحذف رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الفصل وحذفها عمر (١)؟!

إنّ هذا لَيثير تساؤلاً حول صحّة هذا التعليل الذي فسّر به عمر حذفه هذا ، أو يومئ إلى وجود سبب آخر غير معلن في هذا السياق.

ثانيها : لو قبلنا التعليل السابق تنزّلاً لصحَّت مشروعية الحذف لفترة معينة ، لا أنّه يكون تشريعاً لكلّ الأزمان ، ذلك أن سريان المنع إلى يومنا هذا ربّما يشير إلى أمر آخر.

ثالثها : إنّ هذا التعليل من قبل الخليفة لا يتّفق مع ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «اعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة» وهو لا يتّفق أيضاً مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة : «إنّها عمود الدين إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدَّت رُدّ ما سواها» ، فلو صحّ تعليل الخليفة وأنّه أراد أن لا يتّكل الناس على الصلاة ويَدَعُوا الجهاد ، للزم

__________________

(١) وهذا التعليل والرد ، ورد نظيرهما في إتمام عثمان للصلاة بمنى ، بحجّة خوفه أن يظن الناس أنّ صلاة القصر هي المفروضة ، فأجابه الصحابة بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقصر الصلاة وينبّه المسلمين على أنّ ذلك مخصوص بمنى. فلوصح تعليل عمر ، لكان يمكنه أن يقر الحيعلة الثالثة في الأذان وينبّه المسلمين على ضرورة الجهاد ، كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل ذلك. وهذا التشابه في أدوار الخليفتين الثاني والثالث يوقفك على مسار تيار الحكّام المجتهدين.

٣١٨

من ذلك تخطئة كلّ النصوص الدالة على أنّ الصلاة خيرُ موضوع وخير الأعمال ، وأنّها وسيلة لقبول الأعمال وردّها.

رابعاً : من المعلوم أنّ المسلمين صاروا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهجين : أحدهما : نهج الخلفاء ، والآخر نهج أهل البيت. وكان هؤلاء على تخالف في كثير من القضايا السياسية والفقهية ، فلمّا منع عمر الحيعلة الثالثة نَسَبَ نهجُ الخلفاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمالمنعَ تأييداً للخليفة عمر بن الخطاب ، حتّى إذا جاء الخلفاء اللاحقون منعوا هذا الفصل من الأذان واستقبحوه من الناس ، ولأجله ترى انحسار الروايات الدالة على الحيعلة في كتب الجمهور ، لكنّ الطالبيِّين أصرّوا على الإتيان بها على الرغم من هذا المنع.

وبذلك تحزّب أبناء السنّة والجماعة لمذهب عمر بن الخطاب وحكموا رأيه في مقابل موقف الإمام عليّ وأولاده الذين خالفوا هذا المنع وأصرّوا على الحيعلة الثالثة رغم كلّ الظروف والمشاكل ، كما ستقف عليها لاحقاً.

خامساً : إنّ المطّلع على مجريات الأحداث في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ مَن بعده يقف على حقيقة جلية ، هي أنّ قريشاً لم تكن ترضى باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم ، وكانت تطمع في الخلافة من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانوا يشترطون على رسول الله أن يبايعوه بشرط أن يجعل لهم نصيباً في الخلافة من بعده ، لكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «إن الأمر لله يجعله حيث يشاء» (١) وليس الأمر بيدي.

وجاء عن ابن عباس : إن عمر بن الخطاب قال له في أوائل عهده بالخلافة : يا عبدالله ، عليك دماء البُدن إن كتَمتَنيها .... هل بقي في نفسه [يعني عليّ بن أبي طالب] شيء من أمر الخلافة؟

__________________

(١) انظر : حديث عامر بن صعصعة في سيرة ابن هشام ٢ : ٢٨٩ ، وحديث قبيلة كندة في سيرة ابن كثير ٢ : ١٥٩ ، وهما يدلاّن على ما نقوله.

٣١٩

قلت : نعم.

قال : أيزعم أن رسول الله نصَّ عليه؟

قلت : نعم. وأزيدك : سألتُ أبي عمّا يدّعيه ، فقال : صَدَق.

قال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً ، وكان يَرْبَعُ في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام ... فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك (١).

وقال العيني في عمدة القاري : واختلف العلماء في الكتاب الذي هم بكتابته فقال الخطابي : يحتمل وجهين ، احدهما انه اراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين (٢).

ولو جمعنا ما جاء عن ابن عباس ، مع ما قاله عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مرضه ـ حينما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائتوني بدواة وقلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فقال عمر : إنّ الرجل لَيَهجُر (٣) ـ مع ما قاله رسول الله لعمر لمّا أتاه بجوامع من التوراة : والذي نفسُ محمّد بيده لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لَضللتُم (٤) ، مع قول رسول الله في حديث الثقلين «ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» ، لو جمعنا كلّ ذلك لوقفنا على حقائق مذهلة ، ولعرفنا موقف النهج الحاكم بعد رسول

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٢١ وقال : ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.

(٢) عمدة القارئ ٢ : ١٧١.

(٣) وفي نصّ البخاري «إنّ الرجل قد غلب عليه الوجع» ، وكلاهما إساءة للرسول المصطفى.

(٤) سنن الدارمي ١ : ١١٥ باب ما يتقي من تفسير حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مسند أحمد ٤ : ٢٦٦ ، المصنف لعبد الرزاق ٦ : ١١٣ باب مسألة أهل الكتاب ، أسد الغابة ٣ : ١٢٧.

٣٢٠