الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

وأظهر مغزاه ، وإنّما منعنا في التّحدّي بالقرآن من حيث أطلق التحدّي به ، وعري ممّا يخصّه بوجه دون وجه ، فحملناه على ما عهده القوم وألفوه في التحدّي. ولو كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أفهمهم تخصيص التحدّي ـ كما ادّعيت ـ بقول مسموع لوجب أن ينقل إلينا لفظه ، والمقام الذي قامه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ، وليس نجد في ذلك نقلا.

وكذلك لو كان اضطرّهم إلى قصده بمخارج الكلام ، أو بما يجري مجرى مخارجه من الإشارات وغيرها ، من غير لفظ مسموع ، لوجب اتّصال ذلك أيضا بنا وحصول علمه لنا ؛ لأنّ ما يدعو إلى نقل الألفاظ المسموعة يدعو إلى نقل ما يتّصل بها من مقاصد ومخارج ، لا سيّما فيما تمسّ الحاجة إليه. ألا ترى أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نفى النبوّة بعد نبوّته بقوله عليه‌السلام : «لا نبيّ بعدي» (١) ، ثمّ أفهم السّامعين مراده من

__________________

(١) من الأحاديث المشهورة والمتواترة ، وقد نصّ الجميع على صحّته ، ورواه الشيعة والسّنّة في مجاميعهم الحديثيّة ومسانيدهم وصحاحهم ، نقلا عن جماعة من أعيان الصحابة : كأبي سعيد الخدريّ ، وسعد بن أبي وقّاص ، وزيد بن أرقم ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وابن عبّاس وعبد الله بن مسعود ، وأسماء بنت عميس وغيرهم. وإليك مصادر الحديث :

بحار الأنوار حيث رواه العلّامة المجلسيّ في مجلّدات عديدة ، ويكفيك أن تراجع المجلّد ٣٧ من ص ٢٠٦ لغاية ص ٣٣٧. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده ١ / ١٧٠ ، ١٧٤ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٢ و ٣ / ٣٢ و ٦ / ٣٦٩. وفي فضائل الصحابة ٢ / ٥٩٨ ، ٦١٠ ، ٦٣٣ ، ٦٤٢ ، ٦٧٠. ورواه البخاريّ في صحيحه ٦ / ٣ باب غزوة تبوك ، و ٥ / ١٩ باب مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام. ورواه مسلم في صحيحه ٧ / ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢١. الترمذيّ في صحيحه ٥ / ٦٣٣ و ٦٤١. ابن المغازليّ في مناقبه ٢٧ ، ٢٨ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦. وراجع أيضا : أسد الغابة ٤ / ٢٦ ، تاريخ دمشق لابن عساكر ١ / ١٣٢ ، ٢٢٥ ، مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٠ ، الخصائص للنسائيّ ٢٦٣ ، أنساب الأشراف ٢ / ١١٢ ، الغدير في الكتاب والسنّة

٤١

هذا القول ، وأنّه عنى به : لا نبيّ من البشر كلّهم ، وأراد بالبعد عموم سائر الأوقات المستقبلة ، قريبها وبعيدها ، اتّصل ذلك بنا على حدّ اتّصال اللّفظ ، حتّى شركنا سامعيه في معرفة الفرض ، وكنّا في العلم به كأحدهم. وفي ارتفاع كلّ ذلك من النّقل ، دليل على صحّة قولنا.

على أنّ التّحدّي لو كان مقصورا على الفصاحة دون النّظم لوقعت المعارضة من القوم ببعض فصيح شعرهم أو بليغ كلامهم ، لأنّا قد دللنا على أنّ خفاء الفرق علينا بين بعض قصار سور القرآن وفصيح كلام العرب ، يدلّ على التقارب المزيل للإعجاز. والعرب بهذا أعلم وله أنقد ، فكان يجب أن يعارضوا. وإذا لم يفعلوا ، فلأنّهم فهموا من التحدّي الفصاحة وطريقة النّظم ، ولم يجتمعا لهم.

فأمّا اختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر ضروب الكلام فأوضح من أن يتكلّف الدّلالة عليه. وكلّ سامع للشّعر الموزون والكلام المنثور يعلم أنّ القرآن ليس من نمطهما ، ولا يمكن إضافته إليهما. والدّلالة إنّما تقصد بحيث يتطرّق الشّبهة ، فأمّا في مثل هذا فلا.

وأمّا الّذي يدلّ على أنّهم لو لم يصرفوا لعارضوا في الفصاحة والنّظم جميعا ، فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي (١).

وأمّا النّظم : فهو ما لا يصحّ التّفاضل فيه والتّزايد في معناه ، ولهذا ترى

__________________

٥ / ٣٦٣ ، ٧ / ١٧٦ ، ١٠ / ٢٧٨ ، ومصادر أخرى كثيرة. ولفظ الحديث المتّفق عليه عند الجميع ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».

(١) قال الشريف المرتضى رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨١ : «وممّا يبيّن أنّ التحدّي وقع بالنّظم مضافا إلى الفصاحة : أنّا قد بيّنا مقارنة كثير من القرآن لأفصح كلام العرب في الفصاحة ، ولهذا خفي الفرق علينا من ذلك ، وإن كان غير خاف علينا الفرق فيما ليس بينهما هذا التفاوت الشديد ، فلو لا أنّ النظم معتبر لعارضوا بفصيح شعرهم وبليغ كلامهم».

٤٢

الشّاعرين يشتركان في النّظم الواحد ، وكلام أحدهما فصيح شريف ، والآخر ركيك سخيف ، وكذلك الخطيبين.

وإنّما كان هذا ؛ لأنّه لا يصحّ المزيّة في النّظم حتّى يكون لأحد الشّاعرين والخطيبين فضل في المعنى ـ الّذي به كان الشّعر شعرا ، والخطابة خطابة ـ على الآخر ، كما يصحّ ذلك في الفصاحة ، وجزالة الألفاظ ، وكثرة المعاني والفوائد.

وإذا صحّ هذا ، فلم يبق إلّا أن يقال : إنّ السّبق إلى النّظم هو المعتبر. وذلك غير صحيح ؛ لأنّه يوجب أن يكون السّابق إلى قول الشّعر في ابتداء الظّهور قد أتى بمعجز ، بل يجب أن يكون السّبق إلى كلّ عروض من أعاريضه ، ووزن من أوزانه يقتضي ذلك. وهذا يؤدّي إلى أنّ أكثر الخلق أصحاب معجزات (١)!

فإن قال : كيف يكون السّبق إلى الشّعر من المعجزات ، وهو ممّا تقع فيه المساواة من المسبوق للسّابق ، حتّى لا يزيد أحدهما على الآخر فيه ، والمعجز ما تعذّر مثله على غير من اختصّ به؟ وما أنكرتم أن يكون نظم القرآن معجزا من حيث لم تقع فيه مساواة؟

قيل له : هذا الذي يدلّ على أنّ السّبق إلى نوع من النّظم لا يكون معجزا على وجه ؛ لأنّه ممّا لا بدّ من وقوع المساواة فيه والمماثلة ، كما وقعت في غيره من أوزان الشّعر وضروب الكلام الّتي سبق إليها ، ثمّ حصلت المساواة من بعد ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ النّظم ممّا لا يصحّ حصول المزيّة فيه ولا التّفاضل. وليس ممّا يحتاج فيه إلى كثرة العلوم كما يحتاج إليها في الفصاحة ، بل العلم ببعض أوزان الشّعر يمكن

__________________

(١) قال الشريف المرتضى في كتاب الذخيرة / ٣٨١ : «وإذا لم يدخل في النّظم تفاضل فلم يبق إلّا أن يكون الفضل في السبق إليه ، وهذا يقتضي أن يكون السابق ابتداء إلى نظم الشعر قد أتى بمعجز ، وأن يكون كلّ من سبق إلى عروض من أعاريضه ووزن من أوزانه كذلك ، ومعلوم خلافه».

٤٣

معه التّصرّف في سائر أوزانه ، وكذلك القول في منثور الكلام.

ولو لا أنّ الأمر على هذا لم ننكر أن يكون في الشّعراء من يختصّ بالقول في البسيط دون غيره من الأعاريض ، من حيث قصر علمه عليه ، ومنع سائر الشّعراء منه ، فلو اجتهد أن يقول بيتا من غير البسيط لتعذّر عليه ، ولو اجتهد جميع الشّعراء في أن يقولوا بيتا منه لعجزوا عنه. وأن يكون فيهم من يختصّ بالقول في الطّويل على هذا الوجه ، وهذا ممّا يعلم فساده. وهو دلالة على أنّ النّظوم لا اختصاص في بعضها ، وأنّها ممّا يجب الاشتراك فيه (١).

فإن قال : ما أنكرتم أن يكون التّصرّف في الأوزان يحتاج إلى زيادة العلوم ، وأن لا يكون العلم ببعضها علما بسائرها على ما ذكرتم ، وأنّ المساواة الّتي وصفتموها بين الشّعراء في ضروب الأوزان ، إنّما وجبت من حيث أجرى الله العادة بأن يفعل لكلّ من علم وزنا من أوزان الشّعر ، العلم بسائر الأوزان ؛ فليس يمتنع ـ على هذا ـ أن يفعل الله تعالى كلاما له نظم لم يخصّ أحدا من الخلق بالعلم به ، ويجعله علما لبعض أنبيائه ؛ فلا يتمكّن أحد من البشر من مساواته فيه ، من حيث فقدوا العلم بطريقة نظمه ، وإن تمكّنوا من مساواة سائر ما يقع السّبق إليه من الشّعر والخطب.

وكيف ننكر ذلك وقد رأينا كثيرا من الشّعراء المتصرّفين في ضروب الشّعر لا يهتدون لنظم الخطب ، وكثيرا من الخطباء لا يقدرون على الشّعر ؛ فما الّذي يمنع

__________________

(١) قال الشريف المرتضى رحمه‌الله في الذخيرة / ٣٨١ ـ ٣٨٢ : «وليس يجوز أن يتعذّر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكّن من نظوم غيره ، ولا يحتاج ذلك إلى زيادة علوم ، كما قلناه في الفصاحة. ولهذا كان كلّ من يقدر من الشعراء على أن يقول في الوزن الذي هو الطويل قدر على البسيط وغيره ، ولو لم يكن إلّا على الاحتذاء ، وإن خلا كلامه من فصاحة. وهذا الكلام قد فرغنا [منه] واستوفيناه في كتابنا في جهة إعجاز القرآن».

٤٤

من تعذّر نظم القرآن على العرب ، كما تعذّر على خطيبهم الشّعر ، وعلى شاعرهم الخطابة ، وهذا يغني عن صرفتكم؟

قيل له : الحمد لله الذي جعل مذاهب المختلفين في وجه الإعجاز ـ وإن تفرّعت وتنوّعت ـ فالقرآن غير خارج بينها من أن يكون معجزا للبريّة ، وعلما على النّبوّة. وجعل ما يتردّد بينهم فيه من المسائل والجوابات ـ وإن قدحت في صحّة بعض مذاهبهم في تفصيل الإعجاز ـ فإنّها غير قادحة في أصل الأعجاز وجملة الدّلالة ؛ لأنّه لا فرق بين أن يكون خارقا للعادة بفصاحته دون طريقة نظمه ، أو بنظمه دون فصاحته ، أو يكون متضمّنا للإخبار عن الغيوب ، أو بأن يكون الله تعالى صرف عنه العرب وسلبهم العلم به ؛ في أنّه على الوجوه كلّها معجز دالّ على النّبوّة وصدق الدّعوة ، وإن اختلف وجه دلالته بحسب اختلاف الطّرق.

وهذا من فضائل القرآن الشّريفة ومراتبه المنيفة ، الّتي ليست لغيره من معجزات الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنّه لا شيء من معجزاتهم إلّا وجهة دلالته واحدة. وما قدح في تلك الجهة أخرجه من الإعجاز. ولو ألحق هذا ملحق بوجوه إعجاز القرآن لم يكن مخطئا ، ولكان قد ذهب مذهبا.

ثمّ نعود إلى الجواب عن السؤال ، فنقول : إنّا لو أحلنا في هذا الباب كلّه ـ نعني في أنّ النّظم لا بدّ من وقوع المساواة فيه ، وأنّه لا يصحّ أن ينفرد بنوع منه من لا يشركه فيه غيره ـ على موافقة الفريق الّذي كلامنا الآن (١) معهم ، وهم الذّاهبون في خرق العادة به إلى الفصاحة ، لكنّا قد وفّينا حجاجهم حقّه ؛ لأنّهم معترفون معنا بأنّ النّظم ليس بمعجز ، ودلالتنا في دفعه واحدة ، لكنّا لا نقتصر على ذلك ، ونورد ما يكون حجاجا للكلّ ، وبرهانا على الجميع.

__________________

(١) في الأصل : أمان ، والمناسب ما أثبتناه.

٤٥

[الدليل على أنّ نظم القرآن ليس بمعجز]

والذي يدلّ على أنّ نظم القرآن ليس بمعجز بنفسه : أنّا نعلم أنّ كلّ قادر على الكلام العربيّ ، ومتمكن من تقديم بعضه على بعض وتأخير بعضه عن بعض ، لا يعجز أن يحتذي نظم سور القرآن بكلام لا فصاحة له ، بل لا فائدة فيه ولا معنى تحته ، فإنّ ذلك لا يضرّ ولا يخلّ بالمساواة في طريقة النّظم. وقد رأينا كثيرا من السّخفاء والمجّان (١) يعارضون ـ على طريق العبث والمجون ـ الشّعراء المتقدّمين والخطباء المجوّدين ، فيوردون مثل القصيدة والخطبة في الوزن والطريقة ، بكلام سخيف المعنى ركيك اللّفظ ، بل ربّما لم يكن له معنى مفهوم. وقد فعل ذلك أبو العنبس الصّيمريّ (٢) بالبحتريّ بين يدي المتوكّل (٣) ، فأجازه ووصله (٤). المساواة في النّظم حاصلة ، ولكنّها في إصابة المعنى وجزالة اللّفظ متعذّرة. وعلى هذا أكثر شعر الصّيمريّ (٥) ، وشعر أبي العبر (٦) ؛ فإنّ في أشعار هؤلاء

__________________

(١) الماجن : الهازل ، والجمع مجّان ومجنة.

(٢) هو محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الصّيمريّ ، أبو العنبس الكوفيّ ، ولي قضاء الصّيمرة فنسب إليها ، نديم المتوكّل والمعتمد العبّاسيّين. كان أديبا ظريفا ، وشاعرا هجّاء خبيث اللسان. وله مناظرة مع البحتريّ. توفّى سنة ٢٧٥ ه‍.

(٣) هو جعفر بن محمّد العبّاسيّ ، أبو الفضل ، الخليفة العبّاسيّ العاشر ، ولد ببغداد عام ٢٦١ ه‍ ومات غيلة عام ٢٤٧ ه‍. كان فاسقا فاجرا يعادي أمير المؤمنين عليه‌السلام وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام.

(٤) انظر ما وقع بينهما في معجم الأدباء ١٨ / ١٢ ـ ١٤.

(٥) في الأصل : الطرميّ ، والظاهر أنّه الصّيمريّ المتقدّم ذكره.

(٦) أبو العبر ، محمّد بن أحمد العباسيّ ، الهاشميّ ، القرشيّ ، البغداديّ (توفّي سنة ٢٥٠ ه‍) ، نديم شاعر ، أديب ، حافظ للأخبار ، كان يمدح الخلفاء ، من كتبه : جامع الحماقات وحاوي الرقاعات ، والمنادمة ، وأخلاق الخلفاء والأمراء. كان في أوّل أمره يسلك في شعره الجدّ ، ثمّ عدل الى الهزل والحماقة فنفق بذلك نفاقا كثيرا.

٤٦

وغيرهم ممّن سلك مسلكهم ، الكثير ممّا له وزن الشّعر وعروضه ، ولا معنى تحته يفهم.

وهذا الطّريق لو سلك على هذا الوجه في كلّ نظم لما تعذّر ، وهو يكشف عن صحّة ما اعتمدناه.

فأمّا تعذّر الشّعر على الخطباء والخطابة على الشعراء ، فليس ينكر أن يكون في النّاس من لا ذوق له ، ولا معرفة بالوزن ، ولا يتأتّى منه الشّعر. وكذلك ربّما كان فيهم من ألف الموزون من الكلام ، ومرن عليه ، فلا يهتدي لنظم الخطب والرّسائل.

وكما وجدنا ذلك فقد وجدنا من جمع بين الطريقين وبرّز في المذهبين ، وهم كثير. وليس كلّ من لم يقل الشّعر فهو متعذّر عليه ، بل ربّما أعرض عنه ؛ لأنّه لا داعي له إليه ، ولا حاجة له فيه. أو لأنّه ممّا لا يحبّه ويستحليه (١). أو لأنّه قد عرف بغيره واشتهر بسواه. أو لأنّ الجيّد منه النادر لا يتّفق له ؛ فقد قيل لبعضهم : لم لا تقول الشّعر؟ فقال : ما يأتي (٢) جيّده وأأبى رديّه.

ولعلّ كثيرا ممّن (٣) لا يقول الشّعر ولا يعرف به لو دعتهم إليه الحاجات. وبعثتهم عليه الرّويّات ، لأتوا منه بما يستحسن ويستطرف.

وقد قال بعض الشّعراء :

ما لقينا من جود فضل بن يحيى

جعل النّاس كلّهم شعراء (٤)

وكلّ الدّواعي والبواعث ، إذا أضفتها إلى دواعي العرب إلى المعارضة ، رأيتها

__________________

(١) في الأصل : ويستحيله ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) كذا في الأصل ، والظاهر : ما يتأتّى.

(٣) في الأصل : ممّا ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) ورد البيت هكذا منسوبا إلى بعض الشعراء. قاله في الفضل بن يحيى البرمكيّ. لاحظ : وفيات الأعيان ٤ / ٣٥.

٤٧

تقلّ وتصغر. وأين الرغبة في المال ، ومباهاة النّظراء ، والتّقدّم عند الأمراء ، من الضّرّ (١) بفراق الأوطان الّتي فيها نشئوا ، وهجر الأديان الّتي عليها ولدوا؟!

وأين فوت المال من فوت العزّ وحرمان الوجاهة عند بعض النّاس ، من حرمان الرئاسة على جميع النّاس؟!

وكلّ ذلك أصاب العرب ونزل بهم ، وفي بعض ما يظفر بكلّ نظم ، ويهدي إلى كلّ قول.

على أنّا قد بيّنا أنّ نظم مثل بعض سور القرآن لا يتعذّر على من احتذاه ممّن (٢) لا فصاحة له ، ولا تصرّف له في أوزان الكلام ؛ فأجدر أن يتأتّى للعرب ، لو لم يصدّوا ولم يصرفوا.

فإن قال : فهبوا أنّ التّحدّي وقع بالإتيان بمثل القرآن في الفصاحة والنّظم معا حسب ما ذكرتم ، وأنّ في كلامهم الفصيح ما يقارب بعضه مقاربة تزيل خرق العادة بفصاحته ، وأنّ النّظم كانوا يتمكّنون منه على سبيل الاحتذاء ، كما يتمكّن منه من تعاطاه منّا بغير كلام فصيح ، لم أنكرتم أن يكون إنّما تعذّر عليهم ضمّ أحد الأمرين إلى الآخر ، حتّى يوردوا فصاحتهم وألفاظهم الجزلة ، ومعانيهم الحسنة الّتي يستعملونها في شعرهم ونثرهم ، في مثل هذا النّظم ، كما قد يكون بعض الشّعراء في بعض أوزان الشّعر وأعاريضه أفصح في غيره من الأوزان ، وكلامه فيه أجزل ، ومعانيه أوقع ، وإن كان قادرا على التّصرف في سائر الأوزان؟

وكما يكون من جمع بين النّظم والخطابة ، كلامه في أحدهما أفصح ، ومنزلته أعلى ، مع تمكّنه من الأمرين؟! وإذا كان هذا ممّا جرت العادة بمثله ، فما الحاجة إلى الصّرفة؟

__________________

(١) في الأصل : الضّنّ ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.

٤٨

قيل له : إذا سلّم أنّ القوم كانوا قادرين على الفصاحة والنّظم وعالمين بها ، فليس يقعد بهم عن المعارضة قاعد ؛ لأنّ المعارضة لا تحتاج إلى أكثر من التمكّن من الفصاحة وطريقة النّظم. وإنّما يتعذّر معارضة الكلام الفصيح المنظوم ضربا من النّظم على من لا يتمكّن من مثل فصاحته ، أو من لا يتمكّن من احتذاء طريقة نظمه. ومن تمكّن منها فليس يتعذّر عليه.

فأمّا تجويد بعض الشّعراء في بعض الأوزان ، وعلوّ كلامهم في بعض الأعاريض ، فما لا ينكر ، إلّا أنّه ليس يكون بين كلامهم فيما جوّدوا فيه وبينه فيما قصّروا فيه ، تفاوت عظيم وتباعد شديد. والتّفاوت بين الكلامين في الفصاحة حاصل ، وإن تقدّم أحدهما على الآخر فيها. وكذلك القول فيمن جمع بين الشّعر والخطابة ، وجوّد في أحدهما.

ولو لا أنّ الأمر على هذا لم ننكر أن يلحق شعر أحد الشّعراء ـ في بعض الأعاريض ـ بالطبقة العليا ، ويكون شعره في باقي الأوزان في الطبقة السّفلى. وهذا ممّا لا يشتبه بطلانه ، فلو كانت حال العرب حال هؤلاء لوجب أن يكون بين فصاحتهم في أشعارهم وكلامهم وبينها ، في نظم القرآن ، فصل قريب قد جرت بمثله العادة ، فكانت المعارضة حينئذ تقع لا محالة ؛ لأنّهم دعوا إلى مقاربته لا مماثلته.

وإنّما يكون هذا السؤال نافعا للخصم ، لو كان التفاضل الّذي ذكره بين شعر الشّعراء ينتهي إلى أن يكون الفاضل فصيحا ، والمفضول لا حظّ له في الفصاحة ؛ فيحمل تعذّر معارضة القرآن على ذلك.

فأمّا والأمر على ما بيّناه فأكثر ما فيه أن يكون بين كلام العرب ، إذا لم يحتذوا نظم القرآن وبينه إذا احتذوه ، مثل ما بين كلام أحد الشّعراء في بعض الأوزان الّتي يجوّد فيها ، وكلامه في غيره من الأوزان ؛ فكما أنّ من ساوى هذا الشّاعر في رتبة

٤٩

الفصاحة وجوّد في الوزن الّذي يقصّر هذا فيه لا يكون كلامه في هذا الوزن معجزا للمقصّر فيه ولا مانعا له من معارضته لو طالبه بمقاربته ، فكذلك القول في القرآن.

وليس يمكن أحدا أن يدّعي : أنّ العادة إن كانت جرت بين المتفاضل من الكلام بما ذكرناه فإنّ الله تعالى خرق هذه العادة في القرآن ؛ لأنّه لا طريق يرجى (١) منه خرق العادة في هذا الموضع إلّا الصّرف الذي بيّناه. وإلّا ما ذا (٢) يخرق العادة ، والقوم متمكّنون من مثل فصاحته ونظمه ، ولا مانع من المعارضة ، والدّواعي متوفّرة إليها؟! وهذا كلّه يوجب وقوع المعارضة ، لو لا ما ذكرناه من الصّرف الذي به انخرقت العادة.

وإنّما يسوغ ادّعاء خرق العادة بغير الصّرف لمن جعل فصاحة القرآن مفاوتة (٣) لسائر كلام العرب ؛ حتّى أنّ أحدا منهم لا يتمكّن من مساواتها أو مقاربتها ، من حيث لم يخصّوا بالعلوم الّتي تحتاج المعارضة إليها ، أو قال في النّظم مثل ذلك. وهذا قد مضى ما فيه.

على أنّه لو كان ما ظنّه السّائل صحيحا لواقف القوم عليه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقالوا له : أمّا (٤) فصاحتنا في شعرنا وكلامنا فهي مساوية أو مقاربة لما جئت به وطريقته في النّظم ؛ فنحن قادرون عليها. وإن شككت فجرّبنا ، إلّا أنّه ليس يتهيّأ لنا كلام يساوي ما أتيت به في الفصاحة والنّظم جميعا ، حسب ما التمست منّا. كما لا يتهيّأ لبعض الشّعراء أن تكون فصاحته واستقامة معانيه في بعض أوزان الشّعر كما هي في غيره ، وإن كان متمكّنا من القول في سائر الأوزان؟! وإذا كان هذا التفاضل

__________________

(١) هكذا تقرأ هذه الكلمة ، وهي محشورة بين السطرين السادس والسابع ، وفوق الحرف كلمة : «منه» بحبر خفيف. وقد تقرأ : يراعى أو يدّعى.

(٢) في الأصل : فيما ذا ، ولعلّها سهو من الناسخ.

(٣) أي مغايرة.

(٤) في الأصل : ما ، والمناسب ما أثبتناه.

٥٠

معهودا بيننا ، فبأيّ شيء فقتنا وفضلت علينا؟! وأين المعجز الّذي لا بدّ لمدّعي النّبوّة منه؟! وعن أيّ شيء صرفنا؟!

وفي عدول القوم عن هذا ـ وفيه لو اعتذروا به أوضح العذر وأكبر الحجّة ـ دليل على صحّة طريقتنا.

فإن قال : أراكم تسومون (١) العرب من الاحتجاج والمواقفة ، بما لا يهتدي إليه إلّا حذّاق المتكلّمين وأولو التدقيق منهم ؛ لأنّ العلم بالفصل بين ما يتعذّر على الخلق ولا يكون معجزا ولا خارقا للعادة وبين ما يتعذّر عليهم ويكون كذلك ، والتمييز بين التفاضل المعتاد والتفاضل الّذي ليس يعتاد (٢) ، أمر موقوف على النظر الّذي ليس من شأن القوم ، ولا يحسنونه. وإنّما وجدوا ما دعاهم إلى الإتيان بمثله ، فتعذّر عليهم ، ولم يبحثوا عن علّة هذا التعذّر وسببه ، وهل العادة جارية بمثله ، أم غير جارية؟ فلهذا لم يواقفوا.

قيل له : ليس يفتقر ما ذكرناه إلى دقيق النّظر كما ظننت ، بل العلم به قريب من أوائل العقول الّتي لا اختصاص فيها بين العقلاء ، وذلك أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ النّبيّ لا بدّ أن يبين (٣) من غيره ، ويختصّ بما لا يشركه فيه من ليس بنبيّ.

ويعلم أيضا : أنّ الذي يبين به لا يجوز أن يكون أمرا معتادا ؛ لأنّ المعتاد لا إبانة فيه. ولو أنّه ممّا يقع به الإبانة لوقعت بكلّ معتاد حتّى يدّعى بالأكل والشّرب ، والقعود والنهوض ، وهذا ممّا يعلمه جميع العقلاء. والعرب لا محالة عالمون به ، وعاقلون أيضا بأنّ شاعرهم قد يجوّد في بعض الأوزان ، ويقصّر في غيرها. وهذا ممّا إليهم المرجع في علمه.

فلو كانت حال القرآن في تعذّره على سائرهم حال ما يقصّر فيه بعض الشّعراء

__________________

(١) سامه الأمر : أي كلّفه إيّاه ، وألزمه به.

(٢) هكذا في الأصل ، ولعلّه : بمعتاد.

(٣) أي يبرز ويتشخّص عن غيره.

٥١

من الأوزان ـ مع تجويده في غيره لتسارعوا إلى مواقفته ، على أنّ ما بان منهم به ليس بمعجز ولا خارق للعادة ، ولا مقتض للصّرف ، وأنّه ممّا قد جرت العادات بمثله. وما رأيتهم فعلوا.

وبعد ، فقد قال الله تعالى مخبرا عنهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١).

وتظاهرت الأخبار بأنّهم طالبوه بإحياء عبد المطّلب ، ونقل جبال مكّة عن أماكنها. وهذا اقتراح من يفرّق بين المعجزات وغيرها ، ويميّز بين أبهرها (٢) وأظهرها إعجازا ، وبين ما يلتبس أمره ويدخل الشّبهة في مثله. فكيف يذهب عليهم ما ذكره السّائل؟!

على أنّ هذا السؤال عائد على من ذهب في إعجاز القرآن إلى فرط الفصاحة الخارجة عن العادة ؛ لأنّه إذا اعترض فقيل له : بأيّ شيء تنكر أن يكون بين القرآن وبين فصيح كلام العرب فصل قريب قد جرت بمثله العادة؟ وأنّ التحدّي لمّا وقع أشفق فصحاء العرب من معارضته ؛ لعلمهم بأنّ ما يأتون به ليس بمماثل له ، وظنّوا أنّهم إنّما دعوا إلى مماثلته لا مقاربته ، ولم يكن عندهم ما عندكم من أنّ المقاربة ـ في إخراجه من أن يكون خارقا للعادة ـ كالمماثلة ، ولا اهتدوا إلى أن يقولوا إنّ فضل كلامك على كلامنا كفضل كلام بعضنا على كلام بعض ، وأنّ هذا لا يوجب لك الإبانة والتخصيص ، كما لا يوجب لفاضلنا على متوسّطنا ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يقف

__________________

(١) الإسراء ٩٠ ـ ٩٣.

(٢) أكثرها تفوّقا وغلبة.

٥٢

عليه إلّا النّظّارون المتكلّمون ، وليس العرب منهم ، وهذا يخرج القرآن من أن يكون معجزا!

لم يجد مفزعا إلّا الكشف عن أنّ مثل ذلك لا بدّ أن تعرفه العرب ، ومن هو أنقص معرفة من العرب. وأنّه ممّا يحوج إلى العلم بالنّظر ولطيف الكلام ، وهو الذي اعتمدناه في الجواب.

فإن قال : كيف يصحّ ما ذكرتموه من سلب من رام المعارضة في الحال ، العلم بالفصاحة والنّظم ، والعلوم يجوز عليها البقاء. وإذا كانت باقية فليس تنتفي عن العالم إلّا بوجود ضدّها ، وهو الجهل ـ بخروج المحلّ من صحّة حلولها فيه ـ. والجهل قبيح لا يجوز أن يفعله القديم تعالى ؛ لأنّه غنيّ عنه عالم بقبحه!

ولو فسد المحلّ وخرج من صحّة حلول العلم بالفصاحة فيه ، لانتفت عنه سائر العلوم ؛ فكان يجب أن يكون كلّ من قصد المعارضة ، مختلس العقل (١) ، فاقدا لجميع علومه ، لاحقا بالمجانين والبهائم! بل يجب على هذا أن يكون أنقص من المجانين والبهائم ؛ لأنّ في هؤلاء علوما ببعض الأشياء. وهذا يخرج من أن يكون عالما بكلّ شيء. وما أظنّكم تبلغون إلى ادّعاء كلّ هذا!

قيل له : الصّحيح عندنا أنّ العلوم لا يجوز عليها البقاء ، وأنّ العالم إنّما يستمرّ كونه عالما ويدوم لتجدّد علوم تحدث في كلّ حال. وإنّما يصرف الله تعالى عن المعارضة بأن لا يجدوا العلم بالفصاحة في تلك الحال ، فيتعذّر ما كان مع حصول العلم متأتّيا. وهذا يأتي على ما تضمّنه سؤالك.

على أنّ العلم لو كان باقيا ـ كما ادّعيت ـ لصحّ أن ينتفي عن العالم بضدّ من أضداده سوى الجهل ، كالظنّ والسّهو والشّكّ والنسيان ، وليس شيء من هذه

__________________

(١) أي فاقد العقل ومسلوبه.

٥٣

قبيحا فننزّه الله عن فعله. وكلّ واحد منها ينفي العلم ، كما ينفيه الجهل والسّهو والشّكّ والنّسيان ؛ وإن كان في إثباتها معاني خلاف وكلام ربّما التبس.

قال : ليس في الظنّ معنى ، والصّحيح أنّه جنس مضادّ للاعتقاد ، لعلمنا باستحالة كون أحدنا ظانّا للشيء وعالما به في حال واحد ، كما يستحيل كونه عالما به وجاهلا ؛ فما دلّ على أنّ الجهل ضدّ العلم هو دالّ على أنّ الظنّ ضدّ له أيضا. ولأنّ أحدنا يميّز بين كونه معتقدا للشيء وظانّا له ، ويفرّق بين حاليه في ذلك. ولو لا أنّه مضادّ للاعتقاد لم يقع هذا الفرق والتمييز ، فقد سقط السؤال على كلّ حال.

فإن قال : إذا كان الصّحيح عندكم استحالة البقاء على العلوم ، وإنّ (١) العرب إنّما صرفوا عن المعارضة بأن لم يفعل لهم العلم بها في الحال ؛ فأيّ معجز هاهنا؟ وأين ما يوصف بأنّه دلالة على صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ والصّرفة على هذا ليست أكثر من عدم العلوم بالفصاحة الّتي لم تكن موجودة ثمّ عدمت ، بل عدمها مستمرّ. والموجود إنّما كان أمثالها ؛ فكيف توصف بأنّها المعجز ، والمعجز ما وقع موقع قول القائل للمدّعي عليه : صدقت. وليس يقع هذا الموقع إلّا ما كان فعلا واقعا أيضا على وجه مخصوص!

قيل له : المعجز ـ في دلالته على صدق الرّسول ـ كأحد الدلائل الدّالّة على ضروب المدلولات. وليس من حدّ الدّلالة أن تكون ذاتا موجودة ، أو فعلا حادثا على الحقيقة ، بل الدّلالة ما أمكن أن يستدلّ بها على ما هي دلالة عليه.

وإن كان قد ألحق قوم بهذا الحدّ : أن يكون لفاعلها (٢) أن يستدلّ بها ولها ، ما يستدلّ بعدم الغرض على حدوثه ، وبتعذّر الفعل على أنّ من تعذّر عليه ليس بقادر.

__________________

(١) في الأصل : وإنّما ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : فاعلها ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٥٤

وبتعذّره عليه حكمنا (١) على أنّه ليس بعالم. وإن لم يكن ما استدللنا به من ذلك ذوات قائمة واقعا لا حادثة. وإذا صحّ هذا فالمعجز إنّما يدلّ على صدق الرّسول إذا حصل على وجه لم تجر به العادة.

ولا فرق بين أن يكون فعلا لم تجر العادة بوجوده على وجه مخصوص ، وبين أن يكون عدم فعل لم تجر العادة بانتفائه على وجه مخصوص ؛ لأنّ الله تعالى إذا كان قد أجرى العادة بأن يفعل في كلّ حال للفصحاء العلم بالفصاحة كما يفعل لهم بسائر الضّرورات من الصّنائع وغيرها ، فلا بدّ أن يكون منعه لهم في بعض الأحوال هذا العلم الذي تقتضي العادة استمرار تجدّده دالّا على النّبوّة ، إذا وافق هذا المنع دعوة مدّع للرّسالة.

ويحتجّ بأنّ الله تعالى يمنع من ذلك لأجله ، وعلى وجه التصديق له ، كما أنّه لمّا أجرى العادة بأن لا يمكّن الفصحاء إلّا من قدر من العلوم يقع لأجلها منهم قدر من الفصاحة معلوم ، كان تمكينه لبعض عباده ـ من العلوم التي يقع بها ما يتجاوز المبلغ الّذي جرت به العادة تجاوزا كثيرا ـ دالّا على النّبوّة ، إذا وقع عقيب الدّعوى والاحتجاج.

وكذلك لمّا كانت العادة جارية بطلوع الشّمس من المشرق. ولا فرق في الدّلالة على النّبوّة بين اطلاعها من المغرب إذا ادّعى ذلك بعض الرّسل ، وبين أن لا يطلعها جملة ، إذا ادّعى الرّسول أنّ الله تعالى لا يطلعها تصديقا له ، وعلمنا أنّ المتولّي لاطلاعها وتسييرها هو الله تعالى.

ولو كان أيضا ما يراه بعض المتكلّمين من أنّ العلم الحاصل عند الأخبار المتواترة ، ضروريّ من فعل الله تعالى ، وأنّه أجرى العادة بأن يفعله للعقلاء عند

__________________

(١) في الأصل : محكما ، والمناسب ما أثبتناه.

٥٥

سماع الأخبار صحيحا ، يجري مجرى ما ذكرناه ؛ حتّى لو احتجّ محتجّ بأنّ الله تعالى لا يفعل لأكثر العقلاء العلم بمخبر الأخبار المتواترة ، مع تكرّرها على أسماعهم وكمال عقولهم ، ووقع ذلك حسب ما ادّعى ، لكان دليلا على صدقه.

وهكذا القول في جميع ما جرت به العادات ؛ لا فرق في الدلالة على النّبوّة بين ثبوت ما جرت بانتفائه وبين انتفاء ما جرت بثبوته ؛ لأنّه إنّما دلّ من حيث كان خارقا للعادة فمن أيّ الجهتين خرقها هو دالّ.

وممّا يزيد ما ذكرناه وضوحا أنّ دلالة المعجزات على النّبوّات محمولة على تصديق أحدنا لغيره فيما يدّعيه عليه ، إمّا بقول يدلّ على التّصديق ، أو بفعل ما يقوم مقامه. وقد علمنا أنّ أحدنا لو ادّعى عليه بعض أصحابه دعوى ما والتمس تصديقه فيها ، فقال له : إن كنت صادقا عليك فحرّك يدك في جهة مخصوصة ، أو ضعها على رأسك ، أو طالبه بغير ذلك ممّا يعلم أنّه لم يفعله مستمرّا على عادة له ، لكان إذا فعله دالّا على صدقه ، ويجري فعله مجرى قوله : صدقت. وكذلك لو طالبه بدلا ممّا ذكرناه بأن يمتنع من فعل قد جرت عادته باستمراره عليه فامتنع منه ، لقام مقام التّصديق بالقول.

وإذا لم يختلف الحال في تصديق أحدنا لغيره على الوجهين جميعا ، لم يختلف أيضا في تصديق الرّسل بالمعجزات على كلا الوجهين.

فإن قال : ما أنكرتم أن يكون عدم طلوع الشّمس ـ على الوجه الّذي ذكرتموه ـ ليس بمعجز ولا دلالة ، وأن تكون الدّلالة هناك ـ في الحقيقة ـ سكون الشّمس في الموضع الّذي سكنت فيه ، ولم تحرّك منه للطّلوع على مجرى العادة. وليس مثل هذا معكم في منع العرب عن المعارضة؟!

قيل له : هذا في نهاية البعد ، ومن أين للمستدلّ على النّبوّة أنّ الشّمس إذا غابت عن بلدة فلا بدّ من أن تكون باقية ، تقطع الأماكن حتّى تنتهي إلى أفق

٥٦

المشرق ببلدة؟

وهب أنّ هذا حقّ بالأدلّة عليه ، ليس جهل المستدلّ على النّبوّة في ذلك أو شكّه فيه بمخرج له من صحّة الاستدلال ـ بتأخّر الشّمس عن الطّلوع ـ على النبوّة إذا وقع على الوجه الّذي كان ذكرناه.

ولو كان المعجز ما ذكرته لكان من فقد العلم به لا يتمكّن من الاستدلال على صدق الرّسول ، وإن عدم طلوع الشّمس على الوجه الّذي ادّعاه واحتجّ به ، وقد علمنا خلاف ذلك.

وبعد ، فلو كان المعجز هو سكون الشّمس في بعض المواضع الغائبة عن أبصارنا لوجب أن يكون ذلك معجزا ، وإن أطلع الله تعالى شمسا غيرها على هيئتها وجميع أوصافها من المشرق. ونحن نعلم أنّه لو فعل ذلك لم يكن سكونها في الموضع الّذي سكنت فيه معجزا ، ولا ممّا يدلّ على النّبوّة.

فإن قال : إنّما لم يكن سكونها ـ والحال على ما قدّرتموه ـ معجزا ولا دليلا ، من حيث كان المستدلّ يجوّز أن تكون هي الطّالعة عليه لا مثلها. وإذا جوّز ذلك لم يعلم صدق الخبر بأنّها لا تطلع.

ولو كان له سبيل إلى العلم بأنّ الشّمس الّتي جرت العادة بطلوعها قد سكنت في بعض المواضع الغائبة عنه ـ وإن طلع مثلها عليه ـ لأمكنه الاستدلال على صدق المدّعي.

قيل له : كان سكون الشّمس في الموضع الغائب إنّما يكون دلالة على النّبوّة إذا لم تطلع شمس أخرى مكانها. وإذا جاز هذا أمكن أن يقال في مقابلته :

والمعجز أيضا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو العلوم الّتي يفعلها الله تعالى في العرب بالمدركات والصّناعات وغيرها من العلوم الضّروريّة ، منفردة عن العلم بالفصاحة وطريقة النّظم ؛ إذا راموا المعارضة فتعذّرت عليهم ؛ لأنّه كان تعالى قد أجرى العادة

٥٧

بأن يجدّد لهم في كلّ حال العلم بما ذكرناه ، وبالفصاحة والتصرّف في ضروب الكلام ، ثمّ منعهم ـ عند تعاطي المعارضة ـ العلم بالفصاحة ، وجدّد لهم ما سواها ، كانت هذه العلوم الواقعة ـ منفصلة عن العلوم بالفصاحة ، وقد جرت العادة بتجدّد الجميع على حدّ سواء ـ هي المعجز ، ويكون وقوعها. على الحدّ الذي ذكرناه ، كالوجه في صحّة دلالتها على النّبوّة ، إذا لم تطلع شمس أخرى.

على أنّ المعجز لو وجد بشرائطه كلّها ـ من غير دعوة مدّع ولا احتجاج محتجّ ـ لم يكن دالّا على النّبوّة. وكذلك لو وقع عند ارتفاع التكليف وانتقاض العادات لم يكن دالّا ، فصار وقوعه ـ مع بقاء العادات ـ موافقا لدعوى مدّع له ومحتجّ به ، كالوجه في صحّة دلالته على النّبوّة ، فلا يمتنع أيضا أن يجدّد العلوم التي ذكرناها ـ من غير أن تتجدّد معها العلوم بالفصاحة على مجرى العادة ـ دلالة على النّبوّة. ولو تجدّد الجميع لم يكن دلالة ؛ لأنّ خرق العادة ـ الّذي هو المراعى في دلالة النّبوّة ـ حاصل لا محالة.

وهذا الكلام إنّما أوردناه في مقابلة السائل على سبيل الاستظهار في الحجّة وإقامتها من كلّ وجه ، وإلّا فما قدّمناه من أنّه لا فرق في الدّلالة على النّبوّة بين ثبوت ما تقتضي العادة انتفاءه وبين انتفاء ما يقتضي ثبوته ، يغني عن غيره.

فإن قال : أليس قد شرط بعض المتكلّمين في الدّلالة أن تكون حادثة على وجه مخصوص ، فكيف يكون المعجز عدم العلوم بالفصاحة مع ذلك؟

قيل له : هذا ينكسر بما قدّمناه من دلالة عدم الغرض على حدوثه ، وتعذّر الفعل (١) على [أنّ] من تعذّر عليه ليس بقادر ، إلى غير ذلك ممّا ذكرناه.

اللهمّ إلّا أن يكون من شرط ذلك لم يرد (٢) الحدوث الحقيقيّ الّذي هو الخروج

__________________

(١) في الأصل : الفصل ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : يرو ، والصحيح ما أثبتناه.

٥٨

من العدم إلى الوجود ، بل أراد ما يعقل من معنى الحدوث والتّجدّد ؛ فيكون ما تكلّمنا عليه غير خارج عن شرطه ، لأنّا نعقل من تجدّد انتفاء العلوم بالفصاحة ـ على من قصد المعارضة ـ ما لو لا تصديق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن.

فإن قال : أيّ تجدّد يفعل في الموضع الذي ادّعيتموه؟! والعلوم التي انتفت عمّن رام المعارضة لم تكن موجودة ثمّ عدمت ، بل انتفاؤها مستمرّ غير متجدّد. وليس كذلك عدم العرض الذي يستدلّ به على حدوثه ، لأنّا نعلم عدمه بعد وجوده متجدّد في الحقيقة.

قيل له : هذه العلوم وإن لم تكن انتفت بعد أن وجدت على الحقيقة ، فهي من حيث اقتضت العادة وجودها ـ لو لا تصديق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حكم الموجود ، وإن لم يوجد ؛ فجرى انتفاؤها في تجدّده مجرى ما وجد على الحقيقة ثمّ عدم.

وإنّما قلنا : «في حكم الموجود» (١) ، لأنّا نعلم أنّ وجودها كان واجبا لا محالة ، [حسب] مقتضى العادة ؛ فإذا خرق الله تعالى العادة في أن يوجدها واستمرّ انتفاؤها ، جرى مجرى ما طرأ عليه الانتفاء من الوجه الّذي ذكرناه. وهذا بيّن لا إشكال (٢) فيه.

على أنّا قد نستدلّ بجواز عدم العرض على حدوثه ، وإن لم يحصل العدم ويتجدّد. وليس كونه ممّا يجوز أن يعدم متجدّدا على وجه ، وهذا يبيّن أنّ الشرط الّذي ذكر ليس بمستمرّ في جميع الدّلائل.

فإن قال : ما أنكرتم أن يكون الاشتراط في الدّلالة أن تكون حادثة هو في أصول الأدلّة ؛ لأنّ مرجع جميع الأدلّة إلى الأفعال الّتي لا بدّ أن تكون حادثة؟! وأن يكون ما ذكرتموه من الاستدلال على حدوث العرض ـ بعدمه ، وبتعذّر الفعل

__________________

(١) في الأصل : الوجود ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) في الأصل : الأشكال ، والمناسب ما أثبتناه.

٥٩

على من تعذّر عليه ليس بقادر ـ يرجع جميعه إلى دلالة الفعل ، غير أنّه دالّ عليه بواسطة ؛ لأنّ عدم العرض أو جواز عدمه ، لا يعلم إلّا بالفعل الّذي هو تحريك الشيء بعد تسكينه ، أو تسكينه بعد تحريكه. وكذلك تعذّر الفعل على زيد ، يدلّ على أنّه ليس بقادر ، من حيث علم بالفعل أنّ الفاعل من حيث صحّ منه يجب أن يكون قادرا ، فقد عادت أصول الأدلّة كلّها إلى الأفعال.

قيل له : هذا إذا صحّ لم يؤثّر في طريقتنا ؛ لأنّا نتمكّن من ردّ الدّلالة في الموضع الّذي ذكرناه أيضا ، إلى الفعل على هذا الوجه.

فنقول : إذا اتّفقت العلوم بالفصاحة عند القصد إلى المعارضة ، وقد كانت ـ لو لا النّبوّة ـ واقعة لا محالة على العادة فقد عادت دلالة ذلك إلى الفعل أيضا ؛ لأنّ فعل العلوم لو لم يكن واجبا بالعادة لما دلّ انتفاؤها على شيء ، فالمرجع إذا الفعل في الدّلالة ، كما خرج ذلك في تعذّر الفعل وغيره.

فإن قيل : خبّرونا عن التّحدّي بالإتيان بمثل القرآن ، ما المراد به؟ لأنّكم ليس تذهبون إلى أنّ العادة انخرقت بفصاحته كما نذهب ، فيكون المثل الملتمس ما أخرجه من أن يكون خارقا للعادة وألحقه بالعناد. ويتساوى فيه المماثل في الحقيقة والمقارب.

وهب أنّ طريقة النّظم قصدت أيضا بالتحدّي ـ على حسب ما اقتضته عاداتهم في تحدّي بعضهم بعضا ـ لا بدّ أن تكون الفصاحة مقصودة ، وهي الأصل في التحدّي.

والدّعاء إلى الإتيان بالمثل ـ إذا لم تصحّ طريقتنا ـ محتمل ، فقد يجوز على هذا أن يكونوا ظنّوا أنّهم دعوا إلى مماثلته في الفصاحة على الحقيقة لا مقاربته ، فتعذّر عليهم المعارضة لا للصّرفة بل لعلوّ منزلته في الفصاحة عليهم ، وتقدّم كلامه لكلامهم.

٦٠