الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

ثمّ قال صاحب الكتاب (١) :

«فإن قالوا (٢) : لو لا أنّ الّذي لأجله عدلوا عن المعارضة الصّرف الّذي ذكرناه ، كان لا يجب أن يجري أمرهم على حدّ واحد ، مع أنّ فيهم المتقدّم الّذي يعلم باضطرار تعذّر المعارضة عليه ، وفيهم من لا يعلمها كذلك.

قيل لهم (٣) : قد بيّنا أنّ فيهم من جاء بمعارضة ركيكة ، ومن لم يأت بها فلأنّه علم من حالها ما وصفناه ، أو كان في حكم العارف ، أو تابعا للعارف ؛ فلذلك اتّفقوا على العدول عن المعارضة.

وهذا بيّن من حال الجمع العظيم ؛ لأنّهم ينظرون إلى المتقدّم منهم في الرّتبة ، ويقع من جهتهم التأسّي ؛ فلمّا رأى أتباعهم الأكابر قد ضاق ذرعهم بالقرآن ، وعدلوا عن المعارضة إلى الأمور الشاقّة ، تبعوهم في هذه الطّريقة ؛ لعلمهم بأنّهم عن ذلك أشدّ عجزا ؛ فلذلك استمرّت أحوالهم على هذا الوجه ، لا الصّرفة (٤) الّتي ظنّها (٥) السائل.

ولو لا أنّهم علموا أنّ القرآن في أعلى رتبة من الفصاحة الجامعة لشرف اللّفظ وحسن المعنى حتّى بهرهم ذلك ، لقد كان يجوز أن يختلفوا في سائر (٦) المعارضة ، فيكون فيهم من يكفّ ، وفيهم من يحاول ، وفيهم من يأتي بما يزداد علمهم بعظم شأن القرآن عنده (٧) تأكيدا.

لكن الأمر في القرآن لمّا كان على ما ذكرناه ، عدلوا عن المعارضة ؛ لظهور حاله.

ولو لا صحّة ذلك من هذا الوجه ، لقد كان القول بالصّرفة يقوى من حيث لم تجر العادة مع التّنافس (٨) الشّديد ، وتباين الهمم ، وامتداد الأوقات ، بأن (٩) يقع

__________________

(١) المغني ١٦ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٢) في المغني : قال.

(٣) في المغني : له.

(٤) في الأصل : للصّرف.

(٥) في الأصل : طلبها.

(٦) في الأصل : شأن.

(٧) في الأصل : عندهم.

(٨) في الأصل : التناقض.

(٩) في المغني : أن.

٢٦١

الكفّ عن الأمر المطلوب الّذي قويت الدّواعي إلى فعله ؛ فكان يصحّ أن يتعلّق بالصّرفة ، ويراد بها انصرافهم عن المعارضة ، وإن كانت غير مؤثّرة ، دون المعارضة المؤثّرة ، ولأنّ هذه المعارضة يعلم أنّها لا تحصل بما قدّمناه من الأدلّة. لكن ذلك يبعد ؛ لأنّه متى جوّز (١) في انصرافهم عنها أن يكون الوجه فيه الصّرفة ، لم نأمن (٢) أن تكون المعارضة الصّحيحة أيضا (٣) ممكنة ، وإنّما عدلوا عنها للصّرفة التي ذكرناها السّائل. وهذا بيّن فيما أوردناه».

الكلام عليه

يقال له : قد بيّنا في الدليل الثّاني ـ الّذي اعتمدناه في صحّة القول بالصّرفة ـ ما إذا تؤمّل كان مبطلا لما تعلّقت به في هذا الفصل ؛ لأنّا ذكرنا أنّ العرب لو لم يصرفوا عن المعارضة على كلّ وجه يقع معه ضرب من الاشتباه والالتباس ـ سواء كانت المعارضة مماثلة على الحقيقة أو مقاربة ـ لوجب أن يعارضوا بما يدّعون أنّه مماثل ، وإن لم يكن على التّحقيق كذلك ، وأنّهم كانوا بفعلهم هذا قد أوقعوا الشّبهة لكلّ من لم يكن في غاية الفصاحة ، ثمّ لا يفرّق بين ما أتوا به وبين القرآن.

ونحن نعلم أنّ الخلق أجمعين ـ إلّا النفر اليسير منهم ـ لا يفرّقون بين ذلك ، وإنّما يرجعون فيه إلى غيرهم. وإذا كان ذلك الغير الّذي يرجع إليه يدّعي المساواة والمماثلة استحكمت الشّبهة وانسدّ الطّريق إلى العلم بالإعجاز!

وبيّنا أنّهم قد استعملوا من ضروب المكائد وصنوف الحيل ما كان هذا الّذي ذكرناه أوقع منه وأنفع فيما قصدوه ؛ لأنّهم لجأوا إلى أفعال كثيرة لا يدخل على عاقل شبهة في خروجها عن باب الحجّة. وأنّ الضّرورة حملت عليها ، والقصور

__________________

(١) في الأصل : يجوز ، وما أثبتناه من المغني.

(٢) في المغني : يأمن.

(٣) ليست في الأصل.

٢٦٢

دعا إلى فعلها ؛ فكيف ذهبوا عن هذا الأمر الغريب الّذي يدخل الشّبهة على أكثر الخلق ، ويشعرهم براءة عهدتهم ، وعلوّ كلمتهم؟!

وليس تتوجّه هذه الطّريقة من حيث ظنّ صاحب الكتاب ؛ لأنّه بنى السّؤال على أنّ المعارضة كان يجب وقوعها ، فمن لم يعلم من جملة القوم تعذّر المعارضة ، وأنّه لا يمتنع أن يختلف حالهم فيكون فيهم من يعلم تعذّرها فلا يعارض ، وفيهم من لا يعلم ذلك فيشتبه عليه الأمر فيعارض.

بل الطّريق الّذي سلكناه في لزوم الكلام أولى ؛ لأنّا بيّنا أنّ القوم مع العلم بتعذّر المعارضة المطلوبة عليهم كان يجب أن يعارضوا بما يقدرون عليه ، ويدعوا المساواة ؛ وإن كان غير بعيد لزوم الكلام من الوجه الّذي سأل نفسه عنه.

وليس قوله في جواز ذلك : «إنّ من لم يكن عارفا بتعذّر المعارضة كان تابعا للعارف» بشيء يعتمد ؛ لأنّا لم نجد من أتى بالمعارضة الرّكيكة اتّبع في الإمساك عنها من عدل عن المعارضة من العارفين المتقدّمين ، بل تعاطاها وإن كان (١) هؤلاء لم يتعاطوها! فألّا وقع من بعض من يشتبه عليه الأمر في إمكان المعارضة وتعذّرها ما يظنّ أنّه بصفة المعارضة المطلوبة؟!

وكيف لم يخالف من عارض الطّبقة الّتي لم تعارض من المبرّزين المتقدّمين إلّا بإيراد معارضة ، لا شبهة على عاقل فضلا عن فصيح ، في أنّها غير واقعة موقعها ، وأنّها من أبعد الكلام عن الفصاحة والجزالة؟!

ونحن نعلم أنّ بعض القوم لو أتى بكلام له حظّ من الفصاحة ورتبة من البلاغة وادّعى به المعارضة لكانت الشّبهة قويّة والارتياب مستحكما ، فكيف خالفوا أكابرهم ومتقدّميهم فيما لا يقع لهم [حيلة] (٢) فيه ، ولا شبهة تدخل على عاقل

__________________

(١) في الأصل : كانوا ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) وضعناها لاقتضاء السياق.

٢٦٣

بمثله ، ولم يخالفوهم فيما ذكرناه؟! وفيه من ارتفاع الشّبهة ونفوذ الكيد ما أشرنا إليه؟!

وقد بيّنا فيما مضى من الكتاب ـ عند الاعتماد على هذه الطريقة ـ أنّه غير ممكن أن يكون ترك القوم لهذا الضّرب من المعارضة إنّما هو للخوف من تكذيب الفصحاء لهم ، وتهجينهم لفعلهم ، وشهادتهم عليهم بالمكابرة.

فإن قلنا : إن كان الخوف من تكذيب من في جملة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفصحاء ، فهو غير مانع ممّا ذكرناه من وقوع الشّبهة وتمام الحيلة ؛ لأنّ أكثر ما في هذا الأمر أن يشهد من في جملة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ تلك المعارضة غير صحيحة ولا مؤثّرة ، ويشهد من بإزائهم من الفصحاء ـ وهم أكثر منهم ـ بضدّ ذلك ؛ فتتقابل الأقوال وتتكافأ ، لا سيّما عند من لم تكن الفصاحة صنعته ، ولا بلغ فيها الرّتبة التي يفرّق معها بين ضروب الكلام الفصيح وبين كلّ ضرب منه [دون] (١) منزلته. وهذا نهاية سؤل العرب ، وغاية أملهم.

وإن كان الخوف ممّن لم يكن في صحبة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا على دينه فلا خوف من هؤلاء ؛ لأنّهم أحذق (٢) وأمكن (من أن يردّوا) (٣) ما يوافق إرادتهم ، ويضعف أمر عدوّهم!

وذكرنا أيضا : أنّ ما اقتضى إمساكهم عمّن عارض بأخبار الفرس ، مع علمهم بعد ما أتى به عن المعارضة ، وعدولهم عن تكذيب من قال : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، مع قطعهم على كذبه وبهته ، يقتضي الإمساك عمّن يعارض بكلام له حظّ من الفصاحة ، ويدّعي المماثلة. بل الإمساك عن هذا أولى ؛ لما تقدّم ذكره.

فأمّا قوله : «ولو لا صحّة هذا الوجه لكان التعلّق بالصّرفة يقوى من وجه كذا ،

__________________

(١) وضعناها لاقتضاء السياق.

(٢) في الأصل : أحنق ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : من برووا ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٦٤

ويراد بها انصرافهم عن المعارضة الّتي ليست مؤثّرة ، دون المؤثّرة ؛ لأنّ هذه المعارضة يعلم بما تقدّم من الأدلّة أنّها لا تحصل». ثمّ قوله بعد : «لكن ذلك يبعد ؛ لأنّه متى جوّز في أحد المعارضتين الصّرفة ، لم نأمن في الأخرى مثله» (١) ؛ فمن الكلام الطّريف الظّاهر التّناقض ؛ لأنّه فرّق أوّلا بين المعارضتين ـ المؤثّرة وغير المؤثّرة ـ في صحّة التعلّق بالّتي ليست بمؤثّرة ، لو لا ما خرّجه من الوجه الّذي ذكره ، ثمّ سوّى بينهما من غير وجه يقتضي التّسوية ، وجعل تجويز الصّرفة عن إحداهما تجويزا في الأخرى.

فكيف يصحّ ما ذكره من الطّرق وضروب الاستدلالات الّتي تتناول ـ إذا صحّت ـ المعارضة الّتي ليست بمؤثّرة ، ولا يمكن أن يعلم بها امتناع وقوعها ، فكان المتعلّق بالصّرفة من هذا الوجه يقول له : الّذي يؤمن وقوع الصّرفة عن المعارضة المطلوبة قدّمته ، وادّعيت أنّه أدلّة على امتناعها ، وليس ذلك بمؤمن حصول الصّرفة عن المعارضة الأخرى. فعلى أيّ وجه سوّيت بينهما ، سيّما مع اعتقادك أنّ المؤثّرة على الحقيقة غير ممكنة ولا متأتّية ، وعلى ذلك بنيت ما استدللت به على تعذّرها ، والّتي ليست بمؤثّرة!

ولا يمكنك أن تقول : إنّها غير متأتّية ولا ممكنة ، وأكثر ما تدّعيه أنّها لا تقع لشيء تذكره ، لا يقتضي خروجها من الإمكان ، فقد صحّ بما ذكرناه اضطراب كلامه في الفصل ، وهذا آخر ما احتجنا إلى تتبّعه من كلامه.

مسألة تتعلّق بالصّرفة

إن سأل سائل فقال : كيف يصحّ مذهبكم في الصّرفة ، ومعلوم أنّ القوم الّذين

__________________

(١) في المغني ١٦ / ٣٢٨ : «لكن ذلك يبعد ؛ لأنّه متى جوّز في انصرافهم عنها أن يكون الوجه فيه الصّرفة ، لم يأمن أن تكون المعارضة الصحيحة أيضا ممكنة».

٢٦٥

تدّعون أنّهم كانوا متى همّوا بالمعارضة وراموا فعلها ، صرفوا عنها وأفقدوا العلوم الّتي تتأتّى معها ، لا بدّ من أن يكونوا عارفين بذلك من أحوال أنفسهم ، ومميّزين بين أوقات المنع والتّخلية.

وإذا كانت معرفتهم به واجبة ، وكان أمرا خارقا لعادتهم مباينا لسنّتهم ومذاهبهم ، فلا بدّ من أن يتذاكروه ويتفاوضوه ، ويخوضوا فيه ، ويعجبوا منه ؛ لأنّ النفوس مولعة بذكر العجائب ، ملهية بنشر الغرائب ، بهذا قضت العادات ، وعليه دلّت التّجارب ، وهو أصل في باب الأخبار ومعرفة الحوادث كثير ، متى نقضه ناقض لزمه من الجهالات ما لا قبل له به.

وإذا كان الخوض فيما ذكرناه لا بدّ أن يقع بمجرى العادة فلا بدّ أن يكون ظاهرا فاشيا ؛ لأنّ ظهور الشّيء وبروزه ، إنّما يكونان بحسب موقعه من النّفوس ، وبقدر الاهتمام به ؛ والاهتمام به يكون بقدر استغرابه واستطرافه. فإذا انضاف إلى الاستغراب والاستطراف ما يرجع إلى المنافع ودفع المضارّ ، قويت دواعي الإعلان وتأكّدت.

وإذا كان الظّهور واجبا فواجب حصول العلم به وزوال الرّيب فيه ، كما حصل العلم بجميع ما جرى مجراه من أحوال القوم وأفعالهم الظّاهرة.

وكيف لا يكون ذلك معلوما لنا ، إذا فرضنا ظهوره من القوم ووقوع الخوض منهم فيه ، وعناية سلفنا بنقل ما جرى مجراه من آيات النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبراهينه ومعجزاته ، أتمّ عناية وأوفرها.

ولا شيء أظهر وأكبر في باب الدّلالة والآيات من اعتراف العرب بما يجدون أنفسهم عليه من المنع عن المعارضة. وفي ارتفاع العلم دلالة على أنّه لم يقع هناك خوض فيه وتحدّث به ، وإذا لم يجر شيء من ذلك فلا صرفة.

٢٦٦

الجواب :

يقال له : أمّا ما قدّمته من وجوب معرفة العرب ـ بما هم عليه ـ من تعذّر المعارضة عليهم ، على سبيل الجملة ، فصحيح ، وكذلك ما أتبعته به من علمهم بخروج ذلك عن عهدهم وعادتهم.

فأمّا ما أوجبته من بعد من التحدث بذلك والتذاكر به ثمّ إظهاره وإعلانه ، فغير واجب ، بل الواجب خلافه ؛ لأنّا نعلم أنّ القوم قد بلغوا الغاية في عداوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحسده ، وتطلّب ما شكّك فيه ونفّر عنه ، والعدول عن كلّ ما آنس به وقرّب منه. وهم يعلمون أنّ التذاكر بما يجدون أنفسهم عليه من تعذّر معارضته أقوى الأسباب في تصديقه ووجوب اتّباعه ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما ادّعى الإبانة منهم والمزيّة عليهم بهذا القدر الّذي يوجب أن يعترفوا به ويتذاكروه ، فكيف يصحّ أن يقع منهم ما ظننته ، وحالهم هذه؟!

فكأنّك أيّها الملوم تقول : يجب أن تقع نهاية التّصديق ممّن دواعيه متوافرة ، وحيلته كلّها مصروفة إلى نهاية التّكذيب!

على أنّه لو وقع من بعضهم ممّن لا يعرف عاقبة قوله ، ولا يتثبّت في أفعاله ، أو ممّن يطلب (١) السّلامة لقوي في نفسه انكتام خبره [ومتى صدر] ذكر لهذا المعنى ، وحرص فيه لم يجب أن يكون ظاهرا شائعا ، بل لا عاقل من القوم يذكر مثل هذا عن نفسه ، إلّا لمن هو عنده أوّلا على نهاية الثّقة والأمانة ، ثمّ لا يذكره إلّا على آكد وجوه الاستسرار والخفاء ، فمن أين يجب ظهوره والعلم به وهو إذا وقع كانت هذه حاله؟!

وإنّما يجب العلم بالأمور الّتي تقع في الأصل ظاهرة وشائعة ، ثمّ تتوفّر

__________________

(١) في الأصل : يغلب ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٦٧

الدّواعي إلى نقلها ، ويحكم فيما جرى هذا المجرى بأنّه لم يكن ، متى لم ينقل ويعلم فإمّا ما لا يجب ظهوره واستفاضته ويجوز وقوعه إن وقع مستسرّا به ، فليس يجب متى فقدنا نقله أو العلم به أن نحكم بنفيه. ولهذه العلّة ما علمنا أحوال الملوك الظّاهرة والحوادث في أيّامهم المستفيضة ، ولم نعلم جميع أسرارهم ، وما كتموه من أخبارهم ، وألقوه إلى الواحد والاثنين من ثقاتهم. والقول فيما ذكرناه أوضح من أن يحتاج إلى شرط.

وليس لأحد أن يقول : هبكم لا توجبون التّذاكر بذلك من جهة الاستطراف والاستغراب ، ألا وجب أن يذكره بعضهم لبعض ؛ ليعرف كلّ واحد منهم هل حال غيره في الامتناع والتعذّر كحاله أم لا؟

وذلك أنّ التحدّث به لو وجب من هذه الجهة ، لم يكن إلّا على الوجه الذي بيّناه من الخفاء والكتمان ؛ لأنّ ما دعا من المسألة عنه لا يدعو إلى إظهارها ، بل دواعي سترها قائمة من حيث ذكرنا ، فلا منفعة للسّائل فيما ذكره إذا التزمناه ، وكان ممّا لو وقع لم يظهر ، ولم يجب أن يعلم. على أنّ ما أوجبه من هذه الجهة لا يجب أيضا ؛ لأنّ سؤال بعضهم بعضا إنّما يحسن متى استفيد به ما ليس بمعلوم. فأمّا إذا كان لا يفيد إلّا ما يعلمه السّائل فلا طائل في تكلّفه.

فكلّ واحد من العرب يعلم ـ من حال غيره من المنحرفين عن دعوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المظاهرين له بالعداوة ـ ما يقتضي (١) أنّ المعارضة متى أمكنته فعلها وبادر إليها ، وأنّه لم يمسك عنها ودواعيه متوفّرة إليها إلّا وحاله في التّعذّر مساوية لحاله ، فأيّ فائدة في سؤاله وتعرّف ما عنده؟!

__________________

(١) في الأصل : وما يقتضي.

٢٦٨

مسألة أخرى

إن قال قائل ـ معترضا على ما اعتمدناه في دليلنا على صحّة الصّرفة ، حيث قلنا : إنّ القرآن لو كان خارقا للعادة بفصاحته لوجب أن يقع الفرق بين كلّ سورة منه وبين أفصح كلام العرب ، لكلّ من وقع له الفرق بين أعلى كلامهم في الفصاحة وأدونه ، ويكون الفرق بين القرآن وبين سائر الكلام ، إذا كان خارقا للعادة ، من المزيّة والفرق أكثر ممّا بين كلّ كلامين جرت بهما العادة ـ لم أنكرتم أن يكون ما أوجبتموه غير واجب؟ لأنّ الفرق بين أفصح كلام العرب وأدونه وبين شعر امرئ القيس ـ من هو في أعلى الطّبقات ـ وشعر المقصّر من المحدثين ، إنّما ظهر على الحدّ الّذي ذكرتموه من حيث جمع بين ما لا فصاحة له ـ وإن كانت فيسيرة ضعيفة ـ إلى ما كثرت فصاحته وتناهت بلاغته ، فوقع الفرق على أقوى وجه الظّهور.

وليس هذا سبيل للقرآن وما يضمّ إليه من أفصح كلام العرب ؛ لأنّ القرآن وإن بان من جميع ذلك وتقدّم في الفصاحة عليه بما يجاوز (١) العادة ويخرقها ، فإنّ الفرق لا يجب ظهوره في الأوّل ؛ لأنّ ما يصحّ [نسبته] إلى القرآن قد استبدّ برتبة في الفصاحة قويّة ومنزلة فيها رفيعة ، تقتضيان هذا اللّبس والاشتباه. ألا ترون أنّ أكثر النّاس يفرّقون بين ثوب القصب الّذي يساوي دينارا ، وبين ما يساوي عشرة دنانير ، ولا يفرّق بين الفصّ الزّجاج الّذي قيمته درهم وبين الفصّ الياقوت الّذي قيمته دينار إذا زالت عنهما وجوه التمويهات والتدليسات.

وليس يفرّق هؤلاء بين كلّ ثوبين وكلّ فصّين كانت بينهما هذه القيمة ، بل ولا

__________________

(١) في الأصل : يجاوزه ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٢٦٩

أضعافها ؛ لأنّه قد يلتبس عليهم الفرق بين فصّ بعشرة دنانير والآخر بألف دينار ، وكذلك في الثّياب ، حتّى يفتقر في العلم بما هذه حاله إلى ذوي الحذق والبصيرة.

وهذا يبيّن أنّ اللّبس لم يقع مع التفاوت والتباعد إلّا من الوجه الّذي ذكرنا ، وأنّه لا يجب أن يظهر الفرق بين سائر الأشياء على نسبة واحدة ، وفيه بطلان ما اعتمدتموه.

الجواب :

يقال له : هذا الّذي ظننته عكس العقول ، وقلب موجباتها ؛ لأنّ من المعلوم أنّ ظهور الفرق بين الشّيئين تابع لمزيّة أحدهما على صاحبه ، وكلّما كانت المزيّة أكثر كان الفرق أظهر ، لو لا هذا لجاز أن يفرّق بين الكبير والصّغير من الأجسام من لا يفرّق بينهما ، إذا كان الكبير أكبر ممّا هو عليه ، والصّغير أصغر ممّا هو عليه ، على ما كنّا ذكرناه فيما تقدّم من بعض الكتاب.

والّذي ذكرته في الثّياب والفصوص غير مماثل ـ إذا صحّ ـ لما نحن فيه ؛ لأنّه غير منكر أن يفرّق بين الفصّين من لا يفرّق بين غيرهما ، وإن كانت القيمة في اللّذين لم يفرق بينهما أكثر تفاوتا منها في اللّذين فرّق بينهما ، وإنّما جاز ذلك من حيث لم تكن زيادة القيمة في الجواهر تابعة لوجه واحد دون غيره ، حتّى تزيد بزيادته ، وتنقص بنقصانه ، بل هي تابعة لوجوه كثيرة.

ولو كان الوجه الّذي فرّق بين الفصّين بعينه هو الّذي زاد وتضاعف في غيرهما لاستحال ألّا يظهر لمن ظهر له ما نقص عنه.

يبيّن ما ذكرناه أنّ من فرّق بين الفصّ الياقوت وغيره ، للونه أو لمائه مثلا ، لم يجز أن يتضاعف ما من أجله فرّق ، والفرق غير حاصل ، وإن جاز أن تتزايد

٢٧٠

وتتضاعف وجوه أخر تكثر لها القيمة وإن لم يظهر الفرق.

وليس يمكن أن يقال : فقولوا مثل هذا في القرآن ، وأجيزوا أن يكون خفاء القرآن بينه وبين ما ذكرتموه إنّما هو لاستبداده بوجوه من الفصاحة ليست فيما ظهر لنا الفرق بينه وبين غيره ؛ وذلك أنّ الكلام إنّما يكون أفصح من غيره على أحد وجهين :

إمّا بأن يزيد عدد ما فيه من الألفاظ الفصيحة ؛ أو بأن يكون نفس ألفاظه أفصح وأجزل من ألفاظ غيره.

فمتى وقع الفرق بين كلامين ، أحدهما أفصح من الآخر فلا بدّ متى ضممنا إلى الأنقص فصاحة ما هو أفصح من الأوّل ، يظهر لنا فصاحته. وكذلك متى ضممنا ما هو أفصح من الجميع ، وعلى هذه النسبة أبدا.

ومتى اعتبرت هذه الطّريقة في النثر والنّظم وكلّ فصيح من الكلام ، فوجدتها مستمرّة غير منتقضة ، فليس يمكن الإشارة في الفصاحة إلى وجوه مختلفة يجوز أن يظهر بعضها لمن يميّز بين الفصاحة ويخفى عنه البعض ، مع زيادته وتفاوته ، كما جاز مثله في القيمة ؛ لأنّ ذلك لو كان صحيحا لوجب أن لا يقع الفرق بين أظهر سور القرآن فصاحة ، وبين أنقص كلام العرب فصاحة ، كما لم يقع الفرق بين مواضع منه ، وبين أفصح كلام العرب ؛ لأنّ العلّة في ارتفاع الفرق واحدة ، وهي ما ادّعى من مخالفة الطّريقة. ألا ترى أنّ من لم يظهر له الفرق بين الكتابة السّريانيّة العربيّة (١) ـ من حيث لم يكن عارفا بطريقة السّريانيّة ـ لم تختلف حاله في ارتفاع الفرق بين أن يجمع بين السّريانيّة إلى أردا خطوط العربيّة ، وبين أن يجمع إلى

__________________

(١) في الأصل : العبريّة ، وما أثبتناه مناسيب لما يأتي من الكلام.

٢٧١

أحسنها! ونحن عالمون في القرآن ضرورة خلاف ذلك.

وبعد ، فلو كان ما تضمّنه السّؤال صحيحا لكنّا لا نأمن أن يكون بين شعر امرئ القيس ، وشعر من قاربه وكان في طبقته ، مثل النّابغة والأعشى ومن جرى مجراهما ، من التعاقب في الفصاحة أكثر ممّا بين شعره وشعر أحد المحدثين ، وتكون العلّة في خفاء الفرق علينا ـ مع ظهور الفرق بين شعره وأشعار المحدثين ـ ما ذكره السّائل وجعله علّة في ارتفاع العلم بالقرآن وغيره.

وليس يؤمن ما ذكرناه إلّا الطّريقة التي سلكناها من أنّ الأمر لو كان على هذا لوجب أن يظهر الفرق بين شعر امرئ القيس والنّابغة ، إذا فرضنا التّفاوت بينهما في الفصاحة ، لكلّ من ظهر له [ما] بينه وبين شعر المحدث.

وليس لأحد أن يقول : قد كان الشكّ في ذلك جائزا ، لو علمنا بخلافه من مذاهب أهل البصيرة بالشّعر ونقده ، الّذين لا يجوز عليهم أن يخفى ما يخفى علينا في هذا الباب ؛ لأنّهم مطبقون على تقارب هذين الرّجلين في الشّعر ، وأنّه لا تفاوت بين فصاحتهما.

وذلك أنّه يلزمه على هذا أن نكون ـ لو لا ما علمناه من حال هؤلاء ومذاهبهم في هذين الشّاعرين ـ مجوّزين بخلافه ، وشاكّين في أنّ بين شعر امرئ القيس والنّابغة من الفصاحة أكثر ممّا بين شعره وشعر المتنبّي ، مع ظهور الفرق بين شعره وشعر المتنبّي لنا ، واشتباه الأمر في شعره وشعر النّابغة علينا ، وهذا حدّ لا يبلغه متأمّل لأمره.

على أنّ هاهنا وجها يزيل كلّ شبهة في هذا الباب ، وهو : أنّ خفاء الفرق بين القرآن وأفصح كلام العرب علينا ، لو كان سببه ما ادّعي من وفور حظّ ما يضمّه إليه

٢٧٢

من الفصاحة والبلاغة ، وأنّ ذلك هو النّقيض للاشتباه (١) ـ وإن كان التفاوت في الفصاحة حاصلا ـ لوجب أن لا تظهر لنا فصاحة بعض القرآن على بعض ؛ لأنّ بعضه أقرب إلى بعض في الفصاحة من كلّ كلام يضمّ إليه.

وما لا تظهر فصاحته من جملة ظهورها في غيره أوفر حظّا في الفصاحة على كلّ حال من جميع الكلام ، حتّى أنّه ينتهي عند خصومنا فرط فصاحته إلى خرق العادة. فصارت العلّة الّتي ذكروها في تعذّر الفرق بين مواضع من القرآن وفصيح كلام العرب ، تقتضي على آكد الوجوه ارتفاع الفرق بين بعضه وبعض.

وإذا علمنا ضرورة ظهور بعض فصاحته على بعض بطل ما ظنّه خصومنا ، وصحّ مذهبنا.

وهذا الوجه يسقط أيضا قول من جعل العلّة في خفاء الفرق استبداد القرآن بطريقة في الفصاحة مخالفة لسائر الطّرق.

* * *

وإذا انتهينا إلى هذا الموضع من الكتاب فقد كان الواجب قطعه عليه ، لاستيفائنا الكلام في جميع ما شرطناه وأجرينا بكتابنا إليه ، لكنّا آثرنا الآن أن نضمّ إليه فصولا في الدّلالة على وقوع التحدّي بالقرآن ، وأنّه لم يعارض ، وأنّ معارضته لم تقع لتعذّرها ، وأنّ تعذّرها كان على وجه يخالف العادة ، ليكون ما أسّسناه في صدر الكتاب من هذه الأمور ـ تعويلا على ارتفاع الخلاف بيننا وبين من خالف في الصّرفة ـ مدلولا عليه ومبرهنا على صحّته ، وليكون كتابنا هذا حجّة على مخالفي الملّة ، كما أنّه حجّة على الموافق فيها ، وحتّى لا يفتقر النّاظر فيه والمعوّل عليه في

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٧٣

دلالة القرآن على النّبوّة إلى غيره ، ولا يحتاج أن يرجع إلى سواه.

وهذه الفصول ، وإن وردت في الكتاب متأخّرة ـ لأنّ الغرض في ابتدائه لم يقتض إيرادها ـ فموقعها على الحقيقة متقدّم ، وليس للتقديم والتأخير تأثير في هذا الباب ، إذا كان ما يحتاج إليه من المعاني بالحجج موجودا مستوفى ، ومذكورا ومستقصى.

ونحن نستأنف القول فيها ، مستعينين بالله تعالى ، ومعتمدين على توفيقه وتسديده.

٢٧٤

فصل

في الدّلالة على وقوع التّحدّي بالقرآن

المعتمد في تحدّيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن حصول العلم لكلّ عاقل سمع الأخبار وخالط أهلها بذلك ، على حدّ حصوله بظهوره عليه وآله السّلام بمكّة ، وادّعائه النّبوّة ودعائه النّاس إلى نفسه ، إلى أمثال ما ذكرناه من أحواله الظّاهرة المعلومة.

ولا فرق بين من أنكر بعضها وأظهر الشّكّ فيه وبين من أنكر جميعها ؛ لأنّ طريق العلم بالكلّ للعقلاء متّفق غير مختلف.

والواجب أن نعلم مرادنا بذكر التّحدّي الّذي ندّعي وقوع العلم به على هذا الوجه ولكلّ أحد ؛ فإنّ كثيرا ممّن نفى العلم به وأظهر الشكّ فيه يقدّر أنّا نريد بالتحدّي [معنى] مخصوصا ، ولفظا يتضمّن التبكيت والتعجيز والمطالبة بفعل مثل القرآن مسموعا.

وليس مرادنا ذلك ، والّذي نريده ونحيل على العقلاء في العلم به وارتفاع الشّكّ فيه ، ما هو معلوم من قصده والظّاهر من حاله أنّه عليه وآله السّلام كان يحتجّ بالقرآن ويدّعي من جهته الإبانة والمزيّة ، وأنّ الله تعالى خصّه به وأيّده بإنزاله ، وينتظر نزول الوحي به ، وهبوط جبرئيل عليه‌السلام بالشيء منه بعد الشيء. وهذا ممّا لا يمكن أحدا دفعه ، ومن دفعه قام مقام الدافع لسائر ما عددنا.

٢٧٥

وليس ينكر وقوع التجاهل ودفع الضّرورات من الواحد والاثنين ، ولا اعتبار بمثل ذلك فيما يعمّ العلم به وتزول الشّكوك فيه.

وهب أنّ قوما شكّوا في بعض ما ذكرناه ـ وإن كان لا طريق للشّكّ عليه ـ ونحن نعلم أنّ أحدا لا يشكّ في أنّه عليه‌السلام كان ينتظر نزول الوحي بالقرآن ، ويدّعي أنّ جبرئيل عليه‌السلام يتولّى إنزاله عليه ومخاطبته به ، وأنّه كان يجعل ذلك مزيّة له وإبانة.

وهذا غاية التّحدّي ونهاية ما يبعث على المساواة والمعارضة ؛ لأنّه عليه وآله السّلام إذا ادّعى النبوّة وألزم البشر الانقياد له ومفارقة ما هم عليه من دين وعادة ورئاسة ، ولم يظهر منه شيء يمكن أن يدّعي به الإبانة إلّا انتظاره للوحي بالقرآن. والدّواعي إذا متوافرة إلى مساواته في الأمر الّذي متى سوّي فيه لم يكن له مزيّة ولا في يده حجّة ولا شبهة ، فكان يجب أن يظهر كلّ واحد منهم ـ من العرب ـ مثل ما أظهره ويدّعي مثل ما ادّعاه ، ويفعل كلاما بعد كلام يظهر أنّ جبرئيل عليه‌السلام ـ أو غيره من الملائكة ـ أنزله إليه ، ويتعمّد لانتظاره ووقت نزوله في الأوقات ؛ فإنّ مثل القرآن ـ إذا لم يكن معجزا ولا ممنوعا عن معارضته ـ ممكن لهم ، وادّعاء نزول الملائكة به أدخل في باب التّمكّن ؛ لأنّه ممكن لكلّ قادر على الكلام ، وإن كان الأوّل يختصّ بالتمكّن منه الفصحاء.

وممّا يبيّن أنّ الحال الّتي وصفناها تقوم مقام التحدّي بالقول والتقريع باللّفظ ـ بل ربّما زادت عليهما ـ أنّ أحدنا لو نال رئاسة في الدّنيا جليلة ، ووصل إلى منزلة رفيعة ، وأظهر أنّ له فضلا على غيره وتقدّما على سواه ، وأنّ ما ناله يستحقّه بما هو عليه ، وكان له مع ذلك أعداء ومنافسون يحسدونه ، ويثقل عليهم تقدّمه ووصوله إلى ما وصل إليه ، ويحبّون أن ينتقض أمره ، ويفسد حاله ، ولم يظهر لهم من أحواله ممّا كان كالذّريعة إلى تلك الرّتبة وبلوغ تلك المنزلة ، إلّا أمر من الأمور

٢٧٦

أو فعل من الأفعال لم يبن منهم إلّا به ، وهم طامعون في مساواته فيما أظهره و [فيما] يفسد أمره ، ويحلّ عقده ، ويبطل نظام رئاسته ؛ فإنّا نعلم أنّ ظهور هذه الحال في باب التحدّي والبعث على المساواة في الأمر الّذي تطلب (١) الرئاسة بسببه ، أبلغ وأقوى من التحدّي بالقول والتقريع باللّفظ ، حتّى يقطع متى لم يقع من هؤلاء الحسّاد والأعداء مثل هذا الفعل الّذي ذكرناه ، على قصورهم عنه وتعذّره عليهم ، كما يقطع على القصور والتعذّر متى وقع الطّلب بالقول والتحدّي باللّفظ.

فإن قيل : كيف يصحّ أن يكون إضافته عليه وآله السّلام الكتاب إلى ربّه وانتظاره نزول الملك به تحدّيا ، فطلبا من القوم المساواة فيه ، وأنتم تعلمون أنّ موسى عليه‌السلام كان يدّعي في التوراة مثل ذلك ، ولم يكن متحدّيا بها ، ولا هي معجز عند كلّ أحد؟

قلنا : إنّا لم نجعل الإضافة وانتظار الوحي فقط هما المقتضيين للتّحدّي ، بل لوقوعهما على وجه الاحتجاج وادّعاء التميّز والتخصّص. وهذا معلوم من قصيده عليه‌السلام ، وظاهر من حاله :

وموسى عليه‌السلام لم يدّع قطّ نزول التّوراة على سبيل الاحتجاج على مخالفيه والإبانة منهم ، وإنّما كان يذكر ذلك لأصحابه وأتباعه ممّن عرف صدقه بغيرها من معجزاته.

على أنّ موسى عليه‌السلام لمّا ادّعى النبوّة والإبانة أظهر ما جعله الله تعالى برهانا لنبوّته وتحدّى النّاس به ، كانقلاب العصا وغيرها ، ولم يقتصر على ادّعاء نزول التّوراة عليه ؛ فوجب أن يطلب بمساواته فيما تحدّى بفعله وصرّح بالاحتجاج (٢) به.

__________________

(١) في الأصل : تقلب ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : الاحتجاج ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٧٧

ولو أنّه ادّعى النّبوّة والمزيّة ولم يظهر شيئا يدّعي به الإبانة والتخصيص أكثر من قوله : إنّ التّوراة كلام الله تعالى وأنّه يوحى بها إليّ ، لكان يجب على من حاجّه وقصد إلى إبطال أمره أن يساويه فيما احتجّ به ، ويظهر كلاما يدّعي فيه ما ادّعاه موسى عليه‌السلام في التوراة ، ليبيّن للنّاس أنّه كغيره وأنّه لا مزيّة له.

وليس هكذا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّا نعلم ظهور شيء على يده ، وادّعى به المزيّة والإبانة ، واحتجّ به في جميع الأحوال ، فجرى مجرى القرآن.

وليس لأحد أن يقول : فلعلّ تعويله في دلالة نبوّته إنّما كان على معجزاته الّتي ليست بقرآن ، كانشقاق القمر ، والميضأة (١) ، وحنين الجذع ، وما شاكل ذلك ، فلا يثبت لكم معنى التحدّي في القرآن من حيث ظهر عليه ، إذا كان قد أغنى عنه في باب الحجّة ؛ وذلك لأنّا قد بيّنا أنّ المعلوم من قصيده صلى‌الله‌عليه‌وآله في إضافته إلى ربّه تعالى ، وانتظار نزول الملك به طريقة الاحتجاج وادّعاء المزيّة ، فحاله إذن كحال غيره من المعجزات ؛ إن ثبت أنّها ظهرت وادّعى بها النبوّة على حدّ ظهور القرآن.

فكيف وليس ذلك بثابت ؛ لأنّه لا شيء من معجزاته ـ سوى القرآن ـ يعلم ظهوره واحتجاجه وفزعه إليه على حدّ العلم بالقرآن؟!

وإنّما يرجع في إثبات هذه المعجزات إلى ضروب من الاستدلال والطّرق التي يعترضها كثير الشّبهات ، ولا يحتاج إلى شيء منها في القرآن.

__________________

(١) الميضأة : الموضع الذي يتوضّأ فيه ، أو المطهرة التي يتوضّأ منها. ذكره المؤلف في فصل (في الدلالة على صحّة ما عدا القرآن من معجزاته صلوات الله عليه وآله) من كتابه المغني ص ٤٠٤ ، فقال : «ومنها خبر الميضأة وأنّه وضع يده فيها ، وكان الماء يفور بين أصابعه ، حتّى شرب الخلق الكثير من تلك الميضأة ورووا». وهذا الخبر مرويّ باختلاف في الألفاظ ، راجع تفصيل ذلك في : بحار الأنوار ١٧ / ٢٨٦ ؛ دلائل النبوّة ٦ / ١٣٢ ؛ مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٩٨.

٢٧٨

على أنّه لا شيء من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا وقد تقدّم ادّعاءه للنّبوّة ومطالبته الخلق (١) بالانقياد له والدّخول تحت طاعته (وجوده وظهوره) (٢) سوى القرآن ؛ فكيف يصحّ نفي جعله عليه‌السلام دليل نبوّته؟

* * *

وممّا يعتمد عليه في ثبوت التّحدّي بالقرآن :

أنّا قد علمنا ادّعاءه عليه وآله السّلام النبوّة ، وإلزامه النّاس طاعته والدّخول في ملّته. ولا بدّ لمن دعا إلى مثل هذه الحال ـ بل إلى ما هو دونها ـ من إظهار أمر ما يقوم مقام الحجّة والدّلالة ؛ لأنّ أحدا من الفضلاء لا يجوز أن يقدم على مثل هذه الدعوى من غير تعلّق بحجّة أو شبهة. حتّى أنّ جميع المتنبّين وضروب الممخرقين (٣) قد فزعوا ، فيما ادّعوه ودعوا إليه ، إلى تعلّق أشياء ادّعوا أنّها حجج وبراهين ؛ فلو ساغ أن يقدم على ما ذكرناه عاقل مع بعده ، لم يجز ـ لمن ادّعى عليه الرئاسة ، وطالبه بالطّاعة والانقياد ، وألزمه مفارقة دينه وعادته ـ ألّا يطالبه بحجّة على قوله وبرهان على وجوب اتّباعه.

فكيف يصحّ أن يدّعي نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من بين جماعة العرب ـ النّبوّة والرئاسة ، ويطالبهم بالانسلاخ من جميع ما ألفوه وعرفوه من العبادات ، والعادات والأفعال ، من غير أن يظهر شيئا يجعله كالحجّة على صحّة أمره وصدق قوله ، ولا يكون فيهم من يطالبه بذلك ، مع علمنا بتوفّر دواعيهم وشدّة حرصهم على تكذيبه وتوهين أمره ، وأنّهم قد تحمّلوا في طلب ذلك المشاقّ ، وبذلوا فيه الأنفس

__________________

(١) في الأصل : للحقّ ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) كذا في الأصل : وفيه اضطراب بيّن.

(٣) أي من يأتي بالخوارق من المشعبذين.

٢٧٩

والمهج ، وتعلّقوا بكلّ أباطيل وشبهة ، وكان من جميع ما تكلّفوه أن يطالبوه بحجّة على قوله ، ويواقفوه على أنّه مطالب بما لو طولب بمثله لم ينفصل؟!

وكيف جاز أيضا من جماعة من عقلائهم وفضلائهم ومن لا ينسب إلى عناد ولا يرمى بقلّة تديّن وتحرّج ، أن ينقادوا له ويتّبعوه؟!

بل كيف جاز من جميع المستجيبين ـ مع كثرتهم ووفور عدّتهم ، وعلمنا بتديّن أكثرهم ـ أن يتّبعوه ويؤازروه ويصدّقوه ، وهو لم يظهر شيئا يقتضي التّصديق ، إمّا بالحجّة أو الشّبهة؟!

وكلّ هذا لو جاز لكان فيه نقض العادة وخروج عن المعهود المألوف فيها ، ولكان يقتضي الإعجاز والدّلالة مثل ما يقتضيه التحدّي بالقرآن ، بل ما هو أظهر منه في باب الأعجوبة ؛ فكان المدافع للتحدّي بالقرآن لا يتمكّن من دفعه الاعتراف بما يجري في الإعجاز مجراه ويزيد عليه.

وإذا وجب ـ بجميع ما ذكرناه ـ أن يكون عليه وآله السّلام محتجّا بأمر ما ، ومدّعيا به الإبانة والتميّز ، ولا شيء يدّعى فيه ذلك إلّا وحال القرآن أظهر ، ولا طريق إلى إثباته عليه وآله السّلام متحدّيا ومحتجّا بغيره إلّا وهو على أوضح الوجوه ، فقد (١) صحّ التحدّي بالقرآن ، وصار ما دلّ على ثبوت التحدّي بأمر من الأمور في الجملة يدلّ ـ بالتّرتيب الّذي رتّبناه ـ على ثبوت التحدّي بالقرآن بعينه.

* * *

وممّا اعتمد في العلم بالتّحدّي :

أنّ القرآن قد صحّ نقله بالتّواتر الّذي صحّ به أمثاله. وآيات التّحدّي المتضمّنة

__________________

(١) قبلها في الأصل زيادة : طريق إلى إثباته متحدّيا. وهو سهو من الناسخ.

٢٨٠