الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

«إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته ، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة ، في وقت مرامهم ذلك».

٥ ـ قطب الدين سعيد بن هبة الله الراونديّ (المتوفّى سنة ٥٧٣ ه‍) ، فقد اختار مذهب الصّرفة ، وصرّح بذلك في كتاب الخرائج والجرائح (١) في فصل عقدة في باب إعجاز القرآن سمّاه (في أن التعجيز هو الإعجاز) ، ثمّ طرح في الباب الذي لحقه أقوال مخالفي الصّرفة ، ودافع عن مذهب الصّرفة ، ويستشمّ من مجموع الكلام في الباب أنّه اختار مذهب الصّرفة.

هذا ، وقد نسب القول بالصّرفة إلى جماعة ، منهم : أبو مسلم محمّد بن بحر الأصفهانيّ (المتوفّى سنة ٣٢٢ ه‍) ، وعليّ بن عيسى الرّمّانيّ (المتوفّى سنة ٣٨٦ ه‍) ، والخواجه نصير الدين الطوسيّ (المتوفّى سنة ٦٧٢ ه‍) ، وفخر الدين الرازيّ (المتوفّى سنة ٦٠٦ ه‍) ، ولكن لم نجد تصريحا بذلك في مصنّفاتهم.

* * *

وصف كتاب (الموضح عن جهة إعجاز القرآن)

يظهر لمن درس مراحل حياة الشريف المرتضى أنّه من الشخصيّات المتعدّدة الجوانب ؛ فهو فقيه وأصوليّ ومتكلّم وشاعر ومفسّر و... وله كتب ورسائل وآراء في جميع هذه العلوم ، ولكنّه كان قبل كلّ شيء فقيها ، حيث بدأ حياته العلميّة بقراءة الفقه على الشيخ المفيد ، واستمرّ يمارس الفقه ويدرّسه طيلة حياته ، وختم مسيرته أيضا بالفقه ، فقد توفّاه الله سبحانه وتعالى حينما كان شيخا ومرجعا للفتيا للطائفة الإماميّة ، إلّا أنّ شهرته كانت في علم الكلام وتضلّعه في

__________________

(١) الخرائج والجرائح ٣ / ٩٨١ ـ ٩٩٤.

٢١

بحوث أصول الدين ، حتّى طغت على بقيّة مواهبه وملكاته ، ومن هنا عدّ فقيها متكلّما أو متكلّما فقيها. ولعلّ لهذه الشهرة نصيبا كبيرا من الحقيقة ، إذ حينما نلاحظ فهرس مؤلّفات الشريف ، نجد أنّ علم الكلام والمناظرة والجدل ومباحث أصول الدين ، يمثل حيّزا كبيرا منها ، فقد كتب وألّف كتبا ورسائل عديدة حول مواضيع كلاميّة مهمّة كانت مطروحة عند المتكلّمين وأصحاب المذاهب الكلاميّة ومناصريهم في تلك القرون. ومن خلال مراجعة سريعة لتراث المرتضى الكلاميّ ، يبرز لنا نشاطه وقوّة اندفاعه في متابعة آراء خصوم الإمامية ، والإجابة عنها بما يطابق المذهب الكلاميّ الإماميّ. ولعلّ جانبا من هذا النشاط ، وقوّة الاندفاع ، وسرعة الإجابة ، أو اتّخاذ المواقف ، يعود إلى موقعه ومنصبه في المجتمع البغداديّ ، وعند طائفته ، حيث كان زعيم الشيعة بلا منازع ، منذ أن توفّي شيخه وسلفه في الزّعامة ، الشيخ المفيد عام ٤١٣ ه‍. واستمرّ في زعامته إلى حين وفاته عام ٤٣٦ ه‍ ، أي مدّة تزيد على عقدين ، فقد كان موقعه يقتضيه إبداء رأيه في كثير من القضايا المثارة في تلك الأزمنة ، وما أكثرها!

ومن القضايا التي كانت مثارة في تلك العهود موضوع إعجاز القرآن ، وهو موضوع من الأهميّة بمكان ، وقد كتبت وألّفت عنه أسفار كثيرة. ولمّا كان المصنّف يتبنّى رأيا خاصّا في هذا الموضوع ينفرد به ، هو قوله بالصّرفة ، استلزم الأمر أن يوضّح اعتقاده ، ويبيّن غرضه ومراده ، فعقد في عدد من كتبه فصولا وأبوابا لتوضيح هذا الأمر. ويبدو أنّ الشريف أحسّ أخيرا بعدم وفاء ما عقده من الفصول والأبواب ببيان غرضه وتوضيح مرامه ، فأقدم على تصنيف كتاب جامع مستقلّ في هذا الموضوع ، يحتوي على كلّ ما يتعلّق به ، سمّاه كتاب (الموضح عن جهة إعجاز القرآن) ، وسمّاه ملخّصا (كتاب الصّرفة). ويعدّ هذا الكتاب من تراث

٢٢

الشريف الذي سلم معظمه من عوادي الدهر ، ووصلت الينا نسخة يتيمة منه ، تعدّ من نوادر المخطوطات. ويعدّ كتاب الصّرفة أوسع مؤلّف كتب في هذا المجال ، وهو فريد في بابه ، حيث لم يصنّف غيره ـ حسبما راجعنا في كتب الفهارس ـ في هذا الموضوع عند الإماميّة وغيرهم.

نسبة الكتاب إلى المصنّف

لا شكّ أنّ المرتضى ألّف كتابا سمّاه (الموضح عن جهة إعجاز القرآن) ، وسمّاه باختصار (كتاب الصّرفة) ، وقد ذكر كلّ من ترجم له هذا الكتاب في فهرست مؤلّفاته. وأقدم من ذكره تلميذه الشيخ الطوسيّ رحمه‌الله في : فهرسته عن مصنّفي كتب الشيعة وأصولهم (١) ، قال : وله كتاب الصّرفة.

ثمّ تبعه النجاشيّ (المتوفّى سنة ٤٥٠ ه‍) في رجاله (٢) بقوله : كتاب الموضح عن جهة إعجاز القرآن ، وهو الكتاب المعروف بالصّرفة.

وغيرهم ممّن ترجم للشريف ، آخرهم الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ في الذريعة (٣) ، قال : كتاب الصّرفة الموسوم ب الموضح عن جهة إعجاز القرآن ، للسيّد المرتضى أبي القاسم عليّ بن الحسين بن موسى الموسويّ المتوفّى سنة ٤٣٦ ه‍ ... وعبّر السيّد نفسه عن هذا الكتاب بالصّرف في كتابه جمل العلم والعمل ، وكرّر التعريف بالكتاب في مدخل (الموضح) (٤).

ومن جهة أخرى فإنّ الشريف نفسه قد أشار إلى هذا الكتاب مرارا في ثنايا

__________________

(١) الفهرست / ٢٩٠ ، طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) رجال النجاشيّ / ٢٧٠ ، طبعة جماعة المدرّسين.

(٣) الذريعة ١٥ / ٤٢.

(٤) الذريعة ٢٣ / ٢٦٧.

٢٣

بعض كتبه ورسائله ، وقال إنّه قد استوفى البحث عن مذهب الصرفة فيه ، منها : كتاب جمل العلم والعمل ، وكذلك كتاب الذخيرة (١) ، حيث قال فيه : «وله نصرت في كتابي المعروف ب الموضح عن جهة إعجاز القرآن» ، وغيرهما.

هذا ، فضلا عن أنّ نصّ كتاب الموضح يماثل كثيرا نصّ الفصل الذي عقده الشريف في إعجاز القرآن في الذخيرة ؛ إذ أنّ التماثل بينهما في العبارات ، والنمط الفكريّ ، والأسلوب والمحتوى والأمثلة ، واضح إلى درجة التطابق في بعض الأحيان بحيث يطمئنّ القارئ ويتأكّد له أنّهما صادران من كاتب واحد. وفي الحقيقة يمكن عدّ هذا الفصل من الذخيرة تلخيصا للأقسام الأولى من كتاب الموضح.

كما توجد قرينة أخرى هي أنّ الشريف قال في الذخيرة (٢) : «وهذا ممّا اعتقده صاحب الكتاب المعروف ب المغني ، ونقضناه عليه في كتابنا الموسوم ب الموضح عن جهة إعجاز القرآن.

وقد وفى الشريف بوعده هذا في نسختنا ، حيث نلاحظ أنّه تعرّض لأقوال القاضي وطرحها ونقدها بالتفصيل ، وجاء في الورقة (٥٤ أ) :

«فصل في بليغ ما ذكره صاحب الكتاب ، المعروف ب المغني ممّا يتعلّق بالصّرفة. قال الشريف المرتضى رضوان الله تعالى عليه : قال صاحب هذا الكتاب في فصل وسمه ...».

وهذا تصريح من كاتب النسخة باسم الشريف ، وأنّ الردّ على «المغني» يعود اليه ، وهو أكبر دليل على انتساب الكتاب الى الشريف.

__________________

(١) الذخيرة / ٣٧٨ و ٣٨٨.

(٢) الذخيرة / ٣٨٨.

٢٤

نسخة الكتاب

لا يتوفّر لهذا الكتاب القيّم والتراث الغالي النفيس إلّا نسخة يتيمة واحدة ، سلمت من عوادي الدهر وحوادث الزمان التي أتلفت كمّا هائلا من مصنّفات أعلام القرون الأولى. والمتتبّع في تراث الشريف المرتضى يواجه ظاهرة غريبة ، هي أنّ جميع مؤلّفاته الكبيرة والمتوسّطة والصغيرة وحتّى رسائله العديدة التي لا يتعدى حجم بعضها وريقات ، كانت متداولة ، ولها نسخ عديدة حسب القرون المتأخّرة ، ويظهر من تأريخ كتابة النّسخ والتملّكات التي عليها أنّ الأصحاب كانوا يتعاهدونها بالقراءة والمقابلة والتعليق والتلخيص والشرح ، بل إنّ بعض كتب المرتضى رحمه‌الله لها عدّة شروح ، مثل : جمل العلم والعمل ، والذريعة إلى أصول الشريعة ، إلّا كتاب الموضح ، فإنّه لم يشر إليه أحد من المفهرسين إشارة تنمّ عن رؤيته للكتاب مباشرة وعيانا بعد عصر تلميذه الطوسيّ ، والنجاشيّ المتوفّى سنة ٤٥٠ ه‍ ، ولم ينقل أحد عنه مباشرة ، وهما يدلّان على أنّ الكتاب لم يكن في متناول أيدي الجميع مدّة ألف سنة. ولعلّ الكتاب اختفى مباشرة بعد سنوات قليلة من تأليفه ، لأسباب غير معروفة. ويبدو أنّ الأوهام التي أثيرت حول معتقدي مذهب الصّرفة من أنّهم لا يعتقدون بإعجاز نصّ القرآن ، كانت أحد الأسباب في عدم الاهتمام بالكتاب.

وإليك مواصفات النسخة التي هي من نفائس مخطوطات خزانة مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام بخراسان (ـ كتابخانه آستان قدس رضوى) :

رقم ١٢٤٠٩ ، قياس ١٧+ ٢١ ، عدد الأوراق ١٠٢ ، عدد الأسطر ٢١ ، وهي نسخة نظيفة بخط نسخ مشرقيّ جميل مشكول ، ويظهر منها أنّها كانت محفوظة مدّة عشرة قرون بأيد أمينة ، حيث لم ير عليها أثر للخرم أو الرطوبة ، ولم تشوّه

٢٥

النسخة كتابة الهوامش والتعليقات والذكريات والتملّكات وغيرها.

جاء في آخرها قول الناسخ رحمه‌الله :

«تمّ الكتاب ، كتبه محمّد بن الحسين بن حمير الجشميّ (١) ، حامدا لله تعالى على نعمه ، ومصلّيا على النبيّ محمّد وعترته ، ومستغفرا من ذنوبه ، وفرغ منه يوم الأربعاء منتصف المحرّم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة».

والملاحظ أنّ كاتب النسخة ، برغم كونه رجلا عالما فاضلا ، وحاول إخراج نسخة مطابقة لأصل المصنّف ، لكن وقع في إخطاء وهفوات ، وردت الاشارة إليها في الهامش.

ويبدو من البلاغات الموجودة في جوانب أوراق النسخة ـ من أوّلها إلى آخرها ـ أن ناسخها قابلها بعد كتابتها بنسخة الأصل ، وأضاف الكلمات المفردة الساقطة بين الأسطر وعلى موضع السقوط. ووضع الكلمات أو الجمل الطويلة في هامش النسخة ، مع الإشارة إلى التصحيح تارة ، وعدم الإشارة إليه أخرى ، ولكن في كلّ الأحوال يتطابق قلم ناسخ الأصل مع قلم المصحّح. كما أنّ بدايات الأبواب والفصول والمسائل والأقوال قد كتبت على نحو بارز وبماء الذهب.

ولا نمتلك معلومات تفصيليّة تعيننا على معرفة الكاتب. أمّا الجشميّ فهو إمّا أن يكون منسوبا إلى قبائل جشم التي ذكر السمعاني (الأنساب ٢ : ٦١ ـ ٦٢) أنّ منها طائفة من العلماء والأعيان ، أو منسوبا إلى منطقة جشم التي لم يذكر عنها ياقوت الحمويّ (معجم البلدان ٢ / ١٤١) إلّا أنّها من قرى بيهق من أعمال نيسابور

__________________

(١) ضبط كلمة (الجشميّ) في آخر النسخة ، هو بفتح الجيم وضمّ الشين المعجمة ، لكن الصحيح هو ضمّ الجيم وفتح الشين المعجمة.

٢٦

بخراسان (١).

وقد خرّجت هذه القرية الصغيرة في تلك الفترة (القرن الخامس الهجريّ) جماعة من الفضلاء الأعلام ، منهم : الحاكم أبو سعد محسّن بن كرّامة الجشميّ الزيديّ المقتول بمكّة غيلة سنة ٤٩٤ ه‍ ، صاحب التصانيف العديدة ، وشيخ الزمخشريّ في التفسير. وولده الحاكم محمّد بن أبي سعد الجشميّ ، وأحفاده عفيف القضاة الحاكم الهادي ، والحاكم الموفّق الجشميّان. ولعلّ صاحبنا من هذه العائلة النبيلة الكريمة الشريفة التي ينتهي نسبها إلى محمّد بن الحنفيّة ابن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وينبغي لنا أن نطلب لهذا العالم الجليل من الله سبحانه وتعالى الرحمة والغفران ، إذ حفظ لنا كنزا ثمينا ، وتراثا علميّا لا يعوّض.

وممّا يوسف له أنه قد سقطت بداية النسخة ، ولا نعرف حجم الأوراق الساقطة ، لكن أشرت في بداية الكتاب إلى أنّ الساقط لا يتعدّى وريقات قليلة ، لعلّها لا تتجاوز المقدّمة ، وبعض الكلام عن التنبيهات والأوّليّات عن مذهب الصّرفة ، ومعنى الفصاحة ومفهومها ، حيث يشير المصنّف إليه في الورقة ٤ ب / بقوله : «فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي» ، ثمّ يشرع المصنّف بعده مباشرة بالحديث عن الصّرفة ومعناها.

__________________

(١) من قرى ربع (گاه) على جانب قرية بروغن ، كما ذكره ابن فندق (ت ٥٦٥ ه‍) في كتابه تاريخ بيهق ٣٨. والقرية لا زالت موجودة بالاسم نفسه في رستاق گاه وداورزن من محالّ مدينة سبزوار بالقرب من قرية بروغن ، وقد ورد اسمها في المراجع الرسميّة الإيرانيّة ، مثل : لغت نامه دهخدا / حرف ج ، وفرهنگ آبادى هاى كشور ٤ ، وسبزوار ٤٩ ، وغيرها.

٢٧

فصول الكتاب وأبوابه

سبق أن أشرنا إلى وجود نقص في بداية النسخة ، فلو أغمضنا الطّرف عنه فإنّه يمكن أن نقول : إنّ كتاب الموضح ينقسم إلى ستّة أقسام أو فصول ، أراد المصنّف من خلال مجموعها إثبات نظريّته ، وهي :

١ ـ بيان مذهب المصنّف في القول بالصّرفة ، ودفع ما يرد عليه من الاعتراضات والشّبهات ، وذلك من صفحة ١ لغاية ٧٥.

٢ ـ في ردّ مذهب جماعة المعتزلة من صفحة ٧٦ لغاية ٩٤.

٣ ـ فصل في بيان ما يلزم مخالفي الصّرفة ، وردّ بعض الشّبهات ، مثل ما قيل إنّ القرآن لعلّه للجنّ ، من صفحة ٩٥ لغاية ١٥٣.

٤ ـ عرض لأقوال القاضي عبد الجبّار في كتابه المغني ونقده لها ، من صفحة ١٦٦ لغاية ٢٥٠.

٥ ـ مسألتان متعلّقتان بدفع بعض الشّبهات المتعلّقة بالصّرفة ، من صفحة ٢٥١ لغاية ٢٦٠.

٦ ـ أربعة فصول تتضمّن أبحاثا تتعلّق بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تحدّي بالقرآن وتعذّرت معارضته ، من صفحة ٢٦١ إلى آخر الكتاب.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ أوسع أقسام الكتاب هو الفصل الأوّل والرابع ، وهما يستوعبان نصف الكتاب.

عملنا في تحقيق هذا الكتاب

لمّا كانت النيّة معقودة ـ بحول الله وقوّته ـ على إخراج هذا التراث العلميّ الثمين إلى الملأ العلميّ ، وإبرازه بما يناسب مكانته من تاريخ علم الكلام الإسلاميّ ، قمت بالخطوات اللازمة في مثل هذه الكتب ، وهي :

٢٨

١ ـ قراءة النصّ أولا قراءة تدقيق وتأمّل ، لاستيعاب محتوى الكتاب ، ومن ثمّ مقارنته بسائر مؤلّفات الشريف المرتضى ، لأجل العثور على بعض المقارنات التي تعينني في فهم النصّ والتعليق عليه. حيث راجعت جلّ مؤلّفات المرتضى الكلاميّة ، من كتب ورسائل ، وخاصة كتابه الذخيرة الذي يعدّ فصله في إعجاز القرآن تلخيصا لفصول هامّة من كتاب الموضح ، بل إنّ بعض مقاطع الكتابين متطابقة تماما كما تراه مثبتا في الهامش.

٢ ـ تقويم النصّ وتقطيعه بحسب ما هو متعارف عند أهل الفنّ ، ولمّا كانت النسخة المعتمدة مشكولة ، ارتأيت أن أقدّم النصّ إلى القارئ كما هو مثبّت في الأصل مع الحركات الإعرابيّة ، بعد تصحيح ما يحتاج إلى التصحيح.

٣ ـ تخريج ما أمكن تخريجه من الآيات والأحاديث والأشعار والأرجاز والاقوال التي استشهد بها المؤلّف ، وتقديم تعريف موجز بالأعلام الواردة أسماؤهم في النصّ.

٤ ـ بالنسبة الى الرسم الإملائيّ قمت بكتابة النصّ على الرسم المتعارف عليه اليوم ، لا على ما جرى عليه المؤلّف والناسخ قبل ألف عام ، إيثارا للتسهيل على من يطالع الكتاب ، وجريا على ما هو المتعارف عليه الآن.

٥ ـ قراءة متأنّية للكتاب مرّات عديدة ، تفاديا لوجود أغلاط مطبعية ، وأملا في تقديم نص صحيح ، خاصّة وأنّ النّص المطبوع مليء بالحركات الإعرابيّة.

٦ ـ تصدير الكتاب بمقدّمة تشتمل على ترجمة المصنّف رحمه‌الله ، ودراسة حول نظريّة الصّرفة في إعجاز القرآن ، وحقيقة مذهب الشريف ، وبنسخة الكتاب ، وما يتعلّق بها.

* * *

وأخيرا لا يفوتني أن أنوّه بجميل من آزرني في إنجاز هذا العمل ، وأخصّ

٢٩

بالذكر ابن عمّنا المحقّق الفاضل ، والخبير بعلم الكلام الإسلاميّ ، عضو مؤسّسة دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى ، الأستاذ حسن الأنصاريّ الذي يرجع إليه الفضل في العثور على هذه المخطوطة الثمينة ، والتعريف بها في مقال علميّ رصين (١) ، والحثّ على تحقيقها وإخراجها.

كما يجب أن أقدّم جزيل شكري وعرفاني للمحقق القدير الأستاذ علي البصري ـ مدير قسم الكلام في مجمع البحوث الاسلامية ـ الذي راجع الكتاب مراجعة دقيقة فاحصة ، وأبدى ملاحظات وتصحيحات قيّمة ممّا زاد في تقويم النّص وصحته.

وأتقدّم أيضا بوافر الشكر والتقدير لسماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ علي أكبر إلهيّ الخراساني مدير مجمع البحوث الإسلاميّة الذي بادرني بالمباركة على اختياري الكتاب للتحقيق ، وهيّأ لي ـ متفضّلا ـ صورة عن المخطوطة ، وظلّ يتابع بجدّ سير العمل الى مرحلته الأخيرة. أسأل الله سبحانه له التوفيق الدائم لخدمة العلوم الإسلاميّة.

وفي الختام أحمد الله العليّ القدير على توفيقه إيّاي أن أعيش في رحاب هذا الكتاب المبارك ، وأسأله تعالى أن يتقبّل عملي ، ويخلص نيّتي ، ويجعله ذخرا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون ، آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

غرّة جمادى الآخرة سنة ١٤٢٣ ه‍

محمّد رضا الأنصاريّ القمّيّ

__________________

(١) مجلة نشر دانش ، السنة السابعة عشرة ، العدد الثالث ، خريف ١٣٧٩ ش ، ص ٣٣.

٣٠

٣١

٣٢

[في بيان مذهب الصّرفة]

..................... (١)

وكذلك لو كانوا منعوا بما يرفع التمكّن من الكلام ، ممّا يختصّ الآلة والبنية.

وليس هذا مذهبكم فنطنب في ردّه.

وإن كانوا سلبوا العلوم فليس يخلون من أن يكونوا سلبوها عند ظهور القرآن والتّحدّي به ؛ وقد كانت من قبل حاصلة لهم ، أو يكونوا لم يزالوا فاقدين لها.

فإن أردتم الثّاني ، فهو مؤكّد لقولنا ، بل هو نصّ مذهبنا ؛ لأنّ القرآن يكون حينئذ خارقا للعادة بفصاحته ، من حيث لم يمكّن أحد من الفصحاء ـ في ماض ولا مستقبل ـ من العلوم الّتي يقع معها مثله.

وإن أردتم الأوّل ، فقد كان يجب أن يقع لنا ولغيرنا الفرق بين كلام العرب وأشعارها قبل زمان التّحدّي وبعد زمانه ، ونجد بينهما تفاوتا ، وليس نجد ذلك.

ويجب أيضا : أن يكون ما ذكرتموه من اللّبس الواقع على من ضمّ شيئا من

__________________

(١) نقص في نسخة «الأصل» بمقدار وريقات ، لعلّه لا يتجاوز المقدّمة وبعض الكلام عن التنبيهات والأوّليّات من مذهب الصّرفة ، ومعنى الفصاحة ومفهومها ، حيث يشير المصنّف إلى هذه الأمور في الورقة ٤ ب بقوله : «فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي».

٣٣

القرآن إلى فصيح كلام العرب ، إنّما هو في كلامهم قبل زمان التحدّي ، فأمّا فيما وقع منهم بعده فالأمر ظاهر ، والفرق واضح. وهذا ممّا يعلمون ضرورة خلافه ؛ لأنّنا لا نجد من الفرق بين ما نضمّه إلى القرآن من كلام العرب وأشعارها قبل التّحدّي إلّا ما نجده بينه وبين كلامهم بعد ظهور القرآن ووقوع التّحدّي به.

وهذا متى لم تسلّموه ، وزعمتم أنّ بين كلامهم قبل التّحدّي وبعده هذا الفرق العظيم ، وأحلتم بمعرفته على غيركم أو ادّعيتموها لأنفسكم ، طرّقتم على دليلكم الّذي قدّمتموه ما يهدمه ؛ لأنّه معقود بهذا المعنى ومبنيّ عليه.

وإن كانت دواعيهم التي صرفت عن المعارضة ، فذلك فاسد من وجوه :

أحدها : إنّا نعلم ـ نحن وكلّ أحد ـ توفّر دواعي القوم (١) إلى المعارضة وشدّة حرصهم وكلبهم (٢) عليها. ولو كانت دواعيهم إلى المعارضة مصروفة لما علم ما ذكرناه منهم.

ومنها : أنّ الدّواعي إلى المعارضة ليست أكثر من علمهم بتمكّنهم منها ، وما يعود بها من النّفع ، ويندفع من الضّرر. وكلّ هذا يعلمه القوم ضرورة ، بل العلم به ممّا يعدّ من كمال العقل ؛ فليس يصرفهم عن هذه الدّواعي (٣) إلّا ما أخرجهم من كمال عقولهم وألحقه بأهل النّقص والجنون ، ولم يكن القوم كذلك.

ومنها : أنّ ما صرف عن المعارضة لا بدّ أن يكون صارفا عمّا في معناها ، وعمّا يكون الدّواعي إليه داعيا إليها. وقد علمنا أنّهم لم ينصرفوا عن السّبّ والهجاء وعن المعارضة ، ممّا لا يشتبه على عاقل جهل من عارض بمثله وسخفه ،

__________________

(١) يقصد بهم كفّار قريش والمشركين في جزيرة العرب ، الذين كانوا يعارضون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويناوءون دعوته بشتّى الوسائل.

(٢) يقال : رجل كلب ، إذا اشتدّ حرصه على الشيء.

(٣) في الأصل : الدعاوى ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٣٤

كالقصص بأخبار رستم واسفنديار.

والصّارف عن المعارضة صارف عن هذا ؛ لأنّ ما يصرف عن المعارضة (١) إنّما يرى أنّه لا غناء في فعلها ، ولا طائل في تكلّفها. وأنّ الحظّ في الإضراب عنها والعدول إلى المناجزة بالحرب. وهذا لا محالة يصرف عن جميع ما عددناه.

ومتى لم تعنوا بالصّرفة أحد هذه الأقسام الّتي فصّلناها ، فمذهبكم غير مفهوم ، وأنتم إلى أن تفهمونا غرضكم فيه أحوج منكم إلى أن تدلّونا على صحّته.

قيل له : أوّل ما نحتاج إليه في جوابك أن نعلمك كنه مذهبنا في التّحدّي بالقرآن. وعندنا (٢) أنّ التّحدّي وقع بالإتيان بمثله في فصاحته وطريقته في النّظم ، ولم يكن بأحد الأمرين على ما تذهب ـ أنت وأصحابك ـ إليه ، فلو وقعت المعارضة بشعر أو برجز موزون أو بمنثور من الكلام ليس له طريقة القرآن في النّظم ، لم تكن واقعة موقعها.

والصّرفة على هذا إنّما كانت بأن يسلب الله تعالى كلّ من رام المعارضة وفكّر

__________________

(١) بعدها في الأصل : صارف عن هذا لأنّ ما يصرف عن المعارضة ، ولعلّه تكرار من الناسخ.

(٢) قال الشريف المرتضى في كتابه الذخيرة في علم الكلام / ٣٨٠ : «فإن قيل : بيّنوا كيفيّة مذهبكم في الصّرفة ، قلنا : الذي نذهب إليه أنّ الله تعالى صرف العرب عن أن يأتوا من الكلام بما يساوي أو يضاهي القرآن في فصاحته وطريقته ونظمه ، بأن سلب كلّ من رام المعارضة العلوم التي يتأتّى ذلك بها ، فإنّ العلوم التي بها يمكن ذلك ضروريّة من فعله تعالى فينا بمجرى العادة.

وهذه الجملة إنّما ينكشف بأن يدلّ على أنّ التحدّي وقع بالفصاحة والطريقة في النظم ، وأنّهم لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا فاعلين ما دعوا إليه ، وأن يدلّ على اختصاص القرآن بطريقة في النظم مخالفة لنظوم كلّ كلامهم ، وعلى أن القوم لو لم يصرفوا لعارضوا».

٣٥

في تكلّفها في الحال العلوم التي يتأتّى معها مثل فصاحة القرآن وطريقته في النّظم.

وإذا لم يقصد المعارضة ، وجرى على شاكلته في نظم الشّعر ، ووصف (١) الخطب ، والتّصرّف في ضروب الكلام ، خلّي بينه وبين علومه ، ولم يخلّ بينه وبين معرفته. ولهذا لا نصيب في شيء من كلام العرب ـ منثوره ومنظومه ـ ما يقارب القرآن في فصاحته ، مع اختصاصه في النّظم بمثل طريقته.

وهذا الجواب لا يصحّ الأمر فيه إلّا بأن ندلّ على أنّ التّحدّي وقع بالفصاحة مع الطّريقة في النّظم ، وعلى أنّ القرآن مختصّ بطريقة في النّظم مفارقة لسائر نظوم الكلام ، وعلى أنّ القوم لو لم يصرفوا على الوجه الّذي ذكرناه لوقعت منهم المعارضة بما يساوي أو يقارب الوجه الذي ذكرناه ، [و] لم يمكن أن يدّعى أنّ شعر الطائبيّين (٢) ومن جرى مجراهما من المحدثين ـ إذا قدّرنا ارتفاع من بينهما من ذوي الطّبقات ؛ لأنّ التقارب والتّساوي فيما ذكرنا (٣) أنّهم يتساوون فيه ـ يريد أن يكون خارقا للعادة وإن كان بائنا متقدّما.

على أنّ الدّعوى في فصاحة القرآن ـ أنّها وإن خرقت عادة العرب وبانت من فصاحتهم فليس بينها وبين فصيح كلامهم من التّباعد ما بين شعر امرئ القيس (٤)

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولعلّه : رصف.

(٢) الطائيّان هما :

١ ـ أبو تمّام حبيب بن أوس الطائيّ ، صاحب الحماسة وأحد أشهر شعراء العرب ، قيل إنّه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب ، وكان شيعيّا مواليا لأهل البيت عليه‌السلام ، توفّي بالموصل أيّام الواثق بالله عام ٢٣١ (وقيل ٢٣٨ ه‍).

٢ ـ البحتريّ ، أبو عبادة ، الوليد بن عبيد الطائيّ ، الشاعر المشهور ، ولد بمنبج من أعمال الشام ، ومدح جماعة من الخلفاء أوّلهم المتوكّل ، وخلقا كثيرا من الرؤساء والأكابر ، توفّي عام ٢٨٤ ه‍.

(٣) في الأصل : ذكرنا ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكنديّ (نحو ١٣٠ ـ ٨٠ ق. ه) ، شاعر جاهليّ ، بل أشهر شعراء العرب على الإطلاق.

٣٦

وشعر الطائبيّين ـ ظاهرة التّناقض ؛ لأنّا قد علمنا أنّ الطائبيّين قد يقاربان ويساويان امرأ القيس من القصيدة في البيتين والثّلاثة وإن تعذّر عليهما المساواة فيما جاوز هذا الحدّ. ونسبة ما يمكن أن تقع المساواة منهما فيه إلى جملة القصيدة نسبة محصّلة ؛ لعلّها أن تكون العشر (١) وما يقاربه ؛ لأنّ القصيدة المتوسّطة في الطّول والقصر من أشعارهم ليس تتجاوز من ثلاثين إلى أربعين بيتا. وإذا أضفنا ذلك ـ على هذا الاعتبار ـ إلى جملة شعرهما وشعره ، وجدنا أيضا ما يمكن أن يساوياه فيه من جملة شعرهما هذا المبلغ الذي ذكرناه بل أكثر منه ، لأجل كثرة شعرهما وزيادته على شعر امرئ القيس.

وقد ثبت أنّ التحدّي للعرب استقرّ آخرا على مقدار ثلاث آيات قصار من عرض ستّة آلاف آية وكذا وكذا طوالا وقصارا ، لأنّه وقع بسورة غير معيّنة ، وأقصر السّور ما كان ثلاث آيات ، فلا بدّ أن تكون العرب ـ على المذهب الّذي يردّ على القائلين به ـ غير متمكّنين من مساواته أو مقاربته في مقدار ثلاث آيات. ولهذا عندهم (٢) لم يروموا المعارضة ولم يتعاطوها.

ونحن نعلم أنّ نسبة ثلاث الآيات الّتي لم يتمكّنوا من مساواته ومقاربته فيها إلى جملة القرآن أقلّ وأنقص بأضعاف مضاعفة من نسبة ما يتمكّن الطائيّان من مساواة امرئ القيس أو مقاربته فيه ، سواء أضفت ذلك إلى كلّ قصيدة من شعر امرئ القيس أو أضفته إلى جملة شعره ، بل كان ما يتمكّن العرب من مقاربة القرآن فيه ـ إذا أضفناه إلى ما يتمكّن المحدّثون من مقاربة المتقدّمين فيه ـ لا نسبة له إلى القرآن. وليس هذا إلّا لأنّ التباعد بين القرآن وبين ممكن فصحاء العرب قد جاوز كلّ عادة ، وخرج عن كلّ حدّ. وأنّه لم يفضل كلام فصيح فيما مضى ولا فيما يأتي

__________________

(١) في الأصل : الشعر ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) كذا في الأصل ، ولعلّه : عدّهم.

٣٧

كلاما هو دونه في الرّتبة هذا الفضل ولا حصل بينهما هذا القدر ، وإن كان أحدهما من الفصاحة في الذّروة العليا ، والآخر في المنزلة السّفلى.

هذا إذا فرضنا بطلان الصّرفة ، ونسبنا تعذّر المعارضة على العرب إلى فرط فصاحة القرآن ، فكيف يمكن مع ما كشفناه أن يدّعى أنّ ما بين القرآن وبين كلام فصحاء العرب من البعد في الفصاحة دون ما بين شعر الطائبيّين وشعر امرئ القيس؟!

وما أوردناه من الاعتبار يوجب أن يكون بينهما أكثر ممّا بين شعر المتقدّمين والمحدثين بأضعاف كثيرة. وأنّ ذلك لو لم يكن على ما قلنا ، وكان على ما توهّمه الخصم ، لوقعت المعارضة لا محالة. كما أنّ امرأ القيس لو تحدّى أحد الطائبيّين ببيت من عرض شعره لسارع إلى معارضته ولم يتخلّف عنها. وهذا ممّا لا إشكال في مثله.

* * *

وبعد ، فإنّ من يدّعي أنّ خرق العادة بالقرآن إنّما كان من جهة فصاحته دون غيرها ، لا يقدم على أن يقول : إنّ بين شيء من الكلام الفصيح وإن تقدّم ، وبين غيره من الفصيح وإن تأخّر ، من البعد أكثر ممّا بين القرآن وفصيح كلام العرب ؛ لأنّه كالمنافي لأصله ، والمنافر لقوله.

وإذا استحسن ارتكابه مستحسن ، معتصما به ممّا تقدّم من إلزامنا ، كان ما أوردناه مبطلا لقوله ومكذّبا لظنّه. وهذا واضح بحمد الله.

فإن قال : ما الّذي تريدون بقولكم : إنّهم صرفوا عن المعارضة؟ أتريدون أنّهم أعجزوا عنها ، أم سلبوا العلوم الّتي لا تتأتّى إلّا بها ، أم شغلوا عنها ، وصرفت هممهم ودواعيهم عن تعاطيها؟

فإن أردتم العجز فهو واضح الفساد ؛ لأنّ العجز لا يختصّ بكلام دون كلام.

٣٨

ولو كانوا أعجزوا عن الكلام المساوي للقرآن في الفصاحة ، لم يتأتّ منهم شيء من الكلام في الفصاحة ، ويماثل في طريقة النّظم ، ونحن نفعل ذلك.

[قيل له] : أمّا ما يدلّ على أنّ التحدّي كان بالفصاحة والنّظم معا أنّا رأينا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل التّحدّي إرسالا ، وأطلقه إطلاقا من غير تخصيص يحصره ، أو استثناء يقصره ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله مخبرا عن ربّه تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١).

وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

فترك القوم استفهامه عن مراده بالتحدّي وغرضه فيه ، وهل أراد مثله في الفصاحة دون النّظم ، أو فيهما معا ، أو في غيرهما؟ فعل من قد سبق الفهم إلى قلبه وزال الرّيب عنه ؛ لأنّهم لو ارتابوا لسألوا ، ولو شكّوا لاستفهموا. ولم يجر ذلك على هذا إلّا والتحدّي واقع بحسب عهدهم وعادتهم. وقد علمنا أنّ عاداتهم جارية في التحدّي باعتبار طريقة النّظم مع الفصاحة ، ولهذا لا يتحدّى الشّاعر الخطيب الذي لا يتمكّن من الخطابة. وإنّما يتحدّى الشّاعر الشّاعر والخطيب الخطيب. ووجدنا أكثرهم لا يقنع بأن يعارض القصيدة من الشّعر بقصيدة منه حتّى يجعلها من جنس عروضها ، كأنّها إن كانت من الطويل جعلها من الطويل ، وإن كانت من البسيط جعلها من البسيط. ثمّ لا يرضيه ذلك حتّى يساوي بينهما في القافية ، ثمّ في حركة القافية.

وعلى هذا المذهب يجري التناقض (٣) بين الشّعر ، كمناقضة

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٨.

(٢) سورة هود : ١٣.

(٣) قال الخليل بن أحمد في كتاب العين : النّقض : إفساد ما أبرمت من حبل أو بناء. والمناقضة في الأشياء ، نحو الشعر ، كشاعر ينقض قصيدة أخرى بغيرها. ومن هذا نقائض جرير والفرزدق.

٣٩

جرير (١) للفرزدق (٢) ، وجرير للأخطل (٣) ، وغير هؤلاء ممّن لم نذكره ، وهو معروف. وإذا كانت هذه عادتهم ، فإنّما أحيلوا في التحدّي عليها (٤).

فإن قال : عادة العرب وإن جرت في التحدّي بما ذكرتموه ، فإنّه ليس يمتنع صحّة التّحدّي بالفصاحة دون طريقة النّظم ، ولا سيّما والفصاحة هي التي يصحّ فيها (٥) التفاضل والتباين. وهي أولى بصحّة التحدّي من النّظم الّذي لا يقع فيه التفاضل.

وإذا كان ذلك كذلك غير ممتنع فما أنكرتم أن يكون النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدّاهم بالفصاحة دون النّظم ، فأفهمهم قصده فلهذا لم يستفهموه؟!

قيل له : ليس يمنع أن يقع التحدّي بالفصاحة دون النّظم ممّن بيّن غرضه

__________________

(١) هو جرير بن عطيّة بن حذيفة الكلبي التميميّ (٢٨ ـ ١١٠ ه‍) أشعر أهل عصره ، ولد ومات في اليمامة. كان هجّاء مرّا ، وله مساجلات مع شعراء عصره ، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل.

(٢) هو أبو فراس ، همّام بن غالب ، من أشهر شعراء العرب. له مساجلات معروفة مع جرير. وهو صاحب الميميّة المشهورة يمدح بها الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

(٣) الأخطل : هو غياث بن غوث بن الصلت التغلبيّ (١٩ ـ ٩٠ ه‍) ، شاعر بني أميّة النصرانيّ. والمروّج لسياساتهم.

(٤) قال الشريف المرتضى في الذخيرة في علم الكلام / ٣٨٠ ـ ٣٨١ : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلق التّحدّي وأرسله ، فيجب أن يكون إنّما أطلق تعويلا على عادة القوم في تحدّي بعضهم بعضا ، فإنّها جرت باعتبار الفصاحة وطريقة النّظم ، ولهذا ما كان يتحدّى الخطيب الشاعر ولا الشاعر الخطيب ، وانّهم ما كانوا يرتضون في معارضة الشعر بمثله إلّا بالمساواة في عروضه وقافيته وحركة قافيته. ولو شكّ القوم في مراده بالتحدّي لاستفهموه. وما رأيناهم فعلوا ؛ لأنّهم فهموا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جرى فيه على عاداتهم».

(٥) في الأصل : تصحّ فيه ، والمناسب ما أثبتناه.

٤٠