موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

القسم الأوّل

اتّفاق الفريقين على أصل شرعيّتها

من الثابت المسلّم الذي لا يقبل الشكّ هو ثبوت جزئيّة «حيَّ على خير العمل» في الأذان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّها مضافاً إلى وجودها في روايات الإمامية الاثني عشرية وفي روايات الزيدية والإسماعيليّة ، رواها أهل السنة والجماعة بطرقهم ، وأنّ بلالاً كان يؤذّن بها في الصبح خاصّة ، بل كان جمّ غفير من الصحابة يؤذّنون بها.

وحكي عن بعض أئمّة المذاهب الأربعة أنّهم قالوا بالتأذين بها ، لكنّ عامّتهم ادّعوا أنّ رسول الله أمر بلالاً بحذفها من الأذان ووضع مكانها جملة «الصلاة خير من النوم».

من هذا يتبيّن أنّهم لا ينكرون شرعيّتها في مبدأ الأمر ، لكنّهم يقولون بنسخها ، فما هو الناسخ إذاً؟ ولِمَ تُنسخُ هذه الجملة بالخُصوص من الأذان؟

للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من ملاحظة أنّ أهل السنّة والجماعة انقسموا ـ في هذه المسألة ـ إلى فريقين ؛ فمنهم من قال إنّ الناسخ هو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبلال : «اجعل مكانها الصلاة خير من النوم» (١) ، في حين لم يَرَ الفريقُ الآخر منهم بُدّاً من السُّكوت عن بيان الناسخ ؛ لضعف تلك الأخبار وعدم دلالتها على المقصود ، بل

__________________

(١) انظر : مجمع الزوائد ١ : ٣٣٠ ، «وفيه : «رواه الطبراني في الكبير ، وفيه عبدالرحمن بن عمّار بن سعد وقد ضعّفه ابن معين». والجدير بالذكر أن المتّقي الهندي ذكر رواية الطبراني في كنز العمال ٨ : ٣٤٢ ح ٢٣١٧٤ بعد ذكر إسنادها قال : كان بلال يؤذّن بالصبح فيقول : حيَّ على خير العمل ، ولم يذكر فيه : «اجعل مكانها الصلاة خير من النوم».

١٨١

لاحتواء تلك الأسانيد على وقفات علميّة ؛ سَنَديّة ودلاليّة ، يجب بيانها إن اقتضى الحال.

قال السيّد المرتضى في الانتصار : وقد روت العامّة أنّ ذلك [أي «حيّ على خير العمل»] مما كان يقال في بعض أيام النبيّ ، وإنّما ادّعي أن ذلك نُسخ ورُفع ، وعلى مَن ادّعى النسخ الدلالة له ، وما يجدها (١).

وقال ابن عربي في الفتوحات المكية : ... وأمّا من زاد في الأذان حيَّ على خير العمل فإن كان فُعل في زمان رسول الله ـ كما روي أنّ ذلك دعا به في غزوة الخندق ؛ إذ كان الناس يحفرون ، فجاء وقت الصلاة وهي خير موضوع كما ورد في الحديث ، فنادى المنادي أهل الخندق «حيَّ على خير العمل» ـ فما أخطأ مَن جعلها في الأذان ، بل اقتدى إن صحّ الخبر ، أو سنّ سنّة حسنة (٢).

وجاء في الروض النضير عن كتاب السنام ما لفظه : الصحيح أنّ الأذان شرّع بحيّ على خير العمل ، لأنّه اتُّفِق على الأذان به يوم الخندق ، ولأنّه دعاءٌ إلى الصَّلاة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «خير أعمالكم الصلاة» (٣). كما وردت روايات أخرى تفيد أنّ مؤذّني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم من الصحابة استمرّوا على التأذين بها حتّى ماتوا (٤).

وعليه فالفريقان شيعةً وسنةً متّفقان على ثبوت حكمها في الصدر الأوّل وعلى كونها جزء الأذان في بدء التشريع ، لكنّ أهل السنة والجماعة انفردوا بدعوى

__________________

(١) الانتصار ١٣٧ ، باب «وجوب قول حسّ على خير العمل في الأذان».

(٢) الفتوحات المكية ١ : ٤٠٠.

(٣) هذا ما حكاه عزّان محقّق كتاب (الأذان بحيّ على خير العمل) ١٢ عن الروض النضير ١ : ٥٤٢.

(٤) المصدر نفسه ٥٠ ـ ٥٦.

١٨٢

النسخ ، وهو كلام قُرِّر في العهود اللاحقة لأسباب تقف عليها لاحقاً.

فهذا الأمر يشير إلى أنّ شرعيتها وجزئيتها كانت ثابتة عند الفريقين من لدن عهد الرسول الأكرم ، ويضاف إلى ذلك أنّ الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية لهم طرقهم الخاصَّة والصَّحيحة وكُلُّها تُؤكّد ثبوتها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم نَسْخها في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، «وأنّ رسول الله أمَرَ بلالاً أنْ يُؤذّن بها فلم يَزَلْ يُؤَذِّنُ بها حتّى قَبَضَ اللهُ رَسولَهُ» (١).

وهذا نصّ صريح يدلّ على عدم نسخ «حَيّ على خير العمل» وعلى كونها جُزء الأذان حتّى قَبَضَ الله رسوله.

ويؤيِّد هذا المروي عندنا عن بلال ما رواه الحافظ العلوي الزيدي (٢) مسنداً إلى

.

__________________

(١) انظر : من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٨٤ / ح ٨٧٢ وعنه في وسائل الشيعة ٥ : ٤١٦ ، والاستبصار ١ : ٣٠٦ ح ١١٣٤ ، والأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي ٩١.

(٢) وهو أبو عبدالله محمد بن علي بن الحسن العلوي الشجري الكوفي (الإمام المحدّث الثقة العالم الفقيه مسند الكوفة) كما نصّ عليه الذهبي في العبر ٣ : ٢١٢ وسير أعلام النبلاء ١٧ : ٦٣٦ وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ٣ : ٢٧٤. مات بالكوفة في ربيع الأول سنة ٤٤٥ هـ ، ومولده في رجب سنة ٣٦٧ هـ.

قال ابن النرسي : ما رأيت من كان يفهم فقه الحديث مثلَه. وقال : كان حافظاً خرّج عنه الحافظ الصوري وأفاد عنه وكان يفتخر به (سير اعلام النبلاء ١٧ : ٦٣٦). وفي (طبقات الزيدية ٢ : ٢٩٢) : الثقة العابد مسند أهل الكوفة ، وقد ترجم له الطهراني في طبقات أعلام الشيعة (أعلام القرن الخامس ١٧٠ ـ ١٧٢).

له كتاب «فضل الكوفة» و «فضل زيارة الحسين» و «تسمية من روى عن الإمام زيد من التابعين» ، و «التاريخ» ، و «التعازي» وكتاب «الجامع الكافي» وقد جمعه من بضع وثلاثين كتاباً من كتب الإمام محمد بن المنصور المرادي الزيدي ، وهو من أجلّ ما كتب في الفقه ونصوص الأئمّة الزيديّة ، وفيه بحث الأذان. وله كتاب فلى انفراد باسم «الأذان بحيَّ على خير العمل» له طرق متعدّدة عند الزيديّة ، وقد أشار محمد يحيى سالم عزّان إلى بعض طرقه إلى هذا الكتاب في

١٨٣

أبي محذورة من أنَّ رسول الله علّمه الأذان ، وفيه التَّأذين بحيَّ على خير العمل (١).

ومن المعلوم أنَّ أبا محذورة تَعَلَّمَ الأذان من رسول الله ـ حسبما يقولون ـ في

__________________

مقدمة تحقيقه ص (٣٢) ، وكذا العلّامة السيّد محمّد بن حسين بن عبدالله الجلال ، حيث قال في آخر نسخته : يقول الفقير إلى الله المعترف بالذنب والتقصير محمد بن حسين بن عبدالله الجلال :

أروي كتاب «الأذان بحيَّ على خير العمل» من عدّة طرق عن مشايخي رحمهم الله بطريق الإجازة العامّة ، وأرويه عن سيّدي العلّامة قاسم بن حسين المغربي عن شيخه السيّد العلّامة عبدالكريم بن عبد الله أبو طالب عن شيخه العلّامة بدر الال ... إلى آخر مشايخه _ عن المؤلّف أبي عبدالله محمد بن عليّ الحسن بنقلي بن الحسين بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم جيعاً.

وقد طبع هذا الكتاب في اليمن في شهر صفر عام ١٣٩٩ ه ، السيّد يحيى عبد الكريم الفضل عن نسخة العلّامة الجلال. قال المحقق في مقدّمته للكتاب : وقد روى التأذين بـ «حي على خير العمل» ، أكثر من عشرة من الصحابة ، وجاءت رواية الأذان من أكثر من مائة طريق ، وكلّ منها بإسناد متصل (انظر : المقدمة ٥ _ ٤).

وقد نقل عن هذا الكتاب كثير من الأعلام أمثال الإمام القاسم بن محمّد في كتاب الاعتصام ، والشوكاني في نيل الأوطار ، وأخرج مسنده في كتابه (إتحاف الأكابر) ، ورواه وأخرج مسنده العلامة عبدالواسع الواسعي في كتابه (درر الأسانيد) وكذا العلام العلّامة محد الدين المؤيّد والعلّامة الجلال وغيرهم.

ومن المرسف أنّ النسخة المطبوعة التي بأيدينا مغلوطة ، ولم تُعرض وتابل مع نسخ خطية أخرى للكتاب ، وإن كتب على المطبوع حقّقه السيّد يحيى عبدالكريم الفضيل. ولأجله استعنت في بعض الأحيان تنسحة أخرى من تحقيق محمّد يحيى سالم عزّان ، وفي أحيان أخرى بكتاب الاعتصام بحبل الله المطبوق فيه كتاب الأذان بكامله. وقد أراني المحقّق الحجة السيّد محمد رضا الجلالي نسخة من كتاب (الأذان بحيّ على خير العمل) بخط العلّامة المحدّث السيّد محمد بن الحسين الجلال مجيزاً له رواية هذا الكتاب ، وقد أخبرني بأنه يعزم على تحقيقه وكبعه فسرّني عزمه على تحقيقه وطبعه فسرّني عزمه قلى تحقيقه آملين له التوفيق والسداد.

(١) انظر : «الأذان بحيّ على خير العمل» للحافظ العلوي ٢٦ _ ٢٧ ، ٢٩. وكذا : تحقيق عزّان ٥٠_٥٤.

١٨٤

أواخر السَّنَة الثامنة من الهجرة بعد رجوعه من حُنَين (١) ، ومعناه ثبوتُ حيّ على خير العمل وشرعيتُها حتّى ذلك التأريخ ، ولم يَأمر رسولُ الله بإبدالها بـ «الصلاة خير من النوم».

ويضاف إلى ذلك أنَّ رواية الحافظ العَلوي عن بلال تنفي الزيادة التي جاء بها الطـبراني والبيهـقي عنـه رضـوان الله تعالى عليه ؛ لأنَّ الحافظ العَلـوي كان قـد قال :

حدّثنا عليّ بن محمّد بن إسحاق المقري الخزّاز ، أخبرنا أبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي ، حدّثنا أبو بكر بن تومردا ، أخبرنا مسلم بن الحجّاج ، حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة ، حدّثنا معن بن عيسى ، حدّثنا عبدالرحمن بن سعد المؤذِّن ، عن محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر ، عن جدّه حفص بن عمر بن سعد ، قال : كان بلال يؤذِّن في أذان الصبح بحيَّ على خير العمل (٢).

في حين نرى نفس هذا الحديث قد ورد في الطبراني والبيهقي (٣) من طريق يعقوب بن حميد ، عن عبدالرحمن بن سعد [المؤذّن] ، عن عبدالله بن محمّد وعمر وعمّار ابنَي حفص ، عن آبائهم ، عن أجـدادهم ، عن بلال : أنّـه كان ينـادي بالصـبح فيقول : «حيَّ على خير العمل» ، إلّا أنّ فيما أخرجـه الطبراني والبيهقي زيادة :

فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل مكانها «الصلاة خير من النوم» وترك «حيَّ

__________________

(١) سبل السلام ١ : ١٢٠ ، كتاب المسند للشافعي ٣١ ، مسند أحمد ٣ : ٤٠٨ ، سنن النسائي ٢ : ٥.

(٢) الأذان بحيّ على خير العمل ٢٨. وبتحقيق عزّان ٥٦. والاعتصام بحبل الله ١ : ٢٩٠.

(٣) المعجم الكبير ١ : ٣٥٣ والنصّ عنه ، وفي السنن الكبرى ١ : ٤٢٥ وفيه قال الشيخ : هذه اللفظه لم تثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما علّم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق.

١٨٥

على خير العمل».

والمتأمِّل في رواية معن بن عيسى عن عبدالرحمن بن سعد التي أوردها الحافظ العلـوي يراهـا أوثـق من روايـة يعقـوب بن حمـيد التي أوردها الطـبراني والبيهـقي باتفاق الجمـيع ؛ لأنَّ معن بن عيسـى ثقـة ثبـت وكذا غـيره من رجال السـند.

وممّا يحبذ هنا هو أنّ نقوم بتحقيق بسيط عن رجال الإسنادين وما رَوَوه عن بلال وأبي محذورة ، واختلاف النقل عنهما ، كي نتعرف على ملابسات مثل هذه الأمور في الشر يعة والأحكام :

وقفة مع الحديثَين (١)

ذكرت كتب الحديث والتاريخ أسماء أربعة من الذين أذنوا على عهد رسول الله ، وهم :

١ ـ بلال بن رباح الحبشي

٢ ـ أبو محذورة القرشي

٣ ـ عبدالله بن أمّ مكتوم

٤ ـ سعد القرظ

وقد أذّن أبو محذورة بعد السنة الثامنة من الهجرة (١) ، وقيل بعد فتح مكّة (٢) ،

__________________

(١) أحدهما : الذي رواه الطبراني والبيهقي بإسنادهما عن عبدالرحمن بن سعد القرظ ، وفيه : كان بلال يؤذّن في أذان الصبح بحيّ على خير العمل ، وأنّ رسول الله أمره أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم ، وهو يخالف ما رواه الحافظ العلوي من طر يق مسلم بن الحجّاج والذي يخلو من هذه الزيادة. الثانية : حديث أبي محذورة المختلف فيه ، والذي رواه رجال الصحاح والسنن ليس فيه «حيّ على خير العمل» ، أمّا الحافظ العلوي وأحمد بن محمّد بن السري فقد رَوَياه وفيه التأذين بحيّ على خير العمل ، وهو الذي يتّفق مع مرويّات أهل البيت ، وعليه إجماع العترة حسبما ستعرف بعد قليل.

١٨٦

ونقل عن سعد القرظ أنّه كان يؤذّن بِقُبا (٣).

وربّما تكون روايات الأذان عند المذاهب الأربعة والاختلافات في فصوله وأعداده ، راجعـة إلى اختـلاف عمل هـؤلاء الصـحابة في الأذان أو اختلاف النـقل عنهـم ، مضـافـاً إلى ما جـاء عن عبد الله بن زيـد بن ثعلـبة بن عبد ربـه فيه.

فالاختلاف أمر ملحوظ في الأحاديث ، وقد يُنقَل عن الصحابي الواحد نقلان متخالفان ؛ فالتكبيرتان والأربع في أوّل الأذان مثلاً ورد كلّ منهما عن عبدالله بن زيد ، والتثويب وعدمه جاءا عن أبي محذورة ، واختص خبر الترجيع (٤) بأبي محذورة دون غيره من المؤذنين ، فما سبب كلّ هذا الاختلاف والكل ينسب فعله إلى الصحابة؟

«فمالك والشافعي ذهبا إلى أنّ الأذان مثنى مثنى والإقامة مرّة مرّة ، إلّا أنّ الشافعيّ يقول في أوّل الأذان (الله أكبر) أربع مرات ويرويها محفوظاً عن عبدالله بن زيد وأبي محذورة ، وهي زيادة مقبولة والعمل بها في مكّة ومن تبعهم من أهل الحجاز.

لكن مالكاً وأصحابه ذهبا إلى تثنية التكبير ، وقد رووا ذلك من وجوه صحاح من أذان أبي محذورة ومن أذان عبدالله بن زيد وعليه عمل أهل المدينة من آل سعد القرظ» (٥).

__________________

(١) سبل السلام ١ : ١٢٠ ، كتاب المسند للشافعي ٣١ ، مسند أحمد ٣ : ٤٠٨ ، سنن النسائي ٢ : ٥.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ٤٥٠.

(٣) تلخيص الحبير ٣ : ١٩٩ ، تهذيب الأسماء للنووي ١ : ٥٥.

(٤) الترجيع في الأذان هو تكرير الشهادتين جهراً ، هكذا فسره الصاغاني ، انظر : تاج العروس ٥ : ٣٥١.

(٥) انظر : فتح المالك ١ : ٧. وفتح الباري لابن رجب الحنبلي ٣ : ٤١٣.

١٨٧

واتفق مالك (١) والشافعي (٢) على الترجيع في الأذان ، لكن الحنابلة (٣) والأحناف (٤) قالوا : لا ترجيع في الأذان ، وكلٌ استند فيما ذهب إليه إلى نقله عن بعض الصحابة!!

قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله [يعني أحمد بن حنبل] يُسأَلُ : إلى أيّ الأذان يذهب؟ قال : إلى أذان بلال ...

قيل لأبي عبدالله : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبدالله بن زيد ؛ لأنّ حديث أبي محذورة بعد فتح مكّة؟

فقال : أليس قد رجع النـبيّ إلى المدينـة فأقرّ بلالاً على أذان عبد الله بن زيد (٥).

بلى ، إنّ فِعل الصحابي كان هو الحجة رغم الاختلافات ، لكن لنا أنّ نتساءل عن هذا الاختلاف هل أنّه حصل بالفعل في زمن الصحابي ، أم أنّه من صنع المتأخرين ، وما هي ملابسات هذه الأحاديث المختلفة؟ بل ما هي قيمة رجال إسنادها؟!

ونحن إيماناً بضرورة دراسة مثل هذه الأمور سلّطنا بعض الضوء على رجال خبري بلال وأبي محذورة.

فقد ادّعي في طريق الطبراني والبيهقي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لبلال : «اجعل مكانها الصلاة خير من النوم» ، مع أنّ هذه الزيادة غير موجودة في طريق الحافظ العلوي.

__________________

(١) فتح المالك ١ : ٨.

(٢) المجموع للنووي ٣ : ٩٠.

(٣) المغني لابن قدامة ١ : ٤١٦. فتح الباري لابن رجب ٣ : ٤١٤.

(٤) المبسوط للسرخسي ١ : ١٢٨ ، الهداية شرح البداية ١ : ٤١ باب الأذان.

(٥) المغني لابن قدامة ١ : ٤١٦ ـ ٤١٧.

١٨٨

وفي رواية أبي محذورة «فاجعل في آخرها : الصلاة خير من النوم» ، وهي أيضاً غير موجودة في طريق الحافظ العلوي.

فأيّ النقلين هو الصواب إذن؟!

مع ما رواه الطبراني والبيهقي عن بلال

قد مرّ عليك قبل قليل (١) ما رواه الطبراني عن شيخه محمّد بن عليّ الصائغ ، والبيهقي بإسناده عن أبي الشيخ الإصفهانيّ ـ في كتاب الأذان ـ عن محمّد بن عبدالله بن رسته ، كلاهما عن يعقوب بن حميد بن كاسب :

حدّثنا عبدالرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد القرظ ، عن عبدالله بن محمّد ، وعمر وعمّار ابنَي حفص ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال ...

وفي هذا الإسناد : يعقوب بن حميد بن كاسب ، فهو أبو يوسف ، مدنيّ الأصل ، مكيّ الدار ؛ هذا ما قاله ابن أبي حاتم الرازي ، ثمّ قال : سألت يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب ، فقال : ليس بشيء.

وقال أبو بكر بن خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول وذكر ابن كاسب ، فقال : ليس بثقه ، قلت : من أين قلت ذلك؟ قال : لأنّه محدود (٢).

قلت : أليس في سماعه ثقة؟ قال : بلى.

أخبرنا عبدالرحمن ، قال : سمعت أبي يقول : ضعيف الحديث.

أخبرنا عبدالرحمن قال : سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب ، فحرّك رأسه ، قلت : كان صدوقاً في الحديث ، قال : لهذا شروط. وقال في حديث رواه

__________________

(١) مَرَّ في صفحة : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) المحدود : من أقيم عليه الحدّ.

١٨٩

يعقوب : قلبي لا يسكن إلى ابن كاسب (١).

وقال أبو بكر : سمعت يحيى بن معين وذكر ابن كاسب يقول : ليس بثقة ، فقلت له : من أين قلت ذاك؟ قال : لأنّه محدود ، قلت : أليس هو في سماعه ثقة؟ فقال : بلى ، فقلت له : أنا أعطيك رجلاً تزعم أنّه وجب عليه حدٌّ وتزعم أنّه ثقة ، قال : من هو؟ قلت : خلف بن سالم ، قال : ذلك إنما شتم بنت حاتم مرّة واحدة ، وما به بأس لولا أنّه سفيه.

قلت لمصعب الزبيري : إنّ يحيى بن معين يقول في ابن كاسب : إنّ حديثه لا يجوز لأنّه محدود ، فقال : ليس ما قال ، إنما حدّه الطالبيّون في التحامل وليس حدود الطالبيين عندنا بشيء لجورهم ، وابن كاسب ثقة مأمون صاحب حديث ، أبوه مولى للخيزران ، وكان من أمناء القضاة زماناً (٢).

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : تفرّد بأشياء وله مناكير ، حدّث عنه البخاري وابن ماجة وعبدالله بن أحمد وإسماعيل القاضي ، وأبو بكر بن أبي عاصم وطائفة ، ذكره البخاري فقال : لم نرَ إلّا خيراً ، وقال أبو حاتم : ضعيف (٣).

وفي ميزان الاعتدال : قال البخاري : لم نرَ إلّا خيراً ، هو في الأصل صدوق وشذّ مضر بن محمّد الاسدي فروى عن ابن معين : ثقة ، وروى عبّاس عن يحيى : ليس بثقه (٤) ، فقلت : لم؟

قال : لأنّه محدود ...

والنسائي : ليس بشيء.

__________________

(١) الجرح والتعديل ٩ : ٢٠٦.

(٢) التعديل والتجريح للباجي ٣ : ١٤٢٥.

(٣) تذكرة الحفّاظ ٢ : ٤٦٦.

(٤) في تهذيب الكمال ٣٢ : ٣٢٢ عن عباس الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.

١٩٠

وأبو حاتم : ضعيف.

قال الذهبي : كان من علماء الحديث لكن له مناكير وغرائب ، وحديثه في صحيح البخاري في موضعين : في الصلح ، وفيمن شهد بدراً ...

قال الحلواني : رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه ، فسألته عنه ، فقال : رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها ، فطالبناه بالأصول فدافعنا ، ثمّ أخرجها بَعدُ فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيَّرة بخطِّ طَرِيّ ؛ كانت مراسيل فأسنَدَها وزادَ فيها (١).

وفي سير أعلام النبلاء :

«... وكان من أئمّة الأثر على كثرة مناكير له ـ إلى أنّ يقول ـ : وقال ابن عدي : لا بأس به وبرواياته ، هو كثير الحديث ، كثير الغرائب ، كتبت مسنده عن القاسم بن عبدالله عنه ، صَنّفه على الأبواب ، وفيه من الغرائب والنسخ والأحاديث العزيزة ، وشيوخ أهل المدينة ممّن لا يروي عنهم غيره ...» (٢).

وقال ابن حبّان في الثقات : مات سنة أربعين أو أحد وأربعين ومائتين ، كان ممّن يحفظ وممّن جمع وصنّف ، واعتمد على حفظه فربّما أخطأ في الشيء بعد الشيء ، وليس خطأ الإنسان في شيء يَهِمُ فيه ما لم يفحش ذلك منه بمُخْرِجِهِ عن الثقات إذا تقدّمت عدالته (٣).

قلت : كيف يقول ابن حبّان هذا وهو يعلم بأن الخدشة فيه جاءت لكونه محدوداً لا من جهة حفظه ؛ لأنّ الثابت عدم قبول شهادة الفاسق وخصوصاً لو أفحش في التحامل على أهل البيت ، وخصوصاً الإمام عليّ بن أبي طالب ، وهذا

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٧ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧. وانظر : الضعفاء الكبير للعقيلي ٤ : ٤٤٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ١١ : ١٥٨ وانظر : كلام ابن عدي في الكامل ٧ : ١٥١.

(٣) الثقات لابن حبّان ٩ : ٢٨٥.

١٩١

يشير إلى نصبه بلا أدنى شك ؛ لأنّ الطالبيين حدّوه لنصبه ، وقد وقفت على سرّ الحد لقول الزبيري «إنّما حده الطالبيون في التحامل» وقول ابن معين في خلف بن سالم «... إنّما شتم بنت حاتم مرّة واحدة وما به بأس» ، وهما يرشدان إلى أنّ الخدشة جاءت فيه من هذه الجهة ، وهي فسق بلا شك ، لا من جهة نسيانه ، وكيف لا يكون فاسقاً غير معتمد الرواية وهو يغير الأصول ويسند المراسيل؟! أضف إلى كلّ ذلك أنّه كان «أبوه مولى للخيزران وكان من أمناء القضاة زماناً»؟

وأمّا عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذّن.

فقد قال ابن أبي حاتم عنه : سئل يحيى بن معين عن عبدالرحمن المؤذّن ، فقال : مديني ضعيف ؛ روى عن أبي الزناد (١).

وقال ابن حجر في تقريب التهذيب : ضعيف من السابعة (٢).

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وعبدالرحمن ضعيف (٣).

وقال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني : ضعيف (٤).

وقال البخاري في تاريخه الكبير : عبدالرحمن بن سعد فيه نظر ، مولى بني مخزوم (٥).

وقال المارديني الشهير بابن التركماني في الجوهر النقي : منكر الحديث (٦).

وضعّفه ابن أبي حاتم ، وقال ابن القطان : هو وأبوه وجدّه مجهولو الحال (٧).

__________________

(١) الجرح والتعديل ٥ : ٢٣٨.

(٢) تحرير تقريب التهذيب ٢ : ٣٢١.

(٣) نيل الاوطار ٣ : ٣٤٦.

(٤) الآحاد والمثاني ١ : ٦٥.

(٥) تاريخ البخاري الكبير ٥ : ٢٨٧.

(٦) الجوهر النقي ٣ : ٢٨٦.

(٧) الجوهر النقي ١ : ٣٩٤.

١٩٢

وقال الألباني في إرواء الغليل : عبدالرحمن بن سعد ضعيف وأبوه وجده لا يعرف حالهم (١).

وأمّا عبدالله بن محمد فقد ضعفه ابن معين (٢).

وسئل يحيى بن معين عن عبدالله بن محمّد وعمّار وعمر ابني حفص بن عمر بن سعد عن آبائهم عن أجدادهم كيف حال هؤلاء؟ قال : ليسوا بشيء (٣).

وأمّا عمر بن حفص بن عمر بن سعد القرظ.

فقد قال ابن معين : ليس بشيء (٤).

وقال ابن حجر في تقريب التهذيب : عمر بن حفص بن عمر بن سعد القرظ المدني المؤذن فيه لين ، من السابعة (٥).

وأمّا عمار بن حفص بن عمر بن سعد القرظ ، فهو أخو عمر ، وهو والد محمّد ، روى عنه عبدالرحمن بن سعد (٦).

قال البخاري : لم يصحّ حديثه (٧).

وقال يحيى بن معين : ليس بشيء (٨).

__________________

(١) إرواء الغليل ٣ : ١٢٠.

(٢) الجوهر النقي ١ : ٣٩٤ ، ٣ : ٢٨٧.

(٣) انظر : تاريخ ابن معين (الدارمي) ١٦٩ ، الكامل في الضعفاء ٥ : ٧٣ ، الضعفاء للعقيلي ٢ : ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، والجرح والتعديل ٦ : ١٠٣.

(٤) الجوهر النقي ٣ : ٢٨٧ الجرح والتعديل ٦ : ١٠٢ ، المغني في الضعفاء ٢ : ٤٦٤ ، تهذيب الكمال ٢١ : ٣٠٢ ، تهذيب التهذيب ٦ : ١٨٣.

(٥) تحرير تقريب التهذيب ٣ : ٦٨.

(٦) التاريخ الكبير ٥ : ٢٨٧.

(٧) ميزان الاعتدال ٥ : ٢١١.

(٨) لسان الميزان ٤ : ٢٧١ ، الجرح والتعديل ٦ : ٣٩٢.

١٩٣

وأمّا حفص بن عمر بن سعد القرظ ، فلم يسمع من جدّه ولا غيره من الصحابة ، وربما نسب إلى جدّه فيتوهّمه الواهم أنّه تابعي (١).

وقد علّق ابن التركماني على أحد أحاديث حفص بن عمر في كتاب صلاة العيدين بقوله : إنّ حفصاً والد عمر المذكور في هذا السند إن كان حفص بن عمر المذكور في السند الأوّل فقد اضطربت روايته لهذا الحديث ، رواه ها هنا عن سعد القرظ ، وفي ذلك السند رواه عن أبيه وعمومته عن سعد القرظ ، فظهر من هذا أنّ الأحاديث التي ذكرها البيهقي في هذا الباب لا تسلم من الضعف. وكذا سائر الأحاديث الواردة في هذا الباب .. (٢)

وحكى الزيلعي عن «الإمام» : وأهل حفص غير مُسمَّين ، فهم مجهولون (٣).

كان هذا حال رجال هذا الإسناد.

مع ما رواه الحافظ العلوي عن بلال

أمّا طريق الحافظ العلوي فهو أحسن من هذا بكثير ، وإن كان فيه بعض الملابسات ؛ لأنّ الحافظ خرّج حديثه من طريق مسلم بن الحجّاج ، وإن لم يكن في صحيحه :

حدثنا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة ، حدثنا معن بن عيسى ، حدثنا عبدالرحمن بن سعد المؤذّن ، عن محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر.

وهم خير من أولئك.

فمسلم بن الحجّاج ، صاحب الصحيح ، فهو إمام عند القوم.

__________________

(١) معرفة علوم الحديث : ٧٠ النوع الخامس عشر.

(٢) الجوهر النقي ٣ : ٢٨٧.

(٣) نصب الراية ١ : ٢٦٥.

١٩٤

وأمّا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة بن البرند بن النعمان أبو إسحاق البصري فقال عنه ابن أبي حاتم الرازي : سئل أبي عن إبراهيم بن أبي عرعره فقال : صدوق (١).

وحكى عن عليّ بن الحسين بن حبّان أنّه قال : وجدت في كتاب أبي بخطّ يده قلت له ـ يعني يحيى بن معين ـ : أبو عرعرة؟

فقال : ثقه معروف الحديث ، كان يحيى بن سعيد يكرمه ، مشهور بالطلب ، كيّس الكتاب ؛ ولكنه يفسد نفسه ، يدخل في كلّ شيء (٢). وجاء فيه بعض التليين.

وأمّا معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي مولاهم القزّاز أبو يحيى المدني ؛ فهو في طبقة يعقوب بن حميد بن كاسب ، فقد ترجم له المزّي في التهذيب (٣) ، قال أبو حاتم : أثبتُ أصحاب مالك وأوثقهُم معن بن عيسى ، وهو أحب اليَّ من عبدالله بن نافع الصائغ ومن ابن وهب (٤).

أمّا عبدالرحمن بن سعد المؤذن فضعيف حسبما عرفت.

وأمّا محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر ، فهو أبو عبدالله المدني مؤذّن مسجد الرسول ، ويقال له : كشاكش ، وهو مولى الانصار ويقال : مولى عمّار بن ياسر (٥).

قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : ما أرى به بأس (٦) ، وقال الدوري عن يحيى بن معين : لم يكن به باس (٧).

__________________

(١) الجرح والتعديل ٢ : ١٣٠.

(٢) تاريخ بغداد ٦ : ١٤٩ ـ ١٥١ وفيه : سكن بغداد وحدّث بها عن يحيى بن سعيد القطّان وعبدالرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر ومحمد بن بكر البرساني ومعن بن عيسى ...

(٣) تهذيب الكمال ٢٨ : ٣٣٦.

(٤) الجرح والتعديل ٨ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ الترجمة ١٢٧١.

(٥) تهذيب الكمال ٢٦ : ١٦٣ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٣٥٨ ، التاريخ الصغير ٢ : ١٨٣.

(٦) العلل لأحمد ٢ : ٤٨٥ ، بحر الدم فيمن مدحه أحمد أو ذمّ ١٤١.

(٧) تاريخ بن معين برواية الدوري ١ : ١٤٧.

١٩٥

وقال عليّ بن المديني : ثقة (١).

قال أبو حاتم : شيخ ليس به بأس ، يُكتب حديثه (٢).

وقال ابن حجر : لا بأس به ، من السابعة (٣).

وحفص بن عمر بن سعد القرظ قد عرفت حاله وهو مُتكلَّم فيه ، والخبر موقوف عليه وليس بحجة.

ومع كلّ هذه الملابسات نرى هذا الإسناد أنظف ممّا رواه الطبراني في الكبير والبيهقي عن أبي الشيخ الإصفهاني عن محمّد بن عبدالله بن رُسته في السنن.

مع ما رواه السري عن أبي محذورة

ويعضد ثبوت الحيعلة الثالثة عن رسول الله ما رواه الحافظ العلوي بطرق متعددة ـ سيأتيك ذكرها تحت عنوان «تأذين الصحابة وأهل البيت» ـ عن أبي محذورة وأنّها اتفقت جميعاً على ثبوتها.

وأمّا رواية الحافظ العلوي بإسناده الذي فيه أحمد بن محمّد بن السري فإليك نصّها :

حدّثنا أبو القاسم عليّ بن الحسين العرزمي إملاءً من حفظه ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن السري التميمي ، حدّثنا أبو عمران موسى بن هارون بن عبدالله الجمال ، حدّثنا يحيى ابن عبدالحميد الحماني ، حدّثنا أبو بكر بن عياش ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي محذورة ، قال : كنتُ غلاماً صيّتاً ، فأذّنت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) لسان الميزان ٧ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، تهذيب الكمال ٢٦ : ١٦٣.

(٢) الجرح والتعديل ٨ : ٤٣.

(٣) تحرير تقريب التهذيب ٣ : ٢٩٥.

١٩٦

لصلاة الفجر ، فلما انتهيت إلى «حيَّ على الفلاح» قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألحق فيها «حيَّ على خير العمل» (١).

وهذا النص ـ كما تـراه ـ واضـح لا مغمز في لفظه ولا معناه ، لكنّ المتآخرين من علماء العامّة حرفوا النص عن وجهته فنقلوا الرواية بشكل آخر ، قالوا :

زعم أحمد بن محمد بن السري أنّه سمع موسى بن هارون عن الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عبدالعزيز بن رفيع عن أبي محذورة ، قال : كنت غلاماً فقال النبيّ : اجعل في آخر أذانك «حيّ على خير العمل» (٢).

وبناء على هذا التلاعب قال الحافظ ابن حجر في خبر السري :

«وهذا حدثنا به جماعة عن الحضرمي عن يحيى الحماني وإنّما هو : اجعل في آخر أذانك الصلاة خير من النوم» (٣).

لكن كلامه باطل من عدة جهات :

الأولى : أنّ مكان «حيّ على خير العمل» عند من يقول بها هي وسط الأذان لا في آخره ، وأنّها من أصل الأذان لا زيادة فيه كالصلاة خير من النوم ، وإنّما سوغ لهم هذا التلاعب تحريفهم نص السري عن وجهته ، حيث جعلوا الحيعلة الثالثة في آخر الأذان ، ليتسنى لهم ادعاء أنّ الرواية وردت بجعل «الصلاة خير من النوم» في آخره لا الحيعلة الثالثة.

الثانية : أنّ زيادة «الصلاة خير من النوم» جاءت متأخّرة ، وقد قال مالك

__________________

(١) الأذان بحيّ على خير العمل ١٥ ـ ١٦.

(٢) ميزان الاعتدال ١ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٣) لسان الميزان ١ : ٢٦٨.

١٩٧

عنها أنّها ضلال (١) ، ورجع الشافعي عن القول بها في الجديد (٢) ؛ لعدم ثبوت ذلك عن أبي محـذورة ، وهو مؤشّر على عدم شرعيّتها في أصل الأذان ، فلو كان الأمر كذلك فالزيادة مشكوك فيها ولا يمكن الأخذ بها ، وقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن الأسود بن يزيد قوله وقد سمع المؤذّن يقول «الصلاة خير من النوم» فقال : لا يزيدون في الأذان ما ليس سنّة (٣).

الثالثة : إنّ ما زعمه ابن حجر من وضع حديث : نار تلتقط مبغضي آل محمّد ، واتّهم به أحمد بن محمّد بن السريّ ، فباطل.

إذ لا شاهد له على ذلك إلّا استعظامه واستكباره أن يرد مثل هذا الحديث في فضل آل محمّد ، ولو أنصف لعلم أنّ مبغضي آل محمّد في النار وأنّه لا استكبار ولا استعظام. وهناك روايات كثيرة تشير إلى هذا المعنى ، فقد يكون أحمد بن محمّد بن السري نقل الحديث بالمعنى ، وهو جائز عند الفريقين ، ومحض الانفراد ـ لو صحّ ـ لا يدلّ على الوضع ، خصوصاً مع أنّ لحديثه هذا شواهد ومتابعات كثيرة ، وأحمد هذا ثقة بإجماعهم ، ولم يعيبوا عليه إلّا شيئاً لا يصح به قدح.

فأحمد بن محمّد بن السري المعروف بابن أبي دارم المتوفّى ٣٥١ هـ قال عنه الحافظ محمّد بن أحمد بن حمّاد الكوفي ، بعد أنّ أرّخ وفاته : كان مستقيم الامر عامّة

__________________

(١) انظر : مواهب الجليل ٢ : ٨٣ كتاب الصلاة ، فضل الأذان والإقامة ، حيث صرّح بأن التثويب ضلال ، فتمحّل بعضهم وقالوا إن المراد بالتثويب «حيّ على خير العمل» وقال آخر المراد هو التثويب الثاني وهو خنق للحقيقة ، خصوصاً وقد حكي عن مالك تجويزه الحيعلة الثالثة كما سيأتي في آخر القسم الثالث من هذا الباب فصل «جزئية حي على خير العمل» ، والباب الثاني من هذه الدراسة «الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة».

(٢) الأمّ ١ : ٨٥.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة ١ : ١٨٩.

١٩٨

دهره ، ثمّ في آخر أيّامه كان أكثر ما يُقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه : إنّ عمر رفس فاطمة حتّى أسقطت بمحسن.

وفي خبر آخر في قوله تعالى : (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) عمر : (وَمَنْ قَبْلَهُ) أبوبكر (وَالْـمُؤْتَفِكَاتُ) عائشة وحفصة ، فوافقته على ذلك ؛ ثمّ أنّه حين أذَّن الناس بهذا الأذان الُمحدَث وضع حديثاً متنه : تخرج نار من عدن (١) ...

وعليه فالخدشة في ابن أبي دارم جاءت لروايته المثالب لا لسوء حفظه واختلاطه بأخَرَة و .. ، بل لروايته أشياء لا ترضي الآخرين من القول برفس فاطمة ، وشرعيّة حيّ على خير العمل ، وأنّ النار تلتقط مبغضي آل محمّد وغيرها.

وقد تلحض مما سبق : إمكان الخدش في خبرَي أبي محذورة وبلال المُدَّعِيَيْنِ لنسخ الحيعلة الثالثة ، والمُعَارَضَيْنِ بما رواه العلوي. ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ هذين الخبر ين بمجردهما قد لا يصلحان لإثبات شرعية حيّ على خير العمل ، بل إن ثبوتها عندنا يرجع إلى ما عندنا من طرق صحيحة في ذلك ، ويؤيده تأذين أهل البيت والصحابة بذلك ، وهو ما ستعرفه بعد قليل ، الأمر الذي يتفق مع سيرة بلال وحياته الفكرية التي ستقف عليها في الفصل الثاني من هذا الباب «حذف الحيعلة وامتناع بلال عن التأذين».

مشيرين إلى أنّ الملابسات العلمية التي تعرضنا لها آنفاً ينبغي أن تحدّ من إسراف من يدّعي النسخ ويلهج بوجود الناسخ بلا دليل مُرْض ، وهذا هو الذي أشار إليه الشريف المرتضى (ت ٤٣٦ هـ) بقوله :

__________________

(١) لسان الميزان ١ : ٢٦٨. ودعوى ابن حجر وغيره انّ هذا من مختلقات السري لا يثبت أمام الحقيقة العلمية ، إذ روى هذا التأويل كثير من المحدثين ومن كتبوا في المثالب.

١٩٩

وقد روت العامة أنّ ذلك مما كان يقال من بعض أيّام النبيّ وإنّما ادُّعي أنّ ذلك نُسِخَ ورُفِعَ ، وعلى من ادّعى النسخ الدلالة له وما يجدها.

وممّا يضحك الثكلى أنّ البعض أسرف للغاية ؛ حيث رفض جزئية حيّ على خير العمل ، مدّعياً أنّ الشيعة هم الذين أوجدوها وحشروها في كتب أهل السنة والجماعة لأنّ بقيّة الفرق الإسلاميّة لا تقول بذلك ، كما أنَّ صحاحهم ومسانيدهم قد خلت من «حيّ على خير العمل».

وأمام احتمال طرح مثل هذه الشبهة ، نقول : إنَّ هذه القضيّة لم تختصّ بالطالبيّين دون غيرهم على ما ضبطته لنا صفحات تاريخ السنّة والسيرة ، بل أقرّها عدد من الصحابة وعملوا بها ، ويكفينا أن نذكر هنا اسم ابن عمر فقط لأنّه الصحابي الذي كان مورد اعتماد أهل السنة والجماعة في فترات متعاقبة من التاريخ ، حتّى أنَّ المنصور العبّاسيّ قد وجّه مالكاً حين تدوين كتاب «الموطّأ» بقوله : هل أخذت بأحاديث ابن عمر؟

قال : نعم.

قال المنصور : خذ بقوله وان خالف عليّاً وابن عباس (١).

وعلى ضوء هذا الأمر الحكومي يمكننا القول : إنّ الدولة العبّاسيّة قد اعتبرت فقه ابن عمر معياراً ومقياساً شاخصاً لتدو ين السنّة ، لأنّه لم يكن شخصاً عاديّاً ، بل كانت شخصيته ذات أبعاد مبطّنة ، وفي هذا المجال رأيناه يضفي على حياته هالة من القدسيّة في اقتفاء آثار النبيّ ومتابعته.

ويتلخص إشكال أهل السنة والجماعة في ثلاث نقاط :

إشكالهم الأوّل : ادّعاء أنَّ مصادرهم الحديثيّة المعتبرة قد خلت من الروايات

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ٤ : ١٤٧.

٢٠٠