الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

ولم يزد فيها ، لا يقع منه (١) المعصية ، ويجعل هذا من باب التمكين ، لا باب الاستفساد.

ويقول في غواية إبليس مثل ذلك ، ويجيز أن ينفسد عندها من لو لاها لم يفسد ، بعد أن يكون الحال على ما قدّرناه في زيادة الشّهوة وكثرة ما يستحقّه على الامتناع من الثّواب ؛ وإن كان أبو عليّ (٢) يخالف في هذه الجملة ، ويلحق هذين الأمرين بباب الاستفساد. وعلى مذهبهما جميعا يصحّ ما قدّمناه من كلامنا.

أمّا على مذهب أبي هاشم الذي حكيناه فلا يمتنع أن يعلم الله تعالى أنّ في تمكين المكلّف المتنبّئ (٣) من تناول القرآن وادّعاء النّبوّة زيادة مشقّة على المكلّفين في النظر وتمييز الصّادق من الكاذب ، يستحقّون لأجلها من الثّواب أكثر ممّا كانوا يستحقّونه مع فقدها ، فلا يجب أن يمنع تعالى منه ؛ لأنّه خارج من باب الاستفساد عنده ، داخل في باب التّمكين والتّعريض لزيادة الثّواب.

ويلحق هذا الوجه ـ على مذهبه بتقوية الشّهوة ـ بتمكين (٤) إبليس من الغواية والإضلال ، وتمكين من ذكرناه أيضا من ماني وزرادشت وغيرهما من مخاريقهم المضلّة ونواميسهم المفسدة.

وأمّا على مذهب أبي عليّ فهو أيضا صحيح مستمرّ ؛ لأنّ أبا عليّ يقول : إنّما مكّن الله تعالى إبليس من الغواية والدّعاء إلى الفساد ، ولم يمنعه من ذلك من حيث

__________________

(١) في الأصل : ولا يقع من.

(٢) هو محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائيّ ـ والد أبي عليّ الجبّائيّ ـ ولد سنة ٢٣٥ ه‍ بجبّا من أعمال خوزستان ، درس على أبي يعقوب الشحّام الذي كان أهمّ رجال المعتزلة بالبصرة ، فأصبح بعد موت شيخه رئيسا لمدرسة المعتزلة ، وظلّ هكذا إلى حين وفاته. ومن تلامذته أبو الحسن الأشعريّ. له تصانيف كثيرة.

(٣) في الأصل : الميني ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في الأصل : وبتمكين.

٢٤١

علم تعالى أنّ كلّ من انفسد بدعائه وإضلاله قد كان ينفسد لولاهما. ويقول : لو لا هذا لمنعه من أفعاله ، ولم يمكّنه منها.

وعلى هذا ، غير ممتنع أن يعلم تعالى أنّ جميع من يضلّ ويفسد عند تمكين المتنبي بما ذكرناه ، قد كان لو لا هذا التمكين يضلّ أيضا ويفسد ، وأنّه ليس يحصل مع تمكينه من الفساد والضّلال إلّا ما كان سيحصل لو لاه.

فيصير جواب أبي عليّ ـ عن غواية إبليس ، وعن تمكين من ذكرناه من الكذبة الممخرقين من أفعالهم ـ هو جوابها بعينه لمن أوجب أن يمنع القديم تعالى ما (١) أجزناه.

وهذه الطّريقة الّتي سلكناها ـ في إبطال قول من أوجب على القديم تعالى المنع ممّا ذكرناه ، لما ظنّه من الاستفساد ـ تبطل أيضا قول من أوجب عليه تعالى منع الملائكة أو الجنّ من فعل ما تنخرق به عادتنا ، على سبيل التّصديق للكذّاب ، على ما مضى من كلام صاحب الكتاب المتقدّم.

وتبطل قول من أوجب منعه تعالى من أن ينقل هذا الكتاب ناقل إلى بعض البلدان البعيدة الّتي لم يتّصل بأهلها دعوة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يسمعوا بأخباره ، فيدّعي به هناك النّبوّة ، على ما اعتمده صاحب الكتاب فيما يأتي من كلامه ؛ لأنّ مرجع كلّ ذلك إلى التّعلّق بالاستفساد الّذي قد كشفنا ما فيه وأوضحناه.

قال صاحب الكتاب (٢) :

«فإن قال : ومن أين أنّ ذلك لو وقع كان لا يتميّز من الحجّة؟ بل ما أنكرتم أنّه إنّما يكون حجّة ، إذا علم أنّه لم يحدث إلّا عند دعواه ، فمتى (٣) حصل له هذا العلم زال التّجويز الّذي ذكرناه ، ويصحّ أن يستدلّ به.

__________________

(١) في الأصل : بما ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) المغني ١٦ / ١٨١.

(٣) في الأصل : فمن ، وما أثبتناه من المغني.

٢٤٢

وليس كذلك إذا كانت الحال ما ذكرتم ، لأنّه مع تجويزه أن يكون قد أخذ من غيره ، لا يحصل (١) له العلم ، فيعلم أنّه لم يتكامل (له شروط دلالته) (٢) ، فينفصل عنده من الحجّة ، كانفصال سائر الأدلّة من الشّبه.

ثمّ قال : قيل له : قد بيّنا أنّ علم المكلّف بأنّه حدث عند ادّعاء النبوّة ، (على خلاف العادة) (٣) ، يكفي في صحّة الاستدلال.

وبيّنا أنّ العلم الّذي سأل عنه ، لو كان شرطا لكان لا يتمّ الاستدلال بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، إلّا بعد أن يعلم أنّ حدوث ذلك لا يجوز أن يكون بالانتقال (٤).

فإذا لم يجب ذلك ، وصحّ الاستدلال بها لمن لم يخطر (ذلك له) (٥) بالبال ، فقد بطل كون هذا العلم شرطا.

على أنّ هذا العلم لو كان شرطا ، لم يخل من أن يكون طريقه الاضطرار أو الاستدلال :

فإن كان طريقه (٦) الاضطرار فيجب أن يكون له طريقة يعلم عندها ، ولا طريق يشار إليه يعلم عنده أنّ القرآن لم يظهر إلّا على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ادّعائه النبوّة ، وأنّه لم يظهر على أحد من قبل.

وكذلك فلا يصحّ فيه الاستدلال ؛ لأنّه لا دليل يدلّ على أنّه لم يظهر إلّا عليه ، كما يدلّ الفعل (٧) على أنّه من قبل فاعله ؛ لأنّ ذلك إنّما يصحّ فيه لما كان فعله حادثا من قبله ، فعلم أنّه لم يحدث إلّا منه بالدّليل الّذي نذكره في هذا الباب.

والقرآن ؛ فليس من فعله على الحدّ الّذي يكون معجزا ، فكيف يمكن أن يستدلّ

__________________

(١) هكذا في المغني ، وفي الأصل : يجعل.

(٢) في المغني : شرط دلالته.

(٣) في المغني : على وجه ينفصل ممّا جرت العادة بمثله.

(٤) في المغني : زيادة : وأن يزيل هذه الشّبهة».

(٥) في المغني : له ذلك.

(٦) من المغني.

(٧) في المغني : الفصل.

٢٤٣

به على أنّه لم يظهر على غيره ، مع أنّه لا بدّ من القول بأنّه حدث من قبل غيره؟ وإذا لم يصحّ حصول العلم من الوجهين ، فكيف يصحّ أن يجعل شرطا ، مع أنّ كونه شرطا يبطل كونه معجزا ، وقد سلّم السّائل أنّه معجز في الأصل؟».

الكلام عليه

يقال له : قد بيّنا بطلان ما ظننته من التباس الحجّة بالشّبهة ، وأوضحنا كيفيّة التمييز بينهما ، مع تجويز ما ألزمناك أن تجوّزه.

وقد مضى الكلام أيضا سالفا في أنّ الذي اخترته واقتصرت عليه من وقوع الفعل على خلاف العادة غير كاف في الدّلالة على النبوّة ، واستقصيناه.

وكذلك الكلام في دلالة (١) إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وميّزنا الوجه الذي تكون هذه الأفعال عليه دالّة على النّبوّة ، مع تجويز الانتقال على الحياة ، من الوجه الذي لا يدلّ معه لأجل هذا التّجويز. ولم يبق إلّا أن نبيّن الطّريق إلى العلم بأنّ القرآن لم يظهر على غير من علمنا (٢) ظهوره من جهته ؛ لأنّا قد سلّمنا لك أنّه يمكن أن يكون معجزا على الوجه الذي يدّعيه ، فلا بدّ من أن نبيّن ما يمكن أن يعلم به اختصاصه بمن ظهر عليه ، وإلّا بطل تقدير كونه معجزا على كلّ وجه.

وإن كنّا لا نحتاج في نصرة مذهبنا إلى شيء من هذا ؛ لرجوعنا في الدّلالة على النّبوّة إلى ما يعلم حدوثه في الحال ، ولا يمكن فيه التّقديم.

ويمكن أن يعلم القرآن وأمثاله من الكلام [على] ما ذكرناه من وجهين :

أحدهما : أن يكون متضمّنا من الأخبار لما يعلم مطابقته لأحوال من ظهر عليه ، وقصصه والحوادث في أيّامه ، فيعلم أنّه المختصّ به دون غيره.

__________________

(١) في الأصل : دلة ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : علمناه ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٢٤٤

وقد شرحنا هذا الوجه فيما تقدّم من كتابنا (١) ، وأوضحناه ، وذكرنا من جملة ما في القرآن من الأخبار الدّالّة على اختصاص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله به قطعة وافرة ، وهذا طريق واضح لا يمكن دفعه.

والوجه الآخر : أن يعلم من جهة بعض الأنبياء من قد علمنا نبوّته بمعجز لا يمكن فيه النقل والحكاية ؛ لأنّ الكتاب الّذي ظهر لم يتقدّم حدوثه ، فنأمن أن يكون المختصّ به غير من ظهر عليه.

وليس لأحد أن يقول : إنّكم إذا علمتم من جهة النبيّ الذي ذكرتموه أنّ ذلك لم يتقدّم حدوثه فقد علمتم نبوّة من ظهر عليه ، وصدقه بقوله ، جرى (٢) أن يقول : هذا نبيّ صادق فاتّبعوه ؛ وذلك أنّ القدر الّذي علمناه بقول النّبيّ هو أنّ الكتاب لم يتقدّم حدوثه ، وهذا غير كاف في الدّلالة على صدق من ظهر عليه. بل لا بدّ من النّظر في أحوال الكتاب ؛ فإذا علمنا استيفاءه لشرائط المعجز ، علمنا صدقه.

وليس له أن يقول : أيّ فائدة في النّظر في الكتاب الّذي يظهره ، وأنتم إذا علمتم من جهة النّبيّ الآخر أنّه لم يتقدّم ، أمكن أن تعلموا نبوّة هذا المدّعي وصدقه من جهته ، ويصير النّظر في الكتاب لا معنى له! لأنّه يمكن أن تكون الفائدة فيه من حيث علم الله تعالى أنّ المكلّفين بتصديق (٣) من ظهر عليه الكتاب من نظروا فيه وعلموا به صدقه ، كانوا أقرب إلى اتّباعه وقبول ما دعاهم إليه منهم لو علموا نبوّته من جهة نبيّ آخر ، أو بمعجز غير الكتاب على الحدّ الذي يقوله في إظهار معجز دون معجز ، وعلى وجه دون وجه ، في وقت دون وقت ، وكما نقول (في العبادة ينقض) (٤) الأفعال دون بعض.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٤٢ لغاية ١٥٣.

(٢) في الأصل : وجرى.

(٣) في الأصل : لتصديق.

(٤) كذا في الأصل ، ولعلّه : في العادة : بعض.

٢٤٥

قال صاحب الكتاب بعد كلام لم نحتج إلى ذكره (١) :

«فإن قال (٢) : أفلستم قد جعلتم هذا العلم شرطا ، من حيث قلتم : إنّه تعالى إذا لم يجز أن يمكّن من الاستفساد فلا بدّ من أن يعلم أنّ ذلك لم يظهر على غيره ، فقد عدتم إلى أنّ هذا العلم شرط في الاستدلال؟

ثمّ قال : قيل له : إنّا لا نجعل ذلك شرطا ، لكنّا نجعله دافعا للشّبهة ومزيلا لها إذا وردت على المكلّف ، كما قلنا إنّ إحياء الموتى يصحّ الاستدلال به [على النّبوّة ، ولم نجعل شرط الاستدلال به] (٣) العلم باستحالة الانتقال على الأعراض ، وإن كان من (٤) خطر بباله ، وصارت شبهة يمكنه إزالة ذلك بأن يعلم بالدليل الظّاهر أنّ الانتقال لا يجوز عليها ، فكذلك القول فيما قدّمناه.

وبعد ، فلو جعلنا ذلك شرطا لكنّا قد جعلنا الشّرط ما يصحّ وجوده للمكلّف عند النظر في النبوّات ؛ لأنّه قد علم أنّ القديم تعالى حكيم ، وأنّه يرسل الرّسول للمصالح ، وأنّه لا بدّ من أن يفرّق بين النبيّ والمتنبّي ، ويمنع ممّا يؤدّي إلى أن لا فرق بينهما ، فيعلم عند ذلك أنّ القرآن لا يظهر على من أخذه من غيره ، وجعله دلالة نبوّته ، مع كونه كذّابا.

وليس كذلك ما جعلته شرطا ؛ لأنّك أحلت على علم لا طريق لك إلى ثبوته من الوجه الّذي ادّعيته [فسلم ما قلناه ، وبطل ما ادّعيته] (٥).

على أنّه لا بدّ من القول بما ذكرناه على كلّ حال ، وإن لم نقل : إنّ ظهور القرآن على من هذا حاله يوجب التباس النّبيّ بالمتنبّي ، وذلك لأنّه [كما] (٦) يجب أن يمنع من إظهاره تعالى المعجزات على الصّالحين ، لما فيه من المفسدة ـ على ما بيّناه من قبل ـ فيجب أن نمنع من أن يمكّن أحدا من ادّعاء معجزة لنفسه ، على

__________________

(١) لاحظ كلام القاضي عبد الجبّار واستدلاله في المغني ١٦ / ١٨٣.

(٢) المغني ١٦ / ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٣) من المغني.

(٤) في المغني : متى.

(٥) من المغني.

(٦) من المغني.

٢٤٦

وجه يلتبس (١) حاله بحال من يظهر نفس المعجز عليه ؛ لأنّ هذا أدخل في المفسدة والتنفير».

الكلام عليه

يقال له : قد دللنا على أنّ النّاظر في دلالة ما يجري مجرى الكلام ـ الذي يتأتّى فيه النقل والحكاية ـ على النّبوّة ، لا بدّ من أن يكون آمنا من ظهور ذلك على غير من أتى به ، وأنّ هذا العلم لا بدّ من كونه شرطا في صحّة الاستدلال ؛ لأنّه متى لم يحصل الثّقة بأنّ الله تعالى هو الّذي خصّه به جوّز (٢) النّاظر أن يكون اختصاصه على جهة الاستفساد من فاعل يجوز أن يفعل القبيح ، وأجرينا ذلك مجرى العلم بأنّ الفعل الظّاهر على مدّعي النّبوّة خارج عن مقدور البشر ومجرى العلم بأنّ القديم تعالى غنيّ لا يجوز أن يختار فعل القبيح ، في أنّهما يشرطان في صحّة الاستدلال بما يظهر على النبوّة ، لا دافعان للشّبهة عند خطورهما بالبال.

ولا فرق بين من دفع في العلم الأوّل ـ الّذي ذكرنا (٣) كونه شرطا ـ وأنزله منزلة ما يدفع الشّبهة عند ورودها ـ وإن كان فقده غير مخلّ بصحّة الاستدلال ـ وبين من قال بمثل ذلك في العلمين (٤) الآخرين.

وقد (٥) مضى الكلام أيضا في أنّ من جوّز على الحياة الانتقال بفاعل غير الله تعالى لم يصحّ استدلاله بها على النبوّة ، كما لا يصحّ استدلاله لو كان مجوّزا حدوثها بغيره عزوجل ؛ فلا معنى لتكراره ـ بتكرار صاحب الكتاب ـ التعلّق به مرّة

__________________

(١) من المغني ، وفي الأصل : تلبيس ، وسيرد في آخر المبحث «يلتبس».

(٢) في الأصل : وجوّز ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : ذكرناه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) في الأصل : العالمين ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٥) في الأصل : فقد.

٢٤٧

بعد أخرى ، فقد ذكرنا ما يمكن أن يكون طريقا إلى العلم بما ذكرنا أنّه شرط ، وأنّه ممّا يمكن المكلّف إدراكه وإصابته ، فسقط قوله : «إنّ الّذي ذكره لو كان شرطا لأمكن العلم به وأنّ الّذي ذكرناه لا طريق إليه».

فأمّا منعه ممّا ألزمناه لما فيه من التّنفير والمفسدة ـ قياسا على المنع من ظهور المعجزات على الصّالحين ومن ليس بنبيّ ـ فقد بيّنا فيما أمليناه من كتابنا «الشافي في الإمامة» (١) جواز ظهور المعجزات على أيدي الأئمّة والصّالحين ، ودللنا على أنّه لا تنفير في ذلك ولا فساد.

على أنّا لا نمنع ممّا اقتضاه ظاهر كلام الكتاب ، لأنّه قال : «فيجب أن يمنع من أن يمكن أحدا من ادّعاء معجزة لنفسه ، على وجه يلتبس بها حاله بحال من يظهر نفس المعجز عليه».

ونحن نمنع ممّا ذكره من كان بهذه الصّفة من الالتباس (٢) ؛ لأنّ المفهوم من الالتباس ما لا يمكن معه إصابة الحقّ ، ولا القطع على الصّواب.

وقد بيّنا أنّ الّذي جوّزناه لا يقتضي التباس المعجز بما ليس بمعجز ، ولا يرفع طريق التّمييز بيننا. اللهمّ إلّا أن يريد بلفظة «الالتباس» قوّة الشّبهة وشدّة المشقّة على المكلّف مع تمكّنه من (٣) إصابة الحقّ ، وهذا إن أراده ، يسقط بجميع ما تقدّم ؛ لأنّ القديم تعالى لا يجب عليه المنع من الشّبهات.

ثمّ قال صاحب الكتاب (٤) في جملة فصل يتضمّن : «بيان صحّة التّحدّي بالكلام الفصيح» ، بعد أن بيّن أنّ امتناع المعارضة لا يجوز أن يكون ؛ لأنّ الله تعالى فعل فيهم منعا عن الكلام :

__________________

(١) الشافي في الإمامة ١ / ١٩٦.

(٢) في الأصل : التباس ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : بل ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) المغني ١٦ / ٢١٤.

٢٤٨

«فإن قال (١) : امتنع عليهم ذلك بأن أعدمهم الله تعالى العلوم الّتي معها يمكن الكلام الفصيح ، فصار ذلك ممتنعا عليهم ؛ لفقد العلم لا للوجوه التي ذكرتموها.

ثمّ قال : قيل له : ليس يخلو فيما ادّعيته (٢) من وجهين :

إمّا أن تقول : قد كان ذلك القدر من العلم حاصلا من قبل معتادا ، فمنعوا منه [عند] (٣) ظهور القرآن.

أو تقول (٤) : إنّ المنع من ذلك مستمرّ غير متجدّد ، وإنّهم لم يخصّوا (٥) ، ولا من تقدّمهم بهذا القدر من العلم.

فإن أردت [الوجه] (٦) الأوّل فقد كان يجب أن يكون قدر القرآن في الفصاحة قدر ما جرت به العادة من قبل ، وإنّما منعوا من مثله في المستقبل.

ولو كان كذلك لم يكن المعجز هو القرآن ؛ لكونه مساويا لكلامهم ، ولتمكّنهم من قبل من فعل مثله في قدر الفصاحة. وإنّما يكون (٧) المعجز ما حدث فيهم (٨) من المنع ، فكان التحدّي يجب أن يقع بذلك المنع لا بالقرآن ، حتّى لو لم ينزّل الله تعالى عليه (٩) القرآن ولم يظهره (١٠) أصلا ، وجعل دليل نبوّته امتناع الكلام عليهم على الوجه الّذي اعتادوه لكان وجه الإعجاز لا يختلف ، وهذا ممّا يعلم (١١) بطلانه باضطرار ؛ لأنّه عليه‌السلام تحدّى بالقرآن ، وجعله العمدة في هذا الباب.

على أنّ ذلك لو صحّ لم يقدح في صحّة نبوّته ؛ لأنّه كان يكون بمنزلة أن يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : دلالة نبوّتي أنّي أريد المشي في جهة ، فيتأتّى لي العادة ، وتريدون

__________________

(١) المغني ١٦ / ٢١٨.

(٢) في المغني : لست تخلو فيما ادّعيت.

(٣) من المغني.

(٤) في الأصل : يقول.

(٥) في المغني : لم يختصّوا.

(٦) من المغني.

(٧) في المغني : كان يكون.

(٨) في المغني : منهم.

(٩) ليس في المغني.

(١٠) في المغني : يظهر.

(١١) في المغني : نعلم.

٢٤٩

المشي فيتعذّر عليكم. فإذا وجدوا (١) الأمر كذلك دلّ على نبوّته ، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضا للعادة».

الكلام عليه

يقال له : أمّا صورة مذهبنا في الصّرفة فقد ذكرناها في صدر هذا الكتاب وشرحناها ، وبيّنا أنّ الله تعالى إنّما يصرف عن المعارضة بأن يفقد من رام تعاطيها في الحال العلم بالفصاحة ، ولا يمكن معه المعارضة ، وإن كان متى لم يقصدها لم يفقد هذه العلوم.

ودللنا على أنّ العلوم الّتي يمكن معها معارضة القرآن ـ بما يقاربه في الفصاحة ويخرجه عن أن يكون خارقا لعادة العرب بالفصاحة (٢) ـ قد كانت موجودة في القوم ، ومعتادة لهم.

فأمّا إطلاق القول على القرآن بأنّه معجز وليس بمعجز ، فقد مضى أيضا ما فيه مشروحا ، وأوضحنا ما يتعلّق في هذا الباب بالمعنى وما يرجع إلى العبارة ، وأنّ الشّناعة المقصودة لا تلزم ، وتتوجّه على من قال : «إنّ القرآن ليس بمعجز» ، يعني أنّ البشر يتمكّنون من مساواته أو مقاربته ، وأنّه لا حائل بينهم وبين ذلك. أو بمعنى أنّه لا حظّ له في الدّلالة على نبوّة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فأمّا من نفى عنه ما ذكرناه ، وقال : إنّه ليس بمعجز بنفسه ولا خارق للعادة بفصاحته ، لكنّه يدلّ على ما هو المعجز في الحقيقة ، ويسند إلى الأمر الخارق للعادة ، فلا شناعة عليه.

وليس يجب إذا كان المنع عن المعارضة هو العلم على الحقيقة ، ألّا يقع التحدّي بالقرآن ، كما ظنّ صاحب الكتاب ؛ لأنّه لو لا التّحدّي بالقرآن وقصور

__________________

(١) في المغني : وجد.

(٢) في الأصل : بفصاحة ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٥٠

العرب عن معارضته لما علمنا ذلك المنع ، ولا كان لنا إليه طريق. فكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للعرب : هاتوا مثل هذا القرآن ، فإذا تعذّر عليكم ـ مع أنّ فصاحته ممكنة لكم ومعتادة منكم ـ فاعلموا أنّ الله تعالى قد صرفكم عن معارضتي ، ومنعكم منها ، تصديقا لي ودلالة على نبوّتي.

فكان الأمر في المنع الّذي ذكره لا ينكشف إلّا بالتحدّي بالقرآن ، فكيف تظنّ أنّ التحدّي به مستغنى عنه ، إذا كان الأمر على ما ذهبنا إليه؟ أو لا ترى أنّ الله تعالى لو كان يمكّن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من فعل القرآن بأن فعل له علوما خارقة للعادة على مذهبه لكان المعجز في الحقيقة هو تلك العلوم لا نفس القرآن ، ومع ذلك فالتحدّي بالقرآن لا بدّ منه ؛ لأنّ به ينكشف حال تلك العلوم ، ومن جهته يتطرّق إلى إثباتها.

ولم يكن لأحد أن يقول : إذا كانت تلك العلوم هي العلم المعجز الدّالّ على التّصديق فلا معنى للتّحدّي بالقرآن ، بل كان يجب أن يقع التحدّي بالعلوم المخصوصة! وهكذا القول : لو كان تعالى قد مكّن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قدر لم تجر بمثلها العادة ، يتأتّى بها من ضروب الجمل ما لا يتّسع له البشر ؛ لأنّ المعجز في هذه الحال هو القدر والتحدّي بالفعل الواقع عنها ، وإظهاره ، والمطالبة بمثله ، ممّا لا بدّ منه.

ولا شكّ في أنّ الله تعالى لو لم ينزّل القرآن أصلا ، وجعل دليل نبوّته امتناع الكلام على القوم ، لكان دالّا ومعجزا على ما ذكر. إلّا أنّه ليس يجب ـ إذا لم يفعل ذلك ، وجعل دليل نبوّته امتناع معارضة القرآن عليهم ـ ألّا يقع التحدّي بالقرآن ، والمطالبة بالإتيان بمثله!

وكأنّه يقول : إذا صحّ أن يقوم مقام القرآن غيره ، وصحّ (١) وقوع المنع منه

__________________

(١) في الأصل : وصحّت ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٥١

على وجه الإعجاز ، وجب أن لا يكون في ظهوره فائدة ، ولا في التحدّي بالمنع من معارضته.

وهذا ممّا لا يخفى بطلانه على أحد ؛ لأنّه لا شيء من الأفعال يقع المنع منه على وجه الإعجاز إلّا ولو قام مقامه غيره لم يختلف وجه الدّلالة ، ولا يقتضي ذلك ألّا يكون فيما وقع المنع منه من الأفعال فائدة.

على أنّ من ذهب في إعجاز القرآن إلى الفصاحة ، يلزمه إذا كان الله تعالى قادرا على أن ينزل مكان هذا القرآن غيره ممّا يماثله في الفصاحة أو يزيد عليه فيها زيادة كثيرة ، ونحن نعلم أنّه لو أنزل ما هو أفصح منه ، لكان الأمر في إعجازه أظهر ـ إلّا أن يكون في إنزال القرآن والتحدّي به فائدة.

فإن قال : من ذهب إلى ما ذكرناه ـ أنّه وإن جاز أن ينزّل غيره ويقوم في الدّلالة مقامه ، أو يكون أوضح أمرا منه ـ فيجب إذا لم يفعل ذلك وأنزل هذا القرآن ، أن يقع التحدّي به ، لينكشف الأمر في إعجازه. ولو أنزل غيره لكان التحدّي يقع بذلك.

قيل له : وهكذا يجب ـ إذا كان الله تعالى قد جعل دليل نبوّة رسوله عليه وآله السّلام المنع من معارضة هذا القرآن دون غيره ـ أن يقع التحدّي بالقرآن أو المطالبة بالإتيان بمثله ، لينكشف الأمر في المنع الّذي هو العلم على صدقه.

ولو جعل دليل النبوّة امتناع الكلام ، أو الحركات ، أو غيرهما من الأفعال ، لكانت المطالبة تقع بتلك الأفعال.

فأمّا قوله : «وهذا ممّا يعلم بطلانه باضطرار ؛ لأنّه عليه وآله السّلام تحدّى بالقرآن وجعله العمدة». فإن أراد أنّ المعلوم بطلانه باضطرار أنّه صلوات الله عليه وآله لم يتحدّ بالقرآن ولا طالب القوم بمثله بل عدل إلى سواه فيما طالبهم بفعله ، فلا شكّ في بطلان ذلك. وهو إذا صحّ كان شاهدا لقولنا وغير مناف

٢٥٢

لمذهبنا ، على ما بيّناه.

وإن أراد ـ فيما ادّعى العلم ببطلانه اضطرار ـ شيئا آخر غير ما ذكرناه ، فقد كان يجب أن يفصح به ، وما نظنّه أراد غيره. وقوله : «بأنّه عليه وآله السّلام تحدّى بالقرآن وجعله العمدة» عقيب ذكر الاضطرار ، يدلّ على أنّه أراد ذلك.

وكيف لا يجعله عليه‌السلام العمدة في ذلك والمفزع في الحجّة ، والأمر في نبوّته لا يكشف إلّا بالنّظر فيه ، والعلم بأنّ القوم طولبوا بالإتيان بمثله وببعضه فلم يفعلوا. وأنّ امتناعهم من معارضته إنّما كان للتعذّر والقصور اللّذين سببهما ما فعله الله تعالى فيهم من المنع وسلب العلوم.

فإن قال : المعلوم من حال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خلاف ما يذكرونه (١) ويذهبون إليه ؛ لأنّه عليه وآله السّلام كان يجعل القرآن دليل نبوّته ، والعلم على صدقه ، ويذكر أنّ الله تعالى أبانه به ، ومذهبكم يخالف جميع ما ذكرناه.

قيل له : أمّا المعلوم الّذي لا إشكال فيه فهو أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحتجّ بالقرآن ، ويدعو في الاستدلال على نبوّته إليه ، ويطالب العرب بفعل مثله ، ويشهد قاطعا متيقّنا بأنّهم لا يفعلون ، ويجعل قصورهم دليل نبوّته.

فأمّا وجه الاحتجاج به ، وهل هو لأنّ القرآن بنفسه المعجز ، أم مستند إلى ما هو المعجز على الحقيقة ومتعلّق به ، وكون قصور القوم عن المعارضة دليلا على نبوّته؟ وهل ذلك لأنّ القرآن في نفسه خارق للعادة بفصاحته ، أم لأنّهم منعوا من المعارضة وصرفوا عنها؟ ممّا ليس بمعلوم من جهته عليه وآله السّلام ولا من ظاهر حاله ، وإنّما يعلمه النّاظر بالدّليل الّذي ربّما خفي إدراكه على كثير من المتكلّمين.

__________________

(١) في الأصل : يذكر فيه ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٥٣

ولو كان ما ذكرناه ثابتا معلوما على حدّ العلم بما ذكرناه أوّلا ، لوجب أن يكون جهة كون القرآن معجزا ودالّا على النّبوّة معلومة باضطرار ، كما أنّ التحدّي بالقرآن معلوم ذلك ، فكان لا يصحّ أن يخالف من جهة دلالته مقرّ بصدق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحّة نبوّته ، كما لا يصحّ أن يخالف فيما جرى مجراه.

على أنّا ما نأبى القول بأنّ القرآن دليل نبوّته عليه وآله السّلام ، والعلم على صدقه ، ولا يمتنع من هذه الجملة.

وإن أردنا بذلك أنّ النّاظر في أحواله والمتأمّل لها يفضي به نظره إلى العلم بما هو الدّليل والعلم على الحقيقة ، فمن حيث كان وصلة إلى الدّليل وطريقا إليه ومتعلّقا به ، جاز أن يصفه بصفته.

كما لا يمتنع الكلّ من وصف القرآن بأنّه دليل وعلم ، وإن كان من فعله عليه وآله السّلام ، من حيث كان مستندا ومتعلّقا بما هو الدّليل والعلم على الحقيقة من العلوم (١).

وكذلك الوصف لما يظهره الرّسول عليه‌السلام من حمل الجبال وقلب المدن ، إذا كان واقعا عن قدرة. ولا ينكر وصفه بأنّه دليل ، على التفسير الذي ذكرناه.

وكما يصف أيضا إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الغيوب ، وإنذاره الحوادث الكائنة في المستقبل بأنّها أدلّة له وأعلام ، من حيث استندت إلى العلوم الّتي هي في الحقيقة واقعة موقع الإعلام.

وليس لأحد أن يقول : إنّه عليه وآله السّلام كان يجعل القرآن دليلا وحجّة دون وجه كذا على خلاف ما ذكرتم ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ كيفيّة كونه دليلا وحجّة ، فهل هو الدالّ بنفسه أم بغيره ، بما لم يعلمه من دونه (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله اضطرارا؟ ولا يدّعي العلم به

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر : الأعلام.

(٢) في الأصل : من دينه ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٥٤

من هذه الجهة إلّا غبيّ أو معاند ، وإنّما يعلم ذلك بالأدلّة التي تستخرج بها أمثاله.

فأمّا ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الله تعالى أبانه بالقرآن ، فغير مخالف لمذهبنا ؛ لأنّا نقول :

إنّ الله تعالى أبانه عليه وآله السّلام به ، كما أبانه بنزول جبرئيل عليه‌السلام ، إلى غير هذا من ضروب الاختصاصات وفنون الكرامات.

غير أنّ هذه الإبانة لا يمكن أن نعلم بها في الأصل صحّة نبوّته ، بل لا بدّ من أن يعلم صحّة النبوّة قبلها بما ذكرناه من ثبوت المنع عن المعارضة ؛ فإذا علمنا ذلك رجعنا إلى خبره عليه‌السلام في حصول الإبانة والاختصاص ونزول جبرئيل عليه‌السلام وما أشبههما. وهذه جملة كافية تأتي على ما ذكره في الفصل.

ثمّ قال صاحب الكتاب في جملة فصل مترجم بذكر : «وجوه إعجاز القرآن وما يصحّ من ذلك وما لا يصحّ» (١).

«فإن قالوا (٢) : إنّا نجعله معجزا ، لصرفه تعالى (٣) إيّاهم عن المعارضة.

فقد (٤) بيّنا من قبل : أنّه لا يجوز أن يكونوا ممنوعين من الكلام بكذا ... وأشار إلى ما ذكره (٥).

ثمّ قال : وبيّنا أنّ هذا الوجه لو صحّ لم يوجب كون القرآن معجزا ، وكان يجب أن يكون المعجز منعهم من فعل مثله ، كما أنّه تعالى لو جعل دلالة نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) أن يتمكّن من مشي ، أو كلام ، أو تحريك يد ، في حال يتعذّر

__________________

(١) المغني ١٦ / ٣١٦ ـ فصل : «في وجوه إعجاز القرآن ، وما يصحّ من ذلك وما لا يصحّ ، وما يتّصل بذلك».

(٢) المغني ١٦ / ٣٢٢.

(٣) في المغني : وإن كان كذلك لصرفه.

(٤) في الأصل : قد ، وما أثبتناه من المغني.

(٥) يشير إلى ما ذكره القاضي في بداية هذا الفصل ، وكرّره في هذا المقام من قوله : «بأن دللنا على أنّ المنع والمعجز لا يختص كلاما دون كلام ، وأنّه لو حصل ذلك في ألسنتهم لما أمكنهم الكلام المعتاد ، والمعلوم من حالهم خلاف ذلك».

(٦) من المغني.

٢٥٥

على جمعهم (١) مثله ، لقد كان ذلك معجزا ، لكن المعجز كان منعهم (٢) من ذلك ؛ لأنّ الخارج عن العادة ، دون تمكّنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا فعله ، لأنّ ذلك معتاد. ومن سلك هذا المسلك في القرآن ، يلزمه ألّا يجعل (٣) له مزيّة البتّة.

على أنّ ذلك يبطل بنصّ (٤) القرآن ؛ لأنّه تعالى قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٥).

ولو كان الوجه الّذي له تعذّر عليهم المنع ، لم يصحّ ذلك ؛ لأنّه لا يقال في الجماعة (٦) إذا امتنع عليها الشيء : إنّ بعضها يكون ظهيرا لبعض ؛ لأنّ المعاونة والمظاهرة (٧) إنّما تمكن مع القدرة ، ولا تصحّ مع المنع والعجز» (٨).

الكلام عليه

يقال له : لسنا نذهب في الصّرف إلى أنّه المنع من الكلام ، والّذي نذهب إليه فيه قد ذكرناه وأوضحناه. ولو لا أنّ كلامك هذا على من ذهب إلى (٩) أنّ القوم منعوا من الكلام يمكن أن يطعن به طاعن فيما نذهب إليه لتجاوزنا عنه ، ولم نتشاغل بالكلام عليه. وبطلانه واضح على كلّ وجه ؛ لأنّا قد بيّنا فيما مضى الكلام على من ألزم إطلاق القول بأنّ القرآن ليس بمعجز ، وشرحناه.

فأمّا إلزامنا أن لا يكون له مزيّة ، إذا كان العلم المعجز في الحقيقة غيره فليس

__________________

(١) في المغني : جميعهم.

(٢) في المغني : لكان المعجز منعهم.

(٣) في الأصل : جعل ، وما أثبتناه من المغني.

(٤) في المغني : بعض.

(٥) سورة الإسراء : ٨٨.

(٦) في الأصل : الجملة ، وما أثبتناه من المغني.

(٧) في الأصل : المطابقة ، وما أثبتناه من المغني.

(٨) في المغني : العجز والمنع.

(٩) في الأصل : على ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٥٦

يخلو من ألزمنا نفي مزيّته من أن يريد نفيها في باب الدّلالة ، أو التّحدّي ، أو الفصاحة.

وكلّ هذه الوجوه قد تقدّم الكلام على أنّ القرآن ـ وإن لم يكن هو العلم في الحقيقة ـ فغير واجب نفي المزيّة عنه في شيء منها.

فأمّا الآية الّتي تلاها صاحب الكتاب فهي أبعد ما يسأل عنه ويقدح (١) به ؛ لأنّه تعالى أراد أن يخبرنا عن تعذّر معارضة القرآن على الخلق أجمعين ، فنفى ذلك على آكد الوجوه.

ونحن نعلم أنّ مع التظاهر والتعاون ربّما تأتّى ما يتعذّر ، وأنّ الشيء إذا كان متعذّرا وغير متأتّ مع التوازر والتظاهر كان أبعد من التأتّي مع الانفراد ، وكان نفي تأتّيه آكد وأبلغ ؛ فلهذا قال تعالى : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

وليس في الإخبار عن أنّ المعارضة لا تقع ، وتأكيد نفي وقوعها ـ بما جرت عادة أهل العربيّة بأن يؤكّدوا به بخطابهم ـ دلالة على وجه التعذّر ما هو.

وأكثر ما نستفيد بالآية أنّ المعارضة لا تقع ، وأنّها متعذّرة على كلّ حال ؛ فأمّا من أيّ وجه لم تقع ، وهل تعذّرت لمنع عن الكلام ، أم لفقد علوم ، أو قدر؟ فممّا لا تدلّ عليه الآية.

وقوله : «إنّ المعاونة إنّما تمكن مع القدرة ، ولا تصحّ مع المنع».

صحيح ، لكن لخصمه أن يقول : إنّ الله تعالى لم يرد أنّ المعارضة لا تقع منهم وإن تظاهروا وتعاونوا على فعلها ، وإنّما نفى وقوعها ـ وإن تظاهروا وتعاونوا ـ بما يقدرون عليه من الأفعال في طلبها ، والاحتيال لتمامها ؛ فالتّظاهر لم يعن به إلّا ما هو مقدور ممكن.

__________________

(١) في الأصل : ويقدم ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٥٧

ونحن نعلم أنّ القائل إذا قال : «لو تظاهر الخلق بأجمعهم أو تعاونوا على فعل جوهر أو سواد لما وقع منهم» يكون كلامه صحيحا مفيدا لتعذّر وقوع ذلك على أبلغ الوجوه ، ويجرى مجرى أن يقول في عشرة : إنّهم لو تظاهروا وتعاونوا على حمل جبل لما أمكنهم ، وإن كان حمل الجبل مقدورا لهم ، وممكنا على جهة التّفريق (١).

والأوّل غير ممكن ولا مقدور على وجه من الوجوه ، وإنّما حسن القول الأوّل ـ مع استعمال لفظ التعاون فيه ـ للوجه الّذي ذكرناه.

على أنّا قد بيّنا أنّ الله تعالى إنّما منعهم عن المعارضة بأن أعدمهم في الحال العلوم بالفصاحة ، فلن تخرج المعارضة من أن تكون مقدورة ـ وإن كانت متعذّرة ـ لفقد العلوم ، فيجب أن يصحّ استعمال لفظ «التّظاهر» غير مطابق لمذهبنا في تعذّر المعارضة ، للزم صاحب الكتاب وجميع أهل مذهبه مثل ذلك ؛ لأنّه يقول فيما من أجله لم تقع المعارضة مثل قولنا بعينه ، وينسب تعذّرها إلى فقد العلوم بالفصاحة ، كما ننسبه (٢) ، وإن كان الفرق بيننا وبينه أنّا نقول : إنّ القوم أفقدوا العلوم في الحال ، وهو يقول : إنّهم كانوا فاقدين لها في جميع الأحوال ، مستقبلها ومستدبرها ؛ لأنّ العادة لم تجر بحصول كلّ تلك العلوم لهم.

فإن قال : إنّي لم أوجّه كلامي في الفصل نحو مذهبكم ، وإنّما خصصت به من قال : إنّ القوم منعوا عن الكلام جملة.

قيل له : قد علمنا ما قصدته ، وكلامنا الأوّل متناول لغرضك بعينه ، وكلامنا الثّاني إنّما أوردناه استظهارا وبيانا.

ثمّ قال صاحب الكتاب ، بعد أن ذكر أنّ دواعي العرب إنّما انصرفت عن

__________________

(١) في الأصل : الفريق ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : ينسبه ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٢٥٨

المعارضة ، لعلمهم بأنّها غير ممكنة ، من حيث باينت فصاحة القرآن جميع فصاحاتهم ، لا للصّرف الّذي يدّعيه من يقول : إنّ المعارضة كانت ممكنة ، وإنّها لم تقع لأنّ دواعيهم صرفت (١) :

فإن قال (٢) : ومن أين أنّ الحال على ما ذكرتم؟

قيل له (٣) : لأمور :

منها : ما نقل عنهم من اعترافهم بمزية القرآن عند المذاكرات ، على ما قدّمنا ذكره.

ومنها : أنّ آية التّحدّي تدلّ على تعذّر مثله (٤) : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

ومنها : أنّ هذا القول يوجب أنّ القرآن ليس بمعجز (في الحقيقة ، وأنّ صرف هممهم عمّا جرت عادتهم بمثله هو المعجز) (٥) ، ويوجب أن يدلّ القرآن ، لو كان كلاما متوسّطا في الفصاحة ، حتّى يكون حاله في الإعجاز ، وهو كذلك (مثل حاله) (٦) الآن ، لأنّ المعتبر صرف هممهم ودواعيهم ، فالرّكيك (٧) في ذلك والفصيح بمنزلة.

ومنها : أنّ الذي ذكروه يقتضي خروجهم عن العقل ...

ثمّ بيّن أنّ دواعيهم لا يجوز أن تنصرف مع كمال عقولهم.

الكلام عليه

يقال له : وهذا الفصل أيضا ـ وإن كانت وجهته إلى غير مذهبنا ـ فنحن نتكلّم

__________________

(١) راجع تفصيل كلام القاضي عبد الجبّار وأجوبته ونقوضه ، في المغني ١٦ / ٣٢٤.

(٢) المغني ١٦ / ٣٢٥.

(٣) في الأصل : قال لهم.

(٤) في المغني : مثله عليهم.

(٥) زيادة في الأصل ، ليست في المغني.

(٦) في المغني : كحاله.

(٧) في الأصل : والركيك.

٢٥٩

عليه ؛ لإمكان التعلّق به علينا.

فنقول : وما في الاعتراف بمزيّة القرآن في الفصاحة ممّا يدلّ على أنّ جهة إعجازه هي الفصاحة ، وأنّه خارق بها عادات العرب؟!

وما المنكر أن يكون عالي الطّبقة في الفصاحة ، فيشهد له بالمزيّة فيها ، وإن كان امتناع معارضته إنّما هو الصّرف؟!

وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا أنّ الاعتراف بمزيّته (١) في الفصاحة إنّما يكون رادّا على من نفى فصاحته. فأمّا من اعترف بأنّه أفصح الكلام وأبلغه ولم يجعله خارقا للعادة من حيث الفصاحة ، فإنّه لا يلزمه شيء من ذلك.

على أنّا قد تكلّمنا على الألفاظ الّتي يستدلّ بها على اعتراف القوم بفضل فصاحته ، وذكرنا ما يمكن أن يقال فيها.

وأمّا التعلّق بلفظ «التّظاهر» ، فقد مضى الكلام عليه وعلى التّعلّق بإخراج القرآن من أن يكون معجزا ، وبيّنا أنّ دلالته من الوجه الّذي ذكرناه ، وإن لم يختلف بأن يكون كلاما متوسّطا في الفصاحة أو ركيكا ، بل ربّما تأكّدت ، فغير منكر أن تكون المصلحة للمكلّفين تابعة لإنزاله على هذا الوجه من الفصاحة.

وذكرنا من لزوم مثل ذلك لمن خالفنا ، وأنّه لا بدّ من أن يفتقر فيه إلى مثل جوابنا ، ما لا حاجة بنا إلى إعادته (٢). فأمّا ردّه على من ذهب إلى صرف الدّواعي بما ذكره فصحيح (٣) لازم ، وقد بيّنا في صدر هذا الكتاب على الكلام (٤) بيانا شافيا.

__________________

(١) في الأصل : لمزيّته ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : حادثة ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : وصحيح ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٤) كذا في الأصل ، والظاهر : الكلام عليه.

٢٦٠