الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

للتّوبيخ والتّعجيز في صحّته ، من (١) جملته. وقد كان القوم يسمعونها حالا بعد حال ، وفيها من التّحريك والإزعاج ما هو معلوم. وهذه الآيات نزلت بمكّة ، والعلم بنزولها هناك مستفاد بالنّقل الّذي به علم نزولها في الجملة ، فليس لأحد أن يشكّك في تقدّم نزولها ، ويقول : لعلّها ممّا نزل في آخر الأمر!

على أنّه لو ثبت تأخير نزولها لكان ما قصده من إثبات التحدّي بالقرآن حاصلا على كلّ حال ، ولا فرق بين تقدّمه وتأخّره في الدّلالة إذا علمنا أنّ المعارضة لو كانت ممكنة لوجب وقوعها.

وسنبيّن فيما يأتي بمشيئة الله تعالى أنّ اختلاف الأحوال ، وزيادة عدد الأنصار وقلّتهم ، وقوّة الأمر وضعفه ، لا تأثير له في ذلك ، وأنّ المعارضة لو أمكنت لوقعت على تصرّف الحالات.

وربّما طعن طاعنون في هذه الطّريقة بأن يقولوا :

من أين علمتم أنّ آيات التحدّي من جملة القرآن الّذي سمعه العرب وتلي عليهم ، ولعلّها مضافة إلى الكتاب بعد تلك الأزمان؟

وكيف يصحّ أن يجمعوا بين جملة القرآن ـ وما جرى مجراه من الأقوال الظّاهرة ـ وبين تفصيل آياته وكلمه في وقوع العلم وزوال الرّيب؟ وأنتم تعلمون أنّ العلم بجملته مخالف العلم بتفصيله ؛ لأنّ العلم الأوّل يشترك فيه جميع العقلاء المخالطين لأهل الأخبار من غير اختصاص ، ولا يصحّ دخول الشّبه عليه منهم. والثّاني يدّعيه قوم من جملتهم ، ولو شكّكوا فيه لشكّ أكثرهم ، فيجب أن يصحّحوا أنّ حكم آيات التّحدّي حكم جملة القرآن ، ليصحّ ما ادّعيتموه.

__________________

(١) في الأصل : ومن ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٨١

والجواب عن هذا الطّعن :

أنّا لا نشكّ في الفرق بين العلم بجملة القرآن وتفصيله ، من الوجوه التي ذكرت (١) ، لأنّ العلم بجملته لا يشكّ في عمومه وزوال الشّبه عنه ، والعلم بتفصيله يجوز دخول الشّبه فيه.

ولسنا نرتضي طريقة من سوّى بين الأمرين وادّعى أنّ العلم بالتفصيل كالعلم بالجملة ، وأنّ من دفع العلم بالحرف والكلمة والآية ، في أنّه دافع لما يعلمه ضرورة ، كالدافع بجملة الكتاب.

غير أنّه ليس إذا لم يقع العلم بالشيء ضرورة ـ إن جعل العلم بجملة القرآن من باب الضّرورة ، أو على وجه لا مجال للشكّ والشّبه عليه ـ وجب أن ينفي ويمنع من أن يكون إلى العلم به طريق.

والعلم بآيات التحدّي وما جرى مجراها ، من تفضيل القرآن ، وإن لم يكن على حدّ العلم بجملته ؛ فإلى العلم بها طريق واضح ، وهو نقل جماعة المسلمين وتواترهم ؛ لأنّهم بأجمعهم ينقلون أنّ هذه الآيات ممّا كان يتلى على عهد الرّسول عليه وآله السّلام في جملة الكتاب. وقد علمنا أنّ شروط التّواتر حاصلة فيهم ، بل في كلّ فرقة من فرقهم ؛ فيجب أن يعلم بخبرهم صحّة نقل هذه الآيات ، وبطلان قول من قدح في إثباتها.

على أنّ آيات التحدّي ليس يخلو حالها من وجهين : إمّا أن تكون من جملة ما كان يقرأه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحتجّ به على القوم ، أو لا تكون كذلك وتكون مضافة إلى الكتاب بعد أن لم تكن فيه.

فإن كانت على الوجه الأوّل : فقد ثبت ما أوردناه من التّحدّي على آكد الوجوه.

__________________

(١) في الأصل : الذي ذكر ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٨٢

وإن كانت على الوجه الثّاني : فقد كان يجب أن يكون التعلّق بها في وقوع التحدّي حادثا مستقبلا ، ولو كان كذلك ما أمسك اليهود والنّصارى وسائر الطّوائف الخارجة عن دين الإسلام عن مواقفة أهل الإسلام على ذلك ؛ لأنّ إمساكهم لا يخلو أن يكون مع العلم بحالهم فيما أضافوه إلى كتابهم ، أو مع عدم العلم به ، ولأنّ ما فعلوه ممّا يجوز أن يخفى عليهم.

ولن يجوز أن يمسكوا مع العلم ؛ لعلمنا بتوفّر دواعيهم ، وشدّة تعلّقهم وتوصّلهم إلى كلّ أمر هجّن الإسلام وأهله ، وأدخل الشّبه على معتقديه.

ولا يجوز أيضا أن يكون ذلك ممّا خفي عليهم ؛ لأنّهم إذا كانوا من الاختلاط بأهل الإسلام على ما هو معروف ، وعلمنا أنّ احتجاج المسلمين عليهم في النبوّة متّصل غير منقطع ، سلفا على سلف ، وخلفا على خلف ، فلا بدّ متى ظهر منهم في باب التحدّي والاحتجاج على صحّة ما لم يعرفوه ، ثمّ أضافوه إلى قولهم ـ بعد أن لم يضيفوه إليه ـ أن يعلموا بذلك من حالهم ، ويواقفوهم عليه ، ويحتجّوا عليهم به.

ألا ترى أنّ المسلمين ـ بعد ما سبق لهم من الاحتجاج في المعجزات الّتي دلّ عليها الكتاب والّتي لم يدلّ عليها ما سبق ـ لو أضاف بعضهم إلى القرآن آية أو آيات تتضمّن ذكر معجزة باهرة لم يقدّم ذكرها والاحتجاج بها ، ثمّ حاجّ بها مخالفي الملّة ـ لوجب أن يعلموا محاله ، ويواقفوا على أنّ ما فعله مبتدع لم يتقدّم وجوده؟

وإذا صحّ ما ذكرناه ـ ولم يكن أحد من مخالفي الإسلام يدّعي أنّ آيات التحدّي ممّا حدث الاحتجاج بها ، وأن يشير إلى زمان بعينه ذكرت فيه ، ولم تكن مذكورة قبله ، ولا أنّ أحدا وقف على ذلك ولا ادّعاه ـ فقد ثبت أنّها من جملة الكتاب الّذي أظهره الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد اعتمد بعض المتكلّمين في ثبوت التّحدّي بالقرآن على ما نقل من قول

٢٨٣

الوليد بن المغيرة في القرآن : «إنّي قد سمعت الشّعر والخطب ، وليس هذا منه في شيء» ، ووصفه له بأنّه سحر! وقول أميّة بن خلف : «لو نشاء لقلنا مثل هذا». وإحضار بعضهم أخبار الفرس ، وادّعائه أنّه معارض للقرآن.

قال : لأنّ التحدّي لو لم يكن واقعا به ومعلوما من جهته ، لم يكن لجميع ذلك معنى.

وليس هذا ممّا يصحّ الاعتماد عليه ؛ لأنّ جميع ما ذكر ليس بمعلوم ولا مقطوع عليه ، وإنّما المرجع فيه إلى أخبار آحاد. وليس يصحّ أن يثبت التحدّي من طريق الظنّ ، بل لا بدّ فيه من العلم اليقين.

والكتاب ـ وإن نطق ببعض هذه الأخبار ـ فليس يصحّ الاعتماد عليه في صحّتها ؛ لأنّ الكتاب لا يكون حجّة ومقطوعا على صحّة أخباره إلّا بعد صحّة التّحدّي به ، فكيف يصحّ أن يرجع في إثبات التحدّي إلى ما لا يعلم إلّا بعد ثبوته؟!

على أنّ قول أميّة بن خلف : «لو نشاء لقلنا مثل هذا» لا يدلّ على أنّه تحدّي به وطولب بفعل مثله. وقد يقول الإنسان هذا مبتدئا فيما لا يدعى إليه.

وكذلك تعجّب الوليد منه ووصفه بأنّه سحر لا يدلّ على أكثر من استغرابه له واستطرافه. فأمّا الاستدلال به على التحدّي فبعيد ، والمعتمد على ما تقدّم.

٢٨٤

فصل

في أنّ القرآن لم يعارض

الكلام في هذا الباب يقع في موضعين :

أحدهما : مع من يدّعي أنّ القرآن قد عورض بمعارضة محفوظة منقولة ، ويومئ إلى كلام مسيلمة ، أو ما جرى مجراه ممّا سنذكره.

والموضع الآخر : مع من يقول : جوّزوا وقوع المعارضة ، وإن لم تكن محفوظة ولا معلومة ، ويدّعي أنّ نقلها ـ لو كانت واقعة ـ غير واجب ، أو يدّعي حصول موانع عن نقلها. والكلام على الوجه الثّاني أهمّ وأوسع ، ونحن نقدّمه.

فنقول : إنّ القرآن لو عورض لوجب نقل المعارضة والعلم بها ؛ لأنّ ظهورها في الأصل واجب ، والحاجة إلى نقلها ماسّة ، والدّواعي متوفّرة ، والعهد قريب.

وإنّما يجيز وقوع الشّيء وإن لم ينقل ، اختلال (١) هذه الشّروط الّتي ذكرناها فيه ، أو بعضها.

فأمّا إذا تكاملت فلا بدّ من النّقل ، ولهذا قال المتكلّمون : إنّ معارضة القرآن لو وقعت لجرت في النّقل مجرى القرآن ، بل زادت عليه ؛ لأنّ جميع ما يقتضي نقل

__________________

(١) في الأصل : لاختلال ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٨٥

القرآن ـ من توفّر الدّواعي ، وشدّة الحاجة ، وقرب العهد ـ حاصل في المعارضة ، وهي تزيد عليه من حيث لو وقعت لكانت هي الحجّة في الحقيقة ، وكان القرآن قائما مقام الشّبهة ونقل الحجّة. وما به تزول الشّبهة أولى في الدّين ، والدّواعي إليه أقوى. وإذا صحّت هذه الجملة ولم نجد نقلا في المعارضة ، وجب القطع على انتفائها ، وكذب مدّعيها.

فإن قيل : دلّوا أوّلا على تكامل الشّروط الّتي ذكرتموها في المعارضة لو كانت ثابتة ، وأنّ ظهورها في الأصل واجب ، والدّواعي متوفّرة إلى جميع ما عددتموه ، ثمّ دلّوا على أنّ ما هذه حاله لا بدّ من نقله ، وأنّه إذا لم ينقل علم انتفاؤه.

قلنا : أمّا الذي يدلّ على أنّ المعارضة لو وقعت لكانت ظاهرة فاشية ، فهو أنّ الّذي يدعو إلى فعلها يدعو إلى إشاعتها وإعلانها ؛ لأنّ ما دعا إلى تعاطيها هو طلب التّخلّص ممّا طلب الرّسول عليه وآله السّلام القوم به من مفارقة عاداتهم في الأديان والعبادات والرئاسات ، وأن يدفعوا بها نبوّته ، ويدحضوا حجّته ، ويصرفوا الوجوه عن اتّباعه ونصرته.

وهذه الأمور بعينها داعية إلى إظهار المعارضة وإعلانها ؛ لأنّ الغرض بها والاحتجاج بفعلها لا يتمّان إلّا مع الإظهار دون الإخفاء والكتمان ، أو لا يرى الشّاكّ فيما ذكرناه أنّ غرض القوم في تكلّف المعارضة لم يكن ليعلم الله تعالى أنّهم قد عارضوا ، بل ليعلم ذلك المحتجّ عليهم والنّاس جميعا ، فيسقطوا عنهم ما ظنّوه بهم من العجز (١) والقصور ، ويشهدوا بوضوح حجّتهم ، وعلوّ كلمتهم ، وتزول الشّبهة في صدق من ادّعى النّبوّة فيهم. وهذا كلّه لا يصحّ إلّا مع إظهار الاحتجاج وإعلانه ، وتكراره وترداده.

__________________

(١) في الأصل : المعجز ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٨٦

وأمّا العلم بأنّ الحاجة إلى نقلها ماسّة والدّواعي متوفّرة فهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى تكلّف دلالة ؛ لأنّا نعلم علما لا يخالجنا فيه شكّ ولا يعترضنا ريب أنّ مخالفي الملّة من اليهود والنّصارى ، والمجوس والبراهمة ، وأصناف الملحدين ، من الحرص على التشكيك في الإسلام وتطلّب ما يوهنه ويوقع الشّبهة فيه ، على ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه ، وأنّهم يتدبّرون ويبذلون الأموال لمن أوقع فيه شبهة وإن ضعفت ، وعضهه بعضيهة (١) وإن بعدت ، حتّى أخرجتهم هذه الأحوال إلى حفظ السّبّ والهجاء ، وإن كان لا حجّة في شيء منها ولا شبهة ، وإلى نقل كلام مسيلمة الرّكيك الدالّ على ضعف عقله ، ونقصان تمييزه ، وما جرى مجراه ، فكيف بهم لو ظفروا بمعارضة مشبهة ، وكلام مماثل؟!

وما يشكّ عندنا عاقل عارف بأحوال النّاس في أنّ الدّواعي إلى نقل ما ذكرناه تبلغ من القوّة إلى حدّ الإلجاء الذي لا مصرف عنه ولا معدل.

وأمّا الكلام في قرب العهد فواضح جدّا ؛ لأنّ حكم المعارضة في القرب حكم القرآن وسائر ما علمنا وقوعه وظهوره في تلك الأزمان ، فكيف يؤثّر بعد العهد في بعض هذه الأمور دون بعض ، وحكم الكلّ فيه متّفق غير مختلف؟

فأمّا الدّلالة على أنّ ما اختصّ بهذه الشّرائط فنقله واجب ، وهي أنّ الدّواعي إلى النقل إذا كانت على ما وصفناه من القوّة ، ولا مانع عن النقل يعقل فيوجب وقوعه ؛ لأنّ تجويز ارتفاعه ينقض ما علمناه من حصول الدّواعي وقوّتها. ويجري النقل في هذا الباب مجرى سائر الأفعال الّتي متى علمنا قوّة الدّواعي إليها وارتفاع الموانع عنها حكمنا بوجوب وقوعها ، ومتى جوّزنا ارتفاعها نقض هذا التّجويز ما فرضناه من قوّة الدّواعي ، وارتفاع الموانع.

__________________

(١) عضهه بعضيهة : قذفه بالباطل ، وباختلاق الكذب.

٢٨٧

وبمثل هذه الطّريقة يعلم أنّه لم يكن في زمن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّ ظهر على يده من المعجزات والآيات أكثر وأبهر ممّا ظهر على نبيّنا عليه وآله السّلام ، وأنّه لم يظهر على يده قرآن آخر أظهر فصاحة وأبين بلاغة من هذا ، وأنّه لم تنقلب على يده المدن ، ولم يقم (١) الأموات من قبورهم ولم تصر (٢) السّماء أرضا ، والأرض سماء.

وهذه الطّريقة أيضا نسلك في أنّه ليس بين بغداد والكوفة بلد أوسع وأكثر أهلا من بغداد ؛ وأنّه لم يكن بين ملكين عرفنا أحوالهما واتّصلت بنا آثارهما ، ملك أعظم قدرا منهما وأكثر جندا ، لم يتّصل بنا خبره ولم ينقل إلينا أحواله. ونظائر ما ذكرناه كثيرة.

ومتى لم تصحّ الطّريقة الّتي سلكناها في نفي المعارضة ، لم يكن إلى نفي سائر ما ذكرناه طريق.

على أنّا قد بيّنا أنّ المعارضة لو وقعت ، لكانت مساوية للقرآن فيما اقتضى نقله وظهوره والعلم به ، وليس يصحّ أن يتساوى شيئان في المقتضي للحكم ولا يستويان في الحكم.

وإذا وجب نقل القرآن وظهوره وجب نقل كلّ ما جرى مجراه فيما المقتضي النّقل والظّهور.

فإن قيل : قد ادّعيتم أنّ الدّواعي إلى النّقل متوفّرة والموانع مرتفعة ، وقد مضى دليلكم على إثبات الدّواعي ، فمن أين حكمتم بارتفاع الموانع؟ ولم أنكرتم أن يكون الخوف من أنصار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعوانه ، وتظاهر (٣) المستجيبين لدعوته

__________________

(١) في الأصل : ويقوم ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : وتصير ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : والا تظاهر ، وهو من سهو الناسخ.

٢٨٨

وتكاثرهم هو المانع من نقل المعارضة ، والموجب لانكتامها واندفانها؟!

قلنا : هذا يسقط من وجوه :

أحدها : أنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل جملة والعدول عنه على كلّ وجه. وإنّما يمنع ـ إن منع ـ من التّظاهر به ، بهذا جرت العادات. ألا ترى أنّ الخوف من بني أميّة في نقل فضائل أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه ، ومناقبه وسوابقه ، لمّا أن كان معلوما ومنتهيا إلى أبعد الغايات لم يمنع من نقل الفضائل ، ولا اقتضى انقطاع نقلها ، وإنّما منع من التّظاهر بالنّقل في بعض الأحوال.

ونحن نعلم أنّه لم تكن حال مخالفي الإسلام في زمن من الأزمان مشاكلة لحال (١) الشّيعة في أزمان بني أميّة وما أشبهها فيما يوجب التّقيّة ويقتضي الخمول والخوف ، ويمنع من التصرّف على الاختيار.

وإذا كان غاية الخوف ونهاية ما يوجب التقيّة لم يمنعا من النّقل ، فأولى أن لا يمنع من ذلك ما يبلغ هذه الغاية ولم يقاربها.

وثانيها : أنّ أهل الإسلام إنّما كثروا وصاروا بحيث يخاف منهم بعد الهجرة. ومدّة مقامهم بمكّة كانوا هم الخائفين المغمورين ، والتقيّة فيهم لا منهم ؛ فقد كان يجب أن تظهر المعارضة في هذه المدّة وتنتشر في الآفاق ويسير بها الرّكبان ، ولا تكون قوّة الإسلام وأهله من بعد مؤثّرة في ظهورها ، ونقلها وحصول العلم بها. وعلمنا بانتفائها في هذه الأحوال كاف في الدّلالة على النبوّة ؛ لأنّه يقتضي تعذّرها على وجه لا يخالف العادة.

وثالثها : أنّا نعلم أنّ قوّة الإسلام إنّما ابتدأت بالمدينة وبعد الهجرة ، وقد كانت في تلك الحال ممالك أهل الشّرك وبلاد الكفر غالبة على الأرض ، مطبّقة

__________________

(١) في الأصل : كحال ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٨٩

للشّرق والغرب ، ولم تزل تتناقص وتضيق بقدر سعة الإسلام وانتشاره وغلبته على مكان بعد مكان. وقبض الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكثر البلاد يغلب عليها الكفّار ، وكانت مملكة الفرس كحالها لم تنقرض ، وكذلك ممالك الرّوم ومن جرى مجراهم. وإلى هذه الغاية لم يخل العالم من بلاد كفر واسعة ، وممالك كثيرة لعلّها تقارب بلاد الإسلام ، إن (١) لم تزد عليها. فقد كان يجب أن تظهر المعارضة في هذه البلاد ويتّصل نقلها ، وكان يجب ـ إذا تقدّم ظهورها ، ومنع من نقلها والتّظاهر بذكرها غلبة الإسلام على بعض البلاد ـ أن تظهر وتنقل في غير ذلك البلد من بلاد الكفر ، وبحيث لا خوف ولا تقيّة.

ورابعها : أنّ الخوف والتقيّة لو منعا من نقل المعارضة على ما ادّعي ، لمنعا من نقل الافتراء والهجاء وما تعوطي من المعارضات التي لا تأثير لها ؛ لأنّ قوّة الإسلام وأهله ـ إن كانت مانعة من بعض ذلك وموجبة لانقطاع نقله ـ فهي [غير] مانعة من نقل جميعه.

وخامسها : أنّ تجويز خفاء المعارضة وانقطاع نقلها ، للوجه الذي ذكر ، يقتضي أن يجوز كون جماعة من الأنبياء في زمانه عليه‌السلام ظهر على كلّ واحد منهم من الآثار والمعجزات ما يزيد على ما ظهر عليه ، بل على ما ظهر على سائر الأنبياء المتقدّمين من الّذين اتّصلت بنا أخبارهم [و] كلّهم دعا إلى نسخ شرعه وإبطال أمره ، وجميعهم حاربه ونازله ، وجرى بينهم وبينه من الوقائع والغارات أكثر ممّا جرى بينه وبين قريش ، لكنّ خبرهم وتفصيل أحوالهم ممّا انكتم عنّا ولم يتّصل بنا ، لمثل ما ذكر من الخوف وغلبة الإسلام.

وكان لا ينكر أيضا أن يكون كلّ واحد من قريش قد عارضه بمعارضة أفصح

__________________

(١) في الأصل : وإن ، ولعلّ الواو من سهو الناسخ.

٢٩٠

من القرآن ، ولم ينقل شيء من ذلك ، للعلّة التي ادّعى المخالف أنّها منعت من نقل معارضة أحدهم. وما يلزم من هذا أكثر من أن يذكر ، والتّنبيه على بعضه يغني عن ذكر سائره.

ولا سبيل إلى الامتناع من شيء ممّا ذكرناه وإقامة الدّلالة على بطلانه ، إلّا وهو بعينه طريق إلى العلم بانتفاء معارضة القرآن ، ودليل على بطلانها.

فإن قيل : أليس النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نصّ عندكم على أمير المؤمنين عليه‌السلام بالإمامة ، وأعلن ذلك وأظهره ، وإن كنّا لا نجد الأمّة تنقل هذا النصّ ، ولا نعلمه كعلمها بأمثاله من الأمور الظّاهرة ، وإنّما يدّعي نقله من بين جماعة الأمّة فرقة قليلة العدد بالإضافة إلى جميع فرق الأمّة ، وتزعمون أنتم أنّ العلّة في عدول الجمهور عن نقله وإطباقهم على كتمانه انعقاد الرئاسات ، وطلب الولايات ، ودخول الشّبهات ، والميل إلى الهوى والعصبيّة ، إلى أمور كثيرة تذكرونها؟!

فإنّ السبب في خفاء النّصّ ، وقصوره في باب الظّهور من سائر الأمور الظّاهرة ، كثرة دافعيه وغلبتهم ، وقلّة المقرّين وخمولهم ، وأنّ ناقله لم يزل خائفا (من نقل وقوعه مشفقا) (١) منه ؛ فألّا جاز أن يكون القرآن قد عورض ، وخفيت معارضته علينا ولم ينقل بمثل سائر ما ذكرتموه من الغلبة والولايات والرئاسات والخوف والتّقيّة؟!

قلنا : قد رضينا بما نذهب إليه في النّصّ مثالا وعيارا ؛ لأنّ النّصّ لمّا إن وقع ـ فدعت قوما الدّواعي إلى قلبه وكتمانه والعدول عن نقله وروايته ، ودعت آخرين الدّواعي إلى روايته ونقله ـ وقع من كلّ فريق ما تقتضيه دواعيه ، فحصل الكتمان من قوم والنقل من آخرين ، وإن كانوا أقلّ عددا منهم.

__________________

(١) في الأصل : من واقعة مشفيا ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٩١

وليس لقلّة العدد من هذا الباب تأثير ، إذا كان النّقل فيما تقوم به الحجّة والخوف والتقيّة ، لمّا إن حصلا من باب النصّ لم يؤثّرا في انقطاع نقله ويمنعا من روايته ، وإنّما منعا (١) من التّظاهر به في بعض الأحوال ، والنّقل ثابت مع ذلك غير منقطع.

فقد كان يجب ـ قياسا على ما جرى ـ أن (٢) يحصل نقل المعارضة ويتّصل عمّن ذكرنا وفور دواعيه وقوّتها إلى النقل ، ولا يكون كتمان من كتمها وعدل عن نقلها ـ لأجل الرئاسة أو غيرها من ضروب الدّواعي ـ موجبا لانقطاع نقلها ، من جهة من لم يحصل له مثل هذا الدّاعي ، بل هو على ضدّه ، ودواعيه كلّها متوفّرة إلى النّقل والحفظ.

ولا يكون أيضا الخوف مانعا من نقلها ، وموجبا لدروسها وانقطاعها (٣) ، كما لم يكن موجبا مثل هذا في النّصّ. وكان الملزم لنا ما ذكرناه.

والحائل للمعارضة على النصّ يقول : إذا جاز أن يعدل عن نقل النصّ من دعته الدّواعي إلى كتمانه من فرق الأمّة ، وينقله من جملتهم من دعته الدّواعي إلى نقله ، فألّا جاز أن تقع معارضة القرآن ويعدل عن نقلها من علمنا توفّر دواعيه إلى النقل ، ومن جوّزنا أن يكون له داع إلى تركه ، حتّى يطبق الخلق على ترك النّقل ، مع علمنا بتوفّر دواعي أكثرهم إليه؟

وهذا من أوضح المعارضات فسادا وأبعدها من الصّواب ، اللهمّ إلّا أن يقول : إذا جاز في النصّ ما ذكرتموه ، فألّا جاز مثله في المعارضة؟ (ومن قبل ذلك لم

__________________

(١) في الأصل : منعنا ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) في الأصل : في أن ، وهو غير مناسب للسياق.

(٣) في الأصل : لدروسه وانقطاعه ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٩٢

يمتنع منه فنقلناه (١)) (٢).

ويجب منه أن يجيز نقل المعارضة من كلّ من علمنا توفّر دواعيه إلى نقلها من مخالفي الإسلام ، الّذين بنقل بعضهم تجب الحجّة وينقطع العذر. وإذا كنّا غير واجدين له ، قطعنا على انتفائها.

على أن لا نسلّم في نقل المعارضة من أسباب الانكتام والخفاء ، مثل ما علمنا ثبوته من نقل النصّ ؛ لأنّا نعلم أنّ الدّولة والسّلطان ، والعزّة والكثرة ، والبسطة والقدرة ، وسائر أسباب التمكّن حاصلة في مخالفي النصّ ودافعيه ، منذ قبض الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى هذه الغاية ، وأنّ القائلين بالنصّ والمعتقدين له في سائر هذه الأحوال مغمورون مقهورون ، وإن اختلفت الحال بهم :

فتارة : تنتهي بهم التقيّة والخوف إلى جحود مذاهبهم والتّظاهر بخلافها ، حتّى أنّ من عرف بمذهبه منهم إمّا أن يكون مستترا مندفنا لا يوقف على خبره ، أو مسفوكا دمه ، منتهكا حرمته! وتارة أخرى : ـ وهي أحسن أحوالهم ونهاية رجائهم ـ يكونون غير خائفين على نفوسهم ، ولا ملجئين إلى جحد مذاهبهم ، غير أنّ مخالفهم (٣) أعلى كلمة ، وأنفذ أمرا ، وأشدّ انبساطا.

وهذه أحوالهم في سائر البلاد وضروب الممالك ، فإنّا ما نعرف مملكة من الممالك ، ودولة من الدّول بذا العهد الّذي ذكرناه ، وإلى قريب من زماننا هذا كانت الشّيعة مستولية عليها ، وكان مخالفها مغمورا فيها ، وبعض هذه الأمور يقتضي من الخفاء أكثر ممّا عليه النصّ.

وليس هذه حال مخالفي الإسلام ؛ لأنّا قد بيّنا أنّهم في الأصل كانوا أكثر

__________________

(١) هكذا الكلمة وردت في الأصل غير منقوطة : فنقلناه.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) في الأصل : قادرهم ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٩٣

وأظهر ، وأنّ الإسلام لمّا عزّ وقوي وكثر أهله ، واتّسعت أقطاره ، لم يخل كلّ زمان من بلاد للكفر وأهله واسعة ، وممالك منيعة ، وسلطان ظاهر ، فكيف يسوّى بين نقل المعارضة ـ لو كان لها أصل ـ وبين نقل النصّ طي الخفاء والظهور ، وحالهما من التباين على ما وصفناه؟!

وكيف يصحّ أن يسوّي عاقل بين النّصّ والمعارضة ، ويلزم أحدهما على الآخر؟ وقد بيّنا أنّ العلم بأنّ القرآن لم يعارض معارضة ظهرت وانتشرت على الحدّ الّذي أوجبناه يجري مجرى العلم بأنّه لم يظهر في زمانه عليه‌السلام من كبير الآيات والمعجزات ، وأنّه لم يعارضه جميع العرب ، وأنّه لا بلد مشاكل بغداد بينها وبين واسط ، إلى سائر ما عددناه.

ونحن نعلم أنّ أحدا من العقلاء المخالطين لأهل الأخبار لا يشكّ في شيء من هذه الأمور ، وحكم بعضها في حصول العلم بانتفائه حكم جميعها ، وإن أراد المخالف أن يجعل هذا العلم ضروريّا فليفعل ، فما مضايقة هاهنا في الفرق بين الضّرورة والاكتساب.

ومعلوم أنّ حكم النصّ فيما ذكرناه مفارق للمعارضة وما أشبهها ؛ فإنّ مخالفنا فيه لا يمكنه أن يدّعي أنّ العلم بانتفاء النصّ على أمير المؤمنين صلوات الله عليه كالعلم بانتفاء بلد بين واسط وبغداد على الصّفة الّتي ذكرناها ، أو كالعلم بانتفاء النصّ بالإمامة على سلمان أو على أبي هريرة. وهذا بيّن في الفرق بين الأمرين.

فإن قيل : فإنّ مخالفيكم في النصّ ربّما ادّعوا العلم بفقده ، على الحدّ الّذي ذكرتموه!

قلنا : لو كان العلم بفقد النّصّ على أمير المؤمنين صلوات الله عليه يجري مجرى العلم بفقد النصّ على أبي هريرة وانتفاء البلد الّذي ذكرناه ، لوجب أن لا يصحّ من الجمع العظيم من العقلاء الاعتقاد له والتّديّن به ، كما لا يصحّ منهم ذلك في أمثاله.

٢٩٤

ولوجب أن تقبح مناظرة معتقديه ، كما قبحت مناظرة من خالف في البلدان ، واعتقد النصّ على أبي هريرة. ولكان جميع ما تكلّفه خصوم الشّيعة ـ من مناظرتهم في النصّ ، ووضع الكتب عليهم فيه ـ خطأ وعبثا!

ومن صار في الدّعوى إلى هذه الحال هانت قصّته ، وخفّت مئونته ، وما يقابل به الشّيعة من تجاسر على هذه الدّعوى من خصومهم معروف.

فإن قيل : كيف يكون العلم بفقد معارضة القرآن جاريا مجرى العلم بفقد النّبيّ الّذي وصفتموه والبلد الّذي ذكرتموه ، وقد ناظر المتكلّمون قديما وحديثا من ادّعى المعارضة ، ووضعوا الكتب عليه ، وهم لا يفعلون ذلك مع من خالف في القرآن وما جرى مجراه (١)؟

وإذا جاز أن يناظر هؤلاء ـ وإن كانت حالهم حال من خالف في البلدان وغيرها ـ جاز أيضا أن يناظر الذّاهب إلى النصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإن كانت حاله حال مدّعي النّصّ على أبي هريرة.

قلنا : لم يناظر المتكلّمون قديما ولا حديثا من ادّعى أنّ القرآن قد عورض بمعارضة ظهرت وشاعت ، وعلمها الموافق والمخالف ، ومع هذا لم تنقل ، كما أنّهم لا يناظرون من ادّعى نبيّا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبلدا غير معروف. وأكثر ما يستعمل في مثل هذا ، التنبيه والتوقيف.

وما وجدنا أيضا قوما من العقلاء يذهبون إلى وجود هذه المعارضة ، ويتديّنون باعتقادها أو تجويزها ، ولا معتبر بالواحد والاثنين ممّن يجوز أن يظهر خلاف ما يبطن ، ويهون عليه التّظاهر بالمكابرة والمباهتة.

وإنّما ناظر المتكلّمون من جوّز وقوع مناظرة لم يطّلع عليها إلّا الواحد

__________________

(١) في الأصل : مجراها ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٢٩٥

والاثنان ومن جرى مجراهما ممّن يجوز أن يكتمها ويطوي ذكرها لبعض الأغراض.

أو من قال : جوّزوا أن تكون المعارضة قد حصلت بعد قوّة الإسلام وأهله ، ممّن لم يتمكّن من إظهارها خوفا وتقيّة

فأمّا معارضة اطّلع عليها جماعة الأولياء والأعداء ، ووقع الاحتجاج بها في المحافل والمناظرة عليها في المجامع ، فليست ممّا ينكره عاقل أو يجوّزه!

فإن قيل : ولم أنكرتم أن يكون أحد العرب قد عارض القرآن ، ولم يطّلع على خبره إلّا الواحد والاثنان من أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل العصبيّة له ، وأنّ من علم بذلك من حاله قتله وطوى معارضته ، فلهذا لم تظهر؟!

قلنا : إذا كنّا قد علمنا بأنّ المعارضة لم تقع من وجوه الفصحاء وجماعة الخطباء والشّعراء الّذين كانوا يتمكّنون من إظهار المعارضة لو فعلوها ، ولا تمّ عليهم فيها شيء ممّا ذكر ، مع توفّر الدّواعي وشدّة الحرص ، فقد دلّ ذلك على أنّهم مصروفون عن المعارضة ، وأنّها متعذّرة عليهم على وجه يخالف العادة ، وأنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله صادق فيما خبّر به عن ربّه من منعهم عن مساواته ومعارضته ، تأييدا له وتصديقا لدعوته.

وتعلم حينئذ أنّ جميع الخلق في التعذّر والقصور على هذه الصّفة ، وأنّ المنع لا بدّ أن يكون عامّا شائعا ؛ لأنّ ما يقتضي حصوله في موضع من المواضع يقتضي عمومه ، ولهذا نقول كثيرا : إنّ علمنا بقصور واحد من العرب ـ ممّن علمنا تمكّنه من الفصاحة وتصرّفه فيها ـ عن المعارضة ، وأنّه رامها واجتهد فيها فلم يتأتّ له ، كاف في الدّلالة على النبوّة وصحّة المعجز ، وإن لم نعلم أنّ حكم غيره حكمه في التّعذّر. والحقّ بحمد الله أوضح وأشهر من أن يخفى على طالبيه من وجهه.

* * *

٢٩٦

فأمّا الكلام على من أشار إلى أشياء بعينهما (١) ، وادّعى أنّها معارضة للقرآن :

فربّما تعلّقوا بكلام مسيلمة ، وربّما ذكروا ما فعله النّضر بن الحارث من القصص بأخبار الفرس.

وربّما تعلّقوا بما حكاه الله تعالى في كتابه عن أبي حذيفة بن المغيرة (٢) من قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٣) إلى آخر الحكاية عنه ، ويقولون : إنّ كلامه المحكيّ يساوي سورة قصيرة من القرآن!

وربّما عمدوا إلى بعض القرآن فغيّروا من خلاله وأثنائه ألفاظا ، وأبدلوها بغيرها ، وادّعوا أنّها معارضة ، كقولهم : «إنّا أعطيناك الجماهر ، فصلّ لربّك وبادر ، إنّ شانئك لكافر»! وجميع ما حكيناه ضعيف ، وأنّه لا تدخل على عاقل به شبهة.

أمّا ما ذكروه أوّلا من التعلّق بكلام مسيلمة فجميع العقلاء ـ فضلا عن الفصحاء ـ يعلمون بعد ما حكي من كلامه عن الفصاحة ، بل عن السّداد وصحّة المعاني ، وأنّه لا حظّ له من الفصاحة ولا نصيب من الاستقامة ، حتّى أنّهم ينسبون من يستحسن إظهار مثله عن نفسه إلى الغباء والجنون ، ويقيمونه مقام من يسخر منه ويهزأ به ؛ فكيف يسوّي عاقل بين ما جرى هذا المجرى وبين أفصح الكلام وأبلغه وأصحّه معاني وأكثره فوائد؟!

وقد كان غير مسيلمة من وجوه الفصحاء وأعيان الشّعراء ، على الكلام الفصيح أقدر ، وبه أبصر وأخبر ؛ فلو كانت معارضة القرآن ممكنة وغير ممنوعة (٤) لكان القوم إليها أسبق ، وبها أولى.

وأمّا ما ذكر [و] ه ثانيا : من فعل النّضر بن الحارث فتمويهه بما فعله غير خاف على أحد ؛ لأنّ التحدّي إنّما كان بأن يأتوا بمثله في فصاحته ونظمه ، لا في طريقة

__________________

(١) في الأصل : بعينه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) هو الوليد بن المغيرة.

(٣) سورة الإسراء : ٩٠.

(٤) في الأصل : ممنوع ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٩٧

القصص والأخبار. وكيف يظنّ ذلك والاقتصار وقع في التحدّي على سورة من جملة الكتاب ، وليس كلّ سورة تتضمّن أخبار الأمم الماضية؟

ودعاؤه عليه‌السلام أيضا لهم إلى أن يأتوا بعشر سور مفتريات يدلّ على أنّه لا اعتبار في التحدّي بما تضمّنه القرآن من أخبار الأمم ، وأنّه وقع بما لا فرق بين الافتراء والصّدق.

على أنّا لم نجد أحدا من القوم احتجّ بفعل النّضر وحاجّ بمعارضته ، ولا ذكره في شيء من الأحوال على اختلافها. ولم يكن هذا إلّا لعلمهم بتمويهه ، وأنّه لا حجّة فيما صنعه ولا شبهة. وقد كان أيضا نفر من فصحاء قريش وغير قريش ـ ممّن انتهت حاله إمّا إلى الانقياد والاستجابة والبصيرة ، أو إلى القتل وتلف النّفوس والأهل والمال ـ على مثل ما فعله أقدر ، فلو علموا فيه حجّة أو شبهة لبادروا إليه.

وأمّا ما ذكروه ثالثا : من الحكاية عن أبي حذيفة بن المغيرة فإنّما حكى الله تعالى معنى كلامه لفظه بعينه ، وعلى هذا الوجه حكى تعالى في القرآن كثيرا من أقوال الأمم الماضية ، وإن كنّا نعلم أنّ لغاتهم مخالفة للّغة العرب ، وهكذا يحكي العربيّ عن الأعجميّ ، والفصيح عن الألكن.

ولو كان ما تضمّنه القرآن حكاية لفظه بعينه على ترتيبه ونظامه ، لوجب أن يحتجّ به العرب ، ويتنبّهوا على حصول المعارضة ، بل تناقض القرآن ؛ لأنّه كان يتضمّن على هذه الدّعوى ، الشّهادة بأنّ معارضة سورة ممّن عارضة غير ممكنة ، والشّهادة بأنّها قد بانت ممّن وقعت الحكاية عنه. وما يدّعي أحد من القرآن مثل هذه المعارضة (١).

__________________

(١) في الأصل : المفاوضة ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٩٨

وأمّا ما ذكروه رابعا فهو نفس القرآن ، وإنّما غيّرت منه كلمة بعد أخرى ، فليس هكذا تكون المعارضة ؛ لأنّ القول بذلك يؤدّي إلى أن يكون جميع اللّكن والمعجمين متمكّنين في معارضة سائر الفصحاء والشّعراء ؛ لأنّا نعلم أنّ هذا الضّرب من المعارضة لا يتعذّر عليهم.

وما تجري هذه المعارضة إلّا مجرى من عمد إلى بعض القصائد فغيّر قوافيها فقط ، وترك باقي ألفاظها على حاله وادّعى أنّه قد عارضها ، أو غيّر من كتاب مصنّف فاتحته وخاتمته ، فأورد جميعه على ترتيبه ، ثمّ ادّعى مثل ذلك!

على أنّا قد بيّنا أنّ من تقدّم من العرب الفصحاء الّذين أهمّهم هذا الأمر وكرثهم كانوا بهذه الأمور أقوم وأعرف ، ولم يتركوا التعرّض لها إلّا لعلمهم بأنّه لا طائل فيها.

٢٩٩
٣٠٠