الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

على أنّه لو قدّرنا أنّ بين الجماعة الّتي وصفنا حالها وكثرتها نبيّا أو رجلا صالحا يتّفقون على ولايته وتعظيمه ، ويتديّنون بدفع المكاره عنه ، وأنّ بعض الظّالمين جمعهم وسألهم عن مكانه ، وغلب في ظنونهم أنّهم إن دلّوه على موضعه قتله ، لعلمنا أنّهم لا بدّ أن ينكروا معرفة مكانه ، ويمتنعوا من الإرشاد إليه ؛ وإن قوي في نفوسهم أنّ النّبيّ أو الصّالح لا ينجو من يد هذا الظّالم ، وأنّه لا ينتهي عن البحث عنه والتنقير (١) عن مكانه إلّا بأن يخبروه بأنّه قد خرج عن بلدهم وبعد عنهم ، لم يمتنع أيضا أن يخبره الجماعة بذلك.

فقد جاز على الجماعة الكثيرة أن تدّعي في الشّيء الواحد ما يعلم خلافه ، وتكتم الشّيء الواحد الّذي يقف على مكانه.

فأمّا التشنيع بكتمان الجسر فإنّما يبعد كتمان مثله ؛ لأنّه لا داعي يدعو إليه ، ولشهرة مكان الجسر أيضا ، وأنّه ممّا يظهر عليه بأهون سعي وأيسر أمر ، ولكثرة عدد المخبرين عنه والعارفين به. وما يكون الكتمان نافيا لخبره وماحيا لأثره ليس كذلك.

ولكن ليس ينكر أن يكون لأهل البلد في أحد جانبيه ذخائر جمّة وودائع وتجارات كثيرة وبضائع ، ويقصدهم من الجانب الآخر بعض الجائرين ؛ فيسألهم عن مكان الجسر ليعبر عليه ، فيحوز أموالهم. وهم يعلمون أنّ سؤاله لذلك لا لغيره ، وأنّه لا يجد مخبرا عن الجسر سواهم ، وليس ممّن يطول مقامه بينهم فيقف على مكانه بنفسه أو ببعض أصحابه ، فلا بدّ أن يتلقّوه (٢) جميعهم بالجحود والإنكار ، سواء أفرد كلّ واحد منهم بالسؤال أو ضمّه إلى غيره. بل هؤلاء وحالهم هذه ملجئون إلى الكتمان وترك الاعتراف.

__________________

(١) نقرت عن الأمر : إذا بحثت عنه.

(٢) في الأصل : أن يتلقّاهم ، والمناسب ما أثبتناه.

١٠١

وإذا جاز هذا على الجماعات الكثيرة على وجه من الوجوه ، فقد بطل ما اعترض به السّائل وزالت شناعته.

وبعد ، فقد قال القوم للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو نشاء لقلنا مثل هذا ؛ وهم يعلمون من أنفسهم ضرورة خلاف ذلك ، ويعلمون أيضا أنّ كلّ سامع لهذا الكلام من الفصحاء يعلم كذبهم فيه ، ولم يمنعهم ـ وهم كثير ـ العلم الضّروريّ من ادّعاء خلافه ، فكذلك [لم] يمنعهم علمهم بفضل فصاحة القرآن على فصاحتهم من أن يدّعوا في بعض كلامهم أنّه مماثل له. بل إذا جاز عليهم الأوّل ـ وليس ممّا يدخل به شبهة على أحد ـ كان الثّاني أولى بالجواز وأحرى ، وهو ممّا يوقع كلّ شبهة ويوجب كلّ شكّ. وهذا بيّن لناظر.

فإن قال : هذا القول ـ وهو : لو نشاء لقلنا مثل هذا ـ إنّما قاله (١) أميّة بن خلف الجمحيّ (٢) ، والواحد يجوز عليه الإخبار بما يضطرّ إلى خلافه ، إذا فرط غضبه وقويت عصبيّته. وليس كذلك الجماعات الكثيرة ، وكلامنا إنّما هو على جميع الفصحاء الّذين لا يجوز هذا عليهم!

قيل له : إن كان قائل هذا هو أميّة بن خلف الجمحيّ ـ حسب ما ذكرت ـ فما رأينا أحدا من الفصحاء كذّبه ولا بكّته (٣) ، وقد سمعوا كلامه واتّصل بهم!

والإمساك في مثل هذا الموضع وإظهار الرّضا يقوم مقام المشاركة في الدّعوى والتّصديق لها ، فألّا وقعت المعارضة أيضا من أحدهم لقوّة الغضب

__________________

(١) في الأصل : قال.

(٢) هو أميّة بن خلف بن وهب الجمحيّ القرشيّ ، من سادات قريش وجبابرتها في الجاهليّة ، وأحد رءوس الشكّ والضلال الذين عارضوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحاربوه إيذاء وتكذيبا وسخرية وتعذيبا للمسلمين. شارك في وقعة بدر فأسر ، وتولّى قتله بلال وخبيب.

(٣) بكّته : عيّره وقبّح فعله.

١٠٢

والعصبيّة؟ فإنّ جميع الفصحاء حينئذ كانوا يمسكون عن تكذيبه والرّدّ عليه ، ويظهرون الرّضا بفعله والتّصديق لقوله ، كما أمسكوا عن أميّة بن خلف وهم مضطرّون إلى تكذيبه وبهته.

وبعد ، فلم يلزم أن تقع المعارضة من سائر الفصحاء حسب ما ظننت ، وإنّما ألزمنا وقوعها في الجملة.

وخصومنا ـ إن أحالوا على الجمع الكثير الّذين لا يجوز عليهم التّلاقي والتواطؤ والإخبار بما يضطرّون إلى بطلانه ـ فهم يجيزون ذلك على النّفر والجماعة الّتي يصحّ في مثلها التواطؤ ، فكيف لم تقع المعارضة من عدّة هذه صفتهم؟

فإن عاد السّائل إلى أن يقول : لو عارض مثل هؤلاء بما لا يماثل في الحقيقة ، لما وافقهم الباقون من الفصحاء ، ولا أمسكوا عن تكذيبهم!

قلنا لهم : فقد أظهروا موافقة أميّة بن خلف الجمحيّ وأمسكوا عن تكذيبه ، اللهمّ إلّا أن تريد ما كان يمسك عنهم من كان في جهة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهذا ما قدّمنا فيه التّماثل.

على أنّا لو طالبناك ـ أيّها السّائل ـ بالدّلالة على أنّ عدّة الفصحاء الّذين يعلمون فضل فصاحة القرآن على فصاحتهم وخروجه عن عادتهم ، كانت في ذلك الوقت كثيرة ، يستحيل في مثلها التواطؤ ؛ لأتعبناك أو أعجزناك ؛ لأنّ الفصحاء وإن علمنا وفورهم في أزمان التحدّي وظهورهم ، فليس كلّ من جاد في الفصاحة طبعه ، وعلت منزلته ، وتصرّف في النّثر والنّظم ، يجب أن يعلم ما ذكرناه ؛ لأنّا نرى في زماننا وفيما تقدّمه ، من هذه صفته ، وهو لا يفرّق بين مواضع من القرآن ، وفصيح كلام العرب في الفصاحة. وما لا يزال يقال في مثل هذا من أنّ أولئك كانوا على الفصاحة مطبوعين ومن عادتهم لها مكتسبين ، لا يغني شيئا.

١٠٣

لأنّ القوم وإن كانوا مطبوعين على الفصاحة ، فقد كانوا يتفاضلون فيها تفاضلا شديدا ؛ فليس ينكر أن ينتهي بهم التفاضل إلى أن يكون الفاضل منهم هو الّذي يعلم مزيّة فصاحة القرآن وفضيلته ، والمفضول لا يعلم ذلك وإن كان مطبوعا. وكما افترقوا في المنزلة والطبقة مع اتّفاقهم في الطّبع ، وكذلك يفترقون في هذه المعرفة وإن اتّفقوا في الطّبع.

فإن قال : فلعلّ أميّة بن خلف لم يرد بقوله : «لو نشاء لقلنا مثل هذا» المماثلة في الفصاحة ، وإنّما أراد مثله في بعض الوجوه الّتي يتمكّن فيها من مساواته ، وهذا يسقط الاحتجاج بقوله.

قيل له : كيف يريد ذلك وهو يعلم ضرورة ـ وكلّ من سمع التّحدّي أو اتّصل به خبره ـ الفرض فيه ، وأنّهم دعوا إلى الإتيان بمثل القرآن في الفصاحة ، أو في النّظم والفصاحة معا ، حسب ما نصرناه؟

وهذا القول إنّما وقع منه عند التقريع بالقرآن والمطالبة بفعل مثله ، فليس يكون إلّا مطابقا لمعنى التحدّي.

ولئن جاز أن يورد ذلك على سبيل التّمويه والتلبيس ـ فيطلق هذا اللّفظ الّذي ظاهره يدلّ على ادّعاء التمكّن من الإتيان بمثله في الوجه الذي وقع التّحدّي به ـ ولا يريد هذا بل يضمر شيئا آخر ، ما اقتضاه التحدّي أيضا أن يدّعي هو أو غيره من العرب ـ في بعض الكلام الفصيح ـ أنّه معارضة للقرآن ؛ وإن لم يكن مماثلا في الحقيقة ولا مقاربا. ويضمر أنّ ما ادّعى ذلك فيه مثل للقرآن من بعض الوجوه الّتي يساوي القرآن فيها غيره من الكلام ، ممّا لم يتوجّه التحدّي والتقريع به.

وقد فعل قريبا من هذا النّضر بن الحارث ؛ فإنّه ادّعى معارضة القرآن بأخبار رستم واسفنديار ، وأوهم أنّ التحدّي وقع بالقصص والإخبار عن الأمم السّالفة والقرون الغابرة ، ولم يمنعه علمه ـ بأنّ الّذي أتى به ليس بمعارضة عند أحد من

١٠٤

الفصحاء ـ من الإقدام على دعواه.

وإذا جاز أن يعارض النضر بن الحارث بما ليس بمعارضة للقرآن عند أحد من العقلاء ـ فصيحا كان أو أعجميّا ـ من حيث لم يطابق ما أتى به من معنى التحدّي المعلوم ضرورة ، جاز أيضا أن يعارض غيره من القوم ببعض الشّعر الفصيح أو الكلام البليغ ، ويدّعي فيه المماثلة في الوجه المقصود بالتحدّي ، ويكون هذا المعارض أعذر عند النّاس من النضر بن الحارث ، وأمره أقرب إلى اللّبس والاشتباه ؛ لأنّ بهته وكذبه لا يظهر إلّا لأهل الطّبقة العليا في الفصاحة أو لجماعتهم ، حسب ما يقترحه خصومنا.

والنّصر بن الحارث كذبه ظاهر لكلّ من عرف الغرض بالتحدّي بالقرآن ، وهم العرب والعجم جميعا. وهذا يؤكّد القول بالصّرفة ويوضحه.

فإن قال : كيف لم يصرف النّضر بن الحارث عمّا ادّعاه من المعارضة ، وصرف غيره من الفصحاء؟

قيل له : هذا ممّا قد تقدّم الجواب عنه ، عند الاعتراض بمسيلمة.

وإنّما صرف عندنا عن المعارضة من يحصل بمعارضته بعض الشّبهة. ولهذا لم يمكّن أحد من الفصحاء من معارضته ، ممّا له مع طريقته في النّظم أدنى فصاحة ، من حيث جاز أن يقع عند ذلك الشّبهة لمن لا قوّة له في العلم بالفصاحة.

فأمّا من لا شبهة على أحد بمعارضته ولا شكّ لعاقل في أمره ، فليس في صرفه فائدة ، بل تمكينه من فعله برهان على أنّ غيره مصروف عن المعارضة ، إذ لو كانت حاله في التخلية كحالة لساواه في الإتيان بالمعارضة.

وقد قلنا في الردّ على من ذهب في إعجاز القرآن إلى خرق العادة بفصاحته ، ونسب تعذّر المعارضة إلى أنّ الله تعالى لم يجر العادة بفعل العلوم الّتي يتمكّن بها من مثله ، قولا كافيا. وأوردنا على أنفسنا من الزيادات والمسائل ما لا نشكّ في

١٠٥

أنّه لم يخطر لأحد من أهل هذا المذهب ببال.

والحقّ ـ بحمد الله ـ لا يزداد على البحث وشدّة الفحص إلّا قوّة ووضوحا ، والباطل لا يلبث أن ينهتك ستره ، ويظهر أمره.

ونحن الآن رادّون على المذاهب الأخر الّتي حكيناها ، ليخلص القول بالصّرفة ، وتكمل في صحّته الحجّة ، ومن الله تعالى نستمدّ المعونة وحسن التّوفيق.

١٠٦

[مذهب جماعة المعتزلة]

[إعجاز القرآن في نظمه]

أمّا المذهب الذي حكاه أبو القاسم البلخيّ (١) عن جماعة المعتزلة ، وقوّاه ونصره من أنّ نظم القرآن وتأليفه يستحيلان من العباد ، كاستحالة إحداث الأجسام ، وإبراء الأكمه والأبرص. ولو لا ذلك لجاز أن يلحق هذا القول بالمذهب الأوّل ، وإن كان لم يصرّح به ؛ لأنّ من بدأنا بذكرهم لا يمتنعون من القول بأنّ القرآن غير مقدور للعباد ، على التأويل الصّحيح. وهم أيضا يدفعون أن يكون هناك منع ، أو عجز عن المعارضة ـ حسب ما حكى أبو القاسم ـ غير أنّ التأكيد بالمقال الّذي ذكره يمنع من ذلك (٢).

والّذي يبطل هذا المذهب : أنّ القرآن لا نظم له ولا تأليف على الحقيقة ، وإنّما

__________________

(١) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد الكعبيّ البلخيّ ، أصله من بلخ ـ مدينة في خراسان القديمة وافغانستان الحاليّة ـ عاش ببغداد وتتلمذ بها على أبي الحسين الخيّاط مدّة طويلة. يعدّ من منظّري المعتزلة وأئمّتها ، له آراء خاصّة وتلاميذ وأتباع عرفوا باسم (الكعبيّة) ، وله مصنّفات في الدفاع عن مذهبه وآرائه. توفّي ببلخ سنة ٣١٧ أو ٣١٩ ه‍.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٠ : «وأمّا مذهب البلخيّ فباطل ؛ لأنّه قال : إنّ نظم القرآن وتأليفه مستحيلان من العباد ، كاستحالة إحداث الأجسام ، وإبراء الأكمه والأبرص».

١٠٧

تستعار هذه اللّفظة في الكلام من حيث حدث بعضه في إثر بعض ، فشبّه لذلك بتأليف الجواهر.

وإذا لم يكن في الكلام معنى زائد على ذوات الحروف ، فكيف يصحّ أن تتعلّق به قدرة أو عجز ، حتّى يقال : إنّ تأليف القرآن يستحيل من العباد كاستحالة كذا وكذا؟ (١)

فأمّا الحروف فهي ـ أجمع ـ في مقدورنا ، ومن قدر على بعض أجناسها فلا بدّ أن يكون قادرا على سائرها.

والكلام كلّه ـ فصيحه وأعجميّه ـ يتركّب من حروف المعجم الّتي يقدر على جميعها كلّ قادر على الكلام. وإذا كانت ألفاظ القرآن غير خارجة عن حروف المعجم الّتي نقدر عليها ، لم يصحّ قول من جعله مستحيلا منّا كاستحالة الأجسام وغيرها من الأجناس الّتي لا يقدر المحدثون عليها! (٢)

فإن قال قائل : ما أنكرتم أنّ المراد بقول من جعل النّظم مستحيلا منّا ، غير ما ظننتموه من أنّ هناك معنى غير الحروف ، حسب ما يجب في تأليف الجواهر ، وأن يكون المراد بذلك وقوعه على هذا الترتيب.

وهذا الوجه من الفصاحة هو المستحيل منّا ، من غير إشارة إلى نظم في الحقيقة ـ هو غيره ـ أو تأليف ، ولذلك تعذّر (٣) الشّعر على المفحم ، والفصاحة

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٠ : «وإذا كان القرآن لا نظم له على الحقيقة ولا تأليف ، وإنّما يستعار فيه هذا اللفظ من حيث حدث بعضه في إثر بعض ، تشبيها بتأليف الجواهر ، فكيف يصحّ أن يقال تأليف القرآن مستحيل؟!».

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٠ : «وأمّا الحروف : فهي كلّها في مقدورنا ، والكلام يتركّب من حروف المعجم التي يقدر عليها كلّ قادر على الكلام. وألفاظ القرآن غير خارجة من حروف المعجم التي يقدر عليها كلّ متكلّم».

(٣) في الأصل : ما تعذّر ، وهو غير مناسب للسياق.

١٠٨

على الألكن ، وإن كانا قادرين على جميع أجناس الحروف (١).

ولو كان ما ذكرتموه ـ من أنّ الحروف إذا كانت مقدورة لكلّ أحد ولم يرجع بالكلام إلّا إليها ، فيجب أن يكون جميع ضروبه مقدورة ـ صحيحا لوجب أن لا يتعذّر الشّعر على ناطق ، ولا الكلام الفصيح على متكلّم ، وقد علمنا خلاف ذلك.

قيل له : إذا كان المراد بالنّظم والتأليف ما ذكرته ونشرته فهو صحيح غير مدفوع ، والذي أنكرناه غيره.

وقد قلنا في كلامنا : إنّ النّظم يستعمل في الكلام ، ويراد به توالي حروفه.

وقد يقال : إنّ نظم الشّعر مخالف لنظم [النّثر] (٢) ، بمعنى أنّ حدوث كلمات كلّ واحد منهما ـ في التقدّم والتأخّر والترتيب ـ يخالف الآخر ، إلّا أنّ ذلك لا يوجب كون نظم القرآن على هذا التفسير مستحيلا من العباد وغير مقدور لهم ؛ لأنّ من يقدر على الحروف هو قادر على تقديم إحداثها وتأخيره ، وضمّ بعضها إلى بعض وتفريقه.

وإنّما يتعذّر ذلك على من يتعذّر عليه لفقد العلم بكيفيّة تقديم بعض الحروف على بعض الوجوه (٣) الّتي إذا حدثت عليها كان الكلام شعرا أو خطابة ، أو غير ذلك.

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠١ : «وليس لهم أن يقولوا : إنّ مرادي بالنظم والتأليف هو الترتيب والفصاحة اللذان وقع القرآن عليهما ، من غير إشارة إلى تأليف كتأليف الأجسام. وأن يكون تعذّره كتعذّر الشعر على المفحم ، والفصاحة على الألكن ؛ وإن كانا قادرين على أجناس الحروف».

(٢) سقطت من الأصل ، وأضفناها لاقتضاء السياق.

(٣) غير واضحة في الأصل : فقد تقرأ : الواجه ، أو الوجه. ولعلّ المناسب ما أثبتناه.

١٠٩

يبيّن ما ذكرناه أنّ الأمّيّ يقدر على الكتابة ؛ لأنّ الكتابة ليست أكثر من حركات يده واعتماداتها بالآلة ، وهو قادر على سائر أجناس الحركات والاعتمادات ، وإنّما يتعذّر عليه الكتابة لفقد العلم.

وتعذّر الشّعر على المفحم والفصاحة على الألكن من هذا الباب أيضا ؛ لأنّ الشّعر لم يتعذّر على المفحم من حيث لم يكن قادرا على حروفه ، أو على إحداثها متقدّمة أو متأخّرة حتّى يقع شعرا ، وإنّما تعذّر ذلك عليه من حيث فقد العلم بكيفيّة تقديم الحروف وتأخيرها ، وضمّها وتفريقها.

فإن كان المعنى الّذي ذكرناه وفصّلناه (١) هو الّذي عناه أبو القاسم البلخيّ وذهب إليه ، فهو مخالف للفظ حكايته ، وملحق له بالمذهب الّذي رددناه عليه (٢).

وقد وجدت له في كتابه الموسوم ب «عيون المسائل والجوابات» (٣) ، كلاما في هذا الباب ، يدلّ على أنّه أراد شيئا فأساء العبارة عنه ، لأنّه قال :

«واحتجّ الّذين ذهبوا إلى [أنّ] نظمه ـ يعني القرآن ـ ليس بمعجز ، إلّا أنّ الله تعالى أعجز عنه ـ فإنّه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه ـ بأنّه حروف قد جعل بعضها إلى جنب بعض. وإذا كان الإنسان قادرا على أن يقول : «الحمد» ،

__________________

(١) في الأصل : وفصّلنا ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠١ : «إذا أردنا ما ذكره [و] فسّره ، فقد عبّر عنه بغير عبارته ، لأنّ الشعر لا يتعذّر على المفحم والفصاحة على الألكن ، لأنّ جنسيهما غير مقدور لهما. وإنّما يتعذّر ذلك منهما لفقد العلم بكيفيّة تقديم الحروف وتأخيرها ، كما تتعذّر الكتابة على الأمّيّ لفقد العلم لا لفقد القدرة ، فقد لحق مذهب أبي القاسم بالمذهب الأوّل الذي أبطلناه ، وإن كان أخطأ في العبارة عنه».

(٣) يعدّ هذا الكتاب من تراث أبي القاسم البلخيّ المفقود ، راجع الفهرست لابن النديم / ٢١٩.

١١٠

فهو قادر على أن يقول : «لله» (١) ، ثمّ كذلك القول في كلّ حرف. وإذا كان هذا هكذا فالجميع مقدور عليه ، لو لا أنّ الله تعالى أعجز عنه (٢).

ثمّ قال : قيل لهم : أوّل ما في هذا أنّ الأمر لو كان على ما ذهبتم إليه لكان الواجب أن يسخف نظمه ، ويجعله أدون ما يجوز في مثله ، ليكون العجز عنه أعظم في (٣) الأعجوبة ، وأبلغ في الحجّة.

ثمّ يقال لهم : وكذلك قول الشّاعر (٤) :

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السّواد المقبل

إنّما هو حروف ، لا يمتنع على أحد من أهل اللّغة أن يأتي بالحرف بعد الحرف منها ؛ فقد يجب أن يكون كلّ من قدر على ذلك ، فقد يجوز أن يقدر على مثل هذا الشّعر وأن لا يمتنع عليه.

فإن مرّوا على هذا وضح باطلهم ، وإن اعتلّوا بشيء كان مثله فيما تعلّقوا به» (٥).

__________________

(١) في الأصل : الله ، والمناسب ما أثبتناه وفقا لما في الذخيرة / ٤٠١.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠١ : «ووجدت له في كتابه الموسوم ـ ب (عيون المسائل والجوابات) ما يدلّ على أنّه أراد غير ما دلّ لفظه الذي حكيناه عليه ، لأنّه قال : واحتجّ من ذهب إلى أنّ نظم القرآن ليس بمعجز عنه : إلّا أنّ الله تعالى أعجز عنه ، وأنّه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه ؛ بأنّه حروف جعل بعضها إلى جنب بعض ، فإذا قدره الإنسان على أن يقول «الحمد» فهو قادر على أن يقول «الحمد لله» ، ثمّ كذلك كلّ حرف».

(٣) في الأصل : من ، وما أثبتناه أنسب للسياق.

(٤) هو حسّان بن ثابت ، والبيت له ، راجع ديوانه المطبوع ١ / ٧٤.

(٥) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠١ : «ثمّ قال البلخيّ ، يقال له : وكذلك قول الشاعر :

يعشون حتّى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل

إنّما هو حروف ، لا يمتنع على أحد من أهل اللغة أن يأتي بالحرف منها بعد الحرف ، فقد كان يجب أن يكون كلّ من قدر على الحروف لا يمتنع عليه الشعر».

١١١

وقد حكينا كلامه على وجهه وبألفاظه ، وهو دالّ على أنّ تعذّر مثل القرآن على العرب يجري مجرى تعذّر الشّعر الفصيح على المفحم. والشّعر الفصيح ليس يتعذّر على المفحم لأنّه مستحيل منه نظمه وترتيبه ، حسب ما ذكرناه.

فإن كان ما يقال في تعذّر الشّعر كقوله (١) هو في تعذّر القرآن فيجب بأن يصرّح بأنّ القرآن إنّما تعذّر لفقد العلم بمثل فصاحته ونظمه ، كما صرّح القوم الّذين رددنا عليهم ، ولا يعبّر عن ذلك بعبارة تدلّ على خلافه. اللهمّ إلّا أن يكون يعتقد أيضا أنّ الشّعر مستحيل من المفحم ، وهو غير قادر عليه. ويظنّ أنّه يجاب عن اعتراضه بتعذّر الشّعر بمثل هذا ؛ فذاك أسوأ لحاله ، وأشدّ لتخليطه! فكيف يكون الشّعر مستحيلا من المفحم ، وقد يعود المفحم شاعرا ، بعد أن كان مفحما. ولو كان ذلك مستحيلا لما صحّ أن يقدر عليه في حال ، كما لا يصحّ أن يقدر على الجواهر والألوان في حال.

ولو كان الشّعر غير مستحيل من المفحم ، لكنّه غير مقدور له لم ينفعه ذلك أيضا في تصحيح كلامه ؛ لأنّه لم يرض في القرآن بأن يقول : إنّه غير مقدور ، بل زعم أنّه يستحيل كاستحالة إحداث الأجسام منّا ، فكيف يحمل تعذّر الشّعر على تعذّر القرآن ويدّعي أنّ ما يعتلّ به في أحد الأمرين يعتلّ بمثله في الآخر ، وأحدهما مستحيل ، والآخر جائز وإن كان غير مقدور؟!

ولو قيل له في جواب اعتراضه : الشّعر إنّما يتعذّر على المفحم ـ لا من جهة أنّه يستحيل منه ـ بل لأنّه غير قادر عليه الآن ، وجائز أن يقدره الله تعالى عليه في المستقبل ، أليس ما كان يتمكّن من المقابلة بمثل ذلك في القرآن؟!

على أنّا قد بيّنّا قبل حكاية كلامه أنّ المفحم قادر على الشّعر ، وأنّ الشّعر ليس

__________________

(١) في الأصل : بقوله ، والظاهر ما أثبتناه.

١١٢

بأكثر من حروف يتقدّم بعضها ويتأخّر بعض. والمفحم قادر على جميع ذلك ، وإنّما يتعذّر عليه الشّعر لفقد العلم بتقديم هذه الحروف وتأخيرها وضمّها وتفريقها ، كما يتعذّر على الأمّيّ الكتابة لذلك ، لا لأنّه ليس بقادر على الحركات والاعتمادات (١).

وممّا يكشف عمّا ذكرناه [أنّ] الشّعر لو كان يتعذّر على المفحم ، لأنّه [غير] قادر عليه ، لم يتأتّ منه على سبيل الحكاية. وفي تأتّيه منه ـ إذا كان حاكيا ـ دليل على أنّه قادر. وإنّما تعذّر ابتداؤه له لفقد العلم ؛ لأنّ ما يتعذّر لارتفاع القدرة عليه لا يقع على وجه من الوجوه ، ما دامت مرتفعة ، ألا ترى أنّ من حلّ إحدى يديه عجز عن الحركة ، لا يقع منه تحريك هذه اليد ابتداء ولا احتذاء! (٢)

وبعد ، فهذا القول يؤدّي إلى أنّ جميع الصّنائع والأفعال الواقعة على الوجوه المختلفة غير مقدورة لمن تعذّرت عليه. ولو صحّ ذلك لارتفع الدّليل على إثبات العالم عالما ؛ لأنّا إنّما نستدلّ على إثبات العالم عالما للكتابة وما شاكلها من الأفعال المحكيّة عن (٣) بعض الفاعلين دون بعض مع اشتراك مع تعذّر عليه ومن

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠١ ـ ٤٠٢ : «وهذا الكلام يدلّ منه على أنّ تعذّر معارضة القرآن هو جهة تعذّر الشعر على المفحم. والشعر لا يتعذّر من المفحم ، لا لأنّه مستحيل منه ، ولا لفقد قدرته عليه. وإنّما يتعذّر لفقد علمه بكيفيّة نظمه وترتيبه. فإن ارتكب أنّ الشعر مستحيل من المفحم وهو قادر عليه فحش خطأه ، وقيل له : قد يعود المفحم شاعرا ، ولو كان الشعر يستحيل منه لما جاز أن يقدر في حال من الأحوال عليه. وقد بيّنا أنّ الشعر ليس بأكثر من حروف تقدّم بعضها على بعض. وجنس الحروف مقدور لكلّ قادر على الكلام من مفحم وغيره ، فكيف يكون ذلك مستحيلا؟! وإنّما أوجب تعذّر الشّعر على المفحم فقد العلم بغير شبهة».

(٢) يقال احتديت به ، إذا اقتديت به في أموره.

(٣) في الأصل : المحكمة على ، والمناسب ما أثبتناه.

١١٣

تأتّى منه في سائر الأوصاف الّتي أحدها كونهما قادرين على الفعل ، فلو كان من تعذّر عليه الفعل على بعض الوجوه غير قادر عليه ، نسبنا تعذّره إلى ارتفاع القدرة. وتأتّيه إلى حصولها لم يفتقر إلى العلم أصلا ، ولا كان لنا في إثباته سبيل. وفي هذا نقض لأصول التّوحيد والعدل ، على سائر المذاهب وجميع الطّرق.

وأمّا قوله : لو كان الأمر على ما ذهبتم إليه لكان الواجب أن يسخف نظمه ؛ فقد سألنا أنفسنا عن هذا فيما تقدّم على آكد الوجوه وأبلغها ، واستقصينا الجواب عنه.

ثمّ قال أبو القاسم ، بعد الكلام الذي حكيناه عنه :

«ويقال لهم : إنّا لسنا ننكر أن يكون الله تعالى صرف العرب عن المعارضة بلطف من ألطافه ، وإلّا فإنّه لم يكن بعجيب أن يقدم جماعة على أن يأتوا بكلام يقدرون عليه ، ثمّ يدّعون أنّه مثل القرآن في نظمه. فأمّا القدرة على مثل القرآن في الحقيقة فالقول فيه ما قلنا».

وهذا اعتراف منه بالصّرفة على بعض الوجوه ، وإذعان شطر مذهب القائلين بها. ولو قال في الجميع قولا واحدا ، وجعل تعذّر المعارضة على الوجهين جميعا للصّرفة لاستراح من التلزيق (١) الّذي لا يثبت على نظر ولا فحص!

وأمّا من ذهب في إعجاز القرآن إلى اختصاصه بنظم مخالف للمعهود فقد تقدّم كلامنا عليهم عند اعتراضنا بمذهبهم على أنفسنا ، وبيّنا أنّ التحدّي لو وقع بطريقة النّظم فقط لوقعت (٢) المعارضة من حيث كان النّظم لا يصحّ في معناه التّزايد والتّفاضل. ولا وجه يصحّ التحدّي به إلّا السّبق إليه ، ودللنا على أنّ السّبق إلى ما يجب وقوع المشاركة فيه لا تأثير له ، ومثّلنا ذلك بالسّبق إلى قول الشّعر في

__________________

(١) لزق ، يلزق ، لزوقا وتلزيقا : أي فعله من غير إحكام ولا إتقان.

(٢) في الأصل : لو وقعت.

١١٤

الابتداء ، وإلى كلّ عروض من أعاريضه ، وأنّه ممّا لا يصحّ ادّعاء الإعجاز به ، لأنّ المساواة فيه ممكنة. ودللنا على أنّ طريقة القرآن في النّظم لا يتعذّر احتذاؤها ولو بالكلام الّذي لا فصاحة له ولا فائدة فيه. وأنّه ولو بان من نظوم كلامهم المعهود ، فنظمه كالمعهود من حيث تمكّن من مساواته (١). واستقصينا ذلك استقصاء شديدا ، ولا طائل في إعادة ما مضى.

وممّا يبطل هذا المذهب ـ وإن كان ظاهر البطلان ـ ما قدّمناه ودللنا على صحّته من أنّ التحدّي وقع بحسب عرف القوم وعادتهم من حيث أطلق اللّفظ به وأحيلوا في معرفة الفرض على ما تقرّر في عادتهم.

وقد علمنا أنّه لا عهد لهم ولا عادة بأن يتحدّى بعضهم بعضا بطريقة نظم الكلام دون فصاحته ومعانيه ، وأنّ الفصاحة هي المقدّمة عندهم في التّحدّي ، والنّظم تابع لها.

وما نظنّ أنّ مميّزا يخفى عليه أنّ معارضة القرآن لو وقعت بالكلام الّذي لا فصاحة له ولا فائدة لدخل في معنى الهذيان ، و [لو كان] له مع ذلك طريقة القرآن في النّظم لكانت غير مؤثّرة ولا واقعة الموقع المبتغى ، وأنّ المطلوب بالتحدّي لم يكن هذا المعنى ، وأنّ الفصاحة إن لم تكن هي المقصودة بالتحدّي دون غيرها ، فلا بدّ من أن تكون مقصودة مع غيرها.

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٢ : «أمّا من ذهب الذاهب في جهة إعجاز القرآن إلى النّظم ، فربّما فسّر الذاهب إلى هذا المذهب قوله بما يرجع إلى الفصاحة والمعاني دون نفس النظم المخصوص. ومن فسّر بما يرجع إلى الفصاحة ، كان قوله داخلا فيما تقدّم فساده. وإن صرّح بأنّه أراد الطريقة والأسلوب ، فقد بيّنا أنّ طريقة النّظم لا يقع فيها تزايد ولا تفاضل ، ولا يصحّ التحدّي فيها إلّا بالسبق إليها ، وأنّ السبق لا بدّ فيه من وقوع المشاركة بمجرى العادة ، وأنّ كلّ نظم من النظوم لا يعجز أحد عن احتذائه ومساواته ، وإن كان بكلام قبيح خال من فصاحة. ومضى من هذا ما فيه كفاية».

١١٥

وهذا المذهب إنّما يكون منفصلا ممّا تقدّم من المذهبين إذا عنى الذاهبون إليه بنظم القرآن طريقته في النظم التي بان بها (١) من الشّعر المنظوم وضروب الكلام المنثور (٢). كما نقول إنّ نظم الشّعر مفارق لنظم الخطب ، ونظم الخطب مخالف لنظم الرّسائل ، ولا نعني بذلك الفصاحة ، ولا ما يتعلّق بالمعاني.

فأمّا إن هم عنوا بذلك الفصاحة ، أو ما يرجع إلى معنى الفصاحة ، بطل تمييز مذهبهم ممّا حكيناه ولحق بالمذهب الأوّل إن ذهبوا إلى أنّ تعذّره لفقد العلم لا لفقد القدرة ، وبالمذهب الثّاني إن ذهبوا إلى استحالته على كلّ وجه ، على حدّ ما حكاه البلخيّ عن نفسه وأصحابه.

[إعجاز القرآن في إخباره عن الغيوب]

وأمّا من جعل وجه إعجازه اختصاصهم بالإخبار عن الغيوب :

فإنّ قولهم يصحّ إذا ذهبوا إلى أنّ ذلك أحد وجوه جملة إعجاز القرآن ، وضرب من ضروب دلائله على النّبوّة ؛ لأنّا لا ندفع هذا ولا ننكره ، وهو من وجوه دلائل القرآن المذكورة ، وجهات إعجازه الصّحيحة.

فأمّا إن أرادوا اختصاصه بالإخبار عن الغيوب هو الوجه الّذي كان منه معجزا أو دالّا ، وأنّه لا يدلّ من غيره على النبوّة ، وأنّ التحدّي به وقع دون ما عداه ؛ فذلك يبطل من وجوه (٣).

__________________

(١) في الأصل : أنّها ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : المنثورة ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٢ : «وأمّا من ذهب في جهة إعجاز القرآن إلى ما تضمّنه [من] الإخبار عن الغيوب ، وهذا بلا شكّ وجه من وجوه إعجاز جملة القرآن ، وضروب من آياته ، والأدلّة على أنّه من الله تعالى ، وليس الوجه الذي قصد بالتحدّي ، وجعل العلم المعجز».

١١٦

أوّلها : أنّه يوجب أنّ في سور القرآن ما ليس بمعجز ولا يتحدّى به ؛ لأنّ كثيرا من السّور غير متضمّن للإخبار عن الغيوب. وقد علمنا أنّ التحدّي وقع بسورة من عرضه غير معيّنة ، وأنّه لم يتوجّه إلى ما يختصّ من السّور بالإخبار عن الغيب دون غيرها (١).

وثانيها : أنّ التحدّي لو وقع (٢) بذلك لكان خارجا عن عرفهم ، وواقعا على خلاف عادتهم. وقد بيّنا فيما مضى أنّ التحدّي لم يكن إلّا بما ألفوه وجرت عاداتهم في تحدّي بعضهم بعضا به.

وثالثها : أنّ أخبار القرآن على ضربين :

منها : ما هو خبر عن ماض ، كالأخبار عن الأمم السّالفة ، والأنبياء المتقدّمين.

ومنها : ما هو خبر عن مستقبل كقوله ، تعالى :

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (٣)

وقوله : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (٤)

وما أشبه ذلك من الأخبار عن الاستقبال الّتي وقعت ، غير أنّها وقع الخبر عنها (٥).

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٢ : «والذي يبطل هذا أنّ كثيرا من القرآن خال من خبر بغيب ، والتحدّي وقع بسورة غير معيّنة».

(٢) في الأصل : وقع لو وقع.

(٣) سورة الفتح : ٢٧.

(٤) سورة الروم : ١ ـ ٣.

(٥) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٣ : «وأيضا ، فإنّ الإخبار عن الغيوب في القرآن على ضربين : خبر عن ماض ، وخبر عن مستقبل. فالأوّل : إخبار عن أحوال الأمم السالفة. والثاني : مثل قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ...) ، وقوله تعالى :

١١٧

فأمّا القسم الثّاني : وهو الخبر عن المستقبل ، فإنّه إنّما يكون دالّا عند وقوع مخبره موافقا للخبر. وقبل وقوعه لا فرق فيه بين الصّدق والكذب ، اللهمّ إلّا أن تقع ممّن قد دلّت دلالة غير ذلك الخبر على صدقه. فيعلم صحّة الخبر بتلك الدّلالة المتقدّمة لا بنفسه.

ومعلوم أنّ الحجّة بالقرآن كانت لازمة لمن تحدّي به قبل وقوع مخبرات أخباره (١) المستقبلة ، وأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطالب القوم بالإقرار به ويدعوهم إلى التّسليم. ولم يفعل ذلك إلّا وهم يتمكّنون من الاستدلال على صدقه ، وغير مفتقرين في العلم إلى حضور زمان متراخ. وهذا يبطل أن تكون جهة إعجازه ممّا يتضمّنه من الإخبار عن الحوادث المستقبلة (٢).

فأمّا القسم الأوّل : وهو الإخبار عن الماضي ، فليس في أخبار القرآن عن الماضيات إلّا ما هو خبر عن أمر ظاهر شائع قد اشترك أهل الأخبار في معرفته ، أو عرفه كثير منهم. وكلّ ذلك ممّا ينكر المخالف أن يدّعي أنّه مأخوذ من الكتب ، ومتلقّن من أفواه الرّجال (٣).

وما يقوله قوم من المتكلّمين في هذا الموضع ـ من أنّ ذلك لو أخذ من الكتب

__________________

(الم* غُلِبَتِ الرُّومُ ...) وأمثال ذلك من الأخبار التي وقعت مخبراتها موافقة للإخبار عنها».

(١) في الأصل : مخبران اخباره ، والمناسب ما أثبتناه مطابقا لما في الذخيرة / ٤٠٣.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٣ : «والقسم الثاني : إنّما يكون دالّا إذا وقع عن مخبر مطابق للخبر ، وقبل أن يقع ذلك ، لا فرق بين أن يكون صدقا أو كذبا. ومن المعلوم أنّ الحجّة بالقرآن كانت لازمة قبل وقوع مخبرات هذه الأخبار».

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٣ : «فأمّا القسم الأوّل : فهو خبر عن أمور كائنة ومشهورة شائعة ، وذلك لا يسمّى خبرا عن غيب ، وليس في ذلك إلّا ما يمكن المخالف أن يدّعي أنّه مأخوذ من الكتب ، أو من أفواه الرجال».

١١٨

والرّجال لظهر وانتشر ، ولعرف الملقّن له ، والموقف عليه ، وزمان طلبه ، والاختلاف إلى أهله ، لا سيّما مع البحث والتنقير والتفتيش ، وإنّ العادات بهذا جارية (١) ـ ممّا لا يجوز أن يكل الله تعالى من ألزمه العلم بالنّبوّة إليه ، ويعوّل به (٢) عليه ؛ لأنّ أكثر ما فيه أن يكون ما ذكروه أشبه وأولى ، وليس يكون دليلا على النّبوّة إلّا ما أوجب اليقين المحض ، ورفع كلّ شكّ وتجويز. ومتى لم يكن هذا لم ينقطع عذر المكلّف به.

على أنّ الخبر عن الظّاهر من الأمور الماضية لا يوصف بأنّه خبر عن غيب ، وإنّما يوصف بذلك الإخبار عن الحوادث المستقبلة الّتي قد جرت العادة بأنّ البشر لا يحيطون علما بها ، ولا طريق لهم إلى معرفتها بالنّظر في النجوم وما جرى مجراها. وإن علموها فعلى طريق الجملة ، ويردّ الخبر عنها على سبيل التفصيل.

وقد يكون الإخبار عمّا مضى إخبارا عن غيوب ، إذا كانت واردة بما قد علم خفاؤه ، وفقد الاطّلاع عليه ، نحو الخبر عمّا (٣) أضمره الإنسان في قلبه ، وعرض (٤) عليه من فعله ، ولم يفشه إلى غيره ، أو ممّا فعله متفرّدا به ومستسرّا بفعله.

وليس في أخبار القرآن ما يجري هذا المجرى ، وإن كان في أخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله الخارجة عن القرآن ما يلحق بما ذكرناه ، فهو غير مخلّ بكلامنا ؛ لأنّنا إنّما نتكلّم فيما تضمّنه القرآن من الأخبار. وإذا لم يكن ذلك فيها صحّ ما أوردناه ، ووضح

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٣ : «فإذا قيل : لو كان ذلك لظهر وانتشر ، قيل : يمكن أن يقع على وجه من الخفاء لا يظهر. ثمّ أكثر ما يدّعى في وجوب ظهور ذلك ـ لو كان عليه ـ الظنّ ، فأمّا العلم اليقين المقطوع به فلا يجب حصوله».

(٢) في الأصل : بهم ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : ممّا ، وما أثبتناه هو المناسب.

(٤) كذا في الأصل ، ولعلّه : غمض.

١١٩

فساد قول من ذهب في إعجاز القرآن وقيام الحجّة به في الحال إلى الأخبار التي تضمّنها.

فإن قال : قد قلتم في صدر هذا الكلام : إنّ الإخبار عن الغيوب أحد وجوه إعجاز القرآن ، فعلى أيّ وجه يصحّ ذلك؟

قيل له : قد علمنا مبلغ ما يعرفه النّاس بتجاربهم وعاداتهم من أحكام الحوادث المستقبلة ، وأنّ ذلك لم يبلغ إلى أن يخبروا عن تفصيل ما يحدث على سبيل التّحديد والتّمييز ؛ لأنّ أكثر ما يعملونه من ذلك الجملة الّتي يرجعون فيها إلى العادة ، نحو علمهم بورود الحرّ والبرد في إبّانهما ، وطلوع الثّمار والزّروع في أوقاتهما.

والعلم بهذه الجملة لا يثمر العلم بالتّفصيل الّذي أوردناه ؛ لأنّا نحيط علما بأنّ أحدا من النّاس لا يمكنه أن (١) يخبر عن قوّة الحرّ والبرد في أيّام بعينها (٢). وتناقصه في أيّام بعينها. وحال الأيّام في العادة واحدة أو متقاربة في أنّها لا تقضي بخلاف بعضها لبعض في شدّة الحرّ ونقصانه ، فيقع مخبره وفقا لخبره.

وكذلك لا يجوز أن يخبر بعضنا بأنّ بعض ثمار السّنة المستقبلة سيفسد ويبطل ، وبعضها يزكو ويكثر على سبيل التّفصيل ، ويكون حال ما خبّر بصلاحه كحال ما خبّر بفساده في الحاجة إلى ما قد جرت العادة بصلاحه عليه من الحرّ والبرد والهواء والرّكود ، فيقع خبره صدقا.

وليس يجوز أن تكون صناعة النّجوم تكسب مثل هذا العلم ؛ لأنّ المستفاد بهذه الصناعة من أحكام الحوادث المستقبلة هو ما يجري مجرى الجمل دون التفصيل. ولهذا تجد أهلها يصيبون في ذلك في الأكثر ، وربّما أخطئوا ، كإخبارهم

__________________

(١) في الأصل : عن أن.

(٢) في الأصل : بعينه ، والمناسب ما أثبتناه.

١٢٠