موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

نزاع بلال مع عمر في شأن كيفية توزيع الأراضي المفتوحة وأمثالها ، حيث قام بلال إلى عمر فقال : لتقسمنّها أو لنتضاربَنّ عليها بالسيف (١).

ولما أبى عمر ذلك ، ودعا على بلال ومن معه بالهلاك (٢) ، سألَ بلال عمرَ البقاء في الشام واعتزال باقي الفتوحات ، ففعل ذلك عمر (٣) ، فبقي بلال في دمشق إلى أن مات بها.

وقد كان أبو بكر قد أغضب بلالاً في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمر النبيّ أبا بكر أن يترضّاه ، قالوا :

مرّ أبو سفيان ببلال وسلمان وصهيب ، فقالوا : ما أخَذَت سيوفُ الله من عُنُق هذا بعدُ مأخذها ، فقال أبو بكر الصديق : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها؟!

فذهب أبو بكر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

ثالثها : ما ذكره البخاري في التاريخ الصغير والذهبي في سيرة ١ : ٣٥٧ والنص عن البخاري : «حدّثنا يحيى بن نشر ، حدّثنا قراد ، أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه». وهذا الإسناد فيه هشام بن سعد الذي ضعفه أحمد بن حنبل وابن سعد ويحيى بن معين والنسائي ، وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ، وقال ابن حبان : كان ممن يقلب الاسانيد وهو لا يفهم ، ويسند الموقوفات من حيث لا يعلم ، وبطل الاحتجاج به.

رابعها : ما أخرجه ابن الأثير في أسد الغابة عن أولاد سعد القرظ.

وفي هذا الإسناد أولاد سعد القرظ المجهولون كما مرّ عليك.

ولا يفوتنّك أنّ أولاد سعد القرظ أرادوا التغطية على نزاع بلال مع الخلفاء الذي أدّى إلى تركه الأذان ، حتّى جاءوا بسعد القرظ فجعلوه بديلاً عن بلال رحمه الله ، واستمرّ التأذين الرسمي في ذريّته كما عرفت.

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٦ : ٣١٨.

(٢) الروض الأنف ٦ : ٥٨١ ، المبسوط للسرخسي ١٠ : ١٦.

(٣) اسد الغابة ٢ : ٧٩ ، تار يخ دمشق ١٦ : ٢١ ، الاصابة ٤ : ٧٢.

٢٨١

يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم ، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك ، قال : فرجع أبو بكر ، فقال : يا إخوة ، لعلّكم غضبتم. قالوا : يغفر الله لك يا أبا بكر (١)!

وقد كان بين بلال وعمر اختلاف في وقت الأذان ، أدّى بهم من بعد أن يختلقوا صحة أذان ابن أم مكتوم الأعمى في الفجر ، مخطّئين أذان بلال لعدم تشخيصه الفجر الصادق ، لضعف في بصره!! (٢)

روى الأوزاعي أنّ بلالاً أتى عمر بن الخطّاب فقال : الصلاة الصلاة ، فردّدها عليه ، فقال له عمر : نحنُ أعلمُ بالوقت منك ، فقال له بلال : لاَنا أعلم بالوقت منك ، إذ أنت أضلّ من حمار أهلك (٣)!

وفي زحمة هذا التضادّ السياسي الفقهي بين بلال من جهة ، وأبي بكر وعمر وأتباعهما من جهة ، يبدو أنّهم طلبوا منه حذف «حيّ على خير العمل» وإبدالها بـ «الصلاة خير من النوم» ، فرفض بلال ذلك ، ولذلك رفضوا بلالاً ورفضهم ، ونسبوا إلى بلال ضعف البصر واللثَّغة في اللسان وغيرها من الأمور الجارحة ، وجاءوا بدله بسعد القرظ وأبي محذورة ، ووضعوا أحاديث نسبوها إلى بلال ، وكأنّه أذّن بـ «الصلاة خير من النوم» في زمان النبيّ ، مع أنّ الصحيح نسبته إلى بلال عكس ذلك ، فإنّه اذّن بـ «حيّ على خير العمل» لا الصلاة خير من النوم.

على أنّ بلالاً كان هو أقرب المشاهدين لما واجهوا به النبيَّ قبيل وفاته ، وكيف تخلفوا عن جيش أسامة ، وقدّموا أبا بكر للصّلاة.

كان بلال على علم بما يجري من حوله ، ولذلك اعتزل القوم ونجا بدينه وأذانه

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٥ : ٢٦١.

(٢) هذا ما تقف عليه في الباب الثاني من هذه الدراسة : «الصلاة خير من النوم» فراجع.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ٥ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢٨٢

الذي رواه لنا أهل البيت عن جبرئيل عن الباري والذي ليس فيه «الصلاة خير من النوم».

لكنّ عمر بن الخطّاب لمّا استتّب له الأمر ، سعى لتطبيق ما يرجوه ، فحذف الحيعلة الثالثة وأبدلها بالصلاة خير من النوم ، وهو الواقع الذي رواه الأعلام من المسلمين :

قال سعد التفتازاني في حاشيته على شرح العضد ، والقوشجي في شرح مبحث الإمامة وغيرهم : إنّ عمر بن الخطاب خطب الناس وقال : أيها الناس ، ثلاث كُنَّ على عهد رسول الله أنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهن ، وهي : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل (١).

وقال الحافظ العلوي : أخبرنا محمّد بن طلحة النعالي البغدادي ، حدثنا محمّد بن عمر الجعابي الحافظ ، حدّثنا إسحاق بن محمّد [بن مروان] ، حدّثنا أبي ، حدّثنا المغيرة بن عبد الله ، عن مقاتل بن سليمان ، عن عطاء ، حدّثنا أبي [السائب بن مالك] عن عمر أنّه كان يؤذن بحيّ على خير العمل ، ثمّ ترك ذلك وقال : أخاف أن يتكل الناس (٢).

وجاء في كتاب الاحكام ـ من كتب الزيدية ـ : قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه : وقد صحّ لنا أنّ «حيّ على خير العمل» كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤذن بها ولم تطرح إلّا في زمن عمر بن الخطاب ، فإنّه أمر بطرحها وقال : أخاف أن يتّكل الناس عليها ، وأمر بإثبات «الصلاة خير من النوم» مكانها.

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٧٤ ، كنز العرفان ٢ : ١٥٨ ، الغدير ٦ : ٢١٣ ، والبياضي في الصراط المستقيم ٣ : ٢٧٧ عن الطبري في المسترشد : ٥١٦.

(٢) الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي ، بتحقيق عزّان : ٩٩ ، وانظر : صفحه ٦٣ منه.

٢٨٣

قال يحيى بن الحسين رضي الله عنه : والأذان فأصله أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عُلِّمهُ ليلة المسرى ، أرسل الله إليه ملكاً فعلّمه إيّاه ، فأما ما يقول به الجهال من أنّه رؤيا ... (١).

وعن نافع ، عن ابن عمر : أنّه كان يؤذن فيقول : حيّ على خير العمل ، ويقول كانت في الأذان فخاف عمر أن ينكل الناس عن الجهاد.

وعن الباقر قال ، كان أبي عليّ بن الحسين يقول إذا أذّن : حيّ على الفلاح ، حيّ على خير العمل. قال : وكانت في الأذان ، وكان عمر لمّا خاف ان يتثبط الناس عن الجهاد ويتكلوا ، أمرهم فكفوا عنها (٢).

وعن الإمام زيد بن عليّ : أنّه قال : ممّا نقم المسلمون على عمر أنّه نحى من النداء في الأذان حيّ على خير العمل ، وقد بلغت العلماء أنّه كان يؤذّن بها رسول الله حتّى قبضه الله عزّ وجلّ ، وكان يؤذن بها لأبي بكر حتّى مات ، وطرفاً من ولاية عمر حتّى نهى عنها (٣).

وعن جعفر بن محمّد قال : كان في الأذان حيّ على خير العمل ، فنقصها عمر (٤).

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : كان الأذان بحيّ على خير العمل على عهد رسول الله ، وبه أمروا أيّام أبي بكر وصدراً من أيّام عمر ، ثمّ أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة ، فقيل له في ذلك فقال : إذا سمع الناس أنّ الصلاة

__________________

(١) الإحكام ١ : ٨٤.

(٢) انظر : الأذان بحيّ على خير العمل : ٧٩.

(٣) الاذان بحي على خير العمل : ٢٩ ـ ٣٠ وهامش السنه للإمام زيد : ٨٣.

(٤) النصوص عن ابن عمر والباقر ، وزيد ، وجعفر بن محمد موجودة في الأذان بحيّ على خير العمل ، للحافظ العلوي بتحقيق عزّان : ٦٣.

٢٨٤

خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلفوا عنه. وروينا مثل ذلك عن جعفر بن محمّد ، والعامة تروي مثل هذا ... (١)

وروى القاضي زيد الكلاري في شرح التحر ير ، عن الإمام القاسم بن إبراهيم أنّه قال : فأمّا «حيّ على خير العمل» فكانت في الأذان ، فسمعها عمر يوماً فأمر بالإمساك فيه عنها وقال : إذا سمعها الناس ضيّعوا الجهاد لموضعها واتّكلوا عليهـا (٢).

وقال في المنتخب : وأمّا «حيّ على خير العمل» فلم تَزَل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم‌حتّى قبضه الله عزّوجلّ ، وفي عهد أبي بكر حتّى مات ، وإنّما تركها عمر وأمر بذلك ، فقيل له : لم تركتها؟

فقال : لئلّا يتّكل الناس عليها ويتركوا الجهاد (٣).

وعن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ ، قال : لم يَزَل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤذن بحيّ على خير العمل حتّى قبضه الله ، وكان يؤذّن بها في زمن أبي بكر ، فلمّا ولي عمر قال : دعوا «حيّ على خير العمل» لا يشتغل الناس عن الجهاد ، فكان أوّل من تركها (٤).

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١٤٢ ، بحار الأنوار ٨١ : ١٥٦. وجاء في كتاب الايضاح للقاضي نعمان المتوفى ٣٦٣ هـ والمطبوع في (ميراث حديث شيعه) ١٠ : ١٠٨ : .. فقد ثبت انه اذن بها على عهد رسول الله حتى توفاه الله تعالى وان عمر اقطعه وقد يزيد الله في فرائض دينه بكتابه وعلى لسان نبيه ما شاء لا شريك له وانا ذاكر ما جاءت به الرواية من الأذان بحي على خير العمل ـ وبدأها بهذا الخبر ـ : في كتب ابن الحسين علي بن فرسند [ورسند] روايته عن احمد عن الحسين عن لولو عن بشر عن ابي جعفر محمد بن علي قال : اسقط عمر من الأذان حي على خير العمل فنهاه علي فلم ينته.

(٢) الأذان بحيّ على خير العمل بتحقيق عزّان : ١٥٣.

(٣) الأذان بحيّ على خير العمل بتحقيق عزّان : ١٥٣. وانظر الايضاح للقاضي نعمان : ١٠٨.

(٤) الأذان بحيّ خير العمل ، للحافظ العلوي بتحقيق عزّان : ٦٣ ـ ٦٤.

٢٨٥

وقال الفضل بن شاذان (المتوفّى ٢٦٠ هـ) مخاطباً أهل السنّة : ... ورويتم عن أبي يوسف القاضي ـ رواه محمّد بن الحسن عن أصحابه ـ وعن أبي حنيفة ، قالوا : كان الأذان على عهد رسول الله وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر يُنادى فيه «حيّ على خير العمل».

فقال عمر بن الخطاب : إنّي أخاف أن يتّكل الناس على الصلاة إذا قيل : «حيّ على خير العمل» ويَدَعُوا الجهاد ، فأمر أن يطرح من الأذان «حيّ على خير العمل» (١).

إنّ كل هذه النصوص دالّة على أنّ إسقاط «حيّ على خير العمل» من الأذان كان في عهد عمر بن الخطّاب ، وأنّ الصحابة كانوا قد أذّنوا بها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى عهد أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر ، وأنّ عمر سمعها يوماً فأمر بالإمساك فيه عنها وقال : إذا سمعها الناس ضيّعوا الجهاد.

إنّ عمر نفَّذَ في أثناء تسلّمه أزمّة الأمور ما كان يطمح إليه من حذف «حيّ على خير العمل» التي كانت في أذان المسلمين ، وقد سمعت أنّ مما نقمه المسلمون على عمر حذفه «حيّ على خير العمل».

ويبدو أنّه لم يتسنَّ لعمر أن يحذفها بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة وإن حاول ذلك ، وكان الجهاد قائماً على سوقه أيضاً ، لكنّه نجح في ذلك عند استلامه الخلافة مسكتاً المعارضين بالقوة والشدة المعهودتين منه.

ومن هنا تعرف أنّ المقصود من كلمة بلال «لا أوذّن لأحد بعد رسول الله» أنّها تعني : أنني لا أوذّن لأحد اغتصب الخلافة ظلماً بعد رسول الله ، ومن جدّ في حذف ما يدل على الإمامة والولاية وإسقاطها من الأذان (٢).

__________________

(١) الايضاح : ٢٠٦ وراجع كتاب العلوم ١ : ٩٢ والاعتصام بحبل الله المتين ١ : ٢٩٦ ، ٢٩٩ ، ٣٠٤.

(٢) هذا ما سنبحثه في الفصل القادم «حي على خير العمل دعوة إلى الولاية».

٢٨٦

وبهذا فليس هناك تخالف بين مارواه أبو بصير وما قالته الشيعة ـ بفرقها الثلاث ـ وذلك للدور الذي لعبه عمر بن الخطاب إبّان عهد الخليفة الأوّل في رسم الخطوط العامة للحكم الذي يرتضيانه ، إذ أقرّ تلك التطلعات بعد بسط نفوذه في خلافته ، ممّا دعا بلالا الى أن يترك الأذان ويقـول : «لا أوذّن لأحد بعد رسـول الله».

وخلاصة القول : أنّ الحيعلة الثالثة «حيّ على خـير العـمل» كانـت على زمن رسـول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزمن أبي بكـر ، وصـدراً من خلافـة عمـر ، ثـمّ حذفـها عمـر في أيّام حكومته ، وأنّه كان يقصـد إلى ذلك منـذ حـروب الـردة ، ثـمّ أراد تطبيقها بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّه اصطدام بمعارضة بلال مؤذن النـبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الـذائـع الصِّيت ، الذي رفض أنْ يـؤذن لرمـوز الخلافـة المغتصـبة ، فأبعدوه وأبدلوه بسعد القرظ ، فتسنى لهم ما أرادوا من بعد ، فتمهّدت لهم الأرضية لذلك بعد إقصاء بلال عن منصبه الذي وضعه فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد دلّـت كلّ النصـوص والأحداث التاريخية على أنّ حذفها كان في حكومة عمر ، ودلَّ خبرُ أبي بصير عن أحد الصادقَين ـ الذي صدّرنا هذا الفصل به ـ على أنّ عمر كان قاصـداً هذا القصد من قبل ، ثمّ نفّـذهُ في أيّام اسـتخلافه.

هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ـ كما ستعرف في الباب الثاني «الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة» ـ أنّ إضافة «الصلاة خير من النوم» أيضاً كانت من مبتكرات عمر بن الخطاب ، الذي رفع الحيعلة الثالثة وجعل مكانها «الصلاة خير من النوم» فسار الأمويّون والمجتهدون من بعده على مساره ، وأحكموا ما ذهب إليه عمر ، حتّى صار في العصور اللاحقة تلازم بين إثبات الحيعلة الثالثة ورفض التثويب عند نهج التعبد ، وفي المقابل. ثمّة تلازم بين حذف الحيعلة الثالثة واثبات التثويب عند نهج الاجتهاد والحكومات. وقد تطور الأمر ـ كما سيأتيك ـ إلى أن صار ذلك شعاراً سياسيّاً لكل من طرفَي النزاع.

٢٨٧

وفي هذا المقام نلحظ ما رواه زيد النرسي ـ في أصله ـ عن أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام ، حيث قال : «الصلاة خير من النوم» بدعة بني أمية ، وليس ذلك من أصل الأذان» (١) ، فإن الإمام الكاظم كان ناظراً إلى استفحال هذا التثويب وشيوعه واتخاذه طابع العموم والانتشار في زمن بني أميّة الذين ساروا في هذا المجال على خطى عمر بن الخطاب ، وأ يّدوا نهج الاجتهاد والرأي في مقابل نهج التعبد المحض ، وبذلك لا يكون ثمة تخالف بين القول بأنّها بدعة وضعت في عهد عمر بن الخطـاب والقول بأنّها بدعـة أمويـة ؛ لأن الثانـية حكّمـت ما شـرّع في عهد الشيخين.

وبعد هذا نتساءل : هل تصحّ هذه العلّة «أي علّة الخوف من ترك الناس للجهاد» لحذف هذا الفصل من فصول الأذان ، أم أنّ هناك دافعاً آخر وراء هذا الأمر؟ هذا ما سنوضحه في الفصل اللاحق.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٤ : ٤٤.

٢٨٨

الفصل الثالث

حيّ على خير العمل

دعوة إلى الولاية ،

وبيان لأسباب حذفها

٢٨٩
٢٩٠

ذكرت كتب الحديث والتاريخ أنّ لـ «حيّ على خير العمل» مَعنَيَين : ظاهريّ وباطنيّ :

أمّا المعنى الظاهري لجملة «حيّ على خير العمل» فهو : أنّ خير الأعمال الصلاة والدعوة إلى إتيانها ، وهذا هو الفهم الاوّلي المتبادر للذهن.

وتدلّ عليه رواية الصدوق في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا فيما رواه من العلل عن الإمام الرضا عليه‌السلام ... فقال : أخبِرني عن الأذان ، لِم أُمروا به؟

قال : لعلل كثيرة ، منها : أن يكون تذكيراً للساهي ، وتنبيهاً للغافل ، وتعر يفاً لمن جهل الوقت ... إلى أن يقول : فجعل النداء إلى الصلاة في وسط الأذان ، فقدّم قبلها أربعاً : التكبيرتين والشهادتين ، وأخّر بعدها أربعاً : يدعو إلى الفلاح حثاً على البر والصلاة ، ثمّ دعا إلى خير العمل مرغّباً فيها وفي عملها وفي أدائها ، ثمّ نادى بالتكبير والتهليل ليتمّ بعدها أربعاً ... (١).

أما المعنى الباطني المكنون ـ الذي يعرفه أهل البيت ومن نزل في بيوتهم الكتاب والوحي ـ فهو ما رواه الصدوق في معاني الأخبار وعلل الشرائع ، بإسناده عن محمّد بن مروان ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : أتدري ما تفسير «حيّ على خير العمل»؟

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٥٩ الباب ١٨٢ ، عيون أخبار الرضا ٢ : ١٠٣.

٢٩١

قال ، قلت : لا.

قال : دعاك إلى البرّ ، أتدري بِرُّ مَن؟

قلت : لا.

قال : دعاك إلى برِّ فاطمة وولدها (١).

وقال الحافظ العلوي : أخبرنا محمّد بن أحمد قراءة ، أخبرنا محمّد بن أبي العبّاس الوراق في كتابه ، أخبرنا محمّد بن القاسم ، حدّثنا حسن بن عبدالواحد ، حدّثني حرب بن حسن ، حدّثنا الحارث بن زياد ـ يعني الطحان ـ حدّثنا محمّد بن مروان ، قال : سمعت أبا جعفر وسأله رجل عن تفسير الأذان قال ، فقال له : الله أكبر ، قال : فهو كما قال الله أكبر من كلّ شيء ... حتّى بلغ : حيّ على خير العمل ، قال : أمّا قوله : حيّ على خير العمل ، قال : فأمرك بالبر ، تدري برّ مَن؟

قال الرجل : لا.

قال : بر فاطمة وولدها (٢).

وفي خبر آخر عن الصادق عليه‌السلام : سئل عن معنى «حيّ على خير العمل». فقال : خير العمل الولاية (٣).

هذا وقد علّل الإمام الكاظم سببَ حذف عمر بن الخطاب لهذه العبارة من الأذان بسبيين : ظاهري وباطني.

إذ روى الصدوق في كتاب علل الشرائع بسنده الحسن بل الصحيح عن ابن أبي عمير أنّه سأل أبا الحسن (الكاظم) عن «حيّ على خير العمل» لِمَ تركت من الأذان؟

__________________

(١) معاني الاخبار : ٤٢ ، علل الشرائع : ٣٦٨ الباب ٨٩ ، وعنهما في بحار الأنوار ٨١ : ١٤١.

(٢) الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي بتحقيق عزّان : ١٣٥ الحديث ١٦٩.

(٣) التوحيد للصدوق : ٢٤١ ، وعنه في بحار الانوار ٨١ : ١٣٤.

٢٩٢

قال : تر يد العلة الظاهرة أو الباطنة؟

قلت : أريدهما جميعاً.

فقال : أمّا العلة الظاهرة فلئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة ، وأمّا الباطنة فإنّ «خير العمل» الولاية ، فأراد مِن أمره بترك «حيّ على خير العمل» من الأذان أن لا يقع حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها (١).

فما وجه الترابط بين الصلاة والدعوة إلى برّ فاطمة وولدها؟

بل ما يُعنى بمجيء الولاية وبرّ فاطمة وولدها في الأذان للصلاة؟

وهل حقاً أنّ جملة «خير العمل» هي الولاية أم أنّها : الصلاة ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ .. وهل هناك تناف بين الرؤ يتين.

وهل يصحّ مضمون الرواية القائلة بأنّ عمر أراد من أمره بتركها أن لا يقع حثٌّ على الولاية ودعاءٌ إليها؟ أم هناك شيء آخر؟

وما هي المقدّمات التي تساعدنا على تفهّم مقصود الإمام أبي الحسن الكاظم في علّة حذف عمر بن الخطاب لعبارة «حيّ على خير العمل».

بل بماذا تفسّر الشيعة هذه المقولة وما جاء عن أبي جعفر الباقر بأن الإسلام بُني على خَمس : الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والولاية ، ولم يُنادَ بشيء كما نُودي بالولاية (٢).

بل كيف تكون الولاية أهمّ من كلّ شيء؟ وهل هي أهمّ من الشهادتين كذلك؟ ولماذا تُرجع الشيعة كلَّ شيء إلى الولاية؟

إنّ أئمّة أهل البيت قد أجابوا عن هذه التساؤلات ، وأنّ المعنيّ عندهم بـ «ما

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٦٨ العلة ٨٩. وعنه في بحار الأنوار ٨١ : ١٤٠.

(٢) المحاسن ١ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦ باب الشرايع ، والكافي ٢ : ١٨ باب دعائم الإسلام ح ١ و ٣ و ٨.

٢٩٣

نُودي بشيء كالولاية» وأمثالها لا يعني أنّها أهم من الشهادتين ، بل إنّ أمر الشهادتين مفروغ منه ؛ لأن الإمام قال : (بني الإسلام على خمس) ومعناه : أنّ الإسلام المؤلّف من الشهادتين قد بني على خمس : الصلاة ، الصوم ، الزكاة ، الحج ، الولاية ، وأن الولاية أفضلها ، وما نودي بشيء كالولاية ، لكون الإمامة امتداداً للنبوّة ، لا أنّها قبال النبوة والتوحيد ـ كما يصوّره البعض ـ فلا يمكن معرفة الله إلّا بالنبي ، ولا يمكن معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والله جل جلاله معرفةً مقبولة صالحة إلّا بالإمام المفترض طاعته ، وهذا ما وضّحته كتب الإمامية ، وأشار إليه العلماء في كتبهم الكلامية.

إذ الاعتقاد بالإمامة لا يُترك بحال ، فهي ليست كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ التي قد يرخّص في تركها في ظروف خاصة ؛ فالحائض مثلاً تترك الصلاة ، والمر يض معفوّ عن الصوم ، والزكاةُ والحجّ ساقطان عن الفقير ، أما الولاية فهي واجبة على المكلّف سواء كان صاحياً أم مر يضاً ، وذا مال أو معسراً (١) و ... لأنّها من الأصول التي يبتني عليها قوام الشر يعة ، وبها تقام الأحكام ، وقد مرّ عليك كلام الإمام الزيدي يحيى بن الحسين ـ في كتابه الأحكام ـ عن الأذان ، وأنّه من أصول الدين ، إشعاراً منه بمكانة هذه الشعيرة وما تحمله من مفاهيم وأفكار.

فالأذان وإن كان من شعائر الدين ، لكنّ فصوله تنطوي على أهم أصول الدين ، والاعتقاد بالإمامة عندنا من أصول المذهب ، وقد وضّح الإمام الباقر عليه‌السلام

__________________

(١) جاء في الخصال : ٢٧٨ ح ٢١ باب الخمسة بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : بني الإسلام على خمس : اقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان ، والولاية لنا أهل البيت ، فجعل في أربع منها رخصة ، ولم يجعل في الولاية رخصة. من لم يكن له مال لم تكن عليه الزكاة ، ومن لم يكن له مال فليس عليه حج ، ومن كان مريضاً صلى قاعداً وافطر شهر رمضان ، والولاية صحيحاً كان أو مريضاً أو ذا مال أو لا مال له فهي لازمه».

٢٩٤

مكانة الإمامة بين العبادات الخمس ، وقد سأله عنها زرارة بقوله : وأيّ شيء من ذلك أفضل؟

قال : الولاية أفضل ؛ لأنّها مفتاحهنّ ، والوالي هو الدليل عليهنّ ـ إلى أن قال ـ إنّ أفضل الأشياء ما أنت عليه إذا فاتَكَ لم يكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤدّيه ...

وعليه فمبحث الإمامة والولاية من المسائل المهمة والمختلف فيها بين المسلمين ، بل من المسائل المتجذرة في تاريخ الإسلام ، وقد كتب فيها الأعلام مصنفات كثيرة ولا يسع هذه الدراسة الإحاطة بجوانبها ، لكننا نكتفي بالإشارة إلى قليل من مجموع مئات الأدلّة المستدلّ بها على الإمامة ، نأتي بها كي نوضّح معنى ومقصود الإمام الكاظم ، وكيف : أنّ الولاية خير من الجهاد والصلاة وسواهما.

بعض أدلّة الولاية

وليكن الكلام أولاً عن آية المودّة ؛ مفهومها ومعطياتها ، وهل تعني المحبة كما يقولون أم تعني شيئاً أكثر من مجرّد المحبة؟

بل هل هناك اختلاف بين قوله : (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ، وقوله : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟

وعلى أيّ شيء تدل هذه الآية الأخيرة بالتحديد؟

وهل يعقل أن يحصر شخصٌ رساليٌّ عظيم كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجرَ رسالته ـ الّتي ما أوذي نبي مثل ما أوذي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عليها ـ بحبّ أقربائه وعشيرته؟

وهل إنّ قرار الرسول هذا جاء لتحكيم أسرته وعشيرته وتقوية الروح القبلية والنزعة العشائر ية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية ـ والعياذ بالله ـ؟

أم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد بذلك أموراً أخرى تعبّر عن إرادة السماء؟

٢٩٥

ثمّ مَن هم أقرباؤه المعنيّون في هذه الآية؟

المعلوم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوجب مودّة قرباه لا لتعظيم الجانب القبلي والعشائري ، إذ الثابت عن رسالة السماء أنّها تخالف هذه النزعة الجاهلية الضيّقة ؛ حيث ذمّ الباري عمَّ النبيّ وزوجة عمّه في سورة نزلت في عمّ رسول الله ، أبي لهب ، دون اعتبار لنسبه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

إذاً لا يكون المعنيُّ بالقربى عشيرته وأقرباءَه بما هم أقرباؤه وعشيرته ، بل المعنيّ بذلك فئة خاصة منهم ، لهم سمات وخصائص تجعلهم أمناء على دين الله وواسطة للفيض الإلهي ، وهؤلاء هم الصادقون والمطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وقد نوّهنا بطرف من منزلتهم فيما مضى.

إذ لا يعقل أن يأمر اللهُ ورسولُه المؤمنين بالتودّد إلى مَن ليس بأهل للمودّة ، وإلى من هو منحرف عن الجادة ـ والعياذ بالله ـ بل إنّ أمره بالتودد إليهم يشير إلى أنّ لهؤلاء القربى خصائص يتميّزون بها ليست للآخرين ، كالعلم والفضل والتقوى والصبر و ... وهذه المقوّمات هي التي جعلت من هؤلاء قدوة ، وقد عرّفهم سبحانه في آية التطهير وحصرهم بمن تحت الكساء وهم بعد النبيّ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ وفاطمة والحسن والحسين.

من يعرف الدين الإسلامي يعلم بأنّ الإسلام يهتم بالقيم والمثل لا العلائق والاتجاهات القبلية والعشائر ية ، فقد جعل رسولُ الله سلمانَ الفارسي من أهل بيته لما امتلكه من مؤهّلات وخصائص ذاتية ومعنوية مع عدم امتلاكه أي علائق مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوجهة القبلية والإقليمية.

قال أبو فراس في هذا المعنى من النَّسب الإيماني :

كانت مودّةُ سلمان لَهُ رحماً

ولم يكن بَينَ نوح وابنِهِ رَحِمُ

٢٩٦

المسألة إذاً أعظم مما تُصوِّره مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي من أن الآية تعني المحبّة بما هي محبة مجرّدة ، وأنّ رسول الله أراد الاهتمام بعشيرته وأقربائه وذويه ، بل إنّ آية المودّة تشير إلى مبدأ آخر واضح للمفكّر اللّبيب ، لأنّ الشارع لا يأمر بمحبة من هو ليس بأهل أو بمحبة الفاسق والفاجر ـ والعياذ بالله ـ بل سبحانه يأمر بمودّة من له خصوصية أن يكون واسطة للفيض الإلهي وصيانة الأحكام ، وإجراء الحدود على وجهاتها الصحيحة ، وحفظ الثغور ، وتقسيم الفيء ، وردّ الشبهات ، وغيرها من مستلزمات صيانة الدين الحنيف وحفظه ، وهو دليل على سلامة القربى المعنيين في الآية من العيب والنقص ، إذ جعلهم عِدلاً للقرآن الذي لا يأتيه ريب ، وعلّق أجر رسالته ـ التي لاقى الصعاب من أجلها ـ على مودتهم.

قال الزمخشري في الكشاف بعد طرحه سؤالاً وجوابه : وروي أنّها لمّا نزلت ، [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : عليّ وفاطمة وابناهما. ويدل عليه ما روي عن عليّ رضي الله عنه : شكوت إلى رسول الله حسد الناس لي ، فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنَّة ، أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذر يّتنا خلف أزواجنا (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حرمت الجنَّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومَن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبدالمطّلب ، ولم يُجازِه عليها ، فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة (٢).

__________________

(١) انظر : فضائل الصحابة ، لأحمد بن حنبل ٢ : ٦٢٤ ح ١٠٦٨ وفيه زيادة : وشيعتنا من ورائنا.

(٢) انظر : مسند زيد بن علي : ٤٦٣ و ٤٦٦ الباب ٤ في فضل الحسنين (نشر دار الحياة) وهذا المطلب غير موجود في ما اعتمدناه في تخريج الروايات عن مسند زيد ، فانه ينتهي إلى آخر كتاب الفرائض ، وهو من منشورات دار الكتب العلمية.

٢٩٧

وروي أنّ الأنصــار قالوا : فَعَلنا وفَعَلنا ؛ كأنّهم افتـخـروا. فـقـال عبّـاس ـ أو ابن عبّاس رضي الله عنهما ـ : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله فأتاهم في مجالسهم ، فقال : يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله بي؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : ألم تكونوا ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : أفلا تجيبوني؟

قالوا : ما نقول يا رسول الله؟

قال : ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذّبوك فصدّقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟

قال : فما زال يقول حتّى جَثَوا على الرُّكَب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله ، فنزلت الآية وقال رسول الله :

من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يُزَفّ إلى الجنَّة كما تُزَف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فُتح له في قبره باباً إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه «آيس من رحمة الله» ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يَشمَّ رائحة الجنّة» .... (١)

__________________

(١) تفسير الكشاف ٣ : ٤٠٣ ، وفي تفسير القرطبي ١٦ : ٢١ ـ ٢٣ في ذيل الآية حكى عن الثعلبي هذه

٢٩٨

وقد نقل الرازي كلام الزمخشري في تفسيره معلقاً عليه بقوله :

وروى صاحب الكشّاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، مَن قرابَتُك هؤلاء الذين وَجَبت علينا مودّتُهم؟

فقال : علي وفاطمة وابناهما.

فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي ، وإذا ثَبَت هذا وجب أن

الرواية فذيّله بـ (ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له من شفاعتي). يكونوا مخصوصين بمزيدِ التعظيم ، ويدل عليه وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شكّ أنّ النبي كان يحبّ فاطمة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاطمةُ بضعةُ مِنّي يُؤذيني ما يُؤذيها ، وثبَت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين.

وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله ؛ لقوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ، ولقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ، ولقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، ولقوله سبحانه : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

الثالث : إن الدعاء للآل مَنصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد».

وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أن حبّ آل محمد واجب ، وقال الشافعي رضي الله عنه :

الرواية فذيّله بـ (ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له نم ضفاعتي).

٢٩٩

يا راكباً قِف بالُمحصَّبِ مِن مِـنى

واهتُفْ بساكنِ خِيفها والناهضِ

سَحَراً إذا فاضَ الحجيجُ إلى مِنى

فَيضاً كمُلْتَطَمِ الفراتِ الــفائضِ

إنْ كـانَ رَفـضـاً حُـبُّ آل محــمـد

 فَلْيَــشهدِ الثّــقلاَنِ أنّي رافـضي (١)

 ولو تدبّرت في خبر أبي عبيدة عن الإمام الصادق ـ والمروي في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ـ لعرفت مزيّة فاطمة الزهراء على عائشة وعلى غيرها من نساء النبيّ ، قال الصادق عليه‌السلام : كان رسول الله يكثر تقبيل فاطمة عليها‌السلام ، فغضبت من ذلك عائشة ، وقالت يا رسول الله : إنك تكثر تقبيل فاطمة! فقال رسول الله :

يا عائشة ، إنه لمّا أسري بي إلى السماء دخلتُ الجنّة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته ، فلما هبطت إلى الأرض ، حوّل الله ذلك ماءً في ظهري ، فلمّا هبطتُ إلى الأرض فواقعتُ بخديجة فحملت بفاطمة ، فما قبّلتها قطّ إلّا وجدت رائحة شجرة طوبى منها (٢).

وحسـب هذا دليلاً لمعرفـة صحة ما نقول من أنّ مـودّتها ميزان للإسـلام والإيمان.

وعليه ، فالأجر على الرسالة لابدّ أن يرتبط بأصل الرسالة ، ولا معنى لما يقال من إرادة التودّد العاطفي البحت لذوي القربى ، بل المعنيّ به هو أنّ هذه النخبة الصالحة هي التجسيد الواقعي للدين وصمّام الأمان للرسالة ، وأنّ التودّد إليهم سيعود بالنفع على الناس قبل النفع على القربى ، لأنّها لا تزيد القربى مقاماً ومنزلة إذ منزلتهم محفوظة من عند الله ، فهم مستودع العلم وظرف الرسالة ، وهذا ما

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي ٢٧ : ١٦٦ ، وديوان الشافعي : ٨٤.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم كما في نور الثقلين ٣ : ١٣١ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٢ ، وانظر : الدّر المنثور ٤ : ١٥٣ والمستدرك للحاكم ٣ : ١٥٦ ، والمناقب لابن المغازلي : ٣٥٧ ، وتاريخ الخميس ١ : ٢٧٧.

٣٠٠