موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

والفكري لرسول الله ، وما جاء به من مفاهيم ، لأنّه قال : إني لم أُبعث لعّاناً وإنّما بعثت رحمة (١).

فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن لعّاناً في سجيّته ، ولم يلعن من لم يكن مستحقّاً للّعنة ، بل لعنَ جماعات وأفراداً مخصوصين يستحقّون اللعنة من الله ورسوله في ضمن ملاكات الأحكام الشرعية والموازين الإلهية ، ومثل هذا اللعن والسبّ والجلد لا معنى لاَِنْ يكون رحمة لصاحبه.

وهؤلاء القوم لم يسلموا إلّا ليحقنوا دماءهم ، بعدما عجزوا عن الوقوف أمام الدعوة وطمس الإسلام فدخلوا الإسلام لتحريف بعض المفاهيم وإبدال مفاهيم أخرى مكانها ، وكان ضمن مخططهم التقليل من مكانة الرسول والتعامل معه كإنسان عاديّ يصيب ويخطئ ويسبّ ويلعن ، كما كان في مخطّطهم الاستنقاص من الإمام عليّ ، لأنّه كان قد وتر شوكة قريش وسعى لتحطيم سلطانهم.

فقد جاء في كتاب معاوية إلى عماله : «أن انظروا مَن قِبَلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فَأَدنُوا مجالسهم وقَرِّبوهم وأَكرموهم ، واكتبوا إليَّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته».

«فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبّ إلي وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ،

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ : ٢٠٠٧.

١٠١

وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله» (١).

نحن لو تأملنا تاريخ قريش وما فعلته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدء الدعوة وقضايا فتح مكّة لوقفنا على خبث الأمو يين واستغلالهم لرحمة رسول رب العالمين ، فقد اشتهر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لما سمع قول القائل :

اليوم يوم الملحمة

اليوم تُسبَى الحرمة

قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تَقُلْ هذا بل قل :

اليـوم يوم المـرحمة

اليوم تحفظ الحرمة (٢)

وجاء عنه قوله يوم الفتح في أعدى عدوه : «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» (٣) ، وقوله : «اذهبوا أنتم الطلقاء» (٤) ، لكن قريشاً ومع كلّ هذه الرحمة كانوا يتعاملون مع الرسالة والرسول بشكل آخر.

قال الواقدي : ... وجاءت الظهر فأمر رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلالاً أن يؤذّن فوق ظهر الكعبة وقريشٌ في رؤوس الجبال ، ومنهم من قد تَغيّب وستر وجهه خوفاً من أن يُقتلوا ، ومنهم من يطلب الأمان ، ومنهم من قد أمن.

فلمّا أذّن بلال وبلغ إلى قوله «أشهد أن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» رفع صوته كأشدّ ما يكون.

فقالت جوير ية بنت أبي جهل : قد لعمري «رفع لك ذِكرك» فأمّا الصلاة فسنصلّي ، ولكن والله لا نحبّ مَن قتل الأحبة أبداً ، ولقد كان جاء أبي الذي جاء

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ٤٤ ـ ٤٥ باب ذكر ما مُني به آل البيت من الأذى والاضطهاد.

(٢) انظر : المبسوط للسرخسي ١٠ : ٣٩.

(٣) سنن أبي داود ٣ : ١٦٢ كتاب الخراج باب ما جاء في خبر مكّة ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ١١٨ كتاب السير ، باب فتح مكة.

(٤) المبسوط للسرخسي ١٠ : ٤٠.

١٠٢

محمّداً من النبوة ، فردّها ، ولم يُرِدْ خلاف قومه.

وقال خالد بن سعيد بن العاص : الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم.

وقال الحارث بن هشام : واثكلاه ، ليتني متّ قبل هذا اليوم ، قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة!

وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث العظيم ، أن يصيح عبد بني جُمحَ ، يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة.

وقال سهيل بن عمرو : إن كان هذا سخطاً من الله تعالى فسيغيره وإن كان لله رضا فسيقرّه.

وقال أبو سفيان : أمّا أنا فلا أقول شيئاً ، لو قلت شيئاً لأخبَرَتْه هذه الحصباء ، قال : فأتى جبرئيل عليه‌السلام فأخبره مقالة القوم (١).

ولو تأملت في ما رواه لنا العبّاس في كيفية إسلام أبي سفيان لعرفت أنّه لم يسلم عن قناعة وإيمان ، إذ قال العباس : غدوت به على رسول الله فلما رآه قال : ويحك يا أبا سفيان!! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟

قال : بلى ، بأبي أنت وأمي ، لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنيّ شيئاً.

فقال : ويحك! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!

فقال : بأبي أنت وأمي ، أما هذه ففي النفس منها شيء.

قال العباس : فقلت له : ويحك! تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك.

قال : فتشهد (٢).

فهنا يبدو واضحاً أن أبا سفيان كان أكثر بطئاً في قبول الشهادة الثانية من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ : ٢٨٣ عن الواقدي ، وانظر : سبل الهدى والرشاد ٥ / ١٩٣ رواه عن البيهقي.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٤٥.

١٠٣

الأولى ، لأنّه كان يتصوّر بأن في الثانية تحطيمَ غروره وجبروته وموقعه السياسي والاجتماعي ، وذلك ما لا تعنيه كثيراً الشهادة الاولى بالنسبة له.

وقد ثبت عن أبي سفيان أنّه قال للعباس لما رأى نيران المسلمين وكثرة عددهم : لقد اصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فقال له العباس : ويحك! إنها النبوة. فقال : نعم إذن.

وظل منظّر الفكر القرشي على هذه الوتيرة حتّى بعد وفاة النـبي وخلافة الشيخين. فقد روي صاحب «قصص الانبياء» باسناده إلى الصدوق عن بن عباس أنه قال : .. ولقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كُف بصره وفينا عليّ صلوات الله عليه فأذن المؤذن فلما قال : اشهد أن محمداً رسول الله ، قال أبو سفيان : ها هنا من يحتشم؟ قال واحد من القوم : لا. فقال : لله در أخي بني هاشم ، انظروا اين وضع اسمه؟ فقال عليّ : اسخن الله عينك يا ابا سفيان ، الله فعل ذلك بقوله عز من قائل : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فقال أبو سفيان : اسخن الله عين من قال لي ليس ها هنا من يحتشم (١).

بل إن أبا محذورة كان يستحيي من الإباحة باسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل مكّة ، إذ جاء في المبسوط للسرخسي ـ عند بيانه لسبب الترجيع في الأذان ـ قوله : ... وقيل أن أبا محذورة كان مؤذّن مكّة ، فلما انتهى إلى ذكر رسول الله خفض صوته استحياءً من أهل مكّة لأنّهم لم يعهدوا ذكر اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم جهراً ، ففرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمأذنَهُ وأمره أن يعود فيرفع صوته ليكون تأديباً له .. (٢)

نعم ظلت نظرة قريش إلى النبيّ بعد البعثة مشوبة بهذا المنطق المزعوم مستغلين

__________________

(١) بحار الأنوار ١٨ : ١٠٧ ، ٣١ : ٥٢٣ عن قصص الأنبياء.

(٢) المبسوط للسرخسي ١ : ١٢٨.

١٠٤

عطف النبيّ ورحمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال الواقدي : فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول : لما دخل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة انقمعتُ فدخلتُ بيتي وأغلقته عليَّ ، وقلت لابني عبدالله بن سهيل : اذهب فاطلب لي جواراً من محمّد ، فإنّي لا آمن أن أقتل ، وجعلتُ أتذكّر أثري عنده وعند أصحابه فلا أرى أسوأ أثراً منّي؛ فإنّي لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به ، وكنت الذي كاتبه ، مع حضوري بدراً وأُحداً ، وكلّما تحركّت قريش كنت فيها.

فذهب عبدالله بن سهيل إلى رسول الله ، فقال : يا رسول الله ، أبي تؤمّنه؟

قال : نعم ، هو آمن بأمان الله ، فليظهر ، ثمّ التفتَ إلى مَن حوله فقال : مَن لقي سهيل بن عمرو فلا يشدنّ النظر إليه ، ثمّ قال : قل له : فليخرج ، فلعمري إنّ سهيلاً له عقل وشرف ، وما مثل سهيل جهل الإسلام ، ولقد رأى ما كان يُوضَعُ فيه إن لم يكن له تتابع ، فخرج عبدالله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال سهيل : كان والله برّاً صغيراً وكبيراً.

وكان سهيل يقبل ويدبر غير خائف ، وخرج إلى خيبر مع النبيّ وهو على شركه حتّى أسلم بالجعرانة (١) ...

هكذا تعامل رسول الله مع المشركين والطلقاء ، لكنّهم أضمروا النفاق للرسول والرسالة فانضووا تحت لوائه كي يغدروا بالإسلام ، بل سعوا بكل قواهم لطمسه ودفنه.

فقد جاء عن المغيرة أنّه طلب من معاوية ترك إيذاء بني هاشم ـ لمّا استقرّ له الأمر ـ لأنّه أبقى لذكره!! ... فقال معاوية للمغيرة : هيهات! هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه؟! مَلَك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتّى هلك

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٧ : ٢٨٤.

١٠٥

ذكره ، إلّا أن يقول قائل : أبو بكر. ثمَّ ملك أخو عديّ ، فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : عمر. وإنَّ ابن أبي كبشة لَيصاح به كلّ يوم خمس مرَّات : «أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله» ، فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا! لا أباً لك! لا والله إلّا دفناً دفناً (١).

وعن علي عليه‌السلام أنّه قال حين سأله بعض أصحابه من بني أسد : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال : يا أخا بني أسد ؛ إنّك لقلق الوضين ترسل في غير سدد! ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة ، وقد استعلمت فأعلم : أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ـ ونحن الأعلون نسباً ، والأشدّون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوطاً ـ فإنّها كان أثَرِةٌ شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم الله والمعود إليه يوم القيامة.

ودع عنك نهباً صـيح في حجراته

وهـلم الخـطب في ابن أبي سـفيان

فلقد أضحكني الدهر بعد ابكائه ، ولا غرو والله فياله خطباً يستفرغ العجب ويكثر الأود ، حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه ، وسدّ فواره من ينبوعه. وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً. فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه وإن تكن الأُخرى (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (٢) (٣).

وجاء عن معاوية أنّه قال لما سمع المؤذّن يقول «أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله» : لله أبوك يا بن عبدالله! لقد كنتَ عالي الهمَّة ، ما رضيتَ لنفسك إلّا أن يُقرَنَ اسمك

__________________

(١) الأخبار الموفّقيّات للزبير بن بكّار : ٥٧٦ ـ ٥٧٧ ؛ مروج الذهب ٤ : ٤١ ؛ النصائح الكافية : ١٢٣ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٥ : ١٣٠.

(٢) فاطر : ٨.

(٣) نهج البلاغة ٢ : ٦٣ / الخطبة ١٦٢.

١٠٦

باسم ربِّ العالمين (١)!

ولا يستبعد هذا من معاوية وهو ابن أبي سفيان القائل لله درّ أخي بني هاشم. انظروا أين وضع اسمه ، والقائل : فوالذي يحلف به أبو سفيان .. لا جنَّة ولا نار (٢) ، وهو الذي مرّ بقبر حمزة وضربه برجله ؛ وقال : يا أبا عمارة! إنَّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعّبون به (٣)!

وهو ابن هند آكلة كبد حمزة سيّد الشهداء (٤) ، وهو أبو يزيد الذي هدم الكعبة (٥) ، وقتل الحسين بن عليّ (٦) ، وأباح المدينة لثلاثة أيّام (٧) ، والذي سمّى المدينة الطيّبة بـ «الخبيثة» إرغاماً لأنوف أهل بيت النبيّ (٨)!

فمعاوية ومن قبله أبوه صخر كانا يتصوّران بأنّ النبيّ هو الذي أدرج اسمه في الأذان ، فقال أبو سفيان : لله در أخي بني هاشم. انظروا اين وضع اسمه ، وقال ابنه معاوية : لله أبوك يا ابن عبدالله! لقد كنت عالي الهمَّة ، ما رضيت لنفسك إلّا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ : ١٠١ ، وفي المعمرين للسجستاني كما في النصائح الكافية : ١٢٦ سأل معاوية بن أبي سفيان يوماً امد بن لبد المعمر : فهل رأيت محمّداً. قال : من محمّد؟ قال معاوية : رسول الله. قال امد : ويحك افلا فخمته كما فخمه الله فقلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانظر كذلك كنز الفوائد : ٢٦١ وبحار الأنوار ٣٣ : ٢٧٦.

(٢) الاستيعاب ٤ : ١٦٧٩ ؛ الأغاني ٦ : ٣٧١ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٤٥ والنصّ عنه.

(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ١٦ : ١٣٦.

(٤) أُسد الغابة ٢ : ٤٧ ، الطبقات الكبرى ٣ : ١٢.

(٥) سبل الهدى والرشاد ١ : ٢٢٣ ، مختصر تاريخ دمشق ٧ : ١٩١.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٠ ـ ٤٦٧ ، وغيره من كتب التاريخ.

(٧) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ٢٥٩.

(٨) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ٢٣٨.

١٠٧

أن تقرن اسمك باسم ربِّ العالمين (١) ، وهل هذان القولان إلّا وجهٌ آخر للرواية التي وُضِعت وادَّعت أنّ بلالاً كان يؤذن «أشهد ان لا إله إلّا الله ، حيّ على الصلاة» فقال عمر : قل في إثرها «أشهد أنّ محمّداً رسول الله»؟! وعنوا بذلك أنّ ذكر اسمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأذان لم يكن من الله ، بل كان باقتراح فقط!!

وبعد هذا فلا يمكن تبرير فعل معاوية والقول بأنّه تعرّف على المصلحة أو اجتهد قبال النص ، بل الأمـر تجـاوز ذلك ، ودخـل في إطـار تكذيب الرسالة ، وتهرئة أصل من أكبر أصول الشـريعة ، وهو الاعتقاد بنـبوة محمّد المصطفى.

ومما يحتمل في الأمر هو أنّ هذه الرؤيـة تجاه ذكر اسم النبي في الأذان وأمثالها ، هي التي رسّخت فكرة كون الأذان مناماً ، وهي التي أقلقت الرسول المصطفى حتّى جعلته لا يُرى ضاحكاً بعد رؤياه التي رأى فيها الغاصبين ينزون على منبره نزو القردة.

وليس من الصدفة في شيء الترابط الموجود بين أن يرى رسول الله الشجرة الملعونة في منامه وبين أن يُسفّه الأمويّون مسألة الرؤيا ، ويعزون الإسراء والمعراج إلى رؤيا لا تعدو كونها مناماً!

__________________

(١) وقد استمرت هذه الرؤية عند البعض بعد معاوية ، فروى المفضل بن عمر أنه سمع في مسجد الرسول صاحب ابن أبي العوجاء يقول له : انّ محمّداً استجاب له العقلاء وقد قرن اسمه باسم ناموسه [أي الله جل وعلا] ..

فقال ابن أبي العوجاء : دع ذكر محمد فقد تحير فيه عقلي وحدّثني عن الاصل الذي جاء به ... «بحار الأنوار ٤ : ١٨».

ومثل ذلك ما حكاه رشاد خليفة عن جماعة ان تكرار الشهادة الثانية «أشهد أن محمّداً رسول الله» بجنب الشهادة الاولى «أشهد ان لا إله إلّا الله» يعد شركاً أكبر «انظر القرآن والحديث والإسلام : ٣٨ ، ٤١ ، ٤٣ وكتابه الآخر قران أم حديث : ٢٠ ، ٣٣».

١٠٨

الله جلّ وعلا ورفعه لذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

هذا ، ونحن نعلم بأنّ الذي رفع ذكرَ الرسول هو الله في محكم كتابه ، وإليك أقوال بعض العلماء والمفّسر ين لتقف على المقصود ، وأنّه أمر ربّاني ، وليس كما تصوره أبو سفيان ومعاوية والأمويّون ومن لف لفهم :

قال الشافعي : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قوله : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) قال : لا أُذكَر إلّا ذُكِرتَ معي «أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله» (١). يعني ـ والله أعلم ـ ذكره عند الإيمان والأذان ، ويحتمل ذكره عند تلاوة الكتاب وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.

وقال النووي في شرحه على مسلم ـ بعد ذكره المشـهورَ عن الشافعي في رسالته ومسنده في تفسير قوله تعالى : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ـ : «وروينا هذا التفسير مرفوعاً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن ربّ العالمين ...» (٢).

وفي مصنف ابن أبي شيبة الكوفي : حدّثنا ابن عيينة ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) يقال : ممن هذا الرجل؟

فيقول : من العرب.

فيقال : من أيّ العرب؟

فيقول : من قريش.

(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) لا أُذكرُ إلّا ذكرتَ «أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ

__________________

(١) الرسالة للإمام الشافعي : ١٦ ، المسند للإمام الشافعي : ٢٣٣ ، المجموع ١ : ٥٧٧ ، تلخيص وانظر : الحبير ٣ : ٤٣٥ ، تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني ٣ : ٤٣٧ ، وفي السنن الكبرى ٣ : ٢٠٩ (باب ما يستدل به على وجوب ذكر النبيّ في الخطبة) وبعد ذكره لقول الشافعي قال : ويذكر عن محمد بن كعب القرظي مثل ذلك. وانظر : فيض القدير شرح الجامع الصغير ١ : ٢٨.

(٢) شرح النووي على صحيح مسلم ١ : ١٦٠ باب مقدّمة الصحيح.

١٠٩

محمّداً رسول الله» (١).

حدّثنا شريك بن عبدالله ، عن ابن شبرمة ، عن الحسن في قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) : أي مُلِئ حكماً وعلماً (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) قال : ما أثقل الحمل الظهر (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) بلى لا يذكر إلّا ذكرت معه ... (٢).

وفي دفع الشبه عن الرسول للحصني الدمشقي في قوله تعالى : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : المراد الأذان والاقامة والتشهّد والخطبة على المنابر ، فلو أنّ عبداً عَبَد الله وصدّقه في كلّ شيء ولم يشهد أن محمّداً رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافراً.

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ثمّ إنّ النبيّ سأل جبرئيل عليه‌السلام عن هذه الآية (٣) ، فقال : قال الله عزّ وجلّ : إذا ذكرتُ ذُكِرتَ معي.

وقال قتادة رضي الله عنه : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، وقيل : رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به والإقرار به.

وقيل (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ليعرف المذنبون قدر رتبتك لديَّ ليتوسّلوا بك إليَّ فلا أردّ أحداً عن مسألته ، فأعطيه أياها إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً ، ولا أخيّب من توسّل بك وإن كان كافراً (٤).

وقال ابن كثير في البداية والنهاية : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ، فليس خطيب ولا شفيع ولا صاحب صلاة إلّا ينادي بها : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً

__________________

(١) المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي ٦ : ٣١٥ ، كتاب الفضائل ـ الحديث ٣١٦٨٠.

(٢) المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي ٦ : ٣١٥ ، كتاب الفضائل ـ الحديث ٣١٦٨١.

(٣) آية (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ).

(٤) دفع الشبه عن الرسول للحصني الدمشقي : ١٣٤.

١١٠

رسول الله ، فقرن الله اسمه باسمه في مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك مفتاحاً للصلاة المفروضة ، ثمّ أورد حديث ابن لهيعة ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله في قوله (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) قال : قال جبرئيل : قال الله : إذا ذكرتُ ذكرتَ (١).

وفي جامع البيان للطبري : حدّثنا ابن عبدالأعلى ، قال : حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابدؤوا بالعبوديّة وثنّوا بالرسالة ، فقلت لمعمر : قال «أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً عبده» فهو العبودية ، «ورسوله» أن تقول : عبده ورسوله.

حدّثنا بشر ، قال : حدّثنا يزيد ، قال : حدّثنا سعيد ، عن قتادة (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلّا ينادي بها : «أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمّداً رسول الله».

حدّثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحرث ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله أنّه قال : أتاني جبرئيل فقال : إنّ ربّي وربّك يقول : كيف رفعت لك ذِكرك؟ قال : الله أعلم.

قال : إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي (٢).

وفي زاد المسير لابن الجوزي : قوله عزّوجلّ (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فيه خمسة أقوال :

أحدها : ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله أنّه سأل جبرئيل عن هذه الآية فقال : قال الله عزّ وجلّ : إذا ذُكرتُ ذكرتَ معي ؛ قال قتادة : فليس خطيب

__________________

(١) البداية والنهاية ٦ : ٢٨٨ باب القول فيما أُعطي إدريس عليه‌السلام.

(٢) تفسير الطبري ٣٠ : ١٥١.

١١١

ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلّا يقول : «أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله» ، وهذا قول الجمهور.

والثاني : رفعنا لك ذكرك بالنبوّة ؛ قاله يحيى بن سلام.

والثالث : رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا ؛ حكاه الماوردي.

والرابع : رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء.

والخامس : بأخذ الميثاق لك على الأنبياء وإلزامهم الإيمان بك والإقرار بفضلك ؛ حكاهما الثعلبي (١).

أهل البيت ورفع ذكر رسول الله

ومن هذا المنطلق كان أئمّة أهل البيت : يشيدون بهذه المفخرة ، ويجعلونها أكبر إرغام لأعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعدائهم ، الذين أرادوا تحريف هذا الرفع للذكر وحطّه إلى مرتبة الأحلام والاقتراحات ، وأرادوا أن يطفئوا نور الله فأبى الله إلّا أنّ يتمّ نوره.

يُريدُ الجاحدونَ لِيطفؤوُه

ويأبى الله إلّا أن يُتمَّهْ

ففي الندبة الرائعة ـ التي وجّهها إمام البلاغة عليّ بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة الزهراء إلى ابن عمّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال فيما قال :

سلامٌ عليك يا رسول الله سلام مودّع لا سَئم ولا قال ، فإنْ أنصرف فلا عن مَلالة ، وإن أقِم فلا عن سوء ظنٍّ بما وَعَد الله الصابر ين ، والصبرُ أيمنُ وأجمل ، ولولا غلبةُ المستولين علينا لَجعلتُ المقام عند قبرك لِزاماً ، واللَّبثَ عنده معكوفاً ، ولاَعولتُ إعوالَ الثكلى على

__________________

(١) زاد المسير لابن الجوزي ٨ : ٢٧٢.

١١٢

جليل الرزيّة ، فبعينِ الله تُدفَنُ ابنتُك سرّاً ... ولم يَطُل العهد ، ولم يَخلُ منك الذّكر ، فإلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك أجمل العزاء ، وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته (١).

وفي هذه الندبة التصريح بأنّ المستولين قلّلوا أو حاولوا التقليل من شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ، وذلك بعد وفاته مباشرة ولمّا يخلق الذكر ، وأنّ أمير المؤمنين علياً لو استطاع لجعل مقام رسول الله في محلّه الرفيع الذي وضعه الله فيه ، لكنّ الظروف القاسية التي كانت محيطة به لم تتح له الفرصة ، فقلّ ذكر النبيّ عند مَن اشتغلوا بمشاغل الدنيا وتركوا النبيّ وذكره أو كادوا ، وهذا ممّا جعل الإمام يقول : لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً ، واللبث عنده معكوفاً.

وقد أشـارت فاطمة الزهراء في خطبتها التي خطبتها في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه المسألة نفسها ، وأنّ هناك قوماً حاولوا إطفاء نور الله وخفض منزلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قرب العهد وحَداثة ارتحال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت :

فلمّا اختارَ اللهُ لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ... هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يُقبَر .... ثمّ أخذتم تورون وقدتَها ، وتهيجون جمرتَها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجَليّ ، وإهمال سُنَن النبيّ الصفيّ (٢) ...

ولذلك كانت تبكي عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول : لقد أصبت بخير الآباء

__________________

(١) مصنّفات الشيخ المفيد ١٣ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ المجلس ٣٣ ، ح ٧ ، أمالي الطوسي : ١١٠ ، الكافي ١ : ٤٥٩ ، دلائل الإمامة ١٣٨.

(٢) الاحتجاج : ١٠١ ـ ١٠٢ والنصّ عنه. وانظرها في دلائل الإمامة : ١١٤ ـ ١١٨ ، وشرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٥١.

١١٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشوقاه إلى رسول الله ، ثمّ انشأت تقول :

إذا مات يوماً ميّت قلّ ذكرُهُ

وذكرُ أبي مذ مات والله أكثرُ (١)

وأشارت بذلك إلى أنّ الله سبحانه وتعالى رفع ذكر نبيّه في حياته ، وقدّر له أن يرفع بعد وفاته ، وإن ظنّ من ظَنَّ أنّه أبترُ إذا مات انقطع ذكره ، وارتدّ مَن ارتدّ لعروجه ومقارنة اسمه باسم ربّ العالمين ، وغضب من غضب وحاول عزو ذلك إلى أنّه من اقتراح عمر أو من النبيّ نفسه وأراد له السحق والدفن ، كلّ تلك المحاولات التحريفية باءت بالفشل وخلد ذكر النبيّ في الأذان والتشهد وفي كلّ موطن يذكر فيه اسم رب العالمين.

ولو قرأت مقولة الإمام الحسن لمعاوية لمّا استنقص عليّاً وحاول الحطّ من ذكره لرأيت الأمر كذلك ؛ إذ قال له :

أيّها الذاكر علياً ، انا الحسن وأبي عليّ وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأُمّي فاطمة وأُ مّك هند ، وجدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجدّك حرب ، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة ؛ فلعن الله أخمَلَنا ذِكراً ، وألأمنا حَسَباً ، وشَرّنا قدماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً.

فقال طوائف من أهل المسجد : آمين.

قال فضل : فقال يحيى بن معين : ونحن نقول : آمين ، قال أبو عبيد : ونحن أيضاً نقول : آمين ، قال أبو الفرج : وأنا أقول : آمين (٢).

هذا وإن ماسأة كربلاء وقضية الإمام الحسين تؤكّد ما قلناه وأن الإمام خرج للإصلاح في أمة جدّه لمّا رأى التحريفات الواحدة تلو الآخرى تلصق بالدين ،

__________________

(١) كفاية الأثر : ١٩٨ (باب ما جاء عن فاطمة من النصوص).

(٢) مقاتل الطالبيين : ٧٠ والنص عنه ، الارشاد للمفيد ٢ : ١٥ ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٣٦ ، شرح نهج البلاغة ١٦ : ٤٧ ، كشف الغمة ١ : ٥٤٢.

١١٤

وعرف بأنّهم يريدون ليطفئوا نور الله ورسوله.

والعقيلة زينب قد أشارت إلى هذه الحقيقة عندما خاطبت يزيد بقولها :

«كد كيدك ، واسْعَ سعَيك ، واجهَد جهدك ، فوالله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب والنبوّة والانتخاب لا تُدرِك أمدَنا ، ولا تَبلُغ غايتنا ، ولا تمحو ذِكرَنا ، ولا تُميتَ وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فَنَد ، وأيامك إلّا عَدَد ، وجمعك إلّا بَدَد ، يوم ينادي المنادي : ألا لعنةُ الله على الظالم العادي ...» (١)

وكأنّ الإمام السجّاد عليّ بن الحسين أراد الإلماح إلى قضية الاختلافات الأذانيّة ، وعداء معاوية مع ذكر اسم النبيّ محمّد في الأذان ، حين عرّض بيزيد لمّا أمرَ المؤذن أن يؤذّن ليقطع خطبة الإمام عليّ بن الحسين في مسجد دمشق ..

قالوا : قال الإمام عليّ بن الحسين : يا يزيد ، ائذَن لي حتّى أصعد هذه الأعواد ... فأبى يزيد ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد فلعلّنا نسمع منه شيئاً ، فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قَدرُ ما يُحسِن هذا؟! فلم يزالوا به فإذن له بالصعود ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :

أيّها الناس ، أُعطينا سِتّاً وفُضّلنا بسبع ، أُعطينا العلم والحلم ... وفُضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّد ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنة ، فمَن عَرَفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي : انا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم

__________________

(١) الاحتجاج ٣٠٩ ، بحار الأنوار ٤٥ : ١٣٥ ، اللهوف لابن طاووس ومثير الأحزان وغيرها.

١١٥

والصفا ... أنا ابن من حُمِلَ على البراق في الهوا ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بَلَغ به جبرئيل إلى سِدرة المنتهى ، أنا ابن مَن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمّد المصطفى ... (١)

قال : ولم يزل يقول : أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت.

فلمّا قال المؤذّن : «الله اكبر» قال عليّ بن الحسين : كبّرتَ كبيراً لا يقاس ، ولا يُدرَك بالحواس ، ولا شيء أكبر من الله.

فلمّا قال : «أشهد أن لا إله إلّا الله» قال عليّ بن الحسين : شَهِد بها شَعري وبَشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي.

فلمّا قال : «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» التفت عليّ بن الحسين من أعلى المنبر إلى يزيد وقال : يا يزيد! محمّدٌ هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت ، وإن قلت أنّه جدّي فلم قتلتَ عِترته (٢)؟

وها هنا ثلاث ركائز مهمة في هذه الخطبة :

أوّلها : إن يزيد خاف أن يذكر الإمامُ السجّادُ فضائحَ يزيد ومعاوية وآل أبي سفيان ، مع أنّ الإمام في خطبته هذه لم يذكر صريحاً شرك أبي سفيان ولا معاوية ولا كونهما ملعونين ، كما لم يذكر هنداً وما كان منها في الجاهلية من سوء السيرة ، ولا ما كان من بقرها بطن حمزة ولا ولا ... فكانت الفضيحة لهم ببيان الحقائق

__________________

(١) كفاية الأثر ١٩٨.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي ٦٩ ـ ٧١ ، والفتوح لابن أعثم ٣ : ١٥٥.

١١٦

النيّرة ، وما حرّفه المحرّفون ، وبيان مقامات النبيّ وعترته.

وثانيها : إنّ قسطاً مهمّاً من الخطبة انصبَّ على حقيقة الإسراء والمعراج ؛ إذ فيها العناية المتزايدة ببعض تفاصيلهما ، والتأكيد على أنّهما حقيقة عيانيّة بدنيّة كانت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أنّها رؤيا وحُلُم كما يدّعيه الأمويّون ، فكان الإسراء والمعراج فيهما رفع ذكر النبيّ وتشريع الأذان والصلاة ، وفيهما رفع ذكر آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبعاً له.

كما أنّ في الخطبة حقيقة أنّ عليّاً هو الصدّيق لا غيره ، وأنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين ، لا كما حرّفوا من أنّ الصدّيق هو أبو بكر ، وأنّ اسمه على قائمة العرش ، مع أنّ الحقيقة هي أنّ عليّاً هو الصديق وأن اسمه مكتوب على العرش ـ كما سيأتيك بيانه لاحقاً ـ وأن الصدّيقة فاطمة الزهراء قد كذَّبت أبا بكر الصديق!!! وقالت له : لقد جئتَ شيئاً فَريّاً (١) وكذا الإمام عليّ فإنّه كذب من ادعى الصدّيقية في أبي بكر بقوله : أنا عبدَالله وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلّا كذاب مفتري ، لقد صليت قبل الناس بسبع سنين (٢).

وقال في آخر : أنا الصدّيق الأكبر ، والفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبي بكر ، وصليت قبل صلاته (٣).

وعن معاذة قالت : سمعت عليّاً وهو يخطب على منبر البصرة يقول : أنا

__________________

(١) تثبيت الإمامة ٣٠ ، بلاغات النساء ١٤ ، شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢١٢ ، ٢٥١ ، جواهر المطالب ١ : ١٦١.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١١٢ وقال : صحيح على شرط الشيخين وتلخيصه للذهبي ، وشرح نهج البلاغة ١٣ : ٢٢٨ ، ١ : ٣٠ ، سنن ابن ماجه ١ : ٤٤ ح ١٢٠ قال في الزوائد : هذا اسناد صحيح ورجاله ثقات ، تاريخ الطبري ٢ : ٣١٠ ، والآحاد والمثاني ١ : ١٤٨ وغيرها.

(٣) شرح نهج البلاغة ٤ : ١٢٢ ، ١٣ : ٢٠٠ ، والمعارف لابن قتيبة ٩٧. وفيه قال عليّ عليه‌السلام : أنا الصدّيق الأكبر آمنتُ قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر.

١١٧

الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم [أبو بكر] (١) ، فلا يعرفُ بعد هذا من هو الصادق ومن هو الكاذب ومن هو الصدّيق ومن هي الصدّيقة في قاموس القوم؟ وقد مرّ عليك أنّ معاوية حرّف كلّ فضيلة لعليّ وجعلها في غيره.

وثالثها : أنّ يزيد لمّا أمر المؤذّن بالأذان ليقطع كلام الإمام ، كان الإمام السجّاد يوضّح كلّ فقرة من فقرات الأذان ، مُعرِّضاً بمن يتلفّظون بألفاظه دون وعي لمفاهيمه ، وهو ما سنقوله لاحقاً من أنّه يحتوي على مفاهيم الإسلام ، وأنّه وجه الدين ، وأنّه ثبت بالوحي ، لا كما أرادوا تصويره بأنّه مجرّد إعلام قابل للزيادة والنقصان ، وُضع بأحلام واقتراحات من الصحابة!!

وفي قول السجّاد عليه‌السلام «يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك» بيان لارتفاع ذكر النبيّ وآله ، وأنّ الأمويّين لم يفلحوا في حذف اسمه من الأذان وإخماد ذكره ، ومحاولة إدراج اسم «أمير المؤمنين» (٢)!!! معاوية في آخر الأذان ، وإن نجحوا ظاهريّاً في إخماد ثورة الحسين وقتله وقتل عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فالأذان المشرع من الوحي كان مفخرة آل النبيّ ، وبياناً لارتفاع ذكره وذكر آله ، لا كما قيل فيه من أنواع المختلقات.

ويؤكّد ذلك أنّه لمّا قدم عليّ بن الحسين بعد قتل أبيه الحسين عليه‌السلام إلى المدينة استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيدالله وقال :

يا عليّ بن الحسين ، مَن غَلَب؟ وذلك على سبيل الشماتة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢٢٨ ، وأنساب الاشراف بتحقيق المحمودي ١٤٦ ، الآحاد والمثاني ١ : ١٥١ ، والمعارف لابن قتيبة ٩٩.

(٢) مرَّ عليك قبل قليل قول السيوطي في كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل ٢٦ : أن أوّل من أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول : السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله ، معاوية بن أبي سفيان.

١١٨

فقال له عليّ بن الحسين : إذا أردتَ أن تعلم من غَلَب ودخل وقت الصلاة فأذِّن ثمّ أقِم (١).

وذلك أنّ ذكر الرسول المصطفى خُلّد في الأذان والإقامة رغم نصب الناصبين وعداء المعادين ، وبه خلود ذكر آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيكونون هم الغالبين لا بنو أميّة ولا من غصبوا الحقوق وحرَّفوا المعالم عن سُنَنها ومجار يها.

وقد كانت نعرة البغض لرهط النبي وآله مترسّخة متجذرة في نفوس الأمويين إلى أبعد الحدود ، حتّى وصلت بهم درجة الإحساس بالتعالي والتيه والكبر إلى أن يحاسبوا حتّى من يمدحهم غاية المدح فيما إذا قدّم عليهم آل الرسول ، فقد افتخر ابن ميادة الشاعر بقومه بعد رهط النبي وبعد بني مروان ، فقال :

فَضَلْنا قريشاً غيرَ رهطِ محمَّدِ

وغيرطَ بني مروان أَهلِ الفضائلِ

فقال له الخليفة الاموي الوليد بن يزيد : قدَّمْتَّ رهطَ محمّد قبلنا؟! فقال ابن ميادة : ما كنت أظنه يمكن إلّا ذاك (٢).

فها هو الشاعر يصرّح ـ طبقاً لضرورات الدين ـ بأنه لا يمكن للمسلم إلّا أن يقدّم رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه وعلى جميع الاقوام ، لكن العقلية الأموية والمروانية كانت تسعى في طمس آثار آل الرسول بكل ثقلها وجهدها.

وفي العصر العباسي ، دخل الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام يوماً على المتوكّل فقال له المتوكل : يا أبا الحسن مَن أشعر الناس؟ ـ وكان قد سأل قبله عليّ بن الجهم ، فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام ـ فلمّا سأل الإمامَ قال : عليّ الحماني حيث يقول :

لقد فاخَرَتْنا من قريش عصابةٌ

بمــطّ خُدود وامـتدادِ أصـابعِ

__________________

(١) أمالي الطوسي ٦٨٧ ـ ٦٨٨ ، مجلس يوم الجمعة السابع من شعبان ٤٥٧ هـ.

(٢) انظر انساب الاشراف ١٣ : ١٢٨. وفيه انّ إبراهيم بن هشام بن عبدالملك قال لابن ميادة : يا ماصَّ بظر أمّه أنت فضلت قريشاً ، وجرّده فضربه مائة سوط أو أقل.

١١٩

فلــمّا تَــنازَعنا المقــالَ قـضى لنا

عليهم بما نهوى نداءُ الصَّوامعِ

قال المتوكّل : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ قال : «أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله» جدّي أم جدّك؟ فضحك المتوكل ثمّ قال : هو جدّك لا ندفعك عنه (١).

تَرانا سُكوتاً والشهيدُ بفضلِنا

تَراهُ جَهيرَ الصوتِ في كلِّ جامعِ

بـأنّ رســـولَ اللهِ أحمدَ جــدُّنا

ونحـن بَنوهُ كالنجومِ الطَّوالعِ (٢)

فكان الأذان وفيه اسم محمّد ، المرفوع ذكره ، المستتبع لرفع ذكر الأئمّة من أولاده (٣) ، كان ذلك أكبر مفخرة للمسلم الحقيقي ، كما كان يؤذي أعداء الإسلام الذين ارتدوا بسبب المعراج ، ويؤذي من أرادوا جعل الأذان وفصوله أحلاماً واقتراحات ، ويؤذي معاوية الذي أرّقه ذكر اسم «محمّد» واقترانه باسم ربّ العالمين ، ويؤذي أولاد طلحة وقتلة الحسين عليه‌السلام ، كما كان يؤرق المتوكّل العباسي ، وكلّ رموز التحريف وأرباب الطموحات السلطو يين ، وكلّهم من السلك القرشي المعادي لله وللرسول ولعترة الرسول صلوات الله عليهم أجمعين.

القدرة الإلهيّة وفشل المخطّطات

إن قريشاً سعت للوقوف أمام الدعوة ودأبت على طمس معالم الإسلام ، لكن الله أبى إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ

__________________

(١) أمالي الطوسي ٢٩٣.

(٢) انظر : ديوان عليّ الحمّاني ٨١ ، ومناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٤٠٦ وفيه : «عليهم» بدل : «تراه».

(٣) لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن لا يصلوا عليه الصلاة البتراء.

١٢٠