الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

وقد تعلّق بعضهم بأنّ المراعى هو خرق العادة ، ولو كان القرآن مأخوذا من الغير على الوجه الّذي ذكرتم لم يخرج من حصول خرق العادة به ، لا سيّما والعادة جارية بأنّ مثل ما ادّعيتموه لو وقع لظهر وانتشر. وإذا لم يظهر فليس ذلك إلّا لأنّ الله تعالى شغل النّاس عنه ، وعدل بهم عن ذكره.

قالوا : فقد حصل ما نريده من خرق العادة على كلّ وجه.

وهذا بعيد جدّا ؛ لأنّ خرق العادة وإن كان حاصلا في القرآن فلم يحصل لنا اختصاص من ظهر على يده به على وجه يوجب أنّ العادة إنّما خرقت من أجله ، وعلى سبيل التّصديق له.

وخرق العادة غير كاف إذا لم تعلم ما ذكرناه من الاختصاص ، ألا ترى أنّ مدّعيا لو ادّعى النّبوّة وحصل علمه ببعض الحوادث البديعة الّتي قد تقادم وجودها ، ولم تقع مختصّة بدعوة أحد بعينه ، أو جعل (معجزته إحدى) (١) معجزات الأنبياء المتقدّمين وادّعى أنّه المخصوص بالتّصديق بذلك ، لم نحفل بقوله ، من حيث عدمنا فيما ادّعاه الاختصاص الّذي لا بدّ منه ، وإن كان خارقا للعادة.

هذا إذا نسبنا خرق العادة إلى الله عزوجل من حيث نزّل الكتاب. فإن نسبنا خرقها إلى من أظهره لنا ، وسمعناه من جهته ، وجعلنا إنزاله إلى من أنزل إليه غير معتدّ به في باب خرق العادة ، من حيث لم نقف عليه ، واعتبرنا في عادتنا ما اطّلعنا

__________________

على يده وعرفت أخباره وانتشرت ، فثابت لا محالة. وهو على خلاف ما تضمّنه السؤال ؛ لأنّه تضمّن أنّه أخذه ممّن لم يظهر له حال ، ولا وقف له على خبر سواه ، وكذلك العلم بأنّه لم يأخذه من غيره ، لا بدّ من أن يكون مشروطا بما ذكرناه ، وكيف يدّعي إطلاقا أنّه لم يأخذه من غيره ، وهو يذكر أنّ الملك نزل به عليه؟ فيجب أن يقولوا إنّه لم يؤخذ من أحد من البشر ، وإذا فرضنا أنّ المأخوذ منه ذلك من البشر لم يطّلع على حاله سواه ، لحق البشر في هذا بالملك».

(١) في الأصل : معجزة أحد ، وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

١٨١

عليه وأحطنا علما به ؛ فإنّ الكلام يكون أوضح (١) ، وسقوط الاحتجاج بما ذكروه أبين ؛ لزوال أن يكون الاختصاص وخرق العادة جميعا من قبل القديم تعالى.

فأمّا قولهم : إنّ مثل ذلك لو جرى لوجب ظهوره بالعادة ، وإذا لم يظهر فلأمر من قبل الله تعالى ؛ فليس بصحيح ؛ لأنّ العادة إن اقتضت ظهور أمثال ما ذكرناه وانتشاره ، فإنّما تقتضيه فيما وقع في أصله ظاهرا. والإلزام بخلاف ذلك ؛ لأنّهم إنّما ألزموا أن يكون مأخوذا ممّن لم يظهر على يده ، ولا سمع من جهته ، ولا اطّلع أحد غير آخذه على حاله ، والعادة لا تقتضي ظهور مثل هذا ، فمن ادّعى اقتضاءها لظهوره ـ وإن كان على ما مثّلناه ـ طولب بالدّلالة على صحّة قوله ، ولن يجدها!

وممّا تعلّقوا به أيضا ، أن قالوا : تجويز ما ألزمناه في القرآن يؤدّي إلى تجويز مثله في سائر معجزات الأنبياء صلوات الله عليهم ، ويقتضي الشّكّ في وقوع جميعها على هذا الوجه.

قالوا : فإن قيل لنا أنّ تلك المعجزات مباينة للقرآن من حيث علمت حادثة في الحال ، على وجه يوجب الاختصاص ويرفع الشّكّ.

قلنا : أليس من قبل أن ينكر المستدلّ ، فنعلم حدوثها في الوقت ، ووقوع الاختصاص التامّ بها ، يجوز فيها ما ذكرتموه؟

وإذا جوّز ذلك كان تجويزه منفّرا له عن النّظر فيها. فإن كان لو نظر لعلم ما أمن من وقوع التّنفير عن النّظر في أعلام سائر الأنبياء ، يؤمن من حصول ما ألزمناه في القرآن.

وليس هذا بشيء ؛ لأنّ تجويز المستدلّ النّاظر في المعجزات ـ قبل أن يعلم حدوثها ، وثبوت الاختصاص بها ـ أن تكون غير حادثة ، ولا مقتضية

__________________

(١) في الأصل : واضح ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

١٨٢

للاختصاص ، لا يقتضي التّنفير عن النّظر فيها حسب ما ظنّوه. وكيف نظنّ مثل ذلك ونحن نعلم أنّ النّاظر في كلّ علم من أعلام (١) الأنبياء عليهم‌السلام ، يجوّز قبل نظره فيه أن يكون مخرقة (٢) وشعبذة ، وغير موجب لتصديق من ظهر عليه ؛ لأنّه لو لم يكن مجوّزا لما ذكرناه لكان عالما بأنّه علم معجز. ولو كان عالما لم يصحّ أن ينظر فيه ليعلم أنّه معجز ، (وتجويزه أن يكون غير معجز في الحقيقة) (٣).

فإن كان ظاهره الإعجاز لا يقتضي تنفيره (٤) عن النّظر فيه ، بل نظره فيه واجب ، من جهة الخوف القائم ، وعدم الأمان من أن يكون المدّعي صادقا.

فكذلك حكم النّاظر في الأعلام ـ مع تجويزه أن تكون غير حادثة ولا مختصّة ـ لا يجب أن يكون تجويزه منفّرا عن النّظر ؛ لأنّ الخوف الموجب للنّظر والبحث قائم (٥).

وممّا يمكن أن يتعلّقوا به أن يقولوا : لو كان القرآن مأخوذا من نبيّ خصّه الله به وأنزله عليه لم يخل حاله من وجهين :

إمّا أن يكون قد أدّى الرسالة ، وصدع بالدّعوة ، وظهر أمره ، وانتشر خبره.

أو يكون لم يؤدّها.

فإن كان الأوّل : استحال أن يخفى أمره ، وتنطوي حال من قتله وغلبه على

__________________

(١) في الأصل : علم ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) أي ادعاء وكذبا.

(٣) كذا في الأصل : وتبدو العبارة غير مستقيمة.

(٤) في الأصل : بتغيّره ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٥) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٤ : «إنّ تجويز المستدلّ الناظر في المعجزات أن تكون غير حادثة ولا مختصّة لا يقتضي التنفير عن النظر فيها. وكيف يكون ذلك ويحسن أن كلّ ناظر في علم من أعلام الأنبياء عليهم‌السلام يجوّز قبل نظره فيه أن يكون مخرقة وشعبذة ، ولم يقتض ذلك تنفيره عن النظر فيه ، بل واجب نظره لثبوت الخوف وعدم الأمان من أن يكون المدّعي صادقا».

١٨٣

كتابه ، لا سيّما مع البحث الشّديد والتتبّع التامّ.

وإذا كنّا ـ مع ما ذكرناه من الفحص والبحث ـ لا نقف (١) على خبره من هذه صفته ، وجب القضاء ببطلانه.

وإن كان الثّاني : فالواجب على الله تعالى أن يمنع من قتله ليقوم بأداء الرّسالة ؛ لأنّه إذا كان الغرض ببعثته تعريفنا مصالحنا ، وتنبيهنا على ما لا نقف عليه إلّا من جهته ؛ فليس يجوز أن يمكّن الله تعالى من اقتطاعه عن ذلك ، كما لا يجوز أن يقتطعه هو عنه ، ولهذا يقال : إنّ النّبيّ إذا علم أنّ عليه شيئا من الرّسالة لم يؤدّه بعد ، فإنّه لا بدّ أن يكون قاطعا على أنّه سيبقى إلى أن يؤدّيه ، ويأمن القتل وغيره من القواطع عن الأداء.

وإذا فسد الوجهان جميعا ، بطل السّؤال (٢).

وهذا أيضا غير صحيح ؛ لأنّه ليس بمنكر أن يكون ذلك النّبيّ مبعوثا إلى واحد من النّاس ، فإنّ جواز بعثة الرّسل إلى آحاد النّاس في العقول ، كجواز بعثتهم إلى جماعتهم. وإذا جاز أن يكون مبعوثا إلى الواحد ، فما الّذي تنكر من أن يقتل هو والّذي بعث إليه معا ، وينتزع الكتاب من يده بعد أدائه الرّسالة وقيامه بتكليفها؟

أو يكون مبعوثا إلى الّذي قتله وأخذ الكتاب منه وحده ، ونقدّر أنّه أوقع القتل به بعد أداء الرّسالة ، حتّى لا يوجبوا على الله تعالى المنع من قتله.

__________________

(١) في الأصل : لا يقف ، والمناسب ما ذكرناه.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٥ : «وممّا يمكن أن يتعلّقوا به : أنّ القرآن لو كان مأخوذا من نبيّ خصّه الله تعالى به ، ولم يخل حاله من وجهين : إمّا أن يكون قد أدّى الرسالة ، وظهر أمره ، وانتشر خبره. أو لم يؤدّها.

وفي الوجه الأوّل : استحالة أن يخفى خبره وينطوي حال من قتله وغلبه على كتابه ، لا سيّما مع البحث الشديد والتنقير الطويل. وإن كان على الوجه الثاني : وجب على الله تعالى أن يمنع من قتله ، وإلّا انتقض الغرض في بعثته».

١٨٤

وأمّا الجواب الّذي ابتدأناه ووعدنا بذكره واستمراره على أصول الجميع ، فهو (١) : أنّ القرآن نفسه يدلّ على أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المختصّ به دون غيره ، فممّا تضمّنه ـ ممّا يدلّ على ذلك ـ قوله تعالى في قصّة المجادلة :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) إلى قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

وقد جاءت الرّواية بأنّ جميلة زوجة أوس بن الصّامت (٣) (وقيل : خولة بنت ثعلبة) ظاهر منها زوجها ، فقال : أنت عليّ كظهر أمّي! وكانت هذه الكلمة ممّا يطلق بها في الجاهلية ، فأتت المرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشكت حالها ، فقال عليه وآله السّلام : ما عندي في أمرك شيء! فشكت إلى الله تعالى.

وروي أنّها قالت للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فأنزل الله تعالى كفّارة الظّهار على ما نطق به القرآن (٤).

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٥ : «وقد كنّا ذكرنا في كتابنا الموضح عن إعجاز القرآن جوابا سديدا عن هذا السؤال ، يمكن أن نجيب من ذهب في القرآن إلى خرق العادة بفصاحته ، وإن كنّا ما قرأنا لهم في كتاب ، ولا سمعناه في مناظرة ولا مذاكرة ، وإنّما أخرجناه فكرة ، وهو أنّ القرآن عند التأمّل له يدلّ على أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المختصّ به ، والمظهر على يده دون غيره ، فما تضمّنه القرآن ممّا يدلّ على ذلك قوله تعالى في قصّة المجادلة ...».

(٢) سورة المجادلة : ١ ـ ٣.

(٣) هو أوس بن الصامت بن قيس بن أحرم الأنصاريّ الخزرجيّ ، وأمّه قرّة العين بنت عبادة ، وأخوه عبادة بن الصامت ، وزوجته خولة بنت ثعلبة الخزرجيّة. صحابيّ من الأنصار ، شاعر ، وكان به خفّة ومسّ من الجنون. وقصّة ظهاره مع زوجته التي كانت السبب في نزول آية الظهار معروفة مشهورة.

(٤) راجع : تفسير التبيان ٩ / ٥٤١ ، تفسير مجمع البيان ٩ / ٢٤٧ ، تفسير الطبريّ ٢٨ / ٢.

١٨٥

ومن ذلك قوله مخبرا عن المنهزمين عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم أحد (١) :

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (٢).

وقد وردت الرّواية في هذه القصّة مطابقة للتّنزيل.

وقوله تعالى (٣) : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٤).

وقد جاءت الأخبار بأنّ بعض الصّحابة قال في ذلك اليوم : لن نغلب اليوم من قلّة! وهو الذي عني بقوله تعالى : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).

وأنّ النّاس جميعا تفرّقوا عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأسلموه (٥) ، ولم يثبت معه في الحال غير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والعبّاس بن عبد المطّلب رحمة الله عليه ، ونفر من بني هاشم.

ومن ذلك قوله تعالى (٦) : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٧).

ووردت الرّواية بأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب على المنبر يوم الجمعة ، إذ أقبلت إبل لدحية الكلبيّ ، وعليها تجارة له ، ومعها من يضرب بالطّبل ، فتفرّق النّاس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإبل لينظروا إليها ، وبقي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عدّة قليلة ، فنزلت الآية المذكورة.

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٦ : «ومن ذلك قوله مخبرا عمّن انهزم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم أحد عنه وولّى عن نصرته ...».

(٢) سورة آل عمران : ١٥٣.

(٣) كذلك في كتاب الذخيرة / ٣٩٦.

(٤) سورة التوبة : ٢٤ ـ ٢٥.

(٥) أي تركوه.

(٦) كذلك في كتاب الذخيرة / ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٧) سورة الجمعة : ١١.

١٨٦

ومن ذلك قوله تعالى (١) : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

والقائل ـ حكي في الآية ، على ما أتت به الرّواية ـ عبد الله بن أبيّ بن سلول (٣).

ومن ذلك قوله عزوجل (٤) : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (٥).

والقصّة الّتي أنزلت هذه الآية فيها ، مشهورة ؛ لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إلى إحدى زوجاته سرّا ، فأظهرت عليه صاحبة لها من الأزواج أيضا ، وفشا من جهتها ، فأطلع الله تعالى على فعلهما النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعاتب المبتدئة بإظهاره ، فأجابته بما هو مذكور في الآية (٦). وشرح الحال معروف ، وقد أتت به الأخبار.

__________________

(١) كذلك في كتاب الذخيرة / ٣٩٧.

(٢) سورة المنافقون : ٨.

(٣) هو أبو الحبّاب ، عبد الله بن أبيّ بن مالك الأنصاريّ الخزرجيّ ، عاصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بدء الدعوة وكان يهوديّا ، وأصبح من أكثر المشركين إيذاء وحسدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى صار رأس النفاق في المدينة. أظهر الإسلام بعد وقعة بدر الكبرى نفاقا وبغيا وخوفا ، فحاول أن يخذّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين ويشمت بهم إذا حلّت بهم نازلة وينشر كلّ سيّئة يسمعها عنهم ، ولم يزل على كفره ونفاقه حتّى أصيب بمرض قضى عليه في السنة التاسعة للهجرة.

(٤) كذلك في كتاب الذخيرة / ٣٩٧.

(٥) سورة التحريم : ٣.

(٦) من الآيات النازلة بذمّ حفصة بنت عمر بن الخطّاب وعائشة بنت أبي بكر زوجتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث خالفتا النبيّ وتظاهرتا عليه وأفشتا سرّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعاتب عليه‌السلام إحداهما وأعرض عن الثانية ، والقضية مشهورة ثابتة والأخبار الواردة فيها متواترة. وإليك نصّ الخبر الذي يرويه البخاريّ ٦ / ٢٧٤ بسنده عن عائشة نفسها : «قالت : كان

١٨٧

ومن ذلك قوله تعالى (١) : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) إلى قوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢).

وما وردت به الرّواية من خروج النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] خائفا من قريش واستتاره في الغار ، وأبو بكر معه ، ونهيه له عمّا ظهر منه من الجزع والخوف مطابق لظاهر القرآن.

ومن ذلك قوله تعالى (٣) : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٤).

وعلى ما تضمّنت الآية جرت الحال بين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيد بن حارثة.

فأمّا قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ، فتأويله الصّحيح أنّ الله تعالى كان أوحى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يتزوّج امرأة زيد ، وأعلمه أنّه سيطلّقها ، وأراد تعالى بذلك نسخ ما كانت الجاهليّة عليه من حظر نكاح أزواج أدعيائهم على نفوسهم.

__________________

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها ، فواطأت أنا وحفصة عن أيّتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير ، [مغافير جمع مغفور وهو صمغ حلو وله رائحة كريهة] إنّي أجد منك ريح مغافير! قال : لا ، ولكنّي كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا».

(١) ورد الاستشهاد بالآية في كتاب الذخيرة / ٣٩٧.

(٢) سورة التوبة : ٤٠.

(٣) ورد الاستشهاد بالآية كذلك في كتاب الذخيرة / ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٤) سورة الأحزاب : ٣٧.

١٨٨

و «الدّعيّ» هو الغلام الذي يربّيه أحدهم ويكفل به ، ويدعوه ولده ، وإن لم يكن ولده في الحقيقة.

فلمّا حضر زيد لطلاق زوجته أشفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن يحسّن له طلاقها ، أو يمسك عن وعظه ، وأمره بالتأنّي والتثبّت ـ مع ما عزم عليه من نكاح زوجته بعده ، فيرجف (١) به المنافقون ، وينسبوه (٢) إلى ما قد نزّهه الله تعالى عنه وباعده منه ـ فقال له : «أمسك عليك زوجك» ، وأخفى في نفسه إرادته لطلاقها ، من حيث تعلّق عليه فرض نكاحها ، مراعاة لما ذكرناه.

وظاهر الآية يشهد بصحّة هذا التأويل شهادة تزيل الشّكّ وترفع الرّيب ، ولو لم يكن إلّا قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً).

وإنّما أحوجنا (٣) إلى ذكر تأويل الآية ـ وإن لم يكن ممّا نحن فيه ـ الخوف من أن يتعلّق به نفس ، فإنّ كثيرا من النّاس قد اشتبه عليه تأويلها ، ونسب إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لا يليق به.

ولما ذكرناه من الآيات المطابقة للحوادث الواقعة والقصص الحادثة ، نظائر يطول ذكرها في كثير (٤) من القرآن إن (٥) لم يكن أكثره.

وأردنا (٦) اقتصاص أخبار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مغازيه ووقائعه وفتوحه ، وما لقي

__________________

(١) أرجف القوم في الشيء : أي أكثروا من الأخبار السيّئة واختلاق الأقوال الكاذبة حتّى يضطرب الناس منها.

(٢) في الأصل : وينسبوها ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : أحرجنا ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في الأصل : وكثير ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٥) في الأصل : وإن ، ويبدو أن الواو زائدة.

(٦) كذلك في كتاب الذخيرة / ٣٩٨.

١٨٩

من أعدائه والمتظاهرين بحربه من الأقوال والأفعال المخصوصة ، ثمّ من المنافقين والمختلفين به ممّن أظهر الولاية وأبطن العداوة.

وندلّ أيضا بذكر ما كان الرّسول يسأل عنه إمّا استرشادا أو إعناتا ؛ كقصّة المجادلة الّتي حكيناها ، وكمسألتهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الرّوح ، وكقولهم :

(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (١).

فلو كان القرآن مأخوذا من نبيّ مخصوص به ، ليس هو من ظهر إلينا من جهته ، لم يخل الحال في الأخبار الواردة المطابقة للقصص والحوادث ـ الّتي حكينا بعضها وأشرنا إلى جميعها ـ من أمرين :

إمّا أن تكون مخبراتها واقعة فيما تقدّم ، حتّى تكون مثل جميع القصص والوقائع والأفعال والأقوال المذكورة ، قد جرى لذلك النّبيّ.

أو يكون لم يجر ذلك فيما تقدّم ، بل جرى في الأوقات الّتي علمناها ، وورد الخبر بوقوعه فيها. وتكون الأخبار المذكورة ـ وإن كانت بلفظ الماضي ـ إخبارا عمّا يحدث في الاستقبال (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٨ : «ولم تخل هذه الأخبار المطابقة القصص والوقائع والأفعال والأقوال والسؤالات والجوابات ، وقد جرى لذلك فيما تقدّم ، بل جرى في هذه الأوقات التي وردت الأخبار بوقوعها فيها. وتكون الأخبار ـ وإن كانت بلفظ الماضي ـ إخبارا عمّن يحدث في المستقبل ، فذلك جائز على مذهب أهل اللسان».

١٩٠

والقسم الأوّل يفسد من وجهين (١) :

أحدهما :

أنّ بعض هذه السّير والحوادث ـ فضلا عن جميعها ـ لو وقع متقدّما ، لوجب أن نعلمه نحن وكلّ عاقل سمع الأخبار وأحاط بأهلها علما لا تعترض فيه الشّكوك ، ولكان الخبر بذلك منتشرا مستفيضا كاستفاضة أمثاله.

وكيف لا يعلم حال (نبيّ لله تعالى كثر أعوانه) (٢) وأصحابه ، وكان منهم مهاجرون وأنصار ، ومناصحون ومنافقون. ونازل أعداءه ونازلوه ، وحاربهم (٣) في مواطن أخر (٤) وحاربوه ، وحاجّهم في مقامات معلومة وبأقوال مخصوصة وحاجّوه ، واستفتي ، وأنزلت به المعضلات ، واقترحت عليه الآيات والمعجزات ، وأظهر دينه وشرعه على سائر الأديان والشّرائع ، حسب ما تضمّنه القرآن؟! فأيّ طريق للشّكّ على عاقل في خفاء مثل هذا ، وكلّ الأسباب الموجبة للظّهور والاستفاضة المتفرّقة مجتمعة فيه ـ وإن كان أعداء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الظّهور على ما ادّعى ، والمواقفة (٥) عليه والاحتجاج به وعهدهم به قريب ، وهو واقع في

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٨ ـ ٣٩٩ : «والقسم الأوّل يبطل من وجهين :

أحدهما : أنّ ذلك لو جرى فيما مضى لوجب أن يعلمه كلّ عاقل سمع الأخبار ؛ لأنّ وجوب استفاضته وانتشاره يقتضي عموم العلم. وكيف لا نعلم حال نبيّ كثر أعوانه ، وكان منهم مهاجرون وأنصار ، ومخلصون ومنافقون ، وحارب في وقعة بعد أخرى وحورب ، واستفتي في الأحكام ، واقترحت عليه الآيات والمعجزات ، ولكان أعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يواقفون على هذه الحال ، ويسارعون إلى الاحتجاج بها. وإنّما استحقّ هذا السؤال تكلّف الجواب عنه ، لمّا تضمّن أنّ الكتاب أخذ ممّن لا يعرف له خبر ، ولا وقف له على أثر ، ولا بعث إلّا إلى الذي أخذ الكتاب منه!».

(٢) في الأصل : نبيّ الله تعالى كثرة أعوانه ، والمناسب ما أثبتناه موافقا لما في الذخيرة.

(٣) في الأصل : وحاربه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) في الأصل : في موطن آخر ، والظاهر ما أثبتناه.

(٥) في الأصل : والواقعة ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

١٩١

زمانهم وبلادهم ، وبأعينهم وأسماعهم؟! (١) وهذا ممّا لا يتوهّمه إلّا ناقص العقل ، خال من الفطنة!

وكلامنا إنّما وقع فيمن لم يظهر له على خبر ولا أثر ، ولا علم له ولا وليّ ولا عدوّ ، وفرض نزول الكتاب عليه في فلاة من الأرض لا أنيس فيها له ولا صاحب غير من قدّرنا أنّه قتله وأخذ الكتاب من يده.

فاستحقّ السّؤال بهذا الترتيب والتقدير بعض الجواب ، ولو كان متضمّنا لما ذكرناه آنفا لم يستحقّ جوابا ، لكان (٢) المتعلّق به مجنونا (٣).

والوجه الثّاني من إفساد القسم الأوّل :

أنّ ما حكيناه من القصص والسّير والحوادث والوقائع ، لو كان جرى متقدّما لاستحال أن يتّفق حدوث أمثاله وما هو على سائر صفاته ؛ لأنّ استحالة ذلك في العادة معلوم لكلّ عاقل ضرورة ، بل معلوم عند العقلاء أنّ حدوث مثل قصّة واحدة تقدّمت في سائر صفاتها وخصائصها ، حتّى لا تغادر شيئا ، مستحيل. ولهذا نحيل أن يبتدئ الإنسان قصيدة من الشّعر أو كتابا مصنّفا ، فيتّفق لجماعة أو واحد مواردته في جميع قصيدته أو كتابه حرفا بحرف.

وإذا كنّا قد أحطنا علما بحدوث مخبرات الأخبار ـ الّتي أشرنا إليها ـ على يد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومتعلّقة به وبزمانه ، مطابقة للقرآن ، فقطعنا على أنّ أمثالها وما هو مختصّ بجميع صفاتها لم يقع فيما مضى. وكان ذلك في النّفوس أبعد من النّوادر في القصائد والكتب.

وليس يخفى على من كان له حظّ من العقل أنّ مثل وقعة بدر وحنين ـ في جميع أوصافهما ومكانهما ، وفرار من فرّ عنهما ، وثبات من ثبت ، إلى غير ذلك

__________________

(١) يبدو أنّ في العبارة اضطرابا أو سقطا.

(٢) في الأصل : ولعلّ ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : مجبنوبا.

١٩٢

من أحوالهما الّتي جرت ـ لم يقع فيما مضى. وأنّه لم يكن على عهد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّ جاءته المجادلة تستفتيه في الظّهار ، وسئل عن الرّوح (١) ، وانفضاض (٢) أصحابه عنه في يوم الجمعة طلب اللهو ، وأسرّ إلى زوجته حديثا أفشته ، والتّستّر في الغار مع بعض أصحابه ، إلى سائر ما عددناه. ولا معنى للإسهاب فيما جرى هذا المجرى في الظّهور والوضوح (٣).

وأمّا القسم الثّاني

وهو أن تكون هذه الأخبار إخبارا عمّا سيحدث في الوقت الّذي حدثت فيه ، ولا تكون مخبراتها واقعة فيما تقدّم ؛ ففاسد.

فإن عدلنا عن المضايقة في لفظ الأخبار ، ودلالة جميعها على الماضي الواقع ، وذلك أنّ جميع الأخبار الّتي تلوناها دالّة على تعظيم من ظهرت مخبراتها على يديه ، وتصديقه ونبوّته. ألا ترى إلى توبيخه تعالى للمولّين عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم بدر (٤) وحنين ، وتقريعه لهم من شهادته له بالرّسالة ، بقوله تعالى : (وَالرَّسُولُ

__________________

(١) في الأصل : الزوج ، والمناسب ما أثبتناه ، قال تعالى : («وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ...».

(٢) في الأصل : نفوض ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٩ : «وأمّا الوجه الثاني في إبطال القسم الأوّل : أنّ العادات تقتضي باستحالة أن يتّفق نظائر وأمثال لتلك القصص الّتي حكيناها ، حتّى لا يخالفها في شيء ، ولا يغادر منها شيء شيئا. واستحالة ذلك كاستحالة أن يوافق شاعر شاعرا على سبيل المواردة في جميع شعره وفي قصيدة طويلة. ومن تأمّل هذا حقّ تأمله ، علم أنّ اتّفاق نظير لبعض هذه القصص محال ، فكيف أن يتّفق مثل جميعها».

(٤) كذا في الأصل ، والصحيح يوم أحد بدل بدر ، حيث إنّ الصحابة تركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده ـ ولم يبق معه إلّا نفر قليل من أهل بيته ـ وانهزموا جميعا في معركتي أحد وحنين ، أمّا معركة بدر فإنّ النصر فيها كان حليف المسلمين وكانت الهزيمة للمشركين.

١٩٣

يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (١) ، وبقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، وهكذا قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) (٣) ، بعد حكايته عن عبد الله بن أبيّ المنافق قوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) (٤) ، وقوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) (٥).

وجميع القصص إذا وجدتها شاهدة بما ذكرناه ودالّة عليه وأنّ الأمر على ما قلناه ، كيف كان يحسن بيان حكم ما سألت عنه المجادلة من الظّهار؟ وإنّما سألت ـ على دعوى الخصم ـ من ليس يتبيّن عمّا لا يجب بيانه (٦) ، بل لا يحسن.

ومن تأمّل ما حكيناه وأمثاله من أخبار القرآن علم أنّ الّذي تعلّقت به هذه الأخبار معظّم مصدّق ، مشهود له بالنّبوّة.

وإذا كنّا (٧) قد دللنا بما تقدّم على أنّها لم تكن أخبارا عن غير نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نازلة إلّا في قصصه وحروبه والحوادث في أيّامه ؛ وجب أن يكون هو ـ عليه وعلى آله السّلام ـ المختصّ بالتّصديق والتّعظيم دون غيره (٨).

وليس لأحد أن يقول : فلعلّ ما ذكرته من الأخبار الواردة في القصص المعنيّة ليست من جملة الكتاب المعجز الّذي أشرنا إليه ، بل من فعل البشر ، وإنّما ألحقت

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٣.

(٢) سورة براءة (التوبة) : ٢٦.

(٣) سورة المنافقون : ٨.

(٤) سورة المنافقون : ٨.

(٥) سورة التحريم : ٣.

(٦) كذا في الأصل.

(٧) في الأصل : كان ، والمناسب ما أثبتناه.

(٨) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٩ ـ ٤٠٠ : «وأمّا القسم الثاني : وهو أن يكون هذه الأخبار إنّما هي عمّا يحدث مستقبلا في الأوقات التي حدثت ، والذي يبطله ـ إذا تجاوزنا عن المضايقة في أنّ لفظ الماضي لا يكون للمستقبل ـ أنّا إذا تأمّلنا وجدنا جميع الأخبار التي تلوناها دالّة على تعظيم من ظهرت مخبراتها على يديه وتصدّق دعوته ونبوّته. ألا ترى إلى توبيخه تعالى للمولّين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد وحنين ... فكلّ القصص إذا تؤمّلت ، علم أنّها شاهدة بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدقه».

١٩٤

بالكتاب ، وأضيفت إليه (١) ؛ لأنّ الّذي يؤمن من ذلك علمنا بأنّ كلّ آية ـ أو آيات ـ اختصّت بالقصص والحوادث المذكورة تزيد (٢) على مقدار أقصر سورة من القرآن كثيرا. ومن سبر ما قلناه عرف صحّته (٣).

وإذا كنّا قد بيّنا أنّ التّحدّي وقع بسورة غير معيّنة ، وأنّ المعارضة تعذّرت ، فلا بدّ من القطع على أنّ مقدار أقصر سورة من سوره متعذّر (٤) غير ممكن ، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما تلوناه من الآي ـ أو ما اختصّ بقصّة واحدة منه ـ ممكنا لأحد من البشر؟! ولو تأتّى ذلك من أحد لتأتّى للعرب مع اجتهادهم وحرصهم!

فإن قيل : فاذكروا الجواب الّذي يختصّ به أهل الصّرفة ، كما وعدتم.

قيل : أمّا الجواب عن السّؤال على مذهب الصّرفة ، فواضح قريب ؛ لأنّا إذا كنّا قد دللنا على أنّ تعذّر المعارضة على العرب لم يكن لشيء ممّا يدّعيه خصومنا ، وإنّما كان لأنّ الله تعالى سلبهم في الحال العلوم التي يتمكّنون بها من المعارضة ، وأنّ هذه كانت حال كلّ من رام المعارضة وقصدها ، فقد سقط السّؤال عنّا ؛ لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لم يكن صادقا ، وكان ناقلا للكتاب عن غيره ـ كما ادّعوا ـ لم يحسن صرف من رام معارضته والرّدّ عليه ؛ لأنّ ذلك نهاية التّصديق والشّهادة بالنبوّة ، لأنّه ـ صلوات الله عليه وآله ـ على مذهبنا إنّما تحدّاهم بهذا الوجه دون غيره ، فكأنّه

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٠ : «وليس لأحد أن يقول : فلعلّ هذه الآيات المقصوصة ليست من جملة الكتاب المعجز فيه ، وإنّما ألحقت وأضيفت إليه».

(٢) في الأصل : ويزيد ، والمناسب ما أثبتناه وفقا لما في الذخيرة.

(٣) قال المؤلّف في الذخيرة / ٤٠٠ : «وذلك أنّ الذي يؤمن من هذا الطعن : أنّا قد علمنا أنّ كلّ آية أو آيات اختصّت بما ذكرناه من القصص والحوادث ، تزيد على مقدار سورة قصيرة ، وهي التي وقع التحدّي بها وتعذّرت معارضتها ، فلو تأتّى لملحق أن يلحق بالقرآن مثل هذه الآيات لكان ذلك من العرب الّذين تحدّوا به أشدّ تأتّيا وأقرب تسهّلا».

(٤) في الأصل : متعذّرة ، وهي لا تناسب السياق.

١٩٥

على التقدير قال : الدّلالة على نبوّتي أنّ الله تعالى يصرفكم عن معارضتي متى رمتموها. فإذا صرفهم الله تعالى عن المعارضة فقد فعل ما التمسه ، وذلك غاية التّصديق.

وإنّما توجّه هذا السّؤال الّذي ذكرناه ، وصعب جوابه على طريقتهم ، من حيث جعلوا المعجز أمرا لا يعلم حدوثه في الحال ، ويمكن أن يكون منقولا. فأمّا من جعل المعجز ما يقطع على حدوثه في الحال ، وثبوت الاختصاص التامّ فيه ، فلا يوجّه السّؤال عليه جملة.

١٩٦

فصل

في بليغ [ما] ذكره صاحب الكتاب المعروف

ب (المغني) ممّا يتعلّق بالصّرفة

قال الشريف المرتضى رضوان الله عليه :

قال صاحب هذا الكتاب (١) ، في فصل وسمه ب «بيان ما يجب أن يعلم من حال القرآن في الاختصاص ليصحّ الاستدلال به على صحّة النّبوّة» (٢).

اعلم أنّ الّذي يجب أن يعلم في ذلك : ظهوره عند ادّعاه النبوّة من قبله ، وجعله إيّاه دلالة (٣) على نبوّته. وكلا الوجهين منقول بالتّواتر معلوم باضطرار ، وما عدا ذلك ممّا يشتبه الحال فيه ، قد يصحّ الاستدلال بالقرآن ، وإن [لم] (٤) يعلم فلا وجه لذكره الآن ، وإنّما يجب فيما حلّ هذا المحلّ أن نتشاغل بحلّ الشبه فيه عند ورود المطاعن ، وإن كان الاستدلال (٥) صحيحا ، وإن لم يخطر بالبال ـ على ما ذكرناه في كثير من أصول الأدلّة ـ فليس لأحد أن يقول : يجب أن

__________________

(١) يقصد به القاضي عبد الجبّار الأسدآبادي في كتابه المعروف ب «المغني في أبواب التوحيد والعدل» حيث ينقل الشريف أقوالا للقاضي وردت في الجزء السادس عشر ، وهو الجزء المتعلّق ب «إعجاز القرآن» ، والذي طبع بتحقيق أمين الخوليّ. وستكون ارجاعاتنا لأرقام الصفحات وعناوين الأبواب والفصول من هذه الطبعة.

(٢) المغني ١٦ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٣) في المغنى : دليلا.

(٤) من المغني.

(٥) في المغني : الاستدلال الأوّل.

١٩٧

يعلم (١) أوّلا أنّ هذا القرآن لم يظهر في السّماء على ملك ، أو في الأرض على نبيّ أو غيره (٢) ، وخفي أمره ثمّ جعله صلى‌الله‌عليه‌وآله دلالة على نبوّته (٣) ؛ لأنّ هذا الجنس من الشّبه ـ ما لم يخطر (بالبال) (٤) ـ لم يجب التّشاغل به.

ولا يمتنع (٥) على كلّ حال من العلم بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اختصّ بالقرآن (اختصاصه بالرّسالة وبالدّعوى ، إلّا ما قد عرفناه ؛ لأنّه إن أحدث) (٦) في السّماء على ملك ، فالاختصاص لا يصحّ إلّا على هذا الوجه. ولا يجوز أن يطلب في الاختصاص ما لا يمكن أكثر منه ، وهذا كما نقوله في تعلّق الفعل بالفاعل ؛ لأنّه لا يمكن فيه أكثر من وجوب وقوعه بحسب أحواله ، فمتى طالب المطالب فيه بأزيد من هذا التعلّق (٧) فقد طلب المحال (٨) ، لأنّا إن قلنا (فيه : إنّه) (٩) : يجب كوجوب المعلول فيه عن العلّة إلى ما شاكله ، كان ذلك ناقضا للفعل والفاعل بطريق (١٠) إثباتهما.

فكذلك القول في القرآن ، لأنّا نعلم أنّه لو لم يحدث إلّا عند ادّعاء النبوّة ، ما كان يكون له من الحكم إلّا ما قد عرفناه ، فإذا كان لو كان حادثا لدلّ على النّبوّة ، فكذلك [متى] (١١) جوّز (١٢) خلافه ، فيجب أن لا يقدح في كونه دالّا ، بل يجب إبطال التّجويز بحصول طريقة الدلالة ، كما أوجبنا على من قال : جوّزوا أنّ

__________________

(١) في المغني : نعلم.

(٢) في المغني : نبيّ غيره.

(٣) في المغني : دلالة النبوّة.

(٤) ليست في المغني.

(٥) في المغني : يمنع.

(٦) في المغني : «لأنّه إذا علم هذا الاختصاص الذي لا يمكن غيره قد حصل المراد. وقد علمنا أنّه لا يمكن في القرآن اختصاص بالرسول وبالدعوى ، إلّا ما قد عرفناه ، لأنّه إن لم يحدث إلّا في تلك الحال لم يصحّ في الاختصاص غيره».

(٧) في المغني : المتعلّق.

(٨) في المغني : طالب بالمحال.

(٩) من المغني.

(١٠) في المغني : وطريق.

(١١) من المغني / ١٦٨.

(١٢) في المغني : جوّز فيه.

١٩٨

الفعل من الله تعالى (١) يقع بحسب مقاصد العبد ، وأن لا يدلّ على ما ذكرتموه من وجوب وقوعه بحسب مقاصده ، على أنّه لو (٢) فعله ينبغي أن يبطل التجويز (٣) بطريق الدّلالة ؛ لأنّ التّجويز شكّ وإمكان ، فكلاهما لا يقدح في الدّليل. وكذلك القول فيما ذكرناه من حال القرآن».

الكلام عليه فنقول وبالله التوفيق :

إنّ الواجب ، قبل مناقضته ، بيان مقدّمة موجزة فيما يحتاج المعجز إليه من الشرائط ، ليتكامل دلالته على صدق المدّعي :

وأحد شروط المعجز : أن يكون من فعل الله تعالى.

والثاني : أن يكون ناقضا للعادة الّتي تختصّ من ظهر فيهم.

والثالث : أن يخصّ الله تعالى به المدّعي النبوّة على وجه التّصديق لدعواه. وإن شئت أن تختصر هذه الجملة ، فتقول :

المعجز هو : «ما فعله الله تعالى تصديقا لمدّعي النبوّة» فيشتمل كلامك على جميع ما تقدّم.

وإنّما لم يدخل في جملة الشّروط أن يكون ممّا يتعذّر على الخلق فعل مثله ، إمّا في جنسه ، أو في صفته المخصوصة ؛ لأنّ الشّرط الأوّل الّذي قدّمناه لا يمكن العلم بثبوته إلّا بعد العلم بأنّه ممّا يتعذّر على الخلق فعل مثله ؛ وإلّا فلا سبيل إلى القطع على أنّه فعل الله تعالى وتقديم (٤) الشّرط الأوّل يغني عنه.

فأمّا ما يلحقه قوم بشروط المعجز من كونه واقعا في حال التكليف ، احترازا من الطّعن بما يوجد في ابتداء وضع العادات ، وبما يفعل مع زوال التّكليف عند

__________________

(١) في المغني : من الفاعل.

(٢) ليست في المغني.

(٣) في المغني : نبطل هذا التجويز.

(٤) في الأصل : بتقديم ، والمناسب ما أثبتناه.

١٩٩

أشراط السّاعة ، فهو كالمستغنى عنه ، وإن كان لذكره على سبيل الإيضاح وإزالة الإيهام وجه ؛ لأنّ ما يقع في ابتداء العادات ليس ينقض لعادة متقدّمة ، فخروجه عمّا شرطناه واضح.

وما يقع بعد زوال التكليف إنّما يحصل بعد ارتفاع حكم جميع العادات مستقرّا ، وفي الموضع الّذي انتقضت فيه عادة ثبتت أخرى واستقرّ حكمها ، وهذا كلّه زائل بعد التكليف.

على أنّ نقض العادة لا يدلّ على النّبوّة إلّا مع تقدّم الدّعوى ، حسب ما تضمّنه الشرط الثالث. وما يقع في ابتداء الخلق وبعد زوال التكليف ، لم يقع مطابقا لدعوى تقدّمت ، فلا يجب أن يكون دالّا ، ولم يثبت فيه الشّرط الّذي مع ثبوته يكون انتقاض العادة دالّا.

والّذي له قلنا : «إنّ المعجز يجب أن يكون من فعله تعالى» أنّه متى لم يثبت ذلك لم نأمن أن يكون من فعل بعض من يجوز أن يفعل القبيح ويصدّق الكذّاب ، فيخرج من أن يكون دالّا.

ولأنّ دعوى متحمّل الرّسالة متعلّقة بالله تعالى ، ومن جهته يلتمس التّصديق والدّلالة ، فيجب أن يقع التّصديق والإبانة ممّن تعلّقت الدّعوى به والتمس التّصديق من جهته. ألا ترى أنّ أحدنا لو ادّعى على غيره أنّه رسوله ومخبر عنه بما حمله ، والتمس منه أن يصدّقه ، لم يجز أن يدلّ على صدقه إلّا ما وقع ممّن تعلّقت الدّعوى به دون غيره من النّاس ؛ فكذلك القول في المعجز.

فأمّا الوجه في كونه ناقضا للعادة ، فهو : أنّه من لم يكن كذلك لم يعلم أنّه مفعول لتصديق المدّعي ، بل جوّز أن يكون واقعا بمجرى العادة ، ولا تعلّق له بالتّصديق. ولأنّ الفعل لو دلّ ـ مع كونه معتادا ـ على التّصديق لم يكن بعض الأفعال المعتادة بذلك أولى من بعض ، فكان يجب لو جعل مدّعي النّبوّة العلم على صدقه طلوع

٢٠٠