الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

فإذا قال : لا.

قيل له : وأيّ فرق بين البشر في هذا والملائكة إذا كان مجوّزا ـ قبل صحّة النّبوّة ـ على الملائكة المعاصي وفعل القبيح كما يجوّزهما على البشر؟! فإنّه لا يتمكّن من إيراد وجه يفسد به الاستدلال ، إذا كان مجوّزا لما ذكرناه في البشر إلّا وهو بعينه قائم ثابت في باب الملائكة.

فأمّا قوله في أوّل الفصل : «إنّ ما يجري به عادة الملائكة قد يكون ناقضا لعادتنا ، وأنّ نقل الملائكة الشيء إلى واحد دون آخر من باب نقض العادة» ، فصحيح ، غير أنّه لا ينتفع به ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ العلم بانتقاض العادة في هذا الموضع غير كاف مع التجويز ، لما تقدّم في صحّة الاستدلال.

وإنّما يكون ما ذكره ـ من أنّ عادة الملائكة لا تمنع أن تكون فينا نقضا للعادة ـ جوابا لمن قال : إنّ عادتنا لا تنتقض إلّا بما نعلم (١) خروجه عن عادة كلّ أحد من الخلق ، وهذا غير ما نحن فيه.

قال صاحب الكتاب (٢) بعد سؤال وجواب لا طائل فيهما :

«فإن قال : إنّا نقول ـ فيما ذكرتموه في الشّمس والفلك ـ إنّه يدلّ على النّبوّة ؛ لأنّ الملك لو أراد أن يفعله على طريق الاستفساد لكان تعالى يمنع منه».

وأجاب بأن قال : فكذلك القول في القرآن. وذكر أنّ هذا فصل بعد نقض العلّة ، لأنّ الاعتلال إنّما كان بأنّ تجويز وقوعه ممّن ليس بحكيم يمنع من الاستدلال به (٣).

__________________

(١) في الأصل : نعلمه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) المغني ١٦ / ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٣) قال القاضي عبد الجبّار في المغني ١٦ / ١٧٥ : «قيل له : فكذلك القول في القرآن ، على أنّ ذلك فصل بعد نقض العلّة ؛ لأنّك اعتللت بأنّ ذلك إذا جوّز أن يكون من فعل من ليس بحكيم ، فكيف يدلّ على النّبوّات؟».

٢٢١

الكلام عليه

يقال : ما نسألك عن السّؤال الّذي أوردته على نفسك ، ولا نعتلّ بما حكيته ، ونحن نعلم شدّة حرصك على أن يعتلّ مخالفك بما ذكرته ؛ لتنتهز الفرصة في مقابلته بمثله (١) في الموضع الّذي وقع الخلاف فيه!

ولا شيء أضعف وأظهر بطلانا من التّعلّق بمنع الله تعالى في الموضعين جميعا ؛ لأنّه إيجاب عليه تعالى ما لا وجه لوجوبه.

قال صاحب الكتاب (٢) :

«فإن قال : إنّ الباب في جميع ذلك واحد عندي (٣) ، في أنّه يجب ألّا يدلّ على النّبوّات ، وإنّما يدلّ عليها ما لا يجوز حدوثه إلّا منه تعالى.

قيل له : قد بيّنا في باب مفرد أنّ ما يدخل (٤) جنسه في مقدور العباد ، إذا وقع على وجه لم تجر العادة بمثله ، فحلّ (٥) محلّ ما لا يدخل جنسه تحت مقدورهم ، إنّما يدلّ (٦) على النّبوّة لخروجه في الحدوث عن طريق (٧) العادة ؛ ولهذا الوجه لا يدلّ حدوث الثّمار وخلق الولد في الأرحام على النّبوّات ، ويدلّ على ذلك إحياء الموتى.

فإذا صحّ ذلك ، ووجدت هذه الطّريقة فيما يقدرون عليه في الجنس ـ إذا حدث على وجه مخصوص ، نحو تغيّر الأفلاك في حركاتها ، والشّمس والقمر في مطالعها ، إلى غير ذلك ـ فيجب أن يكون دالّا على النبوّات.

على أنّ هذا القول يوجب أن لا تعتبر (٨) العادات إلّا فيما يختصّ تعالى بالقدرة

__________________

(١) في الأصل : مثله ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) المغني ١٦ / ١٧٥.

(٣) في الأصل : واحد في جميع ذلك عندي.

(٤) في المغني : يدلّ.

(٥) في الأصل : يحلّ ، وما أثبتناه من المغني.

(٦) في المغني دلّ.

(٧) في الأصل : طريقة ، وما أثبتناه من المغني.

(٨) في الأصل : يغير.

٢٢٢

عليه ، لأنّ على ما سأل (١) عنه ، إذا صحّ في هذه الأمور أن يحدث من الملائكة ، وجوّز قبل السّمع أن يفعلوا ذلك ويريدوا الفساد ؛ فيجب أن يكون ذلك قدحا في العادة ، وكونها جارية على حدّ واحد من الحكيم (٢).

ولو صحّ ذلك لما علمنا العادات ، فيما يختصّ تعالى بالقدرة عليه أيضا ؛ لأنّا لا نرجع (٣) في كلّ ذلك إلّا إلى طريقة واحدة».

الكلام عليه

يقال له : إنّك بدأت (٤) بالسّؤال الّذي أوردته على نفسك ابتداء صحيحا ، ثمّ ختمته بما أفسدت به السّؤال جملة ، وطرّقت لنفسك كلاما تشاغلت به عن الفرض المهمّ الّذي يدار الخلاف عليه.

وقد قلنا فيما تقدّم : إنّ حركة الفلك وطلوع الشّمس ـ مع التّجويز الّذي ذكرناه ـ لا يدلّان (٥) على النّبوّة كما لا يدلّ غيرهما ، وأنّ العلّة في الجميع واحدة.

إلّا أنّا لم نقل ذلك من حيث لم يدلّ على النّبوّة عندنا إلّا ما لا يجوز وقوع جنسه إلّا منه تعالى ، حتّى يكون جوابك لنا عنه : أنّك ثبت في فصل مفرد أنّ ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد يجري مجرى ما لا يقدرون على جنسه ، في باب الدّلالة إذا كان خارقا.

وإنّما أبطلنا دلالة ما ذكرته على النّبوّة من الوجه الّذي تقدّم وتكرّر ، وهو أنّا لا نأمن أن يكون من فعل من يجوز أن يصدّق الكذّاب ، ولو أمنّا من ذلك لدلّ عندنا ، وإن كان جنسه مقدور العباد ، فقد صحّ أنّ التشاغل وقع بما لم ترده ، ولا يجدي نفعا.

__________________

(١) في المغني : سألت.

(٢) في المغني : الحكم.

(٣) في الأصل : نرجع ، وما أثبتناه من المغني.

(٤) في الأصل : بدّلت ، والمناسب ما أثبتناه.

(٥) في الأصل : لا بد لأن يدلّ ، وما أثبتناه هو المناسب.

٢٢٣

وأمّا اعتبار العادة فيما يختصّ القديم تعالى بالقدر عليه فلا بدّ منه ؛ لأنّ الاستدلال على النّبوّة يفتقر إليه ، حسب ما ذكرناه في ما تقدّم. فأمّا ما يجوز دخوله تحت مقدور من لا نأمن أن يفعل القبيح ، فإنّ اعتبار العادة والاستدلال بخرقها ، إنّما يصحّان متى (١) أمنّا أن يكون وقع من مستفسد فاعل للقبيح ؛ لأنّا متى أمنّا ذلك عاد الأمر ـ في صحّة الاستدلال ـ إلى الوجه الّذي دلّ أنّ أحد الأمرين تعلّق بالآخر ، حتّى يقال : من فساد هذا فسد ذلك.

فإن قال : فكيف السّبيل إلى العلم ـ فيما يجوز دخوله تحت مقدور غير القديم جلّ وعزّ ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح من ملك أو جنّيّ ـ أنّه لم يقع إلّا منه تعالى ، حتّى يستدلّ به على النّبوّة؟

وإذا كان لا سبيل إلى ذلك عاد الأمر إلى أنّ الّذي يدلّ على النّبوّات ، هو ما يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه ؛ وبطل قولكم إنّ ما يشاركه في القدرة على جنسه قد يدلّ أيضا.

قيل له : قد يمكن ذلك بأن يعلم من الأمر الظّاهر كالقرآن مثال أنّه متعذّر على البشر ، إذا تحدّى به فصحاءهم فقعدوا عن معارضته ، مع توفّر الدّواعي وقوّة البواعث. ويعلم أنّ حكم من ليس بفصيح منهم حكم الفصحاء في التّعذّر لا محالة.

ويعلم أنّه ليس من فعل ملك ولا جنّيّ ، بأن يكون الله تعالى قد أعلمنا على يد بعض رسله ؛ فمن أيّده بمعجز خارج عن أجناس مقدورات جميع المحدثين ، كفعل الحياة واللّون واختراع الجسم ، يبلغ ما ينتهي إليه الملائكة والجنّ في الفصاحة ، وأنّ عادتهم فينا كعادتنا ، والغايات التي ينتهون إليها لا تجاوز غاياتنا ؛ فحينئذ يصحّ الاستدلال به على النّبوّة ، وإن كان جنسه مقدورا لغير الله تعالى.

__________________

(١) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٢٤

قال صاحب الكتاب (١) ، بعد أن أعاد السّؤال الّذي يتضمّن الاعتلال بأنّ الله تعالى يمنع من جميع ذلك ، لما فيه من الاستفساد :

«وأجاب عنه بأنّ هذا الوجه قائم في القرآن ، فيجب لو كان من فعل (٢) غيره ـ على طريق الاستفساد ـ أن يمنع منه.

وذكر أيضا : أنّ من لم يخطر ذلك بباله ، قد (٣) يمكنه الاستدلال (٤).

فإن قال : فهل يجوز أن يدلّ ذلك على النّبوّة ، إذا كان من فعل الملك على وجه؟

ثمّ قال : قيل له : لا يمتنع أن يدلّ على ذلك ، حتّى لا يفترق الحال بين أن يكون من قبله [تعالى] (٥) وبين أن يكون من فعل الملك ؛ وإنّما منعنا فيما تقدّم أن يكون من فعله على جهة الاستفساد ، وأوجبنا أن يمنع القديم تعالى من ذلك.

فأمّا على غير هذا الوجه فلا يمتنع (٦) ؛ لأنّه لا فرق بين أن يقلب تعالى عادة الملائكة في أن يحدثوا خلافها ، أو يحدث فيهم خلاف ذلك ، إذا ثبت أنّهم يطيعون ويستمرّون على ذلك ؛ لأنّ عادتهم على هذا الوجه كالعادة الثانية (٧) ، من جهة الحكم (٨) ؛ فإذا جرت عادة الملك في أن يحرّك الفلك على طريقته (٩) ؛ ثمّ انتقض ذلك علم أحد أمرين :

إمّا أنّه تعالى ألجأه وأحدث خلاف ما جرت به العادة في عليّته (١٠) ، أو غيّر دواعيه الّتي تتبعها العادات.

__________________

(١) المغني ١٦ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٢) في المغني : قبل.

(٣) ليست في المغني.

(٤) قال القاضي في استدلاله : «وبعد ، فإنّ من لم يخطر بباله ذلك يمكنه الاستدلال ، فيجب أن لا يكون المعتبر في صحّته إلّا بما ذكرناه ، من كون ذلك خارجا عن العادة ، فيعلم عند ذلك أنّه من قبل الحكيم ، أو يكشف عن أمر من قبله ، فصحّ الاستدلال على نبوّته».

(٥) من المغني.

(٦) في الأصل : يمنع ، وما أثبتناه من المغني.

(٧) في المغني : الثابتة.

(٨) في المغني : الحكيم.

(٩) في الأصل : طريقه ، وما أثبتناه من المغني.

(١٠) في الأصل : تخليته ، وما أثبتناه من المغني.

٢٢٥

وكذلك القول في القرآن إنّه (١) إذا أنزله الملك ، وأوصله ـ عند ادّعاء الرّسول النّبوّة ـ إليه ، حتّى ظهر ؛ فلا بدّ من أن يكون فيه (٢) نقض عادة (على أحد الوجهين اللّذين ذكرناهما.

وعلى هذا الوجه قال شيوخنا : إنّ نزول الملك على الرّسول معجز لذلك الملك الّذي هو رسول إليه عن الله تعالى ؛ وإن كان النزول من فعله لما كان عندهم يتضمّن من نقض العادة.

وما ذكرناه ، فإن اتّفق مع ذلك أن ينزل على خلاف صورته فقد انضاف إليه معجز آخر ؛ لأنّ العادة لم تجر بمثله (٣).

وعلى هذا الوجه تعدّ مشاهدته صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرئيل عليه‌السلام نقض عادة (٤) ؛ لأنّها لم تجر بذلك ، وكلّ ذلك يصحّح (ما ذكرناه من قبل) (٥).

وإنّما يجب في المعجز (٦) أن يكون في حكم الواقع من قبله تعالى ، حتّى يصحّ أن يكون بمنزلة التّصديق ؛ وقد يكون كذلك بأن يحدث وبأن يعلّق (٧) بأمر حادث من قبله ، على بعض الوجوه.

ولو أنّ الواحد منّا قال لزيد : أنا رسول عمرو إليك ، فطالبه بالدّلالة ، لكان إذا أقبل على (٨) عمرو فقال : إن كنت رسولك فصدّقني (أو حرّك يدك) (٩) على رأسك ، أو قل لعبيدك وأولادك ـ الّذين تعلم من حالهم أنّهم يصدرون فيما يفعلون عن رأيك ، ولا يخالفونك ـ أن يصدّقوني فيما ادّعيت ، فوقوع ذلك منهم ، والحال (١٠) ما ذكرناه ، كوقوع التّصديق من قبله ، فكذلك القول فيه تعالى».

__________________

(١) ليست في المغني.

(٢) في المغني : منه.

(٣) في الأصل : مثله ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) زيادة في الأصل ليست في المغني.

(٥) في المغني : ما قدّمناه.

(٦) في المغني : المعجزات.

(٧) في المغني : بأن تحدث وأن تتعلّق.

(٨) من المغني.

(٩) في الأصل : وحرّك ، وما أثبتناه من المغني.

(١٠) في الأصل : والحال ذلك.

٢٢٦

الكلام عليه

يقال له : قد عرّفناك أنّا نرتضي السّؤال الّذي كرّرت إيراده على نفسك ، ولا تعقل ما تضمّنه بوجه من الوجوه.

وقولك : «إنّ من لم يخطر ذلك بباله قد يمكنه الاستدلال» ، ليس يخلو من أن تريد به : أنّ من لم يخطر بباله ، هل القرآن متقدّم الحدوث؟ أو حادث في الحال؟ أو المنزل له على الرّسول بعض الملائكة ، والله تعالى المتولّي لذلك ، بعد أن يكون آمنا من أن يكون المنزل له ـ من الملائكة ، أو المحدث له منهم إذا كان مجوّزا بحدوثه من جهتهم ـ من عصى الله في إنزاله وإحداثه على سبيل الاستفساد؟ وتصديق من ليس بصادق ، يمكنه الاستدلال به على النّبوّة ، ولا يضرّه إلّا أن يكون عالما بحصول بعض الأحوال الّتي ذكرناها.

أو تريد أنّ من لم يخطر بباله هذه الأمور ، يكون متمكّنا من الاستدلال به على النّبوّة ، مع أنّه لا يأمن أن يكون المحدث له ـ من الملائكة أو المنزل له ـ قد عصى في إحداثه أو إنزاله ، وصدّق به من لا يجب تصديقه.

أو مع تجويزه ، أن يكون من ظهر على يده هو النّاقل له إلى نفسه عمّن جعله الله تعالى علما على صدقه.

فإن أردت الأوّل فهو صحيح لا شبهة فيه ، والّذي أنكرناه غيره.

وإن أردت الثّاني فقد بيّنا بطلانه ، ودللنا على أنّ الاستدلال لا يصحّ مع قيام هذا التّجويز ، وقلنا : إنّه لا فرق بين من قال ذلك وبين من قال : إنّ من لم يخطر بباله في الفعل الّذي يظهر على مدّعي النّبوّة ؛ هل هو من جملة مقدور البشر ـ فيما يتمكّنون من فعله ـ أم ليس كذلك؟ يمكنه الاستدلال به على موته (١) ، وأنّ فقد

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٢٧

هذا العلم لا يضرّ باستدلاله؟

وكذلك من لم يخطر بباله : هل القديم تعالى غير محتاج ، وهل يجوز أن يفعل القبيح أم لا يمكنه الاستدلال على النّبوّة ، بما يعلم ظهوره من جهته على مدّعي النّبوّة ، إذا علمه خارقا للعادة؟

وليس يمكن أحدا أن يفسد دلالة ما ذكرناه على النّبوّة بشيء إلّا وهو بعينه يفسد الدّلالة بما خولفنا فيه.

فأمّا قوله : «إنّه لا فرق بين أن يتغيّر العادة في حركة الفلك بفعل القديم تعالى ، أو بفعل الملك في باب الدّلالة على النّبوّة ، بعد أن نعلم أنّ الملائكة لا يعصون ولا يستفسدون» ، فصحيح غير منكر ، ولا فرق بين أن يعلم من حالهم أنّهم لا يعصون ولا يستفسدون بما أوجبه ـ من المنع الّذي لا يجب عندنا ـ أو بغيره ؛ لأنّ الفرض وقوع الأمان من ذلك.

وهذا القول في إنزال الملك بالقرآن إلى الرّسول ، متى ثبت الأمان من الحال الّتي ذكرناها ، يكون دالّا على النبوّة ؛ وتكون عادة الملائكة ـ إذا علمنا أنّهم لا يعصون ـ كالعادة الثّانية من جهة القديم تعالى ، في أنّ خرقها يكون دالّا.

والمثل الّذي ضربه ـ فيمن ادّعى منّا على غيره أنّه رسوله ، وأنّه لا فرق بين أن يصدّقه هو نفسه ، أو يأمر بعض عبيده بتصديقه ـ صحيح أيضا ، وإنّما يكون هذا المثل مشبها لما أنكرناه لو صدّقه من عبيده وأولاده من لم يعلم أنّه أمره بتصديقه ، ولا أمنّا منه أن يعصيه ويفعل خلاف مراده.

وكلام صاحب الكتاب الآن يخالف ما تقدّم ؛ لأنّه لم يشترط فيما أطلقه أوّلا ـ من أنّه لا معتبر إلّا بوقوع الفعل على خلاف العادة ـ أن يأمن أن يكون واقعا أو منقولا ، بمستفسد عاص لله تعالى ، ولو شرط ذلك لأراح نفسه وأراحنا من التّعب.

٢٢٨

قال صاحب الكتاب (١) :

«فإن قال : كيف يصحّ في القرآن ـ وقد تقدّم من الله تعالى حدوثه (٢) قبل بعثة الرّسول بزمان ـ أن يدلّ على النبوّة؟ أتقولون : إنّه الدالّ على النبوّة ، أو إنزال الملك به ، أو تمكّن (٣) الرّسول عليه‌السلام من إظهاره؟

فإن قلتم : إنّ الّذي يدلّ عليه هو نفس القرآن ، فتقدّم حدوثه منه تعالى يمنع من ذلك.

وإن قلتم : إنّه يدلّ من الوجهين الآخرين (٤) ، أدّى إلى أن يكون الدالّ على نبوّته فعل الملك ، أو فعل الرّسول ، على وجه لا يتعلّق بفعله تعالى!

ثمّ قال : قيل له : إنّ ظهور القرآن ـ عند ادّعاء (٥) النّبوّة ـ من قبله هو الدالّ ، وهذا كما نقول (٦) : إن الفعل هو الدالّ على حال الفاعل ، لكنّه إنّما يدلّ لتعلّقه به.

فكذلك القرآن (لا بدّ من أن يكون) (٧) له تعلّق به وبدعواه ، ولا يكون كذلك إلّا بظهوره (٨) من قبله ، أو من قبل الملك ، أو كأن (٩) يحدث على حدّ الابتداء ؛ وإن كان ذلك لا يعلم من حاله إلّا بعد الاستدلال به على نبوّته ، فيعلم من بعد أنّه تعالى (١٠) أحدثه ، ولم يكن من قبل حادثا ، أو أنّه عليه وآله السّلام أحدثه بأن مكّن من علوم خارجة عن (العادة الّتي كانت للعرب) (١١).

وعلى كلّ حال ، فتقدّم وجوده لا يمنع من صحّة كونه دالّا ، كما أنّ تقدّم الإقدار على نقل الجبال وقلب المدن لا يمنع عند ظهور ذلك من قبل المدّعي للنّبوّة ،

__________________

(١) المغني ١٦ / ١٧٧.

(٢) من المغني.

(٣) في المغني : تمكين.

(٤) ليست في المغني.

(٥) في المغني : ادعائه.

(٦) في المغني : تقول.

(٧) في المغني : لأنّه قرآن يكون.

(٨) في المغني : بظهور.

(٩) في المغني : بأن.

(١٠) من المغني.

(١١) في المغني : عن عادة العرب.

٢٢٩

من كونه دالّا ، وإن كان قد تقدّم وجوده.

وهذا بيّن ؛ لأنّه تعالى إذا فعل زيادة القدر لهذا الوجه ، ثمّ ظهر بالفعل عند ادّعاء النبوّة ، فكأنّه فعله في الحال. فكذلك لا فرق بين أن يقدّم إحداث القرآن ، أو يحدثه في حال ادّعائه النبوّة في الوجه الذي ذكرناه ، فكأنّ (١) دلالته لا تتكامل إلّا (بظهوره عند ادّعاء النبوّة ، كما أنّ دلالة زيادة القدر لا تتكامل إلّا) (٢) بظهور الفعل.

ولا (٣) فرق بين أن يفعل تعالى عند الدّعوة نفس الدّلالة ، وبين أن يقدّمها لهذا الغرض وتتكامل (٤) في (٥) هذه الحال في أنّ دلالته لا تتغيّر.

فإن أراد مريد بعد ذلك أن يقول : إنّ الّذي يدلّ على النبوّة القرآن من حيث ظهر على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. أو قال : يدلّ من حيث اختصّ بالعلم العظيم به. أو قال : يدلّ من حيث أنزله الملك.

فلا (٦) يخرج ذلك القرآن من أن يكون دليلا ، وإن جوّز في (وجه ، لأنّه) (٧) واحد من هذه الوجوه».

الكلام عليه

يقال له : قد مضى الكلام على من ظنّ أنّ القرآن يكون دالّا على النّبوّة ، مع تجويز النّاظر في وجه دلالته أن يكون انتقاله أو حدوثه ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح ، ويصدّق الكذّاب ، وبقي أن نبيّن كيفيّة دلالة القرآن ، إذا علم تقدّم حدوثه قبل بعثة الرّسول ، مع الأمان من أن يكون حدوثه أو انتقاله واختصاص المختصّ به

__________________

(١) في الأصل : مكان.

(٢) من المغني.

(٣) في المغني : فلا.

(٤) في الأصل : تكامل.

(٥) في الأصل : من ، وما أثبتناه من المغني.

(٦) في المغني : فلذلك لا.

(٧) في المغني : وجه دلالته ، على.

٢٣٠

من فاعل يجوز عليه الاستفساد.

وهذه المسألة في القرآن ـ على الحقيقة ـ ساقطة عنّا وغير متوجّهة على مذهبنا ؛ لأنّ المعجز عندنا ـ القائم مقام التّصديق ـ هو : الصّرف عن معارضة القرآن ، وذلك حادث ومتجدّد عقيب الدّعوى.

ولا فرق في صحّة دلالة ما ذكرناه بين تقدّم حدوث القرآن وبين تأخّره ، إلّا أنّ الأمر في القرآن وإن كان على ما قلناه ، فقد كان يجوز عندنا أن يكون خارقا لعادتنا بفصاحته ، ويكون تعذّر معارضته على الفصحاء من حيث لم تجر عادتهم بمثله إلّا للصّرف في الحال ، ويصحّ ذلك على وجهين :

إمّا بأن يكون أزيد ممّا هو عليه من الفصاحة ، حتّى يظهر التّفاوت بينه وبين كلّ كلام فصيح ، أو بأن تكون منازل الفصحاء فيما يفعلونه من الفصاحة دون ما هي عليه الآن.

وإذا كان هذا التقدير عندنا صحيحا لزمنا أن نبيّن كيفيّة القول في دلالته ، إذا كانت حاله هذه ، وتقدّم حدوثه ، وصار ما يمرّ من خصومنا على مذهبهم الثّابت في القرآن من الجواب ، يلزمنا على سبيل التقدير (١).

لقائل أن يقول في هذا الوجه : قد علمتم أنّ المعجز الدالّ على صدق النّبيّ المدّعي للرّسالة لا بدّ أن يكون من فعل الله تعالى ـ لأنّه هو الّذي يجب أن يصدّقه في دعواه عليه ، ويفعل ما يجري مجرى قوله له : صدقت في ادّعائك رسالتي ـ فليس يجوز أن يكون إنزال الملك بالقرآن ـ إذا كان قد تقدّم حدوثه ـ هو العلم المعجز الواقع موقع التّصديق. ولهذا الوجه لا يجوز أن يكون إظهار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له إلينا هو المعجز.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٣١

ولا فرق بين أن يكون ناقلا له وحاكيا إذا فرضنا تقدّم حدوثه ، وبين أن يكون هو المبتدئ بإحداثه في أنّ الأمرين إذا عادا (١) فيه إلى فعله ، لم يصحّ أن يكون هو المعجز على الحقيقة.

ولا يجوز أن يكون القرآن نفسه هو العلم الدالّ على النّبوّة إذا كان متقدّم الحدوث ؛ لأنّه إنّما يدلّ عليها إذا وقع موقع التّصديق ، والتّصديق لا يصحّ إلّا بعد تقدّم الدّعوى الّتي يتعلّق بها ؛ ولهذا يجعلون وقوع الدّعوى وطلب التّصديق وحصول الإجابة على الوجه المطلوب يجري مجرى المواضعة في الحال. ويقوم مجموع هذه الأمور ـ في باب الدّلالة ـ مقام تقدّم المواضعة ، فكيف يصحّ مع ذلك أن يكون الأمر الواقع موضع التّصديق متقدّما للدعوى؟! وهو إنّما يكون تصديقا ، إذا وقع عقيب الدّعوى ، وإجابة للطّلب.

أو لستم أيضا تفصلون بين ما يقع من انتقاض العادات بعد زوال التكليف ، وبين ما يقع في حال التكليف ، في باب الدّلالة على النبوّة ، بأن تقولوا : إنّ الواقع في دار التكليف إنّما دلّ ؛ لوقوعه مطابقا لدعوى مدّع للرّسالة ، وليس ذلك فيما يقع عند قيام السّاعة ، وانقطاع التكليف ؛ فليس يصحّ على حال من الأحوال أن يتقدّم حدوث القرآن ، ويكون هو بعينه القائم مقام التّصديق.

وهكذا القول في تقدّم الإقدار على نقل الجبال وسائر الأفعال الخارقة للعادات ؛ لأنّه لا يجوز أن يتقدّم ذلك دعوى النّبوّة ، ويكون متعلّقا بها تعلّق التّصديق ، ولا الفعل الواقع بتلك القدر يصحّ أن يكون بهذه الصّفة ، لجميع ما تقدّم.

والجواب عن ذلك : أنّ القرآن إذا علمنا حدوثه في السّماء قبل نبوّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الملك كان ينزله عليه ، فالمعجز في الحقيقة ـ الواقع موقع

__________________

(١) في الأصل : عاد ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٣٢

التّصديق ـ هو أمر الله تعالى للملك بإنزاله إليه ؛ لأنّ العادة لم تجر به ، وهو من فعله تعالى.

وليس يجوز [أن يكون] المعجز في هذا الوجه القرآن نفسه ، ولا إنزال الملك به ، لما ذكرناه في السّؤال.

ولو كان القرآن ممّا تقدّم حدوثه ، وكان الله تعالى هو المخاطب به الرّسول عليه وآله السّلام والمتولّي لإنزاله عليه ، كان إنزاله على هذا الوجه هو المعجز ، وفارقت حاله حال إنزال الملك به.

وكذلك لو كان القرآن من فعل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن مكّنه الله تعالى من علوم لم تجر بها العادة ، كان المعجز اختصاصه بتلك العلوم الّتي لم تجر بها العادة.

فليس يصحّ على ما ذكرناه ، أن يكون حدوث القرآن هو المعجز والدّالّ على التّصديق ، إلّا بأن نعلمه حادثا من الله تعالى في حال ادّعاء النبوّة ؛ فكان المعجز ـ على ما يحصل من كلامنا ـ هو ما يفعله الله عقيب الدّعوى ، على وجه لم تجر به العادة ، ليصحّ أن يتعلّق بها التّصديق.

وليس لأحد أن يقول : من أين تعلمون إذا كان الملك لا ينزل القرآن إلّا بأمر الله تعالى أنّ أمره بإنزاله إنّما كان حادثا عند ادّعاء الرّسالة؟ ولعلّه أمره متقدّما بذلك ، وإن فعله الملك بعد الدّعوى.

فإن تقدّم الأمر فيما هذه سبيله لا يمتنع ، وذلك أنّ أمره تعالى للملك بإنزاله القرآن ، إذا كان القصد به تصديق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون غيره من الوجوه الّتي يجوز أن يفعل من أجلها ـ لأنّه لا يجوز أن يخصّه بأمر لم تجر به العادة إلّا على سبيل التّصديق له ، وعلمنا أنّ تصديقه لا يصحّ إلّا بعد أن تتقدّم منه الدّعوى ليقع التّصديق مطابقا لها ، وليكون متعلّقا بها ـ فقد وجب القطع على أنّ أمره تعالى للملك بإنزاله لا بدّ أن يكون متجدّدا عند تجدّد الدّعوى ، وواقعا عقيبها ، ليتمّ الغرض المقصود.

٢٣٣

وهذا بعينه جوابنا لمن قال : ألا أجزتم أن يتقدّم تمكين الله للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من فعل القرآن بفعل العلوم فيه زمان النّبوّة؟!

وما المانع أيضا من أن يتقدّم الإقدار على نقل الجبال ، وقلب المدن وما أشبههما ؛ وإن وقع الفعل من المدّعي النّبوّة في الحال ، ويكون القصد بذلك ـ وإن تقدّم ـ إلى التّصديق؟! لأنّا إذا كنّا قد بيّنا أنّ ما هو مقصود به من التّصديق لا يتمّ ولا يصحّ إلّا بعد أن تتقدّم الدّعوى ، وأنّ تقدّمها (١) بغير التّصديق لا (٢) يجوز ، فقد صحّ ما قلناه وبطل جميع ما ذكره صاحب الكتاب في الفصل.

قال صاحب الكتاب (٣) :

فإن قال : إذا جوّز في القرآن أن يكون منقولا إليه على هذا الوجه عند استدلاله ، فيجب أن يجوّز (٤) أن يكون (٥) ظهر على بعض النّاس ، أو بعض من يعصي ويستفسد ، ثمّ نقله هو إلى نفسه ، أو نقله غيره إليه (٦) ، فلا يصحّ أن يستدلّ به على النّبوّة ، لأنّكم قد ذكرتم أنّه (٧) إنّما يدلّ على النّبوّة إذا كان حادثا من قبله تعالى ، أو من قبل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأن (٨) يصدر عن علوم خارقة للعادة يحدثها [الله تعالى] (٩) فيه عليه‌السلام ، أو بأن يكون واقعا من ملائكة ، قد علم من عادتهم أنّهم لا يفعلون ما هو استفساد.

فإذا كان كلّ ذلك منتفيا (١٠) فيما ذكرناه ، فيجب إذا جوّزه ألّا يصحّ أن يستدلّ به على النّبوّة.

__________________

(١) في الأصل : تقدّمه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : ولا.

(٣) المغني ١٦ / ١٧٩.

(٤) في الأصل : يكون ، وما أثبتناه من المغني.

(٥) في الأصل : أن يكون أيضا.

(٦) إليه : ليست في المغني.

(٧) من المغني.

(٨) في الأصل : أن ، وما أثبتناه من المغني.

(٩) من المغني.

(١٠) في المغني : متيقّنا.

٢٣٤

ثمّ قال (١) : قيل له : لا يخلو من يسأل عن هذه المسألة من أن يكون مسلّما لنا أنّه معجز ناقض للعادة ، فإن (٢) سلّم ذلك فلا وجه لهذا الطعن (٣) للطّعن.

ثمّ قال : فإن قال : إنّي أسلّم أنّه معجز لنبيّ ما ، ولست أسلّم أنّه ممّا يصحّ أن يستدلّ به على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا فرق بين أن لا يثبت لكم ذلك ـ مع ثبوت كونه معجزا ، أو مع بطلان كونه معجزا ـ في أنّ غرضكم لا يتمّ.

قيل له : إذا صحّ أنّه معجز فلا بدّ أن يكون ظاهرا على رسول ، فلا بدّ من أن يكون تعالى كما لا يجوز أن يظهره على كذّاب ، فكذلك لا يجوز أن يمكّن منه من يكذب في ادّعاء النبوّة ، لأنّ الاستفساد في الوجهين قائم ، لأنّ ما لأجله لا يظهره على كذّاب هو أنّه لا يتميّز من الرّسول الصّادق في ظهور ذلك عليه ، ولا بدّ من أن (يكون تعالى يميّز) (٤) بينهما.

فكذلك إذا أمكن منه المتنبّي (٥) ، فقد حصل مثل هذه الصفة ، فيجب أن يقع من جهته تعالى المنع منه (٦) ؛ لأنّ الدّلالة قد دلّت على أنّه تعالى كما (٧) لا يفعل الاستفساد ، فكذلك يمنع منه في التّكليف ، وأحد الأمرين كالآخر في هذا الباب».

ثمّ سأل نفسه عن الشّبه الّتي يدخلها المكلّف على نفسه وعلى غيره في الأدلّة ، وأنّه إذا لم يجب على الله تعالى المنع منها ، وإن لم يجز أن يفعلها فألّا جاز مثله في باب المعجز؟ (٨)

__________________

(١) المغني ١٦ / ١٨٠.

(٢) في الأصل : وإن ، وما أثبتناه من المغني.

(٣) من المغني ، وفي الأصل : للطعن.

(٤) هكذا الأصل ، وفي المغني : يميّز تعالى.

(٥) ليست في المغني.

(٦) ليست في المغني.

(٧) زيادة في الأصل.

(٨) قال القاضي عبد الجبّار في المغني ١٦ / ١٨٠ : «وإن قال : أليس لم يمنع تعالى المكلّف من أن يدخل الشبه على نفسه وعلى غيره في باب الأدلّة ، وإن كان تعالى لا يجوز أن

٢٣٥

وأجاب عن ذلك : بأنّه تعالى قد مكّن من إزالة الشّبه (١) ، بما نصب من الأدلّة ، ولو مكّن في المعجز ممّا سئل عنه ، لم يكن للمكلّف طريق إلى غير تمييز المعجز ممّا ليس بمعجز ، والحجّة من الشّبهة.

الكلام عليه

يقال له : نحن نسلّم لك أنّ القرآن نفسه يصحّ كونه معجزا ودالّا على صدق من ظهر عليه ، لكن إنّما نعلم ذلك فيه متى علمنا أنّ الله تعالى هو الّذي خصّ به مدّعي النّبوّة. وسنبيّن فيما يأتي ما يصحّ أن يكون الطريق إلى العلم بما ذكرناه.

فأمّا التّسوية بين إظهار المعجز على الكذّاب ، من حيث كان دلالة التّصديق وقائما مقامه ؛ فإذا لم يجز أن يصدّق الكذّاب قولا ـ لأنّ تصديقه قبيح ـ لم يجز أن يفعل ما يجري مجراه ويقوم مقامه ، وليس في تمكين الكذّاب منه دلالة على تصديقه.

على أنّ هذا القول يقتضي أن يكون التمكين من الشّيء يجري مجرى فعله ، ويجب على من اعتمده أن يمنع من تمكين الله تعالى من فعل القبيح وسائر ضروب الشّبهات ، كما يمنع من أن يفعل ذلك. وإلّا فإن جاز أن يمكّن من القبيح والشّبهات ولم يجز أن يفعلهما ، جاز أيضا أن يمكّن الكذّاب من تناول المعجز وادّعاء النّبوّة به.

__________________

يفعلها؟ فهلّا جاز القول بأنّه تعالى لا يظهر ذلك على المتنبّي ، ويمكّن المتنبّي منه بأن يقتل الرّسول الذي ظهر عليه ، ويدّعيه معجزة لنفسه ، أو يلقيه إلى من يدّعيه معجزة لنفسه؟».

(١) في الأصل : الشبهة ، والأنسب ما أثبتناه من المغني.

٢٣٦

وإن لم يجز أن يظهره على كذّاب ، هو أنّه لا يتميّز من الرّسول الصّادق خطاء ، لأنّ العلّة لو كانت ما ذكرناه لكان لمن خالف في أصل النّبوّات أن يقول : وأيّ شيء في ارتفاع تمييز الصّادق من الكذّاب من طريق الدّلالة ، إذا لم يكن لذلك وجه في العقول ، ولا عليه دلالة؟!

فدلّوا أوّلا على أنّ المعجز دالّ على الصّدق في بعض المواضع ، ليصحّ أن يمنعوا من ظهوره غير دالّ عليه ، ويقولوا : إنّه يقتضي التباس الصّادق بالكاذب. والرّجوع إلى ما ذكرناه في المنع من ظهور المعجز على الكذّاب هو الصّحيح.

على أنّ ما ذكرناه لو كان صحيحا نصّا وواقعا في المنع من إظهار المعجز على من ليس بصادق موقعه ، لم يكن ما بناه عليه صحيحا ؛ لأنّه ظنّ أنّ المعجز إذا مكّن الله تعالى منه المتنبّي ، فقد ارتفع طريق التمييز بين الصّادق والكاذب ـ كما يكون مرتفعا لو أظهره على يده ـ ليس لأمر كما ظنّه ؛ لأنّ الطّريق إلى تمييز الصّادق من الكاذب باق مع تجويز ما ذكرناه ، وهو بأن يظهر على يد المدّعي ما يعلم أنّ الله تعالى هو الّذي خصّه به ، وأيّده بإظهار عليه.

وليس هذا استفسادا كما قال ؛ لأنّه تعالى قد مكّننا من ألّا ننفسد بما يجري هذا المجرى ، ودلّنا على أنّه لا يحسن منّا تصديق من لم يعلم أنّه تعالى هو المصدّق له.

وأيّ استفساد يرجع إلى الله تعالى؟ وإنّما المستفسد لنا من أظهر ما لم يخصّه الله تعالى به ، وادّعى من الاختصاص ما ليس بصادق فيه.

فأمّا المنع من الاستفساد فلا يجب بأكثر من الأمر والنهي اللّذين لا ينافيان التّكليف ، فمن ادّعى فيها زائدا على ما ذكرناه وأوجبه على الله تعالى فقد أوجب على الله تعالى ما لا وجه لوجوبه.

٢٣٧

والفرق بين أن يمكّن من الاستفساد ولا يمنع منه المنع الّذي يرتفع معه ، وبين أن يفعله هو الفرق بين أن يمكّن من القبيح ولا يمنع (١) منه ، وبين أن يتولّى فعله (٢).

ثمّ يقال له (٣) : خبّرنا أليس قد ضلّ بما ظهر من ماني (٤) ، وزرادشت (٥) ،

__________________

(١) في الأصل : منع.

(٢) أورد الشريف المرتضى رحمه‌الله هذه الشّبهة في كتابه الذخيرة / ٣٨٦ ، بقوله : «إنّ المنع من الشبهات وفعل القبائح في دار التكليف غير واجب ، وليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد ، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف».

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٦ ـ ٣٨٧ : «أليس قد ضلّ بزرادشت وماني والحلّاج ، ومن جرى مجراهم من المنخرقين والملتمسين جماعة ، وفسدت بهم أديانهم ، فألّا منعهم الله تعالى من هذا الاستفساد ، إن كان المنع منه واجبا؟».

(٤) دجّال ظهر في القرن الثالث الميلاديّ ، كان أوّل أمره مجوسيّا ثمّ انقلب على المجوسيّة ، وبدأ ينشر فضائح كهنتها وأحبارها ، ثمّ أعلن نبوّته سنة ٢٤٢ م ، وكان له كتاب سمّاه «ارژنگ» ، يحتوي على مجموعة من الرسوم والصور الجميلة ، فبهر بها أعين الناس. انتشر مذهب المانويّة انتشارا وسيعا في بلاد فارس وأنحاء من آسيا وأوربا. يقال إنّ مذهبه متأثّر إلى حدّ بعيد بالبوذيّة والغنوصيّة والزرادشتيّة. حكم على ماني بالموت في بلاده ، وقاومت الزرادشتيّة والنصرانيّة مذهبه في بلاده وأنحاء من الإمبراطوريّة الرومانيّة ، فقضي عليها.

(٥) هو نبيّ المجوس ، ومؤسّس الديانة الزرادشتيّة أو المجوسيّة حوالي القرن ٧ و ٦ ق. م. كتابه المقدّس هو (الأقستا) أو (زند أقستا) ، وعماد الديانة المجوسيّة مبنيّ على صراع الخير والشرّ في العالم ، ويحيط الغموض بجوانب كثيرة من شريعة المجوس ، وقد أباد المسلمون حينما فتحوا بلاد فارس تراثهم وكتبهم المقدّسة ، ويصنّف الإسلام المجوسيّة في عداد أهل الكتاب من أهل التوحيد.

٢٣٨

والحلّاج (١) ، ومن أشبههم من ذوي المخاريق والنّواميس (٢) خلق كثير ، واعتقدوا نبوّتهم وصدقهم ، وكذلك القول في إبليس ومن هلك بغوايته ، وضلّ بوساوسه؟! فلا بدّ من : نعم.

فيقال له : أو ليس القديم تعالى قادرا على منع جميع هؤلاء من تلك الأفعال المضلّة والحيلولة بينهم وبينها؟! فلا بدّ من الاعتراف بذلك ، لأنّه تعالى قادر لا يعجزه شيء.

فيقال له : فألّا منعهم؟! وهل يلزم إذا لم يمنعهم جواز أن يفعل مثل تلك الأفعال القبيحة؟ ثمّ هل يكون مستفسدا للمكلّفين بتمكينهم منها؟

فإن قال : إنّما لم يجب عليه تعالى أن يمنعهم ، ولا كان مستفسدا لهم من حيث كان قد مكّنهم من أن لا يفسدوا بشيء من ذلك ، ولا يغترّوا به بما نصبه من الأدلّة وأظهر من الحجج ؛ فالضّالّ منهم إنّما دهي من قبل نفسه ؛ لأنّه لو أنعم النظر في تلك الأفعال لعلم أنّها مخاريق وأباطيل ، فإنّ الله تعالى لم يتولّها ولا أراد فعلها ، وإنّه إنّما يريد من المكلّف أن يصدّق من علم ظهور ما له صفة المعجز في التّخصيص عليه.

قيل له : فهذا جوابك بعينه عمّا ألزمته ، فتأمّله ؛ لأنّ الله تعالى قد مكّن المكلّف بالأدلّة الواضحة من أن يفرّق بين من ظهر على يده ما لا يعلم أنّ الله تعالى هو الّذي خصّه به ، وبين من يعلم ذلك من حاله ، وأوجب عليه تكذيب الأوّل وتصديق

__________________

(١) هو الحسين بن المنصور ، قيل في حقّه المتناقضات ، إذ عدّه البعض من كبار المتعبّدين والزهّاد ، وذهب آخرون إلى أنّه من الملاحدة الزنادقة. ولد بفارس وتجوّل في بلدان عديدة ، وظهر أمره سنة ٢٩٩ ه‍ واتّبعه جماعة من الناس ، واختلفت الأقوال وتضاربت الآراء حوله وحول معتقداته. أعدم ببغداد وأحرقت جثّته سنة ٣٠٩ ه‍.

(٢) المراد بالنواميس هنا ما يتنمّس به من الاحتيال والكذب.

٢٣٩

الثاني ، فمتى لم ينصح نفسه ، وقصّر في النّظر ، واشتبه عليه الأمر كان اللّوم عليه ، والله تعالى بريء من عهدته.

فإن قال : أرى كلامك هذا مخالفا للأصول الّتي قرّرها الشّيوخ في باب الاستفساد ، لأنّهم (١) أوجبوا منع القديم تعالى من الاستفساد ، كما أوجبوا أن لا يفعله ، ولم يفرّقوا بين الأمرين ، ولم يجر عندهم مجرى غيره من ضروب القبائح ، بل أجازوا فيما لم يكن استفسادا من القبيح ألّا يمنع تعالى منه ، وإن لم يجز أن يفعله فكيف ألحقتم أحد الأمرين بالآخر؟

قيل له : ليس الاستفساد ـ أوّلا ـ هو : ما وقع عنده القبيح والفساد ، لكنّه ما وقع عنده الفساد من المكلّف ، ولو لاه لاختار الصّلاح من غير أن يكون تمكينا من الأمرين ، بل يكون المكلّف متمكّنا من الصّلاح والفساد مع عدمه ، كما هو متمكّن منهما مع وجوده. وهذا ما لا خلاف بيننا فيه.

وقد علمت أنّ أبا هاشم (٢) يجيز أن يقوّي الله تعالى شهوة المكلّف ، فيصير فعل الواجب والامتناع من القبيح عليه شاقّا ، ويستحقّ من الثّواب عليهما أكثر ممّا كان يستحقّه لو لم يكن بهذه الصّفة ، وإن كان في معلومه تعالى أنّ المكلّف (٣) عند زيادة الشّهوة وقوّتها يفعل [المعصية] (٤) ولا يختار الطّاعة ، وأنّه لو ضعّف شهوته

__________________

(١) قبلها زيادة في هامش الأصل بلا علامة التصحيح لا توافق السياق ، هي : «لأنّها كما أوجبوا منع القديم تعالى من الاستفساد».

(٢) هو أبو هاشم عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائيّ. ولد سنة ٢٧٧ ه‍ بجبّا من أعمال خوزستان ، وعاش ببغداد. يعدّ أبو هاشم من رءوس المعتزلة وأئمّتها ومنظّريها ، وصاحب آراء ونظريّات ومدرسة تتلمذ فيها جماعة من أعلام القرن الثالث والرابع ، منهم الصاحب بن عبّاد. أطلق على أصحابه وأتباع مدرسته اسم (البهشميّة) ، توفّي ببغداد سنة ٣٢١ ه‍. له تصانيف عديدة.

(٣) في الأصل : الكذب ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) زيادة يقتضيها السياق.

٢٤٠