موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

جامع ابن طولون / مصر (سنة ٣٥٩ ه‍)

قال النويري في (نهاية الاَرب في فنون الأدب) : ... وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في يوم الجمعة لثمان خَلَون من شهر ربيع الآخر ، صلّى القائد جوهر في جامع ابن طولون وأذن بـ «حيّ على خير العمل» ، وهو أوّل ما أذّن به بمصر ، ثمّ أذن بذلك بالجامع العتيق بمصر في الجمعة (١).

وقال ابن خلدون في تاريخه : ... دخل جوهر جامع ابن طولون فصلّى فيه وأمر بزيادة «حيّ على خير العمل» في الأذان ، فكان أوّل أذان أُذِّن به في مصر (٢).

وقال ابن الأثير في الكامل : ... وفي جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة سار جوهر إلى جامع ابن طولون وأمر المؤذن فأذن بـ «حيّ على خير العمل» وهو أوّل ما أذن بمصر ، ثمّ أذن بعده في الجامع العتيق وجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم (٣).

وفي (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي : ... في ثامن عشر من ربيع الآخر سنة ٣٥٩ صلّى القائد جوهر في جامع ابن طولون بعسكر كثير ، وخطب عبدالسميع بن عمر العباسي الخطيب وذكر أهل البيت وفضائلهم رضي الله عنهم ، ودعا للقائد جوهر ، وجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ، وقرأ سورة الجمعة والمنافقين في الصلاة ، وأذن بـ «حيّ على خير العمل» وهو أوّل ما أُذّن به بمصر ... وقنت الخطيب في صلاة الجمعة ، وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة أذنوا في جامع مصر العتيق بـ «حيّ على خير العمل» (٤).

__________________

(١) نهاية الارب في فنون الادب / الفن ٥ / القسم ٥ / الباب ١٢ اخبار الملوك العبيديون.

(٢) تاريخ ابن خلدون ٤ : ٤٨.

(٣) الكامل في التاريخ ٧ : ٣١.

(٤) شذرات الذهب ٣ : ١٠٠.

٣٦١

وقال المقريزي في (المواعظ والاعتبار) : ... وكان الأذان أولاً بمصر كأذان أهل المدينة وهو الله أكبر ، الله أكبر وباقيه كما هو اليوم ، فلم يزل الأمر بمصر على ذلك في جامع عمرو بالفسطاط ، وفي جامع العسكر ، وفي جامع أحمد ابن طولون وبقيّة المساجد إلى أن قَدِم القائد جوهر بجيوش المعزّ لدين الله وبنى القاهرة ، فلمّا كان في يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة صلّى القائد جوهر الجمعة في جامع أحمد بن طولون ، وخطب به عبدالسميع بن عمر العبّاسي بقلنسوة وسبنى ، وطيلسان دبسيّ ، وأذّن المؤذّنون «حيّ على خير العمل» وهو أوّل ما أذّن به بمصر.

وصلّى به عبدالسميع الجمعة ، فقرأ سورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون ، وقنت في الركعة الثانية ، وانحطّ إلى السجود ، ونسي الركوع ، فصاح به عليّ بن الـوليد قاضي عـسكر جـوهر : بطلت الصـلاة ، أعد ظهراً أربع ركعات ، ثمّ أذّن بـ «حــيّ على خير العمل» في سائر مسـاجد العسكر إلى حدود مسجد عبدالله (١).

وأنكر جوهر على عبدالسميع أنه لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في كلّ سورة ، ولا قرأها في الخطبة ، فأنكره جوهر ومنعه من ذلك.

ولأربع بقين من جمادى الأولى المذكور أذّن في الجامع العتيق بـ «حيّ على خير العمل» ، وجهروا في الجامع بالبسملة في الصلاة ، فلم يزل الأمر على ذلك طول مدة الخلفاء الفاطميين ؛ إلّا أنّ الحاكم بأمر الله في سنة أربعمائة أمر بجمع مؤذّني القصر ، وسائر الجوامع وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقي ، وقرأ أبو عليّ العباسي سجلاًّ فيه الأمر بترك «حيّ على خير العمل» في الأذان ، وأن يقال في

__________________

(١) انظر : قريباً منه في أخبار بني عبيد ١ : ٨٥.

٣٦٢

صلاة الصبح : الصلاة خير من النوم ، وأن يكون ذلك من مؤذّني القصر عند قولهم : «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله» (١).

فامتثل ذلك ، ثمّ عاد المؤذّنون إلى قول «حيّ على خير العمل» في ربيع الآخر سنة أحد وأربعمائة ، ومنع في سنة خمس وأربعمائة مؤذّني جامع القاهرة ومؤذّني القصر من قولهم بعد الأذان : «السلام على أمير المؤمنين» وأمرهم أن يقولوا بعد الأذان : الصلاة رحمك الله ...» (٢).

وفي كتاب (النجوم الزاهرة في أعلام مصر والقاهرة) : ... ثمّ في شهر ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة أذّنوا بمصر بـ «حيّ على خير العمل» واستمرّ ذلك ، ثمّ شرع جوهر في بناء جامعه بالقاهرة المعروف بجامع الأزهر ، وهو أوّل جامع بنته الرافضة بمصر (٣).

وفي تاريخ الخلفاء : في ربيع الآخر سنة ٣٥٩ أذّنوا بمصر بـ «حيّ على خير العمل» (٤).

دمشق (سنة ٣٦٠ ه‍)

قال الذهبي في تاريخ الإسلام : ... وفي صفر أعلن المؤذّنون بدمشق «حيّ

__________________

(١) مرّ عليك أنّ معاوية بن أبي سفيان هو أوّل من ابتدع هذه المقولة ورسّخ أركانها (كما عن كتب الأوائل السيوطي : ٢٦). وقد كان لهذا الأمر جذر متجذر في زمان عمر ، ذلك أنّه لمّا قدم عمر مكّة أتاه أبو محذورة وقد أذّن ، فقال : الصلاة يا أمير المؤمنين ، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح ، قال : ويحك أمجنون أنت؟! أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتّى تأتينا. (مصنف ابن أبي شيبة ١ : ٣٠٧).

(٢) المواعظ والاعتبار للمقريزي ٢ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٣) النجوم الزاهرة ٤ : ٣٢.

(٤) تاريخ الخلفاء : ٤٠٢.

٣٦٣

على خير العمل» بأمر جعفر بن فلاح نائب دمشق للمعزّ بالله ، ولم يجسر أحد على مخالفته ، وفي جمادى الآخرة أمرهم بذلك في الإقامة فتألم الناس لذلك فهلك لِعامِهِ والله أعلم (١).

وفي (سير أعلام النبلاء) : ... وفي سنة ستين تملّك بنو عبيد مصر والشام وأذنوا بدمشق بـ «حيّ على خير العمل» وغلت البلاد بالرفض شرقاً وغرباً وخفيت السنة قليلاً (٢).

ثمّ قال في (ج ١٦ : ٤٦٧) : ... وقطعت الخطبة العباسية وألبس الخطباء البياض وأذنوا بـ «حيّ على خير العمل».

وقال ابن كثير في (البداية والنهاية) : ... استقرّت يد الفاطميين على دمشق في سنة ٣٦٠ ، وأذّن فيها وفي نواحيها بـ «حيّ على خير العمل» أكثر من مائة سنة ، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها وأبواب المساجد.

وفي مصر خطب جوهر لمولاه وقطع خطبة بني العبّاس ، وذكر في خطبته الأئمّة الاثني عشر وأمر فأذّن بـ «حيّ على خير العمل» (٣).

وقال بعد ذلك : وفيها أذن بدمشق وسائر الشام بـ «حيّ على خير العمل» ، قال ابن عساكر في ترجمة جعفر بن فلاح نائب دمشق : وهو أوّل من تأمّر بها عن الفاطميين :

أخبرنا أبو محمّد الأكفاني ، قال : قال أبو بكر أحمد بن محمّد بن شرام : وفي يوم الخميس لخمس خَلَونَ من صفر من سنة ٣٦٠ أعلن المؤذّنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد وسائر المساجد بحيّ على خير العمل بعد حيّ على الفلاح ، أمرهم بذلك جعفر بن فلاح ولم يقدروا على مخالفته ، ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بُدّاً.

__________________

(١) تاريخ الإسلام : ٤٨ حوادث ٣٥١ ـ ٣٨٠ هـ.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٥ : ١١٦ ، تاريخ الخلفاء : ٤٠٢.

(٣) البداية والنهاية ١١ : ٢٨٤.

٣٦٤

وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أُمر المؤذّنون أن يُثنّوا الأذان والتكبير في الاقامة مَثْنى مَثْنى ، وأن يقولوا في الإقامة «حيّ على خير العمل» ، فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله (١).

وجاء في (النجوم الزاهرة) : ... وهي السـنة الثانـية لولاية جوهر ... على مصر وهي سنة ٣٦٠ ، وفيها عمل الرافضـة المآتـم ببغـداد في يوم عاشـوراء على العـادة في كلّ سـنة من النَّـوح واللطـم والبكـاء ، وتعليق المُسـوح ، وغلق الأسـواق ، وعملوا العيد والفرح يوم الغـدير وهو يـوم ثامن عشـر من ذي الحجّة.

وفي صفر أعلن المؤذّنون بـ «حيّ على خير العمل» بأمر القائد جعفر بن فلاح نائب دمشق للمعزّ الفاطمي ، ولم يجسر أحد على مخالفته ، ثمّ في جمادى الآخرة أمرهم ابن فلاح المذكور بذلك في الإقامة فتألم الناس (٢).

وقال أيضاً : ... وفيها (أي سنة ٣٦٠) قتل جعفر بن فلاح وهو أوّل أمير ولي دمشق لبني عبيد المغربي ، والعجب أن القرمطي أبا محمّد الحسن بن أحمد لمّا قتله بكى عليه ورثاه لأنهما يجمع بينهما التشيّع (٣).

وقد كتب المقريزي عن المعزّ لدين الله : أنه لمّا دخل مصر أمر في رمضان سنة اثنين وستّين وثلاثمائة فكتب على سائر الأماكن بمدينة مصر : «خير الناس بعد رسول الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» (٤).

__________________

(١) البداية والنهاية ١١ : ٢٨٧ ، وكلام ابن كثير يشير إلى عمل أهل السنة والجماعة بالتقية لو احسوا الضرورة لذلك ، كما يفعله اليوم الخط السلفي واتباع الطالبان ، فلا يرتضي أحد منهم أن يُنسَب إلى ابن لادن خوفاً من القتل والسجن!

(٢) النجوم الزاهرة ٤ : ٥٧.

(٣) النجوم الزاهرة ٤ : ٥٧.

(٤) المواعظ والاعتبار ٢ : ٣٤٠ ـ ٣٤١.

٣٦٥

حلب (سنة ٣٦٧ ه‍)

جاء في زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن أبي جرادة الشهير بابن العديم المتوفّى سنة ٦٦٠ : ... وانهزم (بكجور) إلى القلعة فاستعصى بها وذلك في رجب سنة خمس وستّين وثلاثمائة ، ثمّ أقام سعد الدولة يحاصر القلعة مدة حتّى نفذ ما فيها من القوت ، فسلمها (بكجور) في شهر ربيع الآخر من سنة سبع وستين وثلاثمائة.

وولى سعدُ الدولة بكجورَ حمص وجندها ، وكان تقرير أمر بكجور بين سعد الدولة وبينه على يد أبي الحسن عليّ بن الحسين بن المغربي الكاتب والد الوزير أبي القاسم.

واستقرّ أمر سعد الدولة بحلب ، وجدّد الحلبيّون عمارة المسجد الجامع بحلب ، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة سبع وستين. وغيَّر سعدٌ الأذانَ بحلب وزاد فيه : «حيّ على خير العمل محمّد وعليّ خير البشر» ، وقيل : أنه فعل ذلك في سنة تسع وستين وثلاثمائة ، وقيل : سنة ثمان وخمسين. وسير سعد الدولة في سنة سبع وستين وثلاثمائة الشريف أبا الحسن إسماعيل بن الناصر الحسني يهنّئ عضد الدولة بدخوله مدينة السلام (١).

وقال أبو الفداء في (اليواقيت والضرب في تاريخ حلب) : ... وأقام سعد الدولة يحاصر القلعة مدّة حتّى نفذ ما فيها من القوت ، فسلّمها بكجور إليه في شهر ربيع الآخر سنة ٣٦٧ ، وولى سعد الدولة بكجور حمص وجندها. وكان تقرير أمر بكجور بين سعد الدولة وبينه على يد أبي الحسن عليّ بن الحسين المغربي الكاتب والد الوزير أبي القاسم.

__________________

(١) زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم المتوفّى ٦٦٠ هـ ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، تحقيق سامي الدهان ، طـ المعهد الفرنسي.

٣٦٦

واستقرّ أمر سعد الدولة بحلب ، وجدّد الحلبيّون عمارة المسجد الجامع بحلب ، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة ٣٦٧ وغيّر سعد الدولة الأذان بحلب وزاد فيه «حيّ على خير العمل» ، محمّد وعليّ خير البشر ، وقيل أنّه فعل ذلك في سنة ٣٦٩ وقيل سنة ٥٨ (١).

ملتان ـ الهند (قبل سنة ٣٨٠ ه‍)

قال المقدسي المتوفّى (٣٨٠ هـ) في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم) ضمن حديثه عن إقليم السند :

الملتان تكون مثل المنصورة غير أنّها أعمرة ليست بكثيرة الثمار غير أنّها رخيصة الأسعار ، الخبز ثلاثون منّاً بدرهم ، والفانيد ثلاثة أمنان بدرهم ، حسنة تُشاكل دور سيراف من خشب الساج طبقات ، ليس عندهم زنا ولا شرب خمر ، ومن ظفروا به يفعل ذلك قتلوه ، أو حدّوه ، ولا يكذبون في بيع ، ولا يبخسون في كيل ، ولا يخسرون في وزن ، يحبّون الغرباء ، وأكثرهم عرب ، شربهم من نهر غزير ، والخير بها كثير ، والتجارات حسنه ، والنعم ظاهرة ، والسلاطين عادلة ، لا ترى في الأسواق متجملة ، ولا أحد يحدّثها علانية ... إلى أن يقول :

وأهل الملتان شيعة يحيعلون في الأذان ويُثنّون في الإقامة ، ولا تخلو القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة وليس به مالكية ولا معتزلة ، ولا عمل للحنابلة ، إنّهم على طريقة مستقيمة ، ومذاهب محمودة ، وصلاح وعفّة ، قد أراحهم الله من الغلوّ والعصبيّة والهرج والفتنة (٢).

__________________

(١) اليواقيت والضرب لإسماعيل أبي الفداء : ١٣٤ ، تحقيق محمد جمال وفالح بكور.

(٢) احسن التقاسم ومعرفة الاقاليم : ٤٨٠ وفيه (يهوعلون) ويبدو أنّه تصحيف : يحوعلون أو يحيعلون ، ومعناه قولهم (حيّ على خير العمل) في الأذان.

٣٦٧

مصر (سنة ٣٩٣ ه‍)

شرح ابن خلدون حال الحاكم بأمر الله العبيدي الذي ولي الخلافة (٣٨٦ ـ ٤١١) فقال : ... وأمّا مذهبه في الرافضة فمعروف ، ولقد كان مضطرباً فيه مع ذلك ، فكان يأذن في صلاة التراويح ثمّ ينهى عنها ، وكان يرى بعلم النجوم ويُؤثِره. ويُنقل عنه أنه منع النساء من التصرف في الأسواق ، ومنع من أكل الملوخيا ، ورفع إليه أن جماعة من الروافض تعرّضوا لأهل السنّة في التراويح بالرجم ، وفي الجنائز ، فكتب في ذلك سجلاً قُرئ على المنبر بمصر كان فيه : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين يتلو عليكم من كتاب الله المبين (لَا إِكْراهَ في الدِّين) ...

إلى أن يقول : يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون ، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون ، صلاة الخمس للدين بها جاءهم فيها يصلون ، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ، ولا هم عنها يُدَفعون ، يخمّس في التكبير على الجنائز المخمّسون ، ولا يمنع من التكبير عليها المربّعون ، يؤذن بـ «حيّ على خير العمل» المؤذّنون ، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون ... ولا يؤذن من بها لا يؤذنون ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة (١).

وقال ابن الأثير في الكامل عن سبب قتله «... وقيل كان سبب قتله أنّ أهل مصر كانوا يكرهونه لما يظهر منه من سوء أفعاله ، فكانوا يكتبون إليه الرِّقاع فيها سَبّه ، ـ إلى أن يقول ـ : منها أنه أمر في صدر خلافته بسبّ الصحابة رضي الله عنهم ، وأن تكتب على حيطان الجوامع والأسواق ، وكتب إلى سائر عماله بذلك ، وكان ذلك في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ٤ : ٦٠ ـ ٦١.

٣٦٨

ثمّ أمر في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة بترك صلاة التراويح ، فاجتمع الناس بالجامع العتيق ، وصلّى بهم [إماماً] جميع رمضان ، فأخذه وقتله ، ولم يصلِّ أحد التراويح إلى سنة ثمان وأربعمائة ، فرجع عن ذلك وأمر بإقامتها على العادة.

وبنى الجامع براشدة ، وأخرج إلى الجوامع والمساجد من الآلات والمصاحف ، والستور والحصر ما لم ير الناس مثله ، وحمل أهل الذمة على الإسلام ، أو المسير إلى مأمنهم ، أو لبس الغيار ، فأسلم الكثير منهم ، ثمّ كان الرجل منهم بعد ذلك يلقاه فيقول له : إني أريد العود إلى ديني ، فيأذن له ، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ... (١)

وممّا يجب التنويه به هنا هو أن الحكام ـ بوصفهم حكّاماً ـ قد يتخذون بعض المواقف لمصلحة ، وقد تتدخل السياسة في بعض تصرفاتهم ، ولا أستثني الفاطميين من العباسيين أو العكس ، فهم بشر كغيرهم لهم ميولاتهم ونزعاتهم ، ولا يمكن النجاة من ذلك إلّا بالإمام المعصوم.

بل الذي ذكرناه أو نذكره ما هو إلّا بيان لامتداد النهجين ، وإن استُغلّ من قبل الحكام في بعض الحالات.

اليمامة (سنة ٣٩٤ ه‍)

ذكر ناصر خسرو المروزي الملقّب بحجّة المتوفّى سنة ٤٥٠ هـ في رحلته وعند حديثه عن أحوال مدينة اليمامة : ... وأمراؤها علويّون منذ القديم ، ولم ينتزع أحد هذه الولاية منهم .... ومذهبهم الزيديّة ، ويقولون في الإقامة (محمّد وعليّ خير البشر وحيّ على خير العمل) (٢).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٧ : ٣٠٥ حوادث سنة ٤١١.

(٢) سفر نامه ناصر خسرو : ١٢٢.

٣٦٩

المدينة / مصر (سنة ٤٠٠ ه‍)

جاء في (النجوم الزاهرة) : أنّ الحاكم بأمر الله العبيدي أرسل إلى مدينة الرسول إلى دار جعفر الصادق مَن فتحها وأخذ منها ما كان فيها من مصحف وسرير والآت. وكان الذي فتحها ختكين العضدي الداعي ، وحمل معه رسوم الأشراف ، وعاد إلى مصر بما وجد في الدار. وخرج معه من شيوخ العلوية جماعة ، فلمّا وصلوا إلى الحاكم أطلق لهم نفقات قليلة وردّ عليهم السرير وأخذ الباقي ، وقال : أنا أحقّ به ، فانصرفوا داعين عليه ، وشاع فعله في الأمور التي خرق العادات فيها ودعي عليه في أعقاب الصلوات ، وظوهر بذلك فأشفق فخاف ، وأمر بعمارة دار العلم وفرشها ، ونقل إليها الكتب العظيمة وأسكنها من شيوخ السنّة شيخين يُعرف أحدهما بأبي بكر الأنطاكي ، وخلع عليهما وقرّبهما ورسم لهما بحضور مجلسه وملازمته ، وجمع الفقهاء والمحدثين إليها وأمر أن يقرأَ بها فضائل الصحابة ، ورفع عنهم الاعتراض في ذلك ، وأطلق صلاة التراويح والضحى ، وغيَّر الأذان وجعل مكان «حيّ على خير العمل» «الصلاة خير من النوم» ، وركب بنفسه إلى جامع عمرو بن العاص وصلّى فيه الضحى ، وأظهر الميل إلى مذهب مالك والقول به .. وأقام على ذلك ثلاث سنين ، وفعل ما لم يفعله أحد.

ثمّ بدا له بعد ذلك فقتل الفقيه أبا بكر الانطاكي والشيخ الآخر وخَلقاً كثيراً من أهل السنّة ، لا لأمر يقتضي ذلك ، وفَعَلَ ذلك كلّه في يوم واحد ، وأغلق دار العلم ، ومنع من جميع ما كان فعله (١).

وقال المقريزي في (المواعظ والاعتبار) : ... وفي صفر سنة أربعمائة شُهِر جماعة

__________________

(١) النجوم الزاهرة ٤ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٣٧٠

بعد أن ضربوا بسبب بيع الفقاع والملوخيا (١) والدلينس والترمس ، وفي تاسع عشر شهر شوّال أمر الحاكم بأمر الله برفع ما كان يؤخذ من الخمس والزكاة والفطرة والنجوى ، وأبطل قراءة مجالس الحكمة في القصر ، وأمر بردّ التثويب في الأذان ، وأذّن للناس في صلاة الضحى وصلاة التراويح ، وأمر المؤذّنين بأسرهم في الأذان بأن لا يقولوا «حيّ على خير العمل» ، وأن يقولوا في الأذان للفجر : «الصلاة خير من النوم» ، ثمّ أمر في ثاني عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة بإعادة قول «حيّ على خير العمل» في الأذان وقطع التثويب وترك قولهم «الصلاة خير من النوم» ، ومنع من صلاة الضحى وصلاة التراويح ، وفتح باب الدعوة ، وأعيدت قراءة المجالس بالقصر على ما كانت ، وكان بين المنع من ذلك والأذان فيه خمسة أشهر.

وضُرب في جمادى من هذه السنة جماعة وشُهروا بسبب بيع الملوخيا والسمك الذي لا قشر له وشرب المسكرات وتتبّع السكارى فضيّق عليهم (٢).

وفي السادس والعشرين منه [من المحرم سنة ٤٠١ هـ] قرئ بجامع مصر سجلّ يتضمن النهي عن معارضة الحاكم فيما يفعله وترك الخوض فيما لا يعني ، وإعادة «حيّ على خير العمل» إلى الأذان وإسقاط «الصلاة خير من النوم» والنهي عن صلاة التراويح والضحى ... (٣)

__________________

(١) لأنّه كان قد قرئ في سنة ٣٩٥ سِجِلٌّ فيه منع الناس من تناول الملوخيا أكلة معاوية ابن أبي سفيان المفضَّلة ومنعهم من أكل البقلة المسماة بالجرجير المنسوبة إلى عائشة ومن المتوكّلية المنسوبة إلى المتوكّل ، والمنع من عجين الخبز بالرِّجل ، والمنع من أكل الدلينس ، وكان في هذا الكتاب أيضاً : المنع من عمل الفقاع وبيعه في الأسواق ، لما يؤثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من كراهية شرب الفقاع ، وضرب في الطرقات والأسواق بالجرس ونودي أن لا يدخل أحد الحمام إلّا بمئزر ، ولا تكشف امراة وجهها في طريق ولا خلف جنازة ولا تتبرج ، ولا يباع شيء من السمك بغير قشر ولا يصطاده أحد من الصيادين. (المواعظ والاعتبار ٢ : ٣٤١).

(٢) المواعظ والاعتبار ٢ : ٣٤٢.

(٣) نهاية الارب في فنون الادب / الفن ٥ / القسم ٥ / الباب ١٢ اخبار الملوك العبيديون.

٣٧١

بغداد (سنة ٤٤١ ـ ٤٤٢ ه‍)

ذكر ابن الأثير في حوادث هذه السنة : ... وفيها مُنع أهل الكرخ من النَّوح ، وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء ، فلم يقبلوا وفعلوا ذلك ، فجرى بينهم وبين السنيّة فتنة عظيمة قُتل فيها وجرح كثير من الناس ، ولم ينفصل الشرّ بينهم حتّى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم فكفّوا حينئذ.

ثمّ شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ ، فلمّا رآهم السنيّة من القلاّئين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلاّئين ، وأخرج الطائفتان في العمارة مالاً جليلاً ، وجرت بينهما فتن كثيرة ، وبطلت الأسواق وزاد الشر حتّى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به.

وتقدّم الخليفة إلى أبي محمّد بن النسوي بالعبور وإصلاح الحال وكفّ الشر ، فسمع أهل الجانب الغربي ذلك فاجتمع السنة والشيعة على المنع منه ، وأذّنوا في القلاّئين وغيرها بـ «حيّ على خير العمل» وأذّنوا في الكرخ بـ «الصلاة خير من النوم» وأظهروا الترحّم على الصحابة ، فبطل عبوره (١).

وفي (المنتظم) وضمن بيان حوادث سنة ٤٤٢ هـ : ... انّه ندب أبو محمّد النسوي للعبور وضبط البلد ، ثمّ اجتمع العامّة من أهلِ الكرخ والقلاّئين وباب الشعير وباب البصرة على كلمة واحدة في أنه متى عبر ابن النسوي أحرقوا أسواقهم وانصرفوا عن البلد ، فصار أهل الكرخ إلى باب نهر القلاّئين ، فصلّوا فيه وأذنوا في المشهد «حيّ على خير العمل» وأهل القلاّئين بالعتيقة والمسجد بالبزّازين بـ «الصلاة خير من النوم» واختلطوا واصطلحوا وخرجوا إلى زيارة المشهدين مشهد عليّ والحسين (٢).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٨ : ٥٣.

(٢) المنتظم ١٥ : ٣٢٥.

٣٧٢

وفي (تاريخ أبي الفداء) : ... وقعت الفتنة ببغداد بين السنّة والشيعة ، وعَظُم الأمر حتّى بطلت الأسواق ، وشرع أهل الكرخ في بناء سور عليهم محيطاً بالكرخ ، وشرع السنّة من القلاّئين ومن يجري مجراهم في بناء سور على سوق القلائين ، وكان الأذان بأماكن الشيعة بـ «حيّ على خير العمل» وبأماكن السنة «الصلاة خير من النوم» (١).

وفي (النجوم الزاهرة) : ... فيها كان من العجائب أنّه وقع الصلح بين أهل السنّة والرافضة وصارت كلمتهم واحدة ، وسبب ذلك : أن أبا محمّد النسوي ولي شرطة بغداد وكان فاتكاً ، فاتّفقوا على أنّه متى رحل إليهم قَتَلوه ، واجتمعوا وتحالفوا ، وأُذّن بباب البصرة «حيّ على خير العمل» ، وقرئ في الكرخ فضائل الصحابة ، ومضى أهل السنة والشيعة إلى مقابر قريش ، فعدّ ذلك من العجائب ، فإنّ الفتنة كانت قائمة والدماء تُسكب والملوك والخلفاء يعجزون عن ردّهم حتّى ولي هذا الشرطة ، فتصالحوا على هذاالأمر اليسير (٢).

بغداد (سنة ٤٤٣ ه‍)

قال ابن الأثير في (الكامل) : ... في هذه السنة في صفر تجدّدت الفتنة ببغداد بين السنّة والشيعة وعظمت أضعاف ما كانت قديماً ، فكان الاتفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن ، وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السمّاكين ، وأهل القلاّئين في عمل ما بقي من باب مسعود ، ففرغ أهل الكرخ ، وعملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب : «محمّد وعليّ خير

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٧٠.

(٢) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ٥ : ٤٩.

٣٧٣

البشر» ؛ وأنكر السنيّة ذلك وادّعوا أنّ المكتوب : «محمّد وعليّ خير البشر ، فمن رضي فقد شكر ، ومن أبى فقد كفر» ؛ وأنكر أهلُ الكرخ الزيادةَ وقالوا : ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا ، فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمّام نقيب العبّاسيّين ، ونقيب العلويّين وهو عدنان بن الرضي ، لكشف الحال وإنهائه ، فكتبا بتصديق قول الكرخيّين ، فأمر حينئذ الخليفة ونوّاب الرحيم بكفّ القتال ، فلم يقبلوا. وانتدب ابن المذهب القاضي ، والزهيريّ ، وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبدالصمد بحمل العامّة على الإغراق في الفتنة ، فأمسك نوّابُ الملك الرحيم عن كفّهم غيظاً من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ، ومنع هؤلاء السُّنّة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ ، وكان نهر عيسى قد انفتح بثقُهُ ، فعظم الأمر عليهم ، وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف ، وصبّوا عليه ماء الورد ، ونادوا : الماء للسبيل ؛ فأغروا بهم السُّنّة.

وتشدّد رئيس الرؤساء على الشيعة ، فمحوا : «خير البشر» ، وكتبوا : «عليهما السلام» ، فقالت السُّنّة : لا نرضى إلّا أن يُقلع الآجرّ الذي عليه «محمّد وعليّ» وأن لا يؤذَّن : «حيَّ على خير العمل» ؛ وامتنع الشيعة من ذلك ، ودام القتال إلى ثالث ربيع الأوّل ، وقُتل فيه رجل هاشميّ من السنيّة ، فحمله أهله على نعش ، وطافوا به في الحربيّة ، وباب البصرة ، وسائر محالّ السُّنّة ، واستنفروا الناس للأخذ بثأره ، ثمّ دفنوه عند أحمد بن حنبل ، وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدّم.

فلمّا رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن فأُغلق بابه ، فنقبوا في سوره وتهدّدوا البوّاب ، فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضّة وسُتور وغير ذلك ، ونهبوا ما في الترب والدور ، وأدركهم الليل فعادوا.

فلمّا كان الغد كثر الجمع ، فقصدوا المشهد ، وأحرقوا جميع الترب والآراج ، واحترق ضريح موسى ، وضريح ابن ابنه محمّد بن عليّ الجواد ، والقُبّتان الساج

٣٧٤

اللتان عليهما ، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بُوَيْه ، مُعزّ الدولة ، وجلال الدولة ، ومن قبور الوزراء والرؤساء ، وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور ، وقبر الأمين محمّد بن الرشيد ، وقبر أمّه زبيدة ، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجرِ في الدنيا مثله.

فلمّا كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمّد بن عليّ لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل ، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر ، فجاء الحفر إلى جانبه.

وسمع أبو تمّام نقيب العبّاسيّين وغيره من الهاشميّين السنيّة الخبرَ ، فجاؤوا ومنعوا عن ذلك ، وقصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيّين فنهبوه ، وقتلوا مدرّس الحنفيّة أبا سعد السَّرَخْسيّ ، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء. وتعدّت الفتنة إلى الجانب الشرقيّ ، فاقتتل أهل باب الطاق وسوق بَجّ ، والأساكفة ، وغيرهم.

ولمّا انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دُبَيْس بن مَزيد عَظُم عليه واشتدّ وبلغ منه كلّ مبلغ ؛ لأنّه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل وتلك الولاية كلّهم شيعة ، فقُطعت في أعماله خطبةُ الإمام القائم بأمر الله ، فروسل في ذلك وعُوتب ، فاعتذر بأنّ أهل ولايته شيعة ، واتّفقوا على ذلك ، فلم يمكنه أن يَشُقّ عليهم كما أنّ الخليفة لم يمكنه كفّ السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا ، وأعاد الخطبة إلى حالها (١).

وقد ذكر ابن الجوزي هذه الحادثة في (المنتظم) إلى أن يقول : ... وفي يوم الجمعة لعشر بقين من ربيع الآخر خطب بجامع براثا وأسقط «حيّ على خير العمل» ودق الخطيب المنبر وقد كانوا يمنعون منه ، وذكر العبّاس في خطبته (٢).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٨ : ٥٩ ـ ٦٠ حوادث سنة ٤٤٣.

(٢) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ١٥ : ٣٣١ وتاريخ ابي الفداء ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، وتاريخ الإسلام ٣٠ : ٩.

٣٧٥

بغداد (سنة ٤٤٤ ـ ٤٤٥ ه‍)

ذكر ابن الأثير عدّة حوادث في هذه السنة ، وقال : «وفيها عُمل محضرٌ ببغداد يتضمّن القدح في نسب العلويّين أصحاب مصر ، وأنّهم كاذبون في ادّعائهم النسبَ إلى عليّ عليه‌السلام ، وعَزَوهم فيه إلى الدَّيصانيّة من المجوس ، والقدّاحيّة من اليهود ، وكتب فيه العلويّون ، والعبّاسيّون ، والفقهاء ، والقضاة ، والشهود ، وعُمل به عدّة نسخ ، وسُيِّر في البلاد ، وشُيّع بين الحاضر والباد ....

وفيها حدثت فتنة بين السُّنة والشيعة ببغداد ، وامتنع الضبط ، وانتشر العيّارون وتسلّطوا ، وجَبَوا الأسواق ، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال ، وكان مقدّمهم الطِّقطِقيّ والزَّيْبق ، وأعاد الشيعة الأذان بـ «حيّ على خير العمل» ، وكتبوا على مساجدهم : «محمّد وعليّ خير البشر» ؛ وجرى القتال بينهم ، وعظم الشرّ (١).

ثمّ صدّر حوادث سنة خمس وأربعين وأربعمائة بذكر الفتنة بين السنّة والشيعة ببغداد ، فقال :

في هذه السنة ، في المحرّم ، زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السُّنّة ، وكان ابتداؤها أواخر سنة أربع وأربعين [وأربعمائة].

فلمّا كان الآن عظم الشرّ ، واطّرحت المراقبة للسلطان ، واختلط بالفريقَيْن طوائف من الأتراك ، فلمّا اشتدّ الأمر اجتمع القوّاد واتفقوا على الركوب إلى المحالّ وإقامة السياسة بأهل الشرّ والفساد ، وأخذوا من الكرخ إنساناً علويّاً وقتلوه ، فثار نساؤه ، ونَشَرنَ شعورهنّ واستَغَثنَ ، فتَبعهنّ العامّة من أهل الكرخ ، وجرى بينهم

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٨ : ٦٤ ، وانظر كلام ابن العماد الحنبلي في حوادث سنة ٤٠٢ «الشذرات ٣ : ١٦٢».

٣٧٦

وبين القوّاد ـ ومَن معهم من العامّة ـ قتال شديد ، وطَرَح الأتراك النار في أسواق الكرخ ، فاحترق كثير منها ، وألحقتها بالأرض ، وانتقل كثير من الكرخ إلى غيرها من المحالّ.

وندم القوّاد على ما فعلوه ، وأنكر الإمام القائم بأمر الله ذلك ، وصلح الحال ، وعاد الناس إلى الكرخ ، بعد أن استقرّت القاعدة بالديوان بكفّ الأتراك أيديهم عنهم (١).

وفي (تاريخ أبي الفداء) : ... وفي هذه السنة (ت ٤٤٤ هـ) كانت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة ، واعادت الشيعة الأذان «بحيّ على خير العمل» ، وكتبوا على مساجدهم : «محمّد وعليّ خير البشر» (٢).

بغداد (سنة ٤٤٨ ه‍)

ذكر ابن الأثير في حوادث هذه السنة : ... وفيها أمر الخليفة بأن يؤذّن بالكرخ والمشهد وغيرها : «الصلاة خير من النوم» ، وأن يتركوا : «حيّ على خير العمل» ففعلوا ما أمرهم به خوف السلطنة وقوتها (٣).

وقال ابن الجوزي في (المنتظم) : ... وفي هذه السنة أقيم الأذان في المشهد بمقابر قريش ومشهد العتيقة ومساجد الكرخ بـ «الصلاة خير من النوم» ، وأزيل ما كانوا يستعملونه في الأذان من «حيّ على خير العمل» وقلع جميع ما كان على أبواب الدور والدروب من «محمّد وعليّ خير البشر».

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٨ : ٦٥.

(٢) تاريخ أبي الفداء ٢ : ١٧٢ ، البداية والنهاية ١٢ : ٦٨ ، العبر في خبر من غبر ٣ : ٢٠٥ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٣٠ : ٩.

(٣) الكامل في التاريخ ٨ : ٧٩ ، وفي النجوم الزاهرة ٥ : ٥٩ مثله.

٣٧٧

ودخل إلى الكرخ منشدو أهل السنة من باب البصرة فأنشدوا الاشعار في مدح الصحابة ، وتقدم رئيس الرؤساء إلى ابن النسوي بقتل أبي عبدالله بن الجلاب شيخ البزّازين بباب الطاق ، لِما كان يتظاهر به من الغلو في الرفض ، فقُتل وصلب على باب دكانه ، وهرب أبو جعفر الطوسي ونُهبت داره ، وتزايد الغلاء فبيع الكرّ الحنطة بمائة وثمانين ديناراً (١).

وفي (البداية والنهاية) : ... وفيها ألزم الروافض بترك الأذان بـ «حيّ على خير العمل» وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح وبعد حيّ على الفلاح ، «الصلاة خير من النوم» مرتين ، وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة : «محمّد وعليّ خير البشر» ، ودخل المنشدون .... ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة ، وذلك أنّ نوءُ الرافضة اضمحلّ ، لأنّ بني بويه كانوا حكاماً وكانوا يقوونهم وينصرونهم ، فزالوا وبادوا وذهب دولتهم (٢).

وفي (السيرة الحلبية) : ... وذكر بعضهم أنّ في دولة بني بويه كانت الرافضة تقول بعد الحيعلتين «حيّ على خير العمل» ، فلمّا كانت دولة السلجوقية منعوا المؤذنين من ذلك وأمروا أن يقولوا في أذان الصبح بدل ذلك «الصلاة خير من النوم» (٣).

وفي (النجوم الزاهرة) : وفيها أقيم الأذان في مشهد موسى بن جعفر ومساجد الكرخ بـ «الصلاة خير من النوم» على رغم أنف الشيعة ، وأُزيل ما كانوا يقولونه في الأذان من «حيّ على خير العمل» (٤).

__________________

(١) المنتظم ١٦ : ٧ ـ ٨.

(٢) البداية والنهاية ١٢ : ٧٣.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٣٠٥.

(٤) النجوم الزاهرة ٥ : ٥٩.

٣٧٨

وممّا يجب التنبيه عليه أنّ جماعة من السنة ببغداد قد ثاروا في سنة ٤٤٧ هـ وقصدوا دار الخلافة وطلبوا أن يسمح لهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فأذن لهم وزاد شرهم ، ثمّ استأذنوا في نهـب دور البسـاسـيري [ذي المـيول الشـيعية الذي أجاز الأذان بالحيعلة الثالثـة] وكان غائـباً في واسـط فأذن لهـم الخليفـة.

وهي تلك السـنة التي وقعت فيها الفتنة بين الشـافعية والحـنابلة ببغداد وأنكرت الحنابلة على الشافعية الجهر بالبسملة والقنوت في الصبح والترجيع بالأذان (١).

وذكر ابن الأثير بعض حوادث هذه السنة ، فقال : ... فتبعهم من العامة الجم الغفير وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ومنعوا من الترجيع في الأذان ، والقنوت في الفجر ، ووصلوا إلى ديوان الخليفة ، ولم ينفصل حال ، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير ، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة فأخرج مصحفاً وقال : أزيلوها من المصحف حتّى لا أتلوها (٢).

وهذا يشير إلى أن الخلاف الفقهي بين المسلمين لا ينحصر في الحيعلة الثالثة ولا ينحصر بالطالبيين ، فقد يذهب بعض أهل السنة إلى خلاف المشهور عندهم لثبوت شرعيتها عنده وهذا ما نريد قوله ، وهو وجود أصل متجذر للمختلف فيه بين المسلمين ، وأن الطالبيين كانوا جادّين في الحفاظ على ما تلقوه ورووه من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونهج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

أما عموم اتباع نهج الخلفاء فكانوا يتبعون عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء فيما شرعوه من الأمور التي أشار الامام علي عليه‌السلام إليها سابقاً.

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ٢ : ١٧٤.

(٢) الكامل في التاريخ ٨ : ٧٢ ـ ٧٣ حوادث سنة (٤٤٧).

٣٧٩

بغداد (سنة ٤٥٠ ه‍)

قال ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) : .. ثمّ إن البساسيري (١) وصل إلى بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام على غاية الضر والفقر ، وكان معه أبو الحسن بن عبدالرحيم الوزير ، فنزل البساسيري بمشرعة الروايا ، ونزل قريش بن بدران وهو في مائتي فارس عند مشرعة باب البصرة ، وركب عميد العراق ومعه العسكر والعوام وأقاموا بازاء

عسكر البساسيري ، وعادوا وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي صاحب مصر ، وأمر فأذن بـ «حيّ على خير العمل» وعقد الجسر وعبر عسكره إلى الزاهر (٢).

وجاء في (النجوم الزاهرة) : ... ثمّ دخل الأمير أبو الحارث أرسلان البساسيري بغداد في ثامن ذي القعدة بالرايات المستنصرية وعليها ألقاب المستنصر هذا صاحب مصر ، فمال إلى البساسيري أهل باب الكرخ وفرحوا به لكونهم رافضة ، والبساسيري وخلفاء مصر أيضاً رافضة ، فانضموا إلى البساسيري وتشفّوا من أهل السنة وشمخت أنوف المنافقين الرافضة وأعلنوا بالأذان بـ «حيّ على خير العمل» ببغداد.

واجتمع خلق من أهل السنة على الخليفة القائم بأمر الله العباسي وقاتلوا معه وفشت الحرب بين الفريقين في السفن أربعة أيّام.

وخطب يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة ببغداد للمستنصر هذا صاحب

__________________

(١) كان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة [البويهي] ، تقلبت به الأمور حتّى بلغ هذا المقام المشهور ، واسمه أرسلان وكنيته أبو الحارث. انظر : الكامل لابن الأثير ٨ : ٨٧ احداث سنة ٤٥١.

(٢) الكامل في التاريخ ٨ : ٨٣ ، وانظر : البداية والنهاية ١٢ : ٨٢ ، تاريخ ابن خلدون ٣ : ٤٤٩.

٣٨٠