الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

هو أشبه بأن يقع للعرب ، وأقرب إلى أفهامهم وعقولهم.

وإذا كان العلم بأنّ القرآن معجز وعلم على النّبوّة لا يخلص إلّا بعد العلم بما ذكرناه ـ وفيه من النّظر اللطيف ما فيه ـ فكيف يلزم أن يعرف العرب ذلك ببادي أفكارهم ، وأوائل نظرهم؟!

ثمّ يقال للسّائل (١) : إذا كان العرب عندك قد علموا مزيّة القرآن في الفصاحة على سائر الكلام ، وعرفوا أيضا أنّ هذه المزيّة خارجة عن العادة ، وأنّها لم تقع بين شيء من الكلام ؛ فقد استقرّ إذا عندهم أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مخصوص من بينهم بما لم تجر العادة به ، فكيف لم يؤمن جميعهم مع هذا ، وينقد سائرهم ، سيّما ولم يكن القوم معاندين ، ولا في حدّ من يظهر خلاف ما يبطن؟!

فإن قال : ليس يكفي في ذلك العلم بمزيّة القرآن وخروجه عن العادة ؛ لأنّهم يحتاجون إلى أن يعلموا أنّ الله تعالى هو الخارق للعادة ، وأنّه إنّما خرقها تصديقا للمدّعي للنّبوّة. وفي هذا نظر طويل يقصر عنه أكثرهم.

قيل له : الأمر على ما ذكرت ، وهذا بعينه جوابك عن سؤالك ، فتأمّله!

فإن قال (٢) : لو كان اعجاز القرآن وقيام الحجّة به من قبل الصّرفة عنه لا لمزيّته في الفصاحة لوجب أن يجعل في أدون طبقات الفصاحة ، بل كان الأولى

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٣ : «قلنا : إذا كانت العرب علماء بخرق فصاحة القرآن لعاداتهم ، وأنّ أفصح كلامهم لا يقاربه ، فأيّ شبهة بقيت عليهم في أنّه من فعل الله تعالى صدّق (التصديق) نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله. فإذا قالوا : قد يتطرّق عليهم في هذا العلم شبهات كثيرة ، لأنّهم يجب أن يعلموا أنّ الله تعالى هو الخارق لهذه العادة بفصاحة القرآن ، وأنّ وجه خرقه لها تصديق الدعوة للنّبوّة. وفي هذا من الاعتراض ما لا يحصى».

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ : «فإن قيل : إن كان الصّرف هو المعجز ، فألّا جعل القرآن من أركّ كلامه وأبعده من الفصاحة ليكون الصّرف عن معارضته أبهر؟».

٨١

أن يسلبها جملة ، ويجعل كلاما ركيكا متقاربا ؛ لأنّه مع الصّرف عن معارضته ، كلّما بعد عن الفصاحة وقرب ممّا (١) يتمكّن من مماثلته فيه المتقدّم والمتأخّر والفصيح [وغير الفصيح] ، لكانت (٢) حاله في الإعجاز أظهر ، والحجّة به آكد ، وارتفعت في أمره كلّ شبهة ، وزال كلّ ريب. وفي إنزال الله تعالى له على غاية الفصاحة دليل على بطلان مذهبكم ، وصحّة قولنا.

قيل له : (٣) : هذا من ضعيف الأسئلة ؛ لأنّ الأمر وإن كان لو جرى على ما قدّرته ، لكانت الحجّة أظهر والشّبهة أبعد ؛ فليس يجب القطع على أنّ المصلحة تابعة لذلك! وغير ممتنع أن يعلم الله تعالى أنّ في إنزال القرآن على هذا الوجه من الفصاحة المصلحة واللّطف للمكلّفين ما ليس حاصلا عنده لو قلّل من فصاحته وليّن من ألفاظه ، فينزله على هذا الوجه. ولو علم أنّ المصلحة في خلاف ذلك لفعل ما فيه المصلحة وهذا كاف في جوابك.

ثمّ يقال للسائل (٤) : أما يقدر القديم تعالى على كلام أفصح من القرآن؟

__________________

(١) في الأصل : ما ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : ولو كانت ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٤ : «قلنا : لا بدّ من مراعاة المصلحة في هذا الباب ، فربّما ما كان ما هو أظهر دلالة وأقوى في باب الحجّة من غيره ، وأصلح منه في باب الدين ، فما المنكر من أن يكون إنزال القرآن على هذه الرتبة من الفصاحة أصلح في باب الدين ، وإن كان لو قلّلت فصاحته عنه لكان الأمر أظهر فيه وأبهر».

(٤) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٤ : «فيقال له : الله تعالى قادر على ما هو أفصح من القرآن عندنا كلّنا. فألّا فعل ذلك الأفصح ليظهر مباينة القرآن لكلّ فصيح من كلام العرب ، وتزول الشبهة عن كلّ أحد في أنّ القرآن يساوى ويقارب؟! فلا بدّ من ذكر المصلحة التي ذكرناها ، فإن ارتكب بعض من لا يحصّل أمره أنّ القرآن قد بلغ أقصى ما في

٨٢

فإن قال : لا ، لأنّ فصاحة القرآن هي نهاية ما يمكن في اللّغة العربيّة.

قيل له : ومن أين لك هذا؟ وما الدّليل على أنّه لا نهاية بعدها؟

فإن رام أن يذكر دليلا على ذلك ، لم يجد. وكلّ من له أدنى معرفة وإنصاف يعلم تعذّر الدّليل في هذا الموضع.

وإن قال : القديم تعالى يقدر على ما هو أفصح من القرآن.

قيل : فألّا فعل ذلك؟! فإنّا نعلم أنّه لو فعله لظهرت الحجّة وتأكّدت ، وزالت الشّبهة وانحسمت ، ولم يكن للرّيب طريق على أحد في أنّ القرآن غير مساو لكلام العرب ولا مقارب ، وأنّه خارق لعاداتهم ، خارج عن عهدهم.

فإن قال : قد يجوز أن يعلم تعالى أنّه لا مصلحة في ذلك ، وأنّ المصلحة فيما فعله. ولو علم في خلافه المصلحة لفعله.

قيل له : فبمثل هذا أجبناك.

على أنّا لو سلّمنا للسّائل ما يدّعيه من أنّ فصاحة القرآن قد بلغت النّهاية ، وأنّ القديم تعالى لا يوصف بالقدرة على ما هو أفصح منه ، لكان الكلام متوجّها أيضا ، لأنّه ليس يمتنع أن يسلب الله تعالى الخلق في الأصل ، العلوم التي يتمكّنون بها من الفصاحة الّتي نجدها ظاهرة في كلامهم وأشعارهم ، ولا يمكّنهم منها. وإن مكّنهم

__________________

المقدور من الفصاحة ، فلا يوصف تعالى بالقدرة على ما هو أفصح منه! قلنا : هذا غلط فاحش ، لأنّ الغايات التي ينتهي الكلام الفصيح إليها غير محصاة ولا متناهية. ثمّ لو انحصرت على ما ادّعى لتوجّه الكلام ، لأنّ الله تعالى قادر بغير شبهة على أن يسلب العرب ـ في أصل العادة ـ العلوم التي يتمكّنون بها من الفصاحة التي نراها في كلامهم وأشعارهم ، لا يمكنهم من هذه الغاية التي هم الآن عليها ، فيظهر حينئذ مزيّة القرآن وخروجه عن العادة ، ظهورا تزول معه الشبهات ، ويجب معه التسليم. فألّا فعل ذلك إن كان الغرض ما هو أظهر وأبهر؟!».

٨٣

فمن الشيء النزر اللّطيف الّذي لا يعتدّ بمثله ، وينسب فاعله فصحاؤنا العيّ (١) والبعد عن مذهب الفصاحة ؛ فتظهر إذن مزيّة القرآن وخروجه عن العادة ظهورا يرفع الشّك ، ويوجب اليقين. وليس هذا ممّا لا يمكن أن يوصف الله تعالى بالقدرة عليه ، كما أمكن ادّعاء ذلك في الأوّل.

ثمّ يقال له : خبّرنا ، لو أنشر الله تعالى عند دعوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، جميع الأموات أو أكثرهم ، أو أمات أكثر الأحياء أو سائرهم ، وأهبط الملائكة إلى الأرض تنادي بتصديقه وتخاطب البشر بنبوّته. بل لو فعل ـ جلّ وعزّ ـ ما اقترح على نبيّه عليه وآله السّلام من إحياء عبد المطّلب ، ونقل جبال مكّة من أماكنها ، إلى غير ذلك من ضروب ما استدعوه واقترحوه ، أما كان ذلك أثبت للحجّة وأنفى للشّبهة؟! (٢) فلا بدّ من : نعم ، وإلّا عدّ مكابرا.

فيقال له : فكيف لم يفعل ذلك أو بعضه؟

فإن قال : لأنّه تعالى علم المصلحة في خلافه! أو قال : لأنّه لو فعل ذلك لكان الخلق كالملجئين إلى تصديق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخرجوا من أن يستحقّوا بذلك الثّواب الّذي أجرى بالتّكليف إليه!

قيل له : هذا صحيح ، وهو جوابنا لك.

فإن قال : لو كان فصاحة القرآن غير خارجة عن العادة ، وكان إعجازه من قبل الصّرف عنه ـ على ما ذهبتم إليه ـ لم يشهد الفصحاء المبرّزون بفضله وتقدّمه في

__________________

(١) العيّ : العجز عن التعبير اللفظيّ والبيان.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٤ : «فألّا فعل ذلك إن كان الغرض ما هو أظهر وأبهر ، وألّا أحيى الله تعالى عند دعوته الأموات أو أكثرهم وأمات الأحياء أو أكثرهم ، وألّا أحيى عبد المطّلب عليه‌السلام ونقل جبال مكّة عن أماكنها ، كما اقترح القوم عليه. فذلك كلّه أظهر وأبهر».

٨٤

الفصاحة ، ولا قال الوليد بن المغيرة (١) وقد اجتمعت إليه قريش وسألته عن القرآن ، فقال : قد سمعت الخطب والشّعر وكلام الكهنة ، وليس هذا منه في شيء. ثمّ فكّر ونظر ، وعبس وبسر (٢) وقال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ)! فاعترف بفضيلته ، وأقرّ بمزيّته.

وقوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) ، يشهد بذلك ؛ لأنّه لمّا فرط استحسانه كلّه ، وأعجب (٣) به ، وأحسّ من نفسه بالقصور عن مثله ، نسبه إلى أنّه سحر ، كما يقال فيما يستحسن ويستبدع من الكلام الحسن والصّنائع الغريبة : هذا هو السّحر! وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ من الشّعر لحكما ، وإنّ من البيان لسحرا» (٤).

وكيف يكون الأمر على ما ذهبتم إليه ، وقد انقاد للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جلّة الشّعراء وأمراؤهم ، كلبيد بن ربيعة (٥) ، والنّابغة الجعديّ (٦) ، وكعب بن

__________________

(١) هو أبو عبد شمس ، الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ ، هو أبو خالد بن الوليد وعمّ أبي جهل ، كان من كبراء قريش وزعمائها ودهاتها قبل البعثة. جمع المتناقضات من صفات الخير والشرّ ، كان من ألدّ أعداء النبيّ والإسلام ، ولم يزل على عناده حتى مات كافرا. ودفن بالحجون بمكّة وعمره ٩٥ سنة.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى في سورة المدّثّر : الآية ١٧ : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ).

(٣) في الأصل : وأعجبه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) بحار الأنوار ٧١ / ٤١٥ ، ٧٩ / ٢٩٠ ؛ سنن أبي داود : كتاب الأدب ، باب ما جاء في الشعر.

(٥) هو لبيد بن ربيعة بن مالك العامريّ ، أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهليّة ، وأحد أصحاب المعلّقات ، كان من أهل نجد وأسلم ، وكان من المؤلّفة قلوبهم. سكن الكوفة ، وعاش عمرا طويلا ، وتوفّي سنة ٤١ ه‍.

(٦) هو قيس بن عبد الله العامريّ ، صحابيّ وشاعر مفلق ومخضرم ، وكان ممّن هجر الأوثان ونهى عن الخمر قبل ظهور الإسلام ، أسلم وصحب النبيّ ثمّ شارك مع

٨٥

زهير؟!

(١) وقد كان الأعشى (٢) ـ أحد الأربعة الّذين جعلهم العلماء أوّل الطّبقات ـ وقد إلى مكّة ، وعمل على قصد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإيمان به ، وإنشاده القصيدة الّتي قالها فيه ، وأوّلها :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا (٣)

فعاقه من ذلك ما هو معروف ؛ وذلك أنّه لمّا أتى مكّة ، نزل على عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس (٤) ، فسمع بخبره أبو جهل بن هشام (٥) ، فأتاه في فتية من قريش ،

__________________

أمير المؤمنين عليه‌السلام بصفّين ، ثمّ سكن الكوفة ، وهاجر أخيرا إلى أصفهان مع أحد ولاتها ، ومات بها نحو سنة ٥٠ ه‍ ، وقد كفّ بصره وكان قد جاوز المائة.

(١) هو كعب بن زهير بن أبي سلمى المازنيّ ، شاعر من الطبقة العالية. كان مشهورا في الجاهليّة ، ولمّا ظهر الإسلام هجا النبيّ والمسلمين فهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دمه ، لكنّه استأمن النبيّ وتاب وأسلم وأنشده لاميّته المشهورة : «بانت سعاد ...» فعفا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلع عليه بردته. توفّي سنة ٢٦ ه‍.

(٢) هو ميمون بن قيس بن جندل ، من بني قيس بن ثعلبة الوائليّ اليماميّ ، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهليّة ، وأحد أصحاب المعلّقات ، توفّي سنة ٧ ه‍.

(٣) خزانة الأدب ١ / ١٧٧.

(٤) أبو الوليد ، من شخصيّات قريش وساداتها في الجاهليّة ، كان خطيبا مفوّها وعرف بالحلم والدّهاء. أدرك الإسلام ولم يسلم ، بل طغى وتجبّر وأصبح من أعداء الإسلام والمسلمين ومن المستهزئين بهم ، شارك في وقعة بدر في السنة الثانية للهجرة فقتله أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام. اجتمع برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأثّر حينما سمع سورة «حم» ، وأثنى على رسول الله في قصّة مشهورة.

(٥) هو أبو الحكم عمرو بن هشام القرشيّ ، الذي كنّاه المسلمون بأبي جهل ، كان من رؤساء قريش بمكّة وزعمائها ، معروفا بالشجاعة والدهاء والمكر. كان من ألدّ أعداء الإسلام وخصومه ، أكثر الكفّار إيذاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين. شارك في جميع المؤامرات

٨٦

وأهدى إليه هدايا ، ثمّ سأله : ما الّذي جاء به؟

فقال : جئت إلى محمّد لأنظر ما يقول ، وإلى ما يدعو.

فقال أبو جهل : إنّه يحرّم عليك الأطيبين : الخمر والزّنا!

قال : كبرت وما لي في الزّنا من حاجة!

قال : إنّه يحرّم عليك الخمر!

قال : فما الذي يحلّ؟

فجعلوا يخبرونه بأسوإ الأقاويل. ثمّ قال له : أنشدنا ما قلت فيه.

فأنشدهم ، حتّى أتى على آخرها ، فقالوا له :

إنّك إن أنشدته لم يقبله منك! فلم يزالوا به حتّى يصدّوه ، حتّى قال : إنّي منصرف عنه عامي هذا ، ومتلوّم (١) ما يكون. فانصرف إلى اليمامة ، فلم يلبث إلّا يسيرا حتّى مات.

وليس يدّعي هؤلاء ـ ومنزلتهم (٢) في الفصاحة والعقل منزلتهم ـ أنّهم (٣) يتمكّنون من مساواته في حجّته ، ويقدرون على إظهار مثل معجزته ، ولو لم يبهرهم أمره ، ويعجزهم ما ظهر على يده لما فارقوا أديانهم ، وأعطوا بأيديهم! (٤)

__________________

التي حيكت ضدّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يعذّب المسلمين ، وهو الذي تولّى قتل سميّة أمّ عمّار بن ياسر. ولم يزل على كفره وشكره حتّى قتل بوقعة بدر الكبرى. وكان عمره يوم هلك ٧٠ سنة.

(١) أي متمكّث ومتمهّل.

(٢) في الأصل : منزلهم ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٣) في الأصل : لم ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٤ : «فإن قيل : إذا لم يكن القرآن خارقا للعادة بفصاحته ، كيف شهد له بالفصاحة متقدّمو العرب فيها كالوليد بن مغيرة وغيره؟ وكيف انقاد له صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجاب دعوته كبراء الشعراء ، كالنابغة الجعديّ ، ولبيد بن ربيعة ،

٨٧

قيل له : إنّما تكون الشّهادة بفضل القرآن في الفصاحة وعلوّ مرتبته فيها ردّا على من نفى فصاحته جملة ، أو من لم يعترف بأنّه منها في الذّروة العليا والغاية القصوى ، وليس هذا مذهب أصحاب الصّرفة.

وإنّما أنكر القوم ـ مع الاعتراف له بهذا الفضل والتقدّم في الفصاحة ـ أن يكون بينه وبين فصيح كلام العرب ما بين المعجز والممكن ، والمعتاد والخارق للعادة. وليس يحتاج ـ ولا كلّ من له حظّ من العلم بالفصاحة وإن قلّ ـ في المعرفة بفضل القرآن وعلوّ مرتبته في الفصاحة إلى شهادة الوليد بن المغيرة وأضرابه ، وإن كان قد يظهر لهم (١) من فضله ما لا يظهر لنا ؛ لتقدّمهم في العلم بالفصاحة ، إلّا أنّهم لو كتموا ما عرفوه من أمره ولم يشهدوا به ، لم يخلّ ذلك بالمعرفة الّتي ذكرناها (٢).

فأمّا قول الوليد بن المغيرة : «قد سمعت الخطب والشّعر وكلام الكهنة ، وليس هذا منه في شيء» فيحتمل أن يكون مصروفا إلى أنّه مباين لما سمع في طريقة النّظم ؛ لأنّه لم يعهد بشيء من الكلام مثل نظم القرآن.

وقوله (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٣) إنّما عنى به ما وجد [في] نفسه من تعذّر

__________________

وكعب بن زهير؟

ويقال : إنّ الأعشى الكبير توجّه ليدخل في الإسلام ، فغاظه أبو جهل بن هشام ، وقال : إنّه يحرّم عليك الأطيبين : الخمر والزنا. وصدّه عن التوجّه. وكيف يجيب هؤلاء الفصحاء إلّا بعد أن بهرتهم فصاحة القرآن وأعجزتهم».

(١) في الأصل : لها ولا ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٥ : «قلنا : ما شهد الفصحاء من فصاحة القرآن وعظم بلاغته إلّا بصحيح ، وما أنكر أصحاب الصرفة علوّ مرتبة القرآن في الفصاحة ، قالوا : ليس بين فصاحته ـ وإن علت على كلّ كلام فصيح ـ قدر ما بين المعجز والممكن ، والخارق للعادة والمعتاد ، فليس في طرب الفصحاء بفصاحته ، وشهادتهم ببراعته ، ردّ على أصحاب الصرفة».

(٣) سورة المدّثر : ٢٤.

٨٨

المعارضة إذا رامها ، مع تمكّنه من التّصرّف في الكلام الفصيح ، وقدرته على ضروبه ؛ لأنّه لمّا تعذّر عليه ما كان مثله على العادة ممكنا متأتّيا ، ظنّ أنّه قد سحر! ويكون قوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) ، إشارة إلى حاله وامتناع ما امتنع عليه ، لا إلى القرآن.

وهذا أشبه بالقصّة ممّا تأوّله السّائل ، وإن كان جواب ما ذكرناه واحتمال القول له يكفي في الجواب.

وأمّا دخول الشّعراء الّذين ذكرهم في الدّين ، وتصديقهم للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّما يقتضي أنّ ذلك لم يقع منهم ـ مع إبائهم وعزّة نفسهم ـ إلّا لآية ظهرت ، وحجّة عرفت. وأيّ آية أظهر! أو حجّة أكبر من وجدانهم ما يتسهّل عليهم من التصرّف في ضروب الفصاحة والنّظوم ـ إذا لم يقصدوا المعارضة ـ متعذّرا إذا قصدوها ، وممتنعا إذا تعاطوها! وهذا أبهر لهم ، وأعظم في نفوسهم ، وأحقّ بإيجاب الانقياد والتّسليم ممّا يظنّه السائل وأهل مذهبه! وإن قال : إذا كان الخلق عندكم مصروفين عن معارضة القرآن ، فكيف تمكّن مسيلمة (١) منها ، وكلامه وإن لم يكن مشبها للقرآن في الفصاحة ولا قريبا فهو مبطل لدعواكم أنّ الصّرف عامّة لجميع النّاس؟ (٢)

__________________

(١) هو أبو ثمامة الحنفيّ ـ نسبة إلى بني حنيفة ـ المشهور بمسيلمة الكذّاب ، وذلك بعد ما ادّعى النبوّة. ولد باليمامة ونشأ بها ، وفي أواخر سنة ١٠ ه‍ قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو شيخ كبير ، وحينما عاد ادّعى النبوّة وأنّه شريك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته ونبوّته. وبعد أن توفّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلن عن دعوته باليمامة واستفحل أمره ، فحاربه المسلمون سنة ١١ أو ١٢ للهجرة ، فقتل في المعركة وكان عمره حينذاك ١٥٠ سنة.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٥ : «فإن قيل : كيف لم يصرف مسيلمة عمّا أتى به من المعارضة؟».

٨٩

قيل له : تمكين مسيلمة الكذّاب ممّا ادّعى أنّه معارضة من أدلّ دليل على صحّة مذهبنا في الصّرفة ؛ لأنّه لم يمكّن من المعارضة إلّا من لا يشتبه على عاقل ـ فضلا على فصيح ـ بعد ما أتى به عن الفصاحة ، وشهادته بجهله أو اضطراب عقله.

وإنّما منع من المعارضة عندنا من الفصحاء من يقارب كلامه ، وتشكل حاله. ولو لم يكن الأمر على ما ذكرناه ، وكانت [حال] الفصحاء بأسرهم ، في التّخلية بينهم وبين المعارضة ، حال مسيلمة وأمثاله ؛ لوجب أن يقع منهم أو من بعضهم المعارضة ، إمّا بما يقارب أو بما يدّعى فيه المقاربة المبطلة للإعجاز. وأنت تجد هذا المعنى مستوفى في الدّليل التالي لهذا الكلام ، بمشيئة الله تعالى (١).

ثمّ يقال له : ألست تعترف بأنّ معارضة القرآن لم تقع من أحد ، وعلى هذا يبني جماعتنا دلالة إعجاز القرآن على اختلاف طرقهم؟

فإذا قال : نعم.

قيل له : فكيف تقول في معارضة مسيلمة : لا اعتراض بمثلها؟! وإنّما تبغي وقوع المعارضة المؤثّرة ، وهي المماثلة أو المقاربة على وجه يوجب اللّبس والإشكال!

قيل له : وعن هذه المعارضة المؤثّرة صرف الله تعالى الخلق ، فقد زال الطّعن بمسيلمة.

فإن قال : فأجيزوا على هذا المذهب أن يكون في كلام العرب ما هو أفصح من القرآن!

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٥ : «قلنا : لا شيء أبلغ في دلالة القرآن على النبوّة من تمكين مسيلمة من معارضته السخيفة ، لأنّه لو لم يكن غيره من الفصحاء الذين يقارب كلامهم ويشكل حالهم مصروفا ، لعارض كما عارض مسيلمة ؛ فتمكين مسيلمة من معارضته دليل واضح على ما نقوله في الصرفة».

٩٠

قيل له : هذا لو أجزناه لم يقدح في إعجازه من الوجه الّذي ذكرناه ، بل كان أدخل له في الإعجاز ، غير أنّا قد علمنا بالامتحان والاستقراء أنّه ليس في عالي فصيح العرب ما يتجاوز فصاحة القرآن ، بل لم نجد في جميع كلامهم ما يساوي كثيرا من القرآن ، ممّا يظهر الفصاحة فيه خلاف ظهورها في غيره. وهذا موقوف على السّبر والاختبار. وكلّ من كان في معرفة الفصاحة أقوى كان بما ذكرناه أعرف.

* * *

٩١
٩٢

[في صرف الله تعالى العرب عن المعارضة]

وممّا يدلّ على أنّ الله تعالى صرف فصحاء العرب عن معارضة القرآن ، وحال بينهم وبين تعاطي مقابلته :

أنّ الأمر لو كان بخلاف ذلك ـ وكان تعذّر المعارضة المبتغاة والعدول عنها لعلمهم بفضله على سائر كلامهم في الفصاحة وتجاوزه له في الجزالة ـ لوجب أن تقع منهم على كلّ حال ؛ لأنّ العرب الّذين خوطبوا بالتّحدّي والتّقريع ، ووجهوا بالتّعنيف كانوا متى أضافوا فصاحة القرآن إلى فصاحتهم وقاسوا كلامه بكلامهم علموا أنّ المزيّة بينهما إنّما تظهر لهم دون غيرهم ممّن نقص عن طبقتهم ونزل عن درجتهم ، ودون النّاس جميعا ممّن لا يعرف الفصاحة ولا يأنس بالعربيّة.

وكان ما عليه ذوو المعرفة بفصيح الكلام من أهل زماننا ـ من خفاء الفرق عليهم بين مواضع من القرآن وبين فقر العرب البديعة وكلمهم العربيّة ـ سابقا عندهم ، متقرّرا في نفوسهم ، فأيّ شيء قعد بهم عن أن يعمدوا (١) إلى بعض أشعارهم الفصيحة وألفاظهم المنثورة البليغة فيقابلوه به ، ويدّعوا أنّه مماثل لفصاحته وزائد عليها ، لا سيّما وخصمنا في هذه الطّريقة يدّعي أنّ التحدّي وقع

__________________

(١) في الأصل : يعتمدوا ، والمناسب ما أثبتناه.

٩٣

بالفصاحة دون النّظم وغيره من المعاني المدّعاة في هذا الموضع؟!

فسواء حصلت المعارضة بمنظوم الكلام أو بمنثوره ، فمن (١) هذا الّذي كان يكون الحكم في هذه الدّعوى ، وجماعة الفصحاء أو جمهورهم كانوا حرب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أهل الخلاف لدعوته والصّدود عن محجّته ؛ لا سيّما في بدو الأمر وأوّله ، وقبل أوان استقرار الحجّة وظهور الدّعوة وكثرة عدد الموافقين ، وتظافر الأنصار والمهاجرين؟

ولا تعمل إلّا على هذه الدّعوى ، (لو حصلت لردّها) (٢) بالتّكذيب من كان في حرب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفصحاء ، أما كان اللّبس يحصل ، والشّبهة تقع لكلّ (من لم يساوها ، ولا في المعرفة) (٣) من المستجيبين للدّعوة والمنحرفين عنها من العرب ، ثمّ لطوائف النّاس جميعا ، كالفرس والرّوم والتّرك ، ومن ماثلهم ممّن لا حظّ له في العربيّة؟

وعند تقابل الدّعاوى في وقوع المعارضة موقعها ، وتعارض الأقوال في الإصابة بها مكانها ، تتأكّد (٤) الشّبهة ، وتعظم المحنة ، ويرتفع الطّريق إلى إصابة الحقّ ؛ لأنّ النّاظر إذا رأى جلّ الفصحاء ـ وأكثرهم يدّعي وقوع المكافاة (٥) والمماثلة ، وقوما منهم ينكر ذلك ويدفعه ـ كان أحسن أحواله أن يشكّ في القولين ، ويجوّز [على] كلّ واحد منهما (٦) الصّدق والكذب ؛ فأيّ شيء يبقى من

__________________

(١) في الأصل : ومن ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) كذا في الأصل ، ولعلّه : ولو حصلت وردّها.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) في الأصل : ممّا تتأكّد ، والمناسب ما أثبتناه.

(٥) أي المساواة.

(٦) في الأصل : منهم ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٩٤

المعجز بعد هذا؟! والإعجاز لا يتمّ إلّا بالقطع على تعذّر المعارضة على القوم ، وقصورهم عن المماثلة أو المقاربة.

والتّعذّر لا يعلم إلّا بعد حصول العلم بأنّ المعارضة لم تقع مع توفّر الدّواعي وقوّة الأسباب ؛ فكانت حينئذ لا تقع الاستجابة من عاقل ، ولا المؤازرة من متديّن.

وليس يحجز العرب عمّا ذكرناه ورع ولا حياء ؛ لأنّا وجدناهم لم يرعووا عن السّبّ والهجاء ، ولم يستحيوا من القذف والافتراء. وليس في ذلك ما يكون حجّة ولا شبهة ، بل هو كاشف عن شدّة حنقهم ، وقوّة عداوتهم ، وأنّ الحيرة قد بلغت بهم إلى استحسان القبيح الّذي كانت نفوسهم تأباه وتعافه ، وطباعهم تشنأه وتنفر منه! وأخرجهم ضيق الخناق وقصر الباع إلى أن أحضر أحدهم (١) أخبار رستم واسفنديار (٢) ، وجعل يقصّ بها ، ويوهم النّاس أنّه قد عارض ، وأنّ المطلوب بالتحدّي هو القصص والأخبار!

__________________

(١) هو النضر بن الحارث بن علقمة القرشيّ ، من شخصيّات قريش وشجعانها في الجاهليّة ، وابن خالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. كان من ألدّ خصوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإسلام ، يقال إنّه كان مطّلعا على كتب الفرس وتواريخهم ، حيث كان أكثر تجارته من بلاد فارس ، فكان يسمع أخبار الفرس وتواريخهم فيقصّها ويرويها لقريش ، ويقول لهم : إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فكانوا يستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقد نزلت في حقّه عدّة آيات تذمّه وتردّ عليه. قتله أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم بدر صبرا.

(٢) أمّا رستم فهو ابن دستان ، من شجعان فارس المشهورين ومن قادة جيوش الأكاسرة ، وأمّا اسفنديار فهو من ملوك بلاد فارس. ويعدّان من شخصيات الفرس الأسطورية ، وقد خلّد الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسيّ الطوسيّ ذكر وقائعهما وحروبهما في ملحمته العالميّة الخالدة المسمّاة ب (شاهنامه).

٩٥

وليس يبلغ بهم الأمر إلى هذا وهم متمكّنون ممّا يوقع الشّبهة ، ويضعف أمر الدّعوة ، فيعدلوا عنه مختارين ، وأحلامهم وإن وفرت ، وعقولهم وإن كملت ، وادّعي أنّها تمنع أمثالهم من الإقدام على المباهاة ، والتّظاهر بالمكابرة ، وادّعاء ما تشهد أنفسهم ببطلانه ، وتوقن قلوبهم بفساده ؛ فإنّ الحال الّتي دفعوا إليها حال تيسّر العسير ، وتصغّر الكبير. ومن أشرف على الهوان بعد العزّة والقصور بعد القدرة خفّ حلمه ، وعزب (١) علمه ، وركب ما كان لا يرتكبه ، وأقدم على ما كان لا يقدم عليه.

وليس يمكن أحدا أن يدّعي أنّ ذلك ممّا لم يهتد إليه العرب ، وأنّه لو اتّفق خطوره ببالهم لفعلوه ، غير أنّه لم يتّفق ؛ لأنّهم كانوا من الفطنة واللّبابة على ما لا يخفى عليهم معه أنفذ الكيدين ، وألطف الحيلتين ، فضلا عن أن يذهبوا عن الحيلة وهي بادية ، ويعدلوا عن المكيدة وهي غير خافية.

هذا ، مع صدق الحاجة وقوّتها ، وضيق الحال وشدّتها ، والحاجة تفتق الحيلة ، وتبدي المكنون ، وتظهر المصون.

وهب لم يفطنوا لذلك بالبديهة وقبل الفكرة ، كيف لم يقعوا عليه مع التغلغل ، ويظهروا به مع التّوصّل؟! وكيف لم يتّفق لهم مع فرط الذّكاء وجودة الآراء ، من الكيد إلّا أضعفه ، ومن القول إلّا أسخفه؟! وهذا من قبيح الغفلة الّتي يتنزّه القوم عنها ، ووصفهم الله تعالى بخلافها.

وليس يرد مثل هذا الاعتراض من موافق في إعجاز القرآن ، وإنّما يصير إليه من خالفنا في الملّة ، إذا بهرته الحجّة وأعجزته الحيلة ، فيرمي العرب بالبله والغفلة ، ويقول : لعلّهم لم يعلموا أنّ المعارضة أنجع وأنفع ، وطريق الحجّة

__________________

(١) أيّ بعد.

٩٦

أصوب وأقرب ؛ لأنّهم لم يكونوا أصحاب نظر وفكر! وإنّما كانت الفصاحة صنعتهم ، والبلاغة طريقتهم ، فعدلوا إلى الحرب الّتي هي أشفى للقوم ، وأحسم للطّمع.

وهذا الاعتراض إذا ورد علينا ، كانت كلمة جماعتنا واحدة في ردّه ، وقلنا في جوابه : إنّ العرب وإن لم يكونوا نظّارين ، فلم يكونوا غفلة مجانين ، وفي العقول كلّها ـ وافرها وناقصها ـ أنّ مساواة المتحدّي في فعله ومعارضته بمثله ، أبلغ في الاحتجاج عليه من كلّ فعل ، وأقوى في فلّ غربه (١) من كلّ قول.

وليس يجوز أن تذهب العرب الألبّاء ، عمّا لا يذهب عنه العامّة الأغبياء! والحرب غير مانعة من المعارضة ، ولا صارفة عن المقابلة. وقد كانوا يستعملون في حروبهم من الارتجاز ما لو جعلوا (٢) مكانه معارضة القرآن كان أنفع لهم ، وأجدى عليهم. مع أنّه قد تقدّم قبل أوان الحرب من الزّمان ما يتّسع بعضه للمعارضة ، إن كانت الحرب شغلت عنها ، واقتطعت دونها.

وهذا بعينه كاف في جواب من يعدّ كفّهم عن المعارضة بما يقارب ويقع به اللّبس على غيرهم ؛ لأنّهم لم يفطنوا لذلك ولم يتنبّهوا عليه ، ولأنّ الحرب كانت عندهم أولى وأحرى.

على أنّهم لو قدّموا المعارضة أمام الحرب ، وجعلوها مكان الهجاء والسبّ ، لم يجتمع بإزائهم من يحتاجون إلى محاربته ويجتهدون في مغالبته ، ولاستغنوا بها عن جميع ما تكلّفوه من التعب ، أو أكثره.

وفي إطباق الكلّ على الإمساك عن المعارضة أكبر دليل على أنّهم عنها مصروفون ، وعن تعاطيها مقتطعون.

__________________

(١) فلّ غربه : أي ثلم حدّ سيفه ، والتعبير مجازيّ ، ويقصد به إفحامه.

(٢) في الأصل : جعلوه ، والأنسب ما أثبتناه.

٩٧

وإنّما لم نذكر جميع ما يمكن الاعتراض به في هذا الدّليل ، مثل قولهم :

فلعلّ العدول عن المعارضة ، إنّما كان لاستصغارهم أمره ، واستبعادهم تمام مثله ، وأنّ الأمر لمّا استفحل وانتظم وتكاثر الأعوان والأصحاب ، علموا أنّ المعارضة لا تغني ، وأنّ الحرب أنجز ، فصاروا إليها. أو لأنّهم علموا زيادة كلامهم على كلامه ، في معنى الفصاحة ، وفضله في الجزالة ، وأنّ بينهما من ذلك ما لا يكاد يخفى على أحد من الفصحاء. ورأوا من إقدامه على تحدّيهم وتقريعهم ما رأوا معه أنّ الحزم في الإمساك عنه والعدول عن مقابلته ، كما يفعل أهل التّحصيل [مع] من تحدّاهم وقرّعهم بما لا يشتبه على أحد فضلهم فيه وتقدّمهم له ؛ لو لا أنّهم أشفقوا من أن يعارضوه فيحصل الخلاف والتّجاذب في المساواة بالمعارضة أو المقاربة ، ويتردّد في ذلك الكلام ، ويمتدّ الزّمان ، فتقوى شوكته وتكثر عدّته ، فخرجوا إلى الحرب لقطع المادّة ، أو لأنّهم علموا أنّ المعارضة إنّما تمكن (١) من علم فيها المماثلة أو المقاربة ، وهم العدد اليسير ، إذا أنصفوا أيضا من نفوسهم ، ولم يتّبعوا أهواءهم.

فأمّا طوائف المتّبعين وعامّة المستجيبين الّذين بهم النّصرة وفيهم الكثرة ، ممّن لا يعلم المفاضلة بين الفصاحتين ؛ فإنّ المعارضة لا تكفّهم ولا يرفعون بمثلها رأسا ؛ لأنّهم لم يستجيبوا بالحجّة ، فتشكّكهم الشّبهة. وإنّما انقادوا بالتّقليد وحسن الظنّ ، أو لبعض أغراض الدّنيا. ومثل هؤلاء لا يفزع فيهم إلّا إلى السّيف ؛ لأنّ هذه الاعتراضات وما ماثلها متى صحّت ، قدحت في أنّ ترك القوم للمعارضة المؤثّرة ، إنّما كان للتّعذّر.

وإنّما وجّهنا دليلنا هذا إلى من يعترف معنا بأنّ هذه المعارضة لم تقع ، وأنّها لم

__________________

(١) في الأصل : ينبئ ، ولعلّ المناسب ما أثبتناه.

٩٨

تقع للتعذّر دون شيء من هذه الأعذار المدّعاة. وكان ما قصدنا (١) به إلى التعذّر إنّما هو للصّرفة لا لفرط الفصاحة ، فليس يجوز أن تتعلّق بشيء من ذلك وتجعله عذرا في ترك المعارضة الّتي ألزمنا وقوعها من يخالف في الصّرفة ، ويوافق في جملة إعجاز القرآن ، لأنّه راجع عليه وعائد إليه.

والجواب عن هذه الشّبهة مستقصى في الكتب ، وقد مضى في أثناء كلامنا في هذا الدليل ما إن حصّل أمكن أن تسقط به جميع هذه الشّبهات ونظائرها.

فإن قال قائل : إنّ العرب كانوا يعلمون ضرورة فرق ما بين فصيح كلامهم وفصاحة القرآن ، فكيف تدّعون مع ذلك ـ في شيء من كلامهم ـ أنّه مساواة ، والجمع الكثير من العقلاء لا يجوز عليهم ادّعاء ما يضطرّون إلى بطلانه ، وإنكار ما يضطرّون إلى صحّته؟!

ولو جاز على الجماعات مثل هذا لم ننكر أن يسأل إنسان بمدينة السّلام عن الجسر (٢) ، ويسترشد إليه ، فيخبره جميع أهلها أو جمهورهم بأنّه في خلاف جهته ، أو يجحدونه وجود الجسر جملة! وإذا استحال هذا فالأوّل مثله.

قيل له : هذه الدّعوى على النّاس الّتي ذكرتها ، من المتكلّمين ، وجعلوها أسّا وعمادا ، وهي مع ذلك غير صحيحة ، ولا خافية الفساد.

وليس يمتنع أن يجتمع العقلاء الكثيرون على إنكار ما يعلمونه ضرورة ، والإخبار بما يعلمون خلافه ضرورة ، إذا اجتلبوا بذلك نفعا ، أو دفعوا به ضررا. لأنّا

__________________

(١) في الأصل : قصدنا ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) يشقّ نهر دجلة مدينة السّلام بغداد ويجعلها نصفين : الكرخ في الجانب الغربيّ ، والرصافة في الجانب الشرقيّ ، ويربط الجانبين جسر ورد ذكره في كتب التاريخ والخطط ، هو الذي أشار إليه عليّ بن الجهم في رائيّته المشهورة :

عيون المها بين الرّصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

٩٩

نعلم أنّ بعض السّلاطين الظّلمة لو بحث عن أموال رعيّته ، وأراد معرفة أحوالهم ، ليغلبهم عليها ويسلبهم ، فاستدعى أهل بلدة وفيهم الكثرة الّتي تمنع من التواطؤ ، ثمّ سأل كلّ واحد منهم على انفراد عن حاله فطالبه بماله ، لكذّبه فيه ، ولما صدقه عنه ، ولامتنع من دلالته عليه وإرشاده إليه. وهو يعلم مكانه ويقف على مبلغه ، ولكان شحّ القوم بالمال وإشفاقهم عليه يقوم مقام التواطؤ والاتّفاق.

إلّا أنّه ليس يجوز ـ قياسا على ذلك ـ أن يخبروا بخبر واحد له صيغة واحدة ، من غير مواطأة ؛ لأنّ العادة تفرّق بين الأمرين لكذبه (١) ، وتوجب حاجة أحدهما إلى المواطأة ، واستغناء الآخر عنها.

وفي هذا كلام كثير قد أحكمه أصحابنا الإماميّة في مواضع ، وفرّقوا بين الكتمان والإخبار ، وما يحتاج من ذلك إلى تواطؤ وما لا يحتاج ، فلذلك اقتصرنا على هذه الجملة ، وهي كافية.

وليس لأحد أن يقول : إنّما جاز ما ذكرتموه في الجماعة الّتي يسألها (٢) السّلطان عن أموالها ، فتكتمها ، أو تدّعي فيها ما يعلم خلافه ؛ لأنّ كلّ واحد منهم يخبر عن ماله ، فإذا كذب في الخبر عنه فإنّما كذب في غير ما كذب الآخر فيه. ومخبرات أخبارهم مختلفة ، وإذا اختلفت جاز هذا فيها ، وفارقت الإخبار عن الشّيء الواحد وكتمانه.

وذلك أنّ هذا الاستدراك لا يغني في دفع كلامنا ؛ لأنّه كان يجب أيضا أن يدّعي كلّ واحد من الفصحاء في بعض الكلام أنّه معارضة للقرآن ، ويكون ما يدّعي الواحد منهم أنّه معارضة غير الّذي ادّعى الآخر ذلك فيه. ولا يمنع كثرتهم من هذه الدّعوى ؛ لأنّهم لم يخبروا عن شيء واحد.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر وجود اضطراب في هذا الموضع.

(٢) في الأصل : يسلبها ، وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

١٠٠