الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

فصل

في أنّ معارضة القرآن لم تقع لتعذّرها

آكد ما يدلّ على أنّ الفعل متعذّر على الفاعل ألّا يقع منه ، مع توفّر دواعيه إليه.

وعلى هذه الطريقة يعتمد في أنّ الألوان وما جرى مجراها من الأجناس غير مقدورة لنا ، وفي الفصل بين القادر ومن ليس بقادر ، والعالم ومن ليس بعالم ؛ لأنّ دواعي أحدنا إذا قوي إلى جنس الفعل فلم يقع حكمنا بتعذّره :

فان كان تعذّره مع ارتفاع سائر الموانع ، حكمنا بأنّه غير مقدور لمن تعذّر عليه.

وإن كان هناك مانع ، لم يدلّ التعذّر على ارتفاع القدرة ، بل جوّزنا أن يكون تعذّره للمانع مع كونه مقدورا.

وإن كان الّذي تعذّر هو وقوع الفعل على بعض الوجوه دون جنسه ، نظرنا أيضا ، فإن تعذّر مع كمال الآلات وارتفاع الموانع ، حكمنا بأنّ تعذّره لارتفاع العلم ، وإلّا جوّزنا أن يكون التعذّر لبعض الموانع ، أو لفقد بعض الآلات ، مع كون من تعذّر عليه عالما ، فمن قدح في هذه الطّريقة لم يمكنه أن يعلم شيئا ممّا ذكرناه.

وإذا صحّت هذه الجملة ، ووجدنا العرب الّذين تحدّوا بالقرآن لم يعارضوه ـ مع توفّر دواعيهم إلى المعارضة وكثرة بواعثهم عليها ، ومع أنّهم لم يعارضوا عدلوا

٣٠١

إلى أمور يشقّ فعلها ، ويثقل تحمّلها ، كالحرب وما في معناها ممّا لا يصلون به ، وإن تناهوا فيه ، إلى غرضهم على الحقيقة ـ وجب القطع على تعذّر المعارضة ، وصار عدولهم إلى الأمر الشّاقّ المتعب الّذي لا يوصل إلى المراد مع تركهم السّهل (الذي لا كلفة [فيه] وهو موصل إلى المراد) (١) موردا لدلالة التعذّر ، موضحا لطريقها.

وإن كان انصرافهم عن المعارضة ـ مع توفّر الدّواعي ـ كافيا في العلم بتعذّرها لو لم يتجشّموا ، مع الانصراف عنها فعلا شاقّا ، وجرى ذلك مجرى من له غرض يصل إليه بفعل لا كلفة عليه فيه ولا مشقّة ، فعدل عنه إلى تكلّف ما يشقّ ويتعب ولا يوصل إلى الغرض المطلوب ، مع ارتفاع الشّبهة عنه في الأمرين. ولا شكّ في أنّ من هذه حاله يجب القطع على أنّ ما به يصل إلى غرضه متعذّر عليه.

واعلم أنّ جميع ما يورده المخالفون من الشّبه في هذا الباب يرجع إلى أصل واحد وإن كثرت ، وهو القدح في توفّر الدّواعي إلى المعارضة.

وأنت متى تأمّلت ما يتعلّقون به من الشّبه وجدته لا يخرج عمّا ذكرناه ؛ لأنّهم ربّما نازعوا في أصل ما ادّعيناه من قوّة الدّواعي إلى المعارضة ، وقالوا : من أين لكم أنّ الأمر على ما ادّعيتموه؟ وطالبوا بالدّلالة عليه على سبيل الجملة.

وربّما قالوا : جوّزوا أن يدخل على القوم في ذلك شبهة من غير تعيين لها ؛ فإنّهم لم يكونوا من أهل الجدل والنّظر ، ولو كانوا أيضا من أهلها كان دخول الشّبهات عليهم ممكنا غير ممتنع ، لأنّه لا سبيل لكم إلى ادّعاء معرفة ضروريّة تعمّ العقلاء بأنّ المعارضة أولى من غيرها. وإذ كان المرجع إلى الاستدلال ، جاز دخول الشّبه فيه.

__________________

(١) وردت هذه العبارة في الأصل بعد قوله السابق : لا يوصل إلى المراد ، وقد وضعناها في سياقها المناسب.

٣٠٢

وربّما عيّنوا الشّبهة الّتي يدّعون دخولها على القوم وأشاروا إليها ، فقالوا : لعلّهم اعتقدوا أنّ المعارضة لا تبلغ في قطع المادّة وحسم الأمر مبلغ الحرب ، فعدلوا إلى الحرب ، لأنّها سبب الرّاحة.

وربّما قالوا : لا يمنع أن يكونوا عدلوا عن المعارضة ظنّا منهم بأنّ الخلاف يقع فيها ، ويتنازع النّاس أمرها (١) ، فيقول قوم : قد أصيب بها موضعها ، ويأبى ذلك آخرون ، ويتردّد فيها من الكلام والخوض ما تشتدّ معه الشّوكة ، وتقوى العدّة ، ويقضي الأمر إلى الحرب ، فقدّموها.

وربّما قالوا : لعلّ المثل الّذي دعاهم إلى الإتيان به أشكل عليهم ، ولم يعلموا هل المراد به المماثلة في الفصاحة ، أو في التكلّم ، أو فيهما ، أو في الإخبار عن الغيوب؟ فعدلوا عن المعارضة لهذا الإشكال إلى الحرب.

وربّما قالوا : جوّزوا أن يكونوا تركوا المعارضة ، لأنّهم علموا فضل المأثور من كلامهم وأشعارهم على ما أتى به في الفصاحة والبلاغة ، وظهور ذلك للفصحاء على وجه لا يقع فيه إشكال.

ورأوا أنّ تكلّف المعارضة ـ مع ظهور الحال ـ لا معنى له ، كما يفعل الحصفاء (٢) بمن يتحدّاهم ويقرّعهم بالعجز عن المشي والتّصرّف في حال مشيهم وتصرّفهم ؛ فإنّهم لا يكادون يستعملون مع من هذه حاله شيئا من المحاجّة والمواقفة ، بل يكون الإمساك عنه أحرى ما عومل به.

وربّما قالوا : لعلّ الّذين كانوا يتمكّنون من معارضته جماعة من جملة العرب واطأته على إظهار المعجز ، لتشاركه فيما يتمّ له.

وليس تخرج هذه الشّبهة أيضا عمّا حصرناه من الأصل وقلنا : إنّ مرجع

__________________

(١) في الأصل : أمرهما ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) الحصيف : الرجل المحكم العقل.

٣٠٣

الشّبهة في هذا الباب إليه ؛ لأنّ المعترض بها كأنّه يقول : إنّ القوم المتمكّنين من المعارضة انصرفوا عنها للغرض الّذي ذكره. فهو مخالف لطريقة ثبوت الدّواعي ، وإنّما ذكرنا هذه لئلّا يظنّ ظانّ خلافه.

وإنّما لم نذكر ما لا يزالون يتعلّقون به من قولهم : لعلّه عليه‌السلام تعمّل للقرآن دهرا طويلا ، فتأتّى منه ما لم يتأتّ منهم ، أو لأنّه كان أفصحهم.

ولم نذكر أيضا ما يتعلّقون به ويجعلونه كالمانع من فعل المعارضة ، مثل قولهم : إنّه بدأهم بالحرب ، وشغلهم بها عن المعارضة ، وقولهم : إنّهم امتنعوا منها لخوفهم من أوليائه وأنصاره ؛ لأنّ هذا من قائليه اعتراف بتعذّر المعارضة ، وهو الّذي قصدناه بهذا الفصل.

وإن كان مع اعترافه بالتعذّر قد ادّعى دخوله فيما جرت (١) العادة بمثله ، وبطلان ذلك يأتي في فصل منفرد من بعد ، بمشيئة الله تعالى. ونحن الآن نجيب عمّا أوردناه شيئا فشيئا.

أمّا الجواب عمّا ذكرناه أوّلا من المنازعة في حصول الدّواعي إلى المعارضة وتوفّرها : فواضح أنّا قد علمنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استنزل العرب عن رياستهم وعاداتهم وعباداتهم ، وأوجب عليهم كلفا تتعب نفوسهم وأجسامهم ، وحقوقا تثلم أموالهم وأحوالهم ، وطالبهم بأن يقطع الرّجل منهم في الدّين نسبه ورحمه ، بل يبرأ منهما ويجاهدهما ويتربّص إيقاع غاية المكروه بهما ، إلى غير ما ذكرناه ممّا يزعج يسيره النّفوس ، ويهيج الطّباع ، وتبلغ الدّواعي في دفعه وطلب الخلاص منه إلى حدّ الإلجاء.

هذا ، لو لم يصب هذه الأمور الّتي عددناها من القوم فضل حميّة وإباء ، وعزّ

__________________

(١) في الأصل : جرت به ، وهو غير مناسب للسياق.

٣٠٤

جانب وأنف ، وقلّة احتمال للضّيم ، وامتناعا من إعطاء المقادة ؛ فكيف بها وقد وردت منهم على ما هو الغاية فيما وصفناه؟ لا شكّ في أنّها تبلغ في إثارتهم وبعثهم ما لا يبلغه في غيرهم ، لما هم عليه من المزيّة ، وعندهم من فرط الحميّة!

وإذا ثبت بما ذكرناه قوّة دواعيهم إلى دفع أمره ، وإبطال حجّته ، وحلّ عقدته ـ وكان المؤثّر في ذلك على الحقيقة هو المعارضة دون غيرها ـ وجب أن تكون الدّواعي إليها متوفّرة ، وصار ما دعاهم إلى دفع قوله ونسخ أمره يدعوهم إلى المعارضة بعينها.

يبيّن ذلك : أنّه عليه وآله السّلام لمّا ظهر فيهم ادّعى الإبانة منهم بالنبوّة لا بالملك والدّولة ، وجعل حجّته على صدقه ووجوب اتّباعه ، امتناع المعارضة عليهم ؛ فلا محالة أنّ الدّاعي للقوم إلى ردّ حجّته وإبطال قوله هو بعينه داع إلى فعل المعارضة ؛ لأنّه عليه‌السلام إنّما احتجّ بامتناعها وادّعى الإبانة من جهة تعذّرها ، فلا شبهة في أنّها لو كانت ممكنة لما جاز العدول عنها.

على أنّه لا حاجة بنا إلى الاستدلال على توفّر دواعي القوم إلى إبطال أمره وتفريق جمعه ، لظهور ذلك وعلم العقلاء السّامعين للأخبار به اضطرارا ؛ لأنّه ظهر من القوم من الاجتهاد في محاربته ومغالبته ، وركوب الأخطار ، وتحمّل الأثقال ، والتّغرير بالنّفوس والأموال ، إلى غير هذا من التغلغل إلى صنوف الحيل وضروب المكائد ، واستعمال ما لا تأثير له ولا شبهة في مثله ، كالسّبّ والهجاء ، وإحضار أخبار الفرس ، وادّعاء المعارضة بها ، ما يضطرّ العقلاء إلى قوّة حرصهم على دفاع أمره ، وأنّه لم يظهر منهم ما ظهر إلّا لفرط الاهتمام ، وأنّ الأمر قد برّح بهم (١) وأحرجهم ، وأخذ بمخنقهم!

__________________

(١) أي اشتدّ عليهم الأمر وعظم.

٣٠٥

وإذا كنّا قد بيّنا أنّ الدّاعي إلى كلّ هذه الأمور هو الدّاعي إلى المعارضة ، بل ليس يصحّ أن يكون داعيا إلى شيء منها إلّا بعد عوز المعارضة وتعذّرها ؛ لأنّ الغرض من المطلوب بها يقع دون غيرها ؛ فقد تمّ ما أوردناه.

والجواب عمّا ذكرناه ثانيا : إنّ القوم وإن لم يكونوا من أهل النّظر والجدل ؛ فليس يجوز أن تدخل عليهم شبهة لا يجوز دخول مثلها على أحد من العقلاء ، بل على من نقص عن مرتبة العقلاء من الصّبيان ؛ لأنّه لا أحد من النّاس قرّع بفعل من الأفعال وادّعي عجزه عنه ، إلّا وهو يفزع إلى فعله إذا كان ممكنا.

ولا يجوز أن يشتبه ذلك عليه ، حتّى يظنّ أنّ العدول إلى غير الفعل أولى ، ولهذا نجد الصّبيان متى (١) تحدّى بعضهم بعضا برمي غرض أو طفر نهر ، فإنّ المتحدّى يبادر إلى فعل ما تحدّي به إذا كان ممكنا. ولا يصحّ أن يصرفه عنه صارف مع الإمكان.

وما يكون العلم به ضروريّا متقرّرا في كلّ العقول ـ وافرها وناقصها ـ لا يجوز أن يشكل على العرب ـ مع وفور عقولهم وحلومهم ، وإن لم يكونوا من أهل الجدل والنّظر ـ على أنّ القوم قد اختصموا في هذا الباب بما لا يسوغ معه دخول الشّبهة عليهم فيه لو ساغ ؛ فعوّلوا على غيره ؛ لأنّ عادتهم جارية بالتّحدّي بالشّعر والتّعارض فيه ، والتّحاكم إلى الحكّام في تفضيل بعضه على بعض. ولم نجد أحدا منهم ـ في سالف ولا آنف ـ فزع عند تحدّي خصمه له بالقصيدة من الشّعر ، إلى سبّه وحربه! بل إلى معارضته بما يمكنه من الشّعر. وهذه عادة القوم مستقرّة مستمرّة ، لم تتخرّم في وقت من الأوقات ؛ فكيف عدلوا في باب القرآن عن عادتهم وطريقتهم لو لا أنّ معارضته متعذّرة وغير ممكنة؟!

__________________

(١) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.

٣٠٦

على أنّ الشّبهة الّتي تدّعي دخولها على القوم لا تخلو من أن تكون في أنّهم متمكّنون من المعارضة ، أو في أنّ حجّته عليه وآله السّلام تسقط بفعلها.

وليس يجوز أن يدخل عليهم في الأمرين شبهة ؛ لأنّهم يعملون قدر ما في إمكانهم (١) من الكلام الفصيح ، ويفرّقون بينه وبين ما ليس في وسعهم منه.

ولو أشكل هذا على كلّ أحد لم يجز أن يشكل عليهم ، وهم الغاية والقدوة في هذه المعرفة.

ولو فرضنا أنّ الأمر اشتبه عليهم ـ على بعده ـ لوجب أن يجرّبوا نفوسهم ويتعاطوا المعارضة ، ليعلموا حقيقة حالهم ، ولم يجز أن يعدلوا إلى غير ذلك ممّا لا تأثير له ، مع طمعهم في تأتّي المعارضة.

فأمّا الوجه الثاني : فبعيد من دخول الشّبهة أيضا فيه ؛ لأنّهم لا يصحّ أن يشكّوا في أنّ بالمعارضة تسقط عنه الحجّة فتزول التبعة إلّا وهم شاكّون في كيفيّة التّحدّي والاحتجاج.

وإذا كان لا شبهة على القوم في ذلك بما تقدّم بيانه ـ ولأنّه عليه وآله السّلام كان مصرّحا بالاحتجاج بتعذّر المعارضة ، وجاعلا امتناعها دليل نبوّته والعلم على صدقه ـ فقد بطل قول من تعلّق بدخول الشّبهة على القوم ، من حيث بيّنا أنّه لا وجه يصحّ أن تدخل منه.

والجواب عمّا ذكرناه ثالثا : إنّ اعتقادهم في المعارضة أنّها لا تبلغ مبلغ الحرب ، لا يخلو أن يكون اعتقادا ؛ لأنّها لا تبلغ مبلغها في سقوط الحجّة وحصول الغرض المطلوب ، أو في الرّاحة والاستيصال.

ومحال أن يعتقدوا الأوّل ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ ذلك ممّا لا يدخل فيه شبهة ، وكيف

__________________

(١) في الأصل : أماكنهم ، والمناسب ما أثبتناه.

٣٠٧

يصحّ دخولها فيه وهو عليه وآله السّلام مصرّح بأنّني إنّما بنت منكم بامتناع معارضتي عليكم ، وأنّكم متى أتيتم بمثل ما جئت به فلا [حجّة] لي عليكم؟!

فليس يصحّ أن يشكّكهم في أنّ بالمعارضة به دون غيرها تثبت حجّتهم ، وتسقط دعواه إلّا ما شكّكهم في الضّروريّات [و] أخرجهم عن كمال العقول.

وإن كانوا اعتقدوا القسم الثّاني فهو غير مؤثّر فيما يريده ، ولا مقتض للانصراف عن المعارضة ؛ لأنّه عليه‌السلام لم يتحدّهم بالقهر والدّولة ، ولم يدّع الإبانة منهم ؛ فإنّهم لا يتمكّنون من قتاله أو قتله وقتل أصحابه ، فتفزّعوا إلى الحرب الّتي هي أبلغ في هذه الأمور ، وأنّ ما تحدّاهم عليه وآله السّلام بما ذكرناه ممّا لا يؤثّر فيه.

ولو انتهوا فيها إلى غاية ما في نفوسهم من قتله عليه وآله السّلام وقتل أصحابه ، واستئصال أنصاره ، لم يدلّ ذلك على سقوط حجّته عنهم ، ولا شكّ العقلاء في أنّهم هم المقهورون بالحجّة ، وإن قهروا بالدّولة ؛ لأنّ المحقّ جائز أن يغلب ، كما أنّ المبطل جائز أن يغلب. والعقلاء لا يختارون لأنفسهم الدّخول فيما يكون الحجّة فيه عليهم مع مشقّته (١) ، ويعدلون عمّا تكون الحجّة فيه لهم مع سهولته.

هذا ، مع أنّهم في استعمال الحرب على خطب ؛ لأنّهم غير واثقين بالظّفر الّذي قد بيّنا إذا انحصل لم يكن فيه حجّة.

وليس هم في استعمال المعارضة على شيء من الخطر ، مع ثقتهم بأنّ حجّتهم بها تثبت ، ودعوى خصمهم عندها تسقط.

على أنّهم لو بدءوا بالمعارضة قبل الحرب لكانوا بين أمرين :

__________________

(١) في الأصل : مشقة ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٣٠٨

إمّا أن يتفرّق جمع عدوّهم ، وتزول الشّبه في أمره ، فتحصل الرّاحة من أجمل الطّرق وأقربها. أو أن يقيم قوم معه على العناد والخلاف ، فيستعمل حينئذ الحرب في موضعها ، وبعد الإعذار وإقامة الحجّة.

(ولو أنّهم لمّا لم يبتدءوا بالمعارضة ، إقامة الحجّة بالحرب حسم المادّة) (١) وبلوغ الغاية ، لكان ذلك أولى وأشبه باختيار العقلاء ، ممّا يدّعيه مخالفونا من إعراضهم عن المعارضة جملة مع الإمكان.

وبعد ، فقد كان يجب إن كان انصرافهم عن المعارضة إلى الحرب للوجه الّذي ذكر ـ لمّا جرّبوا الحرب مرّة بعد أخرى وعلموا أنّها لم تفض إلى مرادهم ، وأنّ آمالهم فيها لم تنجح ، بل كانت عليهم لا لهم ـ أن يرجعوا إلى المعارضة ؛ لأنّ الشّبهة الصّارفة عنها قد زالت.

على أنّ الحرب إنّما صاروا إليها بعد الهجرة ، وبعد مضيّ ثلاث عشرة سنة ؛ فإن كان (٢) عليه عدولهم عن المعارضة إلى ما قالوه فألّا فعلوها في السّنين المتقدّمة للحرب! فكيف عدلوا عنها في ذلك الزّمان وهم لم يهمّوا بعد بالحرب ولا خرجوا إليها؟

فيقول قائل : إنّهم آثروها لما ادّعي من قطع المادّة.

وكيف أمسكوا في تلك الأحوال عن المعارضة والحرب معا ، وعدلوا إلى (٣) السّفه والقذف والهجاء والسّبّ وما لا تدخل على عاقل شبهة في أنّه لا يؤثّر على المعارضة مع إمكانها؟

وبعد ، فكيف ارتكب القوم في باب القرآن خاصّة ما لم تجر عادتهم بارتكابه ،

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي العبارة اضطراب بيّن.

(٢) في الأصل : كانت ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : على ، وما أثبتناه هو المناسب.

٣٠٩

بل ما لم تجر عادة العقلاء ـ ولا الصّبيان ـ بمثله؟!

لأنّا قد بيّنا أنّ جميع من يتحدّى ويقرّع بالعجز عن بعض الأمور لا يجوز أن يفزع في المخرج منه إلّا إلى فعله ، إذا كان ممكنا ، وأنّ عدوله عنه مع ارتفاع الموانع دليل على تعذّره وقصوره عنه. وأشرنا إلى عادات جميع النّاس في هذا الباب ، وإن كنّا قد بيّنا أنّ للعرب في ذلك فضل مزيّة ، لاختصاصهم بعادة التّحدّي بالشّعر وما جرى مجراه والتّفاخر فيه ، وأنّ أحدا منهم لم يعدل عنه عند تقريع نظير (١) له ، وتحدّيه بقصيدة من الشّعر إلى حربه وقتاله ، ولا فعل ذلك واعتذر منه بمثل ما اعتذر به في ترك معارضة القرآن.

والجواب عمّا ذكرناه رابعا : إنّا قد بيّنا أنّ التّحدّي وقع بفعل ما يقارب القرآن ويدانيه ، لا بما يماثله على التّحقيق ، ولا شيء أدلّ على مقاربة ما يأتون به القرآن وأشباهه من وقوع الاختلاف بين أهل العلم بالفصاحة فيه ؛ لأنّ مثل ذلك لا يكون في البعيد المتفاوت ؛ فلو أتوا بما يختلف النّاس فيه هذا الضّرب من الاختلاف ، كانوا (٢) قد فعلوا ما وجب عليهم ، لأنّه لم يتحدّهم إلّا بهذا بعينه ، على ما تقدّم بياننا له.

على أنّ ما ذكروه لا يصحّ أن يكون مانعا من فعل المعارضة ؛ لأنّ أكثر ما في الأمر أن يكونوا إذا عارضوا اشتبه على قوم فاعتقدوا أنّهم لم يخرجوا عمّا وجب عليهم إذ أظهروا اعتقاد (٣) ذلك ، عنادا وعصبيّة ، وإن كان من عداهم من النّاس جميعا يعتقد خروجهم من الواجب ، ووقوع معارضتهم موقعها.

والعاقل لا يختار أن يكون عند جميع العقلاء ملوما محجوجا مشهودا عليه

__________________

(١) في الأصل : تقريع نظر ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : وكانوا ، وما أثبتناه هو المناسب.

(٣) في الأصل : اعتقادا ، والمناسب ما أثبتناه.

٣١٠

بالعجز والقصور ؛ خوفا من أن يشتبه على بعضهم أمره ؛ لأنّ ما خافوه من بعضهم ـ من ظنّ العجز بهم على طريق ـ قد لحقهم من جميعهم بالحجّة ؛ فكأنّهم خافوا أمرا يجوز أن يقع وألّا يقع ، ففعلوا ما يقطعون معه على وقوعه بعينه ، وزيادة عليه.

وبعد ، فقد بيّنا أنّ عدول من يتحدّى بفعل من الأفعال عنه دليل على تعذّره عليه ، وأنّه لا يعذره عند أحد من العقلاء أن يقول : إنّما تركت الإتيان بما دعيت إليه خوفا من أن يشتبه الأمر فيه ، ويظنّ بعض النّاس أنّني ما خرجت من الواجب.

والجواب عمّا ذكرناه خامسا : إنّه قد بيّنا في صدر هذا الكتاب أنّ المثل الّذي دعاهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإتيان به لا بدّ أن يكون مفهوما عندهم ، وأنّ الشّكّ لو اعترضهم فيه لاستفهموه ، لا سيّما مع تطاول زمان التحدّي وتماديه.

وذكرنا أنّ القوم قد استعملوا من ضروب الإعنات وصنوف الاقتراحات ، ما كان أيسر منه وأولى أن يستفهموه عن كيفيّة ما دعاهم إلى فعله ، وأنّهم لم يعدلوا عن الاستفهام إلّا بحصول العلم ، كما أنّهم لم يعدلوا عن المعارضة إلّا للتعذّر.

على أنّ القرآن إذا لم يكن معجزا ولا ممنوعا من معارضته ، فمماثلته من جميع وجوهه ممكنة غير متعذّرة ، فقد كان يجب لو شكّوا أن يعارضوا بما يقدرون عليه ؛ فإنّه ليس يصحّ إذا فرضنا ارتفاع الإعجاز أن نقيس مراده بالمثل بشيء يخرج عن إمكانهم.

والجواب عمّا ذكرناه سادسا : إنّ هذه الشّبهة أوّلا ، إنّما يصحّ أن ترد (١) على مذهب من يرى أنّ العادة انخرقت بفصاحة القرآن ، وأنّ جهة إعجازه هي الفصاحة ؛ فأمّا على مذهبنا في الصّرفة فلا وجه للتّعلّق بها ؛ لأنّ الأمر لو كان على ما قالوه من زيادة المأثور من كلام العرب وشعرها على القرآن في الفصاحة

__________________

(١) في الأصل : يزداد ، والمناسب ما أثبتناه.

٣١١

ووضوح العلم بالتّفاوت بينهما ـ وليس كذلك على الحقيقة ـ لما أخلّ بصحّة مذهبنا في الأعجاز ؛ لأنّ التّحدّي عندنا إنّما وقع بالصّرف عن أن يتسابقوا معارضة له ، تشابهه في الفصاحة وطريقة النّظم ، وذلك لمّا لم يكن فلا معتبر بما تقدّم من كلامهم ، لو وجد فيه ما يزيد على القرآن في الفصاحة أو يساويه.

ألا ترى أنّه عليه‌السلام لو جعل دليل نبوّته امتناع الحركة عليهم في وقت مخصوص لم يكن ما تقدّم من حركاتهم وتصرّفهم على اختيارهم حجّة عليه؟!

على أنّ الأمر في القرآن بخلاف ما ظنّوه ؛ لأنّ جميع الفصحاء وكلّ من له أدنى علم بهذا الشأن يعلم علوّ مرتبة القرآن في الفصاحة ، وأنّه أفصح الكلام وأبلغه.

وإنّما يقع الشّكّ ويحتاج إلى الاستدلال في أنّ هذه المباينة هل انتهت إلى خرق العادة أم لا؟

وهم إن لم يفرّقوا بين مواضع منه وبين فصيح كلام العرب ـ على ما تقدّم ذكره ـ فليس ذلك بنافع في هذه الشّبهة ؛ لأنّهم يعلمون فضل أكثره وجمهوره على كلّ كلام ، ويظهر لهم منه ما يحيّرهم.

وما لم تظهر فصاحته (١) لهم من جملته هذا الظّهور ، لم ينته عندهم إلى حدّ يطرح معه قول المحتجّ به ، ويقول فيه (٢) على حصول العلم وزوال الشّكّ. ومثل هذه الشّبهة لا يتشاغل بها محصّل.

على أنّ العقلاء إنّما يستحسنون الإعراض عمّن يتحدّاهم بما يكون الأمر فيه ظاهرا معلوما متى أمنوا اعتراض الشّكوك والشّبهات في تلك الحال ، وقطعوا على أنّها لا تعقب فسادا ، ولا يحصل لها شيء من التأثير. فأمّا إذا انتهت الحال إلى

__________________

(١) في الأصل : فصاحة ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) كذا في الأصل.

٣١٢

بعض ما انتهت إليه حال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من القوّة والظّهور ، وكثرة المستجيبين ، وتظاهر الأعوان والأنصار ، والتمكّن من الأعداء ، وبلوغ المراد فيهم ؛ فإنّ أحدا من العقلاء لا يعدّ الإمساك عن الاحتجاج والمعارضة هاهنا حزما ، بل غاية الجهل ونهاية العجز ؛ فقد كان يجب أن يكونوا كفّوا عن المعارضة ابتداء ، للعلّة الّتي ذكرت أن يسابقوها (١) عند بلوغ الأمر المبلغ الّذي ذكرناه.

وبعد ، فإنّ من يطّرح قوله ويعرض عن محاجّته ومواقفته ـ اعتقادا لظهور أمره ، وأنّ الشّبهة لا تعترض في مثله ـ لا يحارب ولا يغالب ، ولا تعمل الأفكار في نصب المكائد له وإيقاع الحيل عليه ، ولا يعارض بما لا شبهة في مثله ، ولا يقال له : لو شئنا [لقلنا] مثل قولك ف (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) (٢) ، ولا تقترح عليه الآيات ، ولا تبذل الأموال لمن يهجوه ويقذفه ؛ لأنّ كلّ شيء من هذه الأمور يدلّ على غاية الاهتمام ، ونهاية الحرص.

وكيف يعتقد عاقل أنّ ترك المعارضة كان على سبيل الاطّراح وقلّة الاكتراث ، كما يستعمل مع الأغبياء والمجّان ، ومن لا تأثير لفعله وقوله؟!

والجواب عمّا ذكرناه سابعا : إنّا لو سلّمنا جواز ما ظنّوه من مواطأة جماعة له على إظهار المعجز ، وفرضنا أيضا أنّ هذه الجماعة كانت أفصح العرب ، لم يكن ذلك بنافع لخصومنا في ردّ استدلالنا بالقرآن ؛ لأنّ غير هذه الجماعة ممّن لم يواطئ قد كان يجب أن يعارض بما يقدر عليه ويتمكّن منه ؛ فإنّ هذه الجماعة ـ وإن فرضنا أنّها أفصح ـ فليس يجوز أن يبعد كلامها من كلام من كان دونها في الفصاحة البعد التامّ ، حتّى لا يكون فيه ما يقاربه ويشابهه. بهذا جرت العادات في التّفاضل في جميع الصّنائع ، وقد بيّنا أنّ إتيانهم بما يقارب ويداني كاف في إقامة الحجّة ؛

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) سورة يونس : ١٥.

٣١٣

لأنّهم بذلك تحدّوا وإليه دعوا.

على أنّ من تأمّل الأمر حقّ تأمّله وجده بخلاف ما ظنّوه ؛ لأنّ وجوه الشّعراء وأعيان الفصحاء كانوا من غير جملة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن غير رهطه ، وإن اختلف الحال بهم :

فمنهم (١) من مات على كفره وانحرافه ، كالأعشى وهو في الطّبقة الأولى ، وغيره ممّن لم نذكره.

ومنهم من دخل في الإسلام بعد أن كان على نهاية العداوة والخلاف على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسّعي عليه ، والقدح في أمره ، ككعب بن زهير ـ وهو في الطبقة الثانية ـ ومن جرى مجراه ؛ فإنّ كعبا أسلم بعد أن كان أشدّ النّاس عداوة للرّسول عليه وآله السّلام ، حتّى أباح عليه‌السلام دمه وتوعّده.

ومنهم من كان إسلامه واتّباعه بعد زمان ، وبعد أن كان الخلاف منه معلوما وإن لم ينته إلى حال كعب ، ثمّ إنّه لمّا دخل في الإسلام لم يحظ فيه من المنزلة والاختصاص والمشاركة بما يظنّ معه المواطأة ، كلبيد بن ربيعة ، والنّابغة الجعديّ ، وهما في الطّبقة الثالثة ، ومن ماثلهما.

ولو ذكرنا أعيان شعراء قريش وغير قريش من الأوس والخزرج وغيرهم من المجوّدين في ذلك العصر وفصحاءهم وخطباءهم ، ومن مات منهم على شركه وكفره ، ومن أظهر الإسلام بعد العداوة الشّديدة والخلاف القويّ لاطلنا ، ومن أراد معرفة ذلك أخذه من مواضعه.

وبعد ، فإنّ المتقدّمين في صنعة من الصّنائع أو علم من العلوم ، لا يجوز أن يخفى حالهم على أهل ذلك الشّأن ؛ فقد كان يجب إذا كان الفضل في الفصاحة ـ

__________________

(١) في الأصل : فيهم ، والسياق يقتضي ما أثبتناه.

٣١٤

منتهيا إلى جماعة بعينها ـ أن تكون معروفة عند الفصحاء ، وكان يجب أن يفزعوا إليهم في فعل المعارضة ويطالبوهم بها ، فمتى امتنعوا عليهم ودافعوا بفعلها ، علموا أنّهم مواطئون موافقون ، ولم يمسكوا عن مواقفتهم ومواقفته صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك وإعلامه أنّه لا حجّة عليهم فيما أظهره ، لا سيّما إذا انضاف إلى هذا أن يظهر اختصاص هذه الجماعة به وانتفاعهم بأيّامه ومشاركتهم في أمره ؛ لأنّ الغرض بإظهار المعجز إذا كان ما ذكرناه فهو إذا وقع لا بدّ أن يظهر ، ولا يصحّ أن ينكتم.

على أنّ تجويز ما ذكروه يقتضي دفع طريق العلم بأنّ أحدا من النّاس بان في زمن من الأزمان من أهل عصره في علم من العلوم ، أو صنعة من الصّنائع ؛ لأنّا لا نأمن على هذا القرآن أن يكون في عصر كلّ فاضل علمنا فضله واشتهرت عندنا حاله ، جماعة يزيدون عليه في الفضل ، واطأهم على إظهار العجز عن حاله ، والإمساك عن إظهار مثل ما أظهره ، لبعض المنافع!

وليس يؤمن من تجويز ما ذكرناه إلّا ما يؤمن من الأوّل ، ويبطل قول المتعلّق به.

٣١٥
٣١٦

فصل

في أنّ تعذّر المعارضة كان مخالفا للعادة

إذا ثبت بما قدّمناه تعذّرها فليس يمكن أن يدّعى دخول التّعذّر فيما جرت العادة بمثله ، إلّا بأحد الوجوه الّتي ذكرناها ، مثل قولهم : إنّه كان أفصحهم ، أو تعمّل للقرآن فتأتّى (١) منه ما تعذّر عليهم. أو منعهم عن المعارضة بالحروب. أو امتنعوا منها خوفا من أصحابه ونصّاره ، من حيث كانت قوّة الدولة ، واجتماع الكلمة يحسمان ويمنعان من استيفاء الحجج ، والتّصرّف فيها عن الاختيار.

وهذا الوجه الأخير خاصّة يمكن أن يجعل قدحا في ثبوت الدّواعي إلى المعارضة ، من حيث كانت هذه الأمور المذكورة ـ إذا صحّت ـ غيّرت أحوال الدّواعي ، فلحق بالفصل المتقدّم ، وإن كان لحوقه بهذا الفصل من حيث أمكن أن يجعل ما ذكر كالمانع من المعارضة.

فإذا أبطلنا هذه الوجوه لم يكن وراءها إلّا أنّ التّعذّر كان على وجه يخالف العادة ، وحينئذ يعود الأمر إلى الأقسام الّتي ذكرناها في صدر هذا الكتاب وأبطلناها ، عدا القول بالصّرفة منها ، ونحن نتكلّم على ما أوردناه من الوجوه :

__________________

(١) في الأصل : فيأتي ، والمناسب ما أثبتناه.

٣١٧

أمّا تعلّقهم بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أفصحهم ، فيسقط من وجوه :

أوّلها : إنّ كونه أفصحهم لا يمنع من أن يقارب كلامهم كلامه مقاربة قد جرت بمثلها العادة ؛ لأنّه ليس يصحّ في العادة أن يتقدّم أحد في شيء من الصّنائع حتّى لا يقاربه فيها غيره ، بل لا بدّ ـ وإن انتفت (١) المساواة ـ من المقاربة. وقد مضى أنّه تحدّاهم بأن يأتوا بما يقاربه لا بما يماثله على التّحقيق ؛ فقد كان يجب أن يعارضوا وإن كان أفصحهم.

على أنّا قد بيّنا أنّ التحدّي وقع بالقرآن [من جهة] المعارضة ؛ فيعلم أنّهم عنها مصروفون ، وأنّه إنّما طالبهم بأن يفعلوا من الكلام ما كان المعلوم من حالهم تمكّنهم منه وأنّه الغالب على كلامهم دون ما تشكل الحال فيه ، وذلك يسقط التعلّق بكونه أفصحهم ؛ لأنّه لم يطالبهم إلّا بما يعهدون ويعرفون من الفصاحة على طريقتنا.

وثانيها : إنّ الأفصح وإن امتنعت مساواته من جميع كلامه ؛ فإنّ مساواته في البعض غير ممتنعة ، بهذا جرت العادات.

ألا ترى أنّ من كان في الطّبقة الأولى من الشّعراء ـ وإن كانوا قد بانوا من سائر أهل الطّبقات وتقدّموهم في الفصاحة ـ فإنّه لا بدّ أن يكون في كلام من تأخّر عنهم ما يساوي كلامهم بل ربّما زاد عليه ، ولهذا نجد كثيرا من المحدثين يساوون [شعراء] الجاهليّة ويماثلونهم في مواضع كثيرة من كلامهم ـ وإن كان المتقدّمون يفضلونهم في جملة كلامهم وعمومه ـ فقد كان إذا كان التّحدّي وقع بسورة من عرضه ، وإن قصرت ، أن يعارض ولا يمنع التقدّم في الفصاحة من معارضته.

وثالثها : إنّ هذا لو كان جائزا لكان القوم الّذين تحدّوا بالقرآن فعجزوا عن معارضته ، إليه أهدى وبه أعلم ؛ فكان يجب أن يواقفوه على ذلك ويحتجّوا به ،

__________________

(١) في الأصل : وارتفعت ، ولا معنى لها هنا ، والظاهر ما أثبتناه.

٣١٨

ويقولوا له : وما في تعذّر معارضتك ممّا يدلّ على نبوّتك ، وأنت إنّما أمكنك الإتيان بما تعذّر علينا لفرط فصاحتك لا لمكان نبوّتك ، وما تقدّمك في هذا الباب إلّا كتقدّم فلان وفلان في كذا وكذا من لا حجّة في تقدّمه ، ولا نبوّة له ، ولا عادة انخرقت على يده! وفي إمساكهم عن هذا ـ مع أنّ مثله لا يذهب عليهم ـ دليل على أنّ الأمر بخلافه.

ليس لهم أن يقولوا : إنّما لم يقرّوا له بالفصاحة والتّقدم فيها للأنفة الّتي كانت طريقتهم وعادتهم ؛ لأنّهم إنّما يأنفون من الاعتراف بمثل ذلك في الموضع الّذي يقتضي الاعتراف به نقصا يلحقهم (١) ، وضررا يدخل عليهم ، وشهادة لخصمهم بما يعظّم أمره وينوّه باسمه.

وليس هذه حال الاعتراف بما ذكرناه في القرآن ؛ لأنّهم إذا اعترفوا بذلك ووافقوا عليه ، كان فيه تكذيب للمحتجّ عليهم ، وصرف الوجوه عنه ، وإزالة الشّبهة في أمره ، والخلاص ممّا ألزمهم الدّخول فيه.

فأيّ نقص وضرر يدخل بهذا الاعتراف؟ وهل النّقص (٢) الشّديد والضّرر الحقيقيّ إلّا في الإمساك عن المواقفة (٣) والصّبر على المذلّة؟

ولو كان يلحقهم بالاعتراف بعض العار لكان ما يثمره هذا الاعتراف من وجوه المنافع ويصرفه من (٤) ضروب المضارّ وصنوف الصّغار (٥) ، يوفي عليه ويلجئ إلى المبادرة إلى فعله.

__________________

(١) في الأصل : بغصا ويلحقهم ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : وعلى البغض ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : الموافقة ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٤) في الأصل : عن ، والمناسب ما أثبتناه.

(٥) الصّغار : الضّيم والذّل والهوان ، سمّي بذلك لأنّه يصغّر إلى الإنسان نفسه.

٣١٩

ورابعها : إنّا قد علمنا أنّ حال كلامه عليه‌السلام كحال كلام غيره إذا أضفناهما إلى القرآن ، وليس لشيء من كلامه مزيّة في هذا الباب. ولو كان القرآن من كلامه ، وتعذّرت معارضته ـ لأنّه أفصحهم ـ لظهر ذلك في كلامه.

وليس لهم أن يقولوا : إنّه تعمّل لإخلال ما عدا القرآن من كلامه من مثل فصاحته ؛ لأنّا قد علمنا من حاله عليه وآله السّلام أنّه قصد في مواضع كثيرة ومقامات عدّة ، إلى إيراد الفصيح من الكلام والبليغ من الخطاب ، وكلامه في كلّ ذلك غير متميّز من كلام غيره من الفصحاء. والاعتماد على ما تقدّم من الوجوه ؛ لأنّه أولى وأوضح.

فأمّا التّعلّق بأنّه تعمّل للقرآن زمانا طويلا فتأتّى منه ما تعذّر [عليهم] ، فيسقط بالوجوه الأربعة الّتي ذكرناها. ووجه سقوطه بالوجوه (١) الثّلاثة المتقدّمة واضح يغني عن التّنبيه.

وأمّا وجه سقوطه بالرابع ، فهو : أنّ من تقدّم في الفصاحة وعلت منزلته فيها لا يجوز أن يباين كلامه ـ الّذي لا يرتجله ولا يروّي فيه ـ لما يتعمّل (٢) غاية المباينة ، بل لا بدّ أن يكون فيما لم يتعمّل له مثل الّذي ، يروّي فيه ويتعمّل لإيراده ، أو ما يدانيه ويقاربه ؛ بهذا جرت العادات.

وإذا وجدنا كلامه عليه وآله السّلام ـ بالإضافة إلى القرآن ـ ككلام غيره ، بطلت هذه الشّبهة.

وممّا يبطلها زائدا على ما تقدّم : أنّ السّبب في ذلك لو كان التعمّل لوجب ، مع تطاول الزّمان ، أن يتعمّلوا ويظفروا بما دعوا إليه من المعارضة ، وقد تحدّاهم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن مدّة مقامه بمكّة ، وهي ثلاث عشرة سنة ، لم يتخلّلها شيء من الحروب ،

__________________

(١) في الأصل : بالوجه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) كذا في الأصل ، والظاهر : ما يتعمّل له.

٣٢٠