الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

أحدها : أن يكون خارقا للعادة.

ثمّ أن يكون من فعل الله تعالى.

ثمّ يكون واقعا موقع التّصديق للمدّعي ، قائما مقام القول له : إنّك صادق.

فليس خرق العادة وحده هو المعتبر ؛ لأنّ الإخلال بما ذكرناه من الشّروط ـ مع ثبوت خرق العادة ـ كالإخلال بخرق العادة دون ما ذكرناه؟

ومعلوم أنّ المستدلّ متى لم يقطع على أنّ الله تعالى هو المصدّق له ، فلا بدّ أن يكون مجوّزا وقوع التّصديق من بعض من يجوز منه فعل القبيح ، ولا يؤمن من جهته تصديق الكذّاب ، ومع التجويز لذلك لا يحسن منه تصديق المدّعي ، فضلا عن أن يجب عليه.

ولم يدلّ الفعل الواقع من جهته تعالى على النّبوّة ، إذا كان خارقا للعادة من حيث خرقها فقط ، على ما توهّموه في الجواب ، بل بأن تكامل له الشّرطان جميعا (١).

وقولهم : لا فرق في باب خرق العادة ـ بين أن يكون من فعل الله تعالى أو من

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٨ : «إنّ خرق العادة غير كاف إذا جوّزنا أن يخرقها غير الله تعالى ممّن يجوز أن يفعل القبيح ويصدّق الكذّاب ، وإنّما دلّ خرق العادة من فعله تعالى لأنّنا نأمن فيه وقوعه على وجه يقبح. وإذا كنّا نجوّز على الملائكة ـ قبل العلم بصحّة النبوّة ـ أن يفعلوا القبيح ، فلا يجوز أن يجري تصديقهم لمن يصدّقوه ، وإن خرق العادة ، مجرى ما يفعله الله تعالى من ذلك.

وأيّ فرق بين ما نجوّز فيه أن يكون من فعلنا ، وبين ما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّيّ أو ملك في ارتفاع دلالته على النبوّة؟ وهل كان ما يجوز أن يكون من فعلنا غير دالّ على النبوّة إلّا من حيث جاز أن نفعل القبيح ونصدّق الكذّاب؟ وهذا بعينه قائم فيما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّيّ أو ملك ، وإن خرق العادة إذا جوّزنا أن يخرقها من لا يؤمن منه فعل القبيح».

١٤١

فعل الملك ـ صحيح ، غير أنّ الفرق وإن لم يكن بينهما من هاهنا فهو حاصل بينهما في الدّلالة على الصّدق الّتي هي مقصدنا.

فامّا قولهم في أوّل الكلام : إنّ المراعى خرق العادة ، وظهور ما لو لا صدق المدّعي لم يظهر ؛ فهو المطلوب ، ولكن لا سبيل إليه مع (تجويز أن يقع) (١) التّصديق ممّن لا يؤمن منه فعل القبيح ؛ لأنّ مع التجويز لا نأمن أن يكون المدّعي غير صادق ، وإن ظهر الفعل المخصوص على يده.

وإنّما نأمن ذلك ونقطع على أنّ ظهوره يدلّ على الصّدق وأنّه لو لا صدقه لم يظهر ، إذا علمناه من فعل الحكيم الّذي لا يقع منه القبائح ، جلّ وتعالى علوّا كبيرا.

ونحن نزيد في استقصاء الكلام على هذا الموضع فيما بعد ، فقد تعلّق به صاحب الكتاب الّذي قدّمنا ذكره ، ووعدنا بتتبّعه.

طريقة أخرى

وقد أجيب عنه :

بأنّ العلم حاصل لكلّ عاقل بأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الآتي بهذا القرآن والمظهر له ، على حدّ حصول العلم بوجوده عليه‌السلام ، ودعائه إلى الله تعالى ، وتحدّيه العرب بالإتيان بمثل ما أتى به.

وإذا كان ما اعترض به من سؤال الجنّ يوجب رفع العلم الّذي ذكرناه ، وجب اطّراحه. وليس هذا بشيء ؛ لأنّ الّذي وقع العلم به وارتفع الشكّ فيه هو أنّ القرآن لم يسمع إلّا من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يظهر لنا إلّا من جهته.

فأمّا العلم بأنّه من فعله أو أنّه لم يأخذه من غيره ، فليس معلوما (٢) ، بل

__________________

(١) في الأصل : التجويز أنّ وقوع ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) في الأصل : معنا ، والظاهر ما أثبتناه.

١٤٢

المعلوم لنا خلافه ؛ لأنّه عليه‌السلام قد نفى أن يكون من كلامه ، وخبّرنا بأنّه لقنه من ملك ، هو رسول الله.

وفي هذا تأكيد الشّبهة على طريقة خصومنا ؛ لأنّ للمخالف أن يقول : اعملوا على أنّي سلّمت أنّه ليس من كلامه ، من أين لكم أنّ الملك الّذي ألقاه إليه وادّعى أنّه رسول الله صادق؟ ولعلّه لم يأت عن أمر الله ولا برسالته ، فيعود الأمر إلى السؤال الّذي ذكرناه في صدر هذا الفصل ، ويحتاج في الجواب عنه إلى غير ما ذكرناه.

طريقة أخرى

وربّما أجاب بعضهم بأن يقول :

إنّما ثبت وجود الجنّ بعد ثبوت نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّا من جهته علمنا وجودهم ، فكيف يصحّ القدح في النّبوّة بما لا يصحّ إلّا بعد صحّتها؟

وهذا في غاية الرّكاكة ؛ لأنّ السّؤال الّذي أوردناه لا يفتقر في لزومه إلى القطع على وجود الجنّ وإثبات كونهم (١) ، بل لو سلّم أنّ جهة العلم بوجود الجنّ هي قول نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما وردت به شريعتنا لكان الكلام لازما ؛ لأنّ العقل لا بدّ أن يكون مجوّزا لأن يكون لله تعالى خلق هم جنّ ، ولو لا أنّ ذلك جائز في العقل لما صحّ ورود الشّرع به ؛ لأنّ الشّرع لا يرد بإثبات ما يحيله العقل. وإذا جاز ذلك في العقل لزم الكلام.

وقال المخالف : إذا جاز في عقولكم أن يكون لله تعالى خلق غائبون عن أبصاركم ، لا تبلغكم أخبارهم ، ولا تحيطون علما بمبلغ قواهم وعلومهم ـ كما

__________________

(١) أي كينونيّتهم ووجودهم.

١٤٣

تدّعون الإحاطة بذلك في الإنس ـ فلعلّ بعضهم صنع هذا الكتاب وأظهره على يد من ظهر من جهته!

وبعد ، فإنّ القطع على وجود الجنّ ليس موقوفا على شريعتنا كما ظنّوه ، بل هو موجود في شريعة اليهود والنّصارى والمجوس والمانويّة. وجميع طوائف الثّنويّة تعتقد أيضا وجودهم ، فشهرة ذلك ـ فيمن ذكرناه ـ تغني عن إقامة دلالة عليه.

وفي الجملة ، فإنّ من كان يثبت الجنّ ـ من طوائف النّاس ـ قبل شريعتنا ، أكثر ممّن كان ينفيهم ، فكيف يدّعي أنّ إثباتهم موقوف على شريعتنا ، لو لا الغفلة؟!

طريقة أخرى

وممّا قيل في الجواب عمّا أوردناه :

إنّ القرآن لو كان من فعل الجنّ لم يخل من أن يكون من فعل عقلائهم ، أو من فعل ذوي النّقص منهم ؛ فإن كان من جهة ناقصيهم ومن ليس بكامل العقل منهم ، فيجب أن يظهر فيه الاختلال والتّفاوت ؛ لوجوب ظهور ذلك في أفعال ذوي النّقص.

وإن كان من فعل العقلاء لم يخل أن يكون فعله المؤمنون منهم ، أو الكفّار الفاسقون.

وليس يجوز أن يكون فعلا للمؤمنين ، والمقصود به التلبيس على المكلّفين والإضلال لهم ، وإدخال الشّبه عليهم.

ولو كان من فعل كفّارهم لوجب أن يعارضه المؤمنون ، ويتولّوا إظهار مثله على يد من يزيل عن النّاس الشّبهة به ، وذلك من أكبر قربهم إلى الله تعالى.

وإذا فسدت كلّ هذه الأقسام بطل أن يكون من صنيع الجنّ على وجه.

١٤٤

فيقال لمن تعلّق بهذا : ليس يجب لو كان من فعل النّاقص عن كمال العقل أن يظهر فيه الاضطراب والتّفاوت كما ظننت ؛ لأنّ الحذق بأكثر الصّنائع لا يفتقر إلى كمال العقل ووفوره ، وإنّما يحتاج في الصّنعة المخصوصة إلى العلم بها ، فليس يضرّها ـ مع وجود العلم بها ـ فقد العلوم الّتي هي العقل ، ولهذا نجد كثيرا من أهل الحذق بالصّنائع والتّقدّم فيها بلها [غير] عقلاء ، ويقطع في أكثرهم على خروجه من جملة المكلّفين ، وبعده عن كمال العقل!

فمن أين لك أنّ فقد التّفاوت والاختلال يدلّ على أنّه ليس من فعل خارج عن الكمال؟ ثمّ من أين أنّ المؤمنين من الجنّ لا يقع منهم استفساد لنا وتلبيس علينا ، ونحن نعلم أنّ الإيمان لا يمنع من المعاصي والفسوق؟

وأكثر ما في هذا الفعل أن يكون معصية لله تعالى ، والإيمان غير مانع من ذلك ، سواء [من] قبل مذهب أصحاب الإحباط (١) ، أو مذهب من نفاه ؛ لأنّه على المذهبين معا جائز أن يعصي المؤمن. وإنّما الخلاف في زوال ثواب إيمانه بالمعصية ، أو ثبوته معها.

ثمّ من أين أنّ كفّار الجنّ لو كانوا صنعوه لوجب أن يعارضه المؤمنون؟! وهذا إنّما يثبت لك بعد ثبوت أمرين :

أحدهما : أن مؤمني الجنّ لا بدّ أن يتمكّنوا من الفصاحة التي يتمكّن كفّارهم

__________________

(١) الإحباط يراد به خروج الثواب والمدح المستحقّين بثواب ومديح ، عن كونهما مستحقّين بذمّ وعقاب أكثر منها لفاعل الطاعة.

ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الكفر يزيل استحقاق ثواب الطاعات السابقة ، والإيمان يزيل استحقاق العقاب السابق ، وإنّما الخلاف في أنّه هل يجوز اجتماع استحقاق الثواب والعقاب من غير أن يحبط أحدهما الآخر أم لا؟ فمن يذهب إلى عدم جواز اجتماع الاستحقاقين يقول بالإحباط ، وهو مذهب الأشاعرة وجمهور المعتزلة. والإماميّة على خلافهم ؛ فإنّهم يقولون بأنّ العقاب الطارئ لا يحبط الثواب الأوّل.

١٤٥

منها ، حتّى لا يزيدوا في ذلك عليهم.

والآخر : (أنّ المؤمنين لم يخلّوا) (١) بالواجب عليهم.

فكلّ واحد من الأمرين لا سبيل لك إلى إثباته.

أمّا الوجه الآخر : فقد بيّنا ما فيه ، وقلنا : إنّ الإيمان لا يمنع من مواقعة المعاصي ، فكذلك هو غير مانع من الإخلال بالواجب ؛ لأنّ الإخلال بالواجب ضرب من المعاصي.

وأمّا الأوّل : فليس يمتنع أن يختصّ العلم بالفصاحة بالجيل الذين هم كافرون ؛ لأنّ العلم بالمهن والصّنائع قد يخصّ قبيلا دون قبيل وجيلا دون جيل ، وليس يجب في ذلك الشّمول والعموم. ألا ترى أنّ العلم بالفصاحة قد اختصّ به العرب دون العجم ، ثمّ قبائل من العرب دون قبائل ، ثمّ سكّان ديار مخصوصة دون غيرها ، وضروب من الصّنائع كثيرة قد اختصّ بعلمها قوم ، حتّى لم يتعدّهم ، لو شئنا عددناها؟

وإذا جاز هذا ، فما المانع من أن تكون الفصاحة ـ أو هذا الضرب منها ـ إنّما اختصّ به طوائف من الجنّ كافرون ، ولم يتّفق أن يكون في جملتهم مؤمن؟! وجواز ذلك كاف فيما أوردناه ؛ فقد صحّ ضعف التعلّق بهذه الطريقة من كلّ وجه.

وممّا قيل في الجواب عنه :

إنّه لو كان من فعل الجنّ أو في مقدورهم لوجب مع تحدّيهم به وتقريعهم بالعجز عنه أن يأنفوا ، فيظهروا أمثالا على سبيل المعارضة.

ولو جاز أن يمسكوا عن (٢) المعارضة ، وإظهار ما يدلّ على أنّه من فعلهم

__________________

(١) في الأصل : أنّهم لأخلّوا ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.

١٤٦

ومنقول من عندهم لجاز مثل ذلك في العرب ؛ فكنّا لا نأمن أن يكون أكثر العرب قادرين على المعارضة متمكّنين منها ، وإن كانت لم تقع منهم.

فلمّا فسد ذلك في العرب ـ من حيث علمنا أنّ التحدّي لا بدّ أن يبعثهم على إظهار ما عندهم ، بل وعلى تطلّب ما ليس عندهم ـ وجب مثله في الجنّ لو كانت قادرة على مثل القرآن ؛ لعموم التحدّي للكلّ وتوجّهه إلى الجميع ، لا سيّما والقرآن مصحّح لدعوة من نهى عن اتّباع الشياطين والاغترار بهم ، وآمرنا بالاستعاذة منهم والبراءة من أفعالهم.

وهذا كلام في غاية البعد عن الصّواب ؛ لأنّنا إنّما نوجب في العرب المسارعة إلى المعارضة لو كانوا قادرين عليها ، من حيث علمنا توفّر دواعيهم إليها ، وأنّهم قد قاربوا حدّ الإلجاء (١) إلى فعلها. ووجه ذلك ظاهر ؛ لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حملهم على مفارقة أديانهم ، وخلع آلهتهم ، وتعطيل رياستهم وعبادتهم ، وحرّم عليهم أكثر ما كانت جرت به عاداتهم من المآكل والمشارب والمناكح ووجوه المتصرّفات ، وألزمهم من العبادات والكلف ما يشقّ على نفوسهم ، ويثقل على طباعهم. هذا ، إلى تعجيزه لهم فيما كان إليه انتهاء فخرهم ، وبه علوّ كلمتهم من الفصاحة التي كانت مقصورة عليهم ، ومسلّمة إليهم. وليس هذا ـ ولا شيء منه ـ موجودا في الجنّ ، فيحمل حالهم على العرب!

وأمّا التّحدّي والتقريع فإنّما يأنف منهما من أثّر في حاله وحطّ من منزلته ، فيبادر إلى المعارضة إشفاقا من الضّرر النازل به. فأمّا من لا يشفق من تغيّر حال فينا ، وانخفاض مرتبة عندنا ، وليس مخالطا لنا فيحفل بذمّنا أو مدحنا ، فليس يجب فيه شيء ممّا أوجبناه في غيره.

__________________

(١) أي الاضطرار والإكراه على فعل الشيء.

١٤٧

ولا ضرر أيضا على الجنّ في النّهي عن اتّباعهم ، واستماع غرورهم (١). ولو سلّم في ذلك ضررا ، لكان ما يعود على الجنّ ـ من الشّرف وشفاء الغيظ ، بإدخال الشّبهة علينا ، ونفوذ حيلتهم ومكيدتهم فينا ـ يزيد عليه ويوفي ، من حيث كان في طباعهم عداوة البشر والسّعي في الإضرار بهم. والضّرر اليسير قد يتحمّل في مثل ما ذكرناه ، وهذا كاف.

طريقة أخرى

وممّا ذكر في جوابه :

أنّ القرآن لو جاز أن يكون من فعل الجنّ وممّا يتمكّن من إلقائه إلينا وإظهاره على يد بعضنا لكانت العرب تواقف على ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحتجّ به عليه ، وتقول له : ما أتيتنا به واحتججت علينا بالعجز عنه ليس يجب أن يكون من فعل ربّك على جهة التّصديق لك ؛ لأنّ الجنّ جائز أن يقدروا عليه ، فلا أمان لنا من أن يكون من فعلهم. وإنّما ألقوه إليك طلبا لإدخال الشّبهة علينا ، فلا نبوّة لك بذلك ، ولا فضيلة! (٢)

وليس يجوز أن يغفلوا عن الاحتجاج بمثل هذا ـ لو كان جائزا ـ مع علمنا بتغافلهم في رفع أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كلّ باطل ، وطرحهم أنفسهم كلّ مطرح.

والحازم العاقل لا يعدل عن أقوى الحجّتين وأوضح الطريقتين ، إلى الأضعف

__________________

(١) أي جهالاتهم.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٢ : «وممّا أجاب به القوم عن سؤال الجنّ : أنّ القرآن لو كان من فعل الجنّ لوقفت العرب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك ، ولقالت له : ليس في عجزنا من مقابلتك دليل على نبوّتك ، لأنّه جائز أن يكون الجنّ ألقته إليك!».

١٤٨

الأغمض ، والجميع معرض له (١).

وإذا كنّا قد أحطنا علما بأنّ ذلك ما لم يحتجّ به العرب ، ولم يتفوّهوا (٢) بشيء منه ، قطعنا على أنّه لم يكن.

وهذا أضعف من كثير ممّا تقدّم ؛ لأنّه يوجب أن تكون العرب عارفة بكلّ شبهة يمكن إيرادها في إعجاز القرآن ، حتّى لا يخطر ببال أحد من المتكلّمين شيء في هذا المعنى إلّا وقد سبق خطوره لهم. وقد علمنا أنّ ذلك ليس بواجب (٣).

[و] لو كان مثل هذا الاحتجاج صحيحا لوجب أن يستعمل في الجواب عن كلّ شبهة يوردها المخالفون في القرآن ، فيقال في كلّ ما يرد من ذلك :

لو كانت هذه الشّبهة قادحة في إعجاز القرآن ومؤثّرة في صحّة دلالته على النّبوّة ، لوجب [أن] تواقف العرب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على معناها ، وتحاجّه بها ، وتجعل علمنا بفقد موافقتهم على ذلك دليلا على بطلان التعلّق به. فيؤول الأمر إلى أنّ الجواب عن جميع شبه المخالفين في القرآن واحد لا يحتاج إلى أكثر منه ، ويصير جميع ما تكلّفه المتكلّمون ـ من الأجوبة والطرق ، وما خصّوا به كلّ شبهة من القدح (٤) ـ عيبا (٥) وفضلا وعدولا عن الطريق الواضح إلى الوعر الشاسع.

وإنّما يحتجّ بمثل هذه الطّريقة من يحتجّ بها فيما يعلم أنّ العرب به أبصر منّا ، وأهدى إلى استخراجه من جميعنا ، بشروط الفصاحة ومراتبها ، ومبلغ ما جرت به

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) في الأصل : يتفوّه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٢ : «وهذا من ضعيف التعلّل ؛ لأنّه ليس بواجب أن تعرف العرب هذا القدح ، ولا تهتدي إلى هذه الشبهة. وكم أورد المبطلون في القرآن من الشبهات التي لم تخطر للعرب ببال. ولا رأينا أحدا من المتكلّمين والمحصّلين جعل جواب هذه الشبهة أنّها لو كانت صحيحة لواقف عليها العرب».

(٤) في الأصل : القدم ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٥) وردت في الأصل : عسا ـ غير منقوطة ـ والظاهر أنّها : عيبا ، أو عنتا.

١٤٩

العادات فيها ، وكيفيّة التفاضل في صناعتها (١).

فنقول : لو كانت فضيلة القرآن في الفصاحة على سائر كلام العرب كفضيلة بعض الشّعراء على غيره ، أو لو كانت مرتبته في الفصاحة ممّا قد جرت به العادة بالبلوغ إليها ـ لكن باستعمال التكلّف الشديد والتعمّل الطويل ـ لوجب أن تواقف العرب على ذلك وتبين عنه ، وذلك إذا ادّعى من ذهب في إعجازه إلى النّظم أنّ جهة إعجازه بنظم غير مسبوق إليه.

يمكن أن يقال له : لو كان ما ظننته صحيحا لوقفت العرب على أنّ ذلك ليس بمعجز ، من حيث كانوا يعلمون من أنفسهم أنّهم قد سبقوا إلى ضروب من النّظوم كثيرة ، وأنّ حال بعض من سبق إلى بعض النّظوم لا يزيد على بعض في معنى السّبق.

وكلّ هذا إنّما أمكن الرّجوع فيه إلى هذه الطريقة ؛ لأنّه ممّا لا بدّ أن يقف عليه العرب ، ولأنّ مرجع غيرهم في العلم به إليهم ، فيجعل إمساكهم عن ذكره دليلا على أنّه لم يكن ، ويحيل (٢) عليهم بما لا بدّ (٣) أن يزيد حالهم فيه على حالنا ، وبما إن خفي علينا فلا بدّ أن يكون ظاهرا لهم.

وليس كلّ الشّبه تجري هذا المجرى ، ألا ترى أنّا إذا سئلنا ، فقيل :

لعلّ القرآن وإن كان من فعل الله تعالى ، فإنّه لا يدلّ على تصديق من ظهر على

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٢ : «وإنّما تحيل على العرب ، وتوجب أن يواقفوا عليه فيما يختصّ بالفصاحة ، وما يجوز فيها من التقدّم والتأخّر ، وجهات التفاضل ، وما أشبه ذلك ممّا المرجع فيه إليهم والمعوّل عليهم. فأمّا في الشبهات التي لا يخطر مثلها ببالهم ، ولا يهتدون إلى البحث عنها ، فلا معنى للحوالة عليهم بها».

(٢) وردت في الأصل : يحيل ـ غير منقوطة ـ والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : بالأبد ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

١٥٠

يديه ؛ لأنّه غير ممتنع أن يكون الله تعالى فعله لا للتصديق ، بل للمحنة وتغليظ البلوى ، أو لوجه أخر من المصلحة.

أو قيل لنا على طريقتنا في الصّرفة : اعملوا على أنّ الله تعالى صرف عن معارضة القرآن ، من أين لكم أنّه فعل ذلك تصديقا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

لم نفزع إلى أن نقول : الدّليل على أنّه لم يرد إلّا التّصديق أنّه لو احتمل خلافه لوقفت العرب على ذلك ، ولقالت كيت وكيت.

وكذلك لو سئلنا ، فقيل لنا :

ما أنكرتم أن يكون القرآن غير معجز ولا دالّ على التّصديق ؛ لأنّه من جنس مقدور البشر. والمعجز لا يكون إلّا بما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه. وبيّن أن يكون ممّا يقدر العباد على جنسه أنّ العرب لم تواقف عليه ، ولم تحتجّ به ، وأنّه لو كان بين الأمرين فرق في معنى الدّلالة لوجب أن تقع منها المواقفة ، بل كنّا نعدل في الجواب عن جميع هذه الشّبه إلى ذكر ما يبطلها ، من غير أن نحيل بذلك على غيرنا ، ولا يجري الكلّ مجرى واحد.

ثمّ يقال للمتعلّق بما حكيناه : أيجوز عندك أن يخطر لمن تأخّر من المتكلّمين أو لبعض مخالفي الملّة ، شبهة في القرآن لم تخطر للعرب؟

فإن قال : يجوز ذلك ولا يمتنع.

قيل له : فلعلّ هذه الشّبهة لم تخطر للعرب ، فلهذا لم يواقفوا عليها.

وإن قال : لا يجوز أن يخطر لأحد في هذا المعنى ما لم يخطر للعرب.

قيل له : ولم قلت ذلك؟ وكيف ظننت أنّ العرب لا بدّ أن تعرف كلّ شيء ، ويخطر ببالها دقيق هذا الباب وجليله؟!

وهذا يوجب أن يكون جميع ما زاده المتكلّمون على نفوسهم من الشّبه في القرآن وأجابوا عنه ، وكلّ ما استدركه بعضهم على بعض ، وفرّعوه على مذاهبهم ،

١٥١

وملئوا به الدّروس (١) ، واستنفدوا فيه الأعمار ، كان مستقرّا عند العرب ومجموعا علمه لهم. وليس يظنّ مثل هذا الأمر ذو العقل فضلا عن أن يعتقده.

وكيف يتوهّم هذا ، ونحن نعلم أنّ شبهة الجنّ إنّما زادها متكلّموا الإسلام على أنفسهم قريبا ، ولقنها منهم المخالفون في الملّة ، واتّخذوها شبهة وعمدة. وأنّها لم توجد في كتب من تقدّم من المتكلّمين وفي جملة ما زادوه على نفوسهم في القرآن ، مع ما أنّهم قد استقصوا ذلك بجهدهم ، وبحسب مبلغ علمهم؟!

ولا سمعت أيضا فيما تقدّم [من] أحد من المخالفين ، مع تعلّقهم بكلّ باطل وتوصّلهم إلى كلّ ضعيف من الشّبه. وما يغرب استدراكه على حذّاق المتكلّمين ووجوه النظّارين ، ثمّ على أهل الخلاف في الله (٢) ـ وفيهم من له حذق بالنّظر وخواطر قريبة فيه ـ أولى وأحرى بأن يذهب على العرب ، ولا يخطر لهم ببال ، وليس النظر من صنعتهم ، ولا استخراج ما جرى هذا المجرى في قولهم؟!

ثمّ يقال لهم : إذا جعلتم ترك العرب المواقفة على ما ذكرتموه دليلا على أنّ القرآن ليس من فعل الجنّ ، ولا واردا من جهتهم ، فخبّرونا عنهم لو واقفوا على ذلك وادّعوه لكانت مواقفتهم دليلا على أنّه من فعل الجنّ!

فإن قالوا : «نعم» قالوا ما يرغب بالعقلاء عن مثله ، وطولبوا بتأثير موافقتهم وتركها في الأمرين جميعا ، ووجه دلالتها ، فإنّهم لا يجدون متعلّقا.

فإن قالوا : لا تدلّ دعواهم على أنّه من فعل الجنّ ، ومواقفتهم على ذلك على أنّه من فعلهم في الحقيقة.

قيل لهم : فكيف لم تدلّ المواقفة على هذا ، ودلّ تركها على ما ادّعيتموه؟!

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولعلّها : الطّروس ، أي الأوراق.

(٢) كذا في الأصل.

١٥٢

وأيّ تأثير لتركها ليس (هو لفعلها) (١)؟

فإن قالوا : لأنّه لو كان من فعل الجنّ لوجب أن يخطر ذلك ببال العرب ، مع اجتهادهم في التماس الشّبهات ، [و] لو خطر لهم لوقفوا عليه. وإذا لم يفعلوا فلأنّ ذلك ممتنع عندهم.

وليس دعواهم أنّه من فعل الجنّ بهذه المنزلة ؛ لأنّهم قد يجوز أن يكذبوا (٢) بادّعاء ذلك ، ويحملهم القصور عن الحجّة ، وقلّة الحيلة على البهت والمكابرة (٣).

قيل لهم : هذا رجوع إلى أنّ العرب يجب أن تعرف كلّ شيء ، وقد قلنا في ذلك ما فيه كفاية.

وبعد ، فليس يمكنكم أن تقولوا : إنّ الجنّ لو كانت فعلت القرآن لوجب أن تعلم العرب بحالهم ؛ لأنّه لا دليل لهم على مثل هذا ، ولا طريق يوصلهم إلى العلم به.

وأكثر ما تدّعون أن تقولوا : إنّ العرب لا بدّ أن يخطر ببالها جواز كون مثل القرآن في مقدور الجنّ ، وإذا خطر لها ذلك ولم يؤمنها من أن تكون فعلته وأظهرته شيء ، لم يكن لها بدّ من المواقفة عليه! وهذا ممّا لا فرج لكم فيه ، لأنّا نقول عنده :

__________________

(١) في الأصل : هذا فعلها ، والمناسب ما أثبتناه مطابقا لما في الذخيرة / ٣٩٣.

(٢) في الأصل : يتكذّبوا ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٢ ـ ٣٩٣ : «خبّرنا لو واقفت العرب على ذلك وادّعت في القرآن أنّه من فعل الجنّ ، أكان ذلك دالّا على أنّه من فعل الجنّ على الحقيقة؟

فإن قال : نعم ، قيل له : كيف؟ وكيف يدلّ على ذلك ، وأيّ تأثير لدعواهم في تحقيق هذا الأمر؟

وإن قال : لا يدلّ ، قيل له : كيف لم تدلّ المواقفة على أنّه من فعلهم ، ودلّ تركها على أنّه ليس من فعلهم ، وأيّ تأثير للترك ليس هو للفعل؟».

١٥٣

فاذكروا ما الّذي أمن العرب من أن يكون الجنّ فعلته ـ مع تجويزها أن يكون مقدورا ـ حتّى عدلت من أجله عن المواقفة؟ وأشيروا إليه بعينه ؛ فإنّ هذا ممّا لا يحسن أن يقع الحوالة به على العرب ، فإنّ حالهم فيه إن لم ينقص عن حال النّظّارين المتكلّمين ، لم يزد! وما فينا إلّا من يجوّز أن يخطئ العرب ومن هو أثبت معرفة من العرب في مثل هذا ، ويعتقد فيه خلاف الحقّ (١). فيعود الكلام إلى أنّ الجواب عن السّؤال يجب أن يذكر بعينه ، ليقع النظر فيه والتّصفّح له ، ويكون الحكم على صحّته أو فساده بحسب ما يوجبه النّظر. وأنّ (الحوالة في وقوعه) (٢) على غائب لا تغني شيئا.

طريقة أخرى

وممّا يمكن أن يقال في السّؤال الذي ذكرناه :

إنّ تجويز كون القرآن من صنع الجنّ وما ألقته إلينا ـ طلبا لإدخال الشّبهة ـ يؤدّي إلى الشّكّ في إضافة الشّعر إلى قائليه والكتب إلى مصنّفيها ، وجميع الصنائع إلى صنّاعها! وكنّا لا نأمن أن يكون الشّعر المضاف إلى امرئ القيس ليس له ، وإنّما هو من قول بعض الجنّ ألقاه إليه لبعض الأغراض ، وأن يكون امرؤ القيس من أعجز النّاس عن قول الشّعر ، وأبعدهم عن نظمه ورصفه! وكذلك «الكتاب»

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٩٣ : «على أنّهم إذا جعلوا ترك المواقفة دليلا على أمان العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ ، فإنّا نقول لهم : ما الّذي أمنت العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ ، حتى أمسكت لأجله عن المواقفة؟ أشيروا إليه بعينه حتّى نعلمه ، وتكون الحجّة به قائمة إن كان صحيحا ، فإنّ هذا ممّا لا يحسن الحوالة به على العرب ، وحال المتكلّمين فيه أقوى ، وهم إليه أهدى!!».

(٢) في الأصل : أحواله في وقعه ، والمناسب ما أثبتناه.

١٥٤

المنسوب إلى سيبويه في جمعه وترتيبه ، ولا معرفة له بشيء منه.

فإذا كان الشّكّ فيما ذكرناه يقرب من مذاهب السّوفسطائيّة ، وإن لم يكن بينه وبين ما ألزمناه فرق ، وجب فساد الاعتراض بذكر الجنّ.

فأوّل ما نقوله في الكلام على من تعلّق بهذه الطريقة :

إنّ سائلها لم يجب عمّا سئل عنه ، ولا انفعل ممّا ألزمه ، وإنّما عارض بما ظنّ أنّه لا فصل بينه وبين ما أورد عليه.

ولو قيل له : أذكر ما يؤمن من الجميع ، وأظهر له الشّك في الكلّ لافتقر ضرورة إلى الجواب ؛ اللهمّ إلّا أن يقول : إنّني أعلم ضرورة صحّة إضافة هذه الأشعار والكتب إلى من أضيفت إليه ، ولا يعترض شكّ في ذلك.

فيقال له حينئذ : أفتعلم أيضا ضرورة أنّ القرآن ليس من فعل الجنّ ، ولا يعترضك شكّ فيه؟

فإن قال : «نعم» ، كفى مئونة الاحتجاج ، ووجب عليه أن يجعل ذكر العلم الضّروريّ هو الجواب عمّا سئل عنه ، فلا يتشاغل بغيره!

ولو كان هذا معلوما ضرورة لما صحّ من العقلاء التّنازع فيه ، ولوجب أن يشتركوا في معرفته ، وليس هم كذلك.

فإن قال : لست أعلم ما ذكرتموه في القرآن ضرورة ، وإن كنت أعلم الأوّل.

قيل له : قد حججت نفسك ، لأنّ خصمك يقول لك : الفرق بين الموضعين هو العلم الضّروريّ الحاصل في أحدهما ، وتعذّره في الآخر.

على أنّ المعارضة أيضا موضوعة غير موضعها ؛ لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل قطّ إنّ القرآن من فعله وإنّه المبتدئ به ، بل ذكر صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ملكا أنزله عليه بأمر ربّه ـ جلّت عظمته ـ على ما ذكرناه من قبل ، ولا ادّعى أحد من تابعيه أيضا له أنّه فعل القرآن.

وكيف يصحّ حمل ذلك على كتاب أو شعر ظهر من جهة رجل بعينه ادّعاه

١٥٥

لنفسه ، وأنّه المتفرّد بنظمه ورصفه ، وسلّم إليه جميع النّاس في دعواه ، وأضافوا إليه ما أضافه إلى نفسه ، ولم يعثر في أمره على منازع ولا مخالف؟!

وإنّما تكون هذه المعارضة مشبهة للمعارضات لو كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مضيفا للكتاب إلى نفسه ، وذاكرا أنّه من فعله ، فيسقط قول من نفاه عنه وشكّ في إضافته إليه بمثل ما ذكر.

فأمّا والأمر على ما ذكرناه لكان هذا المعارض يقول :

إذا جاز أن يكون القرآن ـ الذي لم يدّعه من ظهر على يديه ، ولا أضافه إلى نفسه ـ فعلا لغيره ، فليجوّزنّ أن يكون ما ادّعاه الشّعراء والمصنّفون من شعرهم وكتبهم أضيف إليهم ولم يظهر إلّا من جهتهم ، فعلا لغيرهم؟! وليس يخفى بعد هذه المعارضة على هذا الوجه.

وبعد ، فمع التّجويز لوجود الجنّ وتمكينهم من التصرّف في ضروب العلوم والكلام ، [و] عدم ما يؤمن من إتيانهم في ذلك إلى حدّ مقطوع عليه ، لا بدّ من الشّكّ في جميع ما ذكر.

وكيف لا يشكّ فيه والشّعراء أنفسهم يدّعون أنّ لهم أصحابا من الجنّ يلقون الشّعر على ألسنتهم ، ويخطرونه بقلوبهم؟! وهذا حسّان بن ثابت يقول (١) :

ولي صاحب من بني الشّيصبان (٢)

فطورا أقول ، وطورا هوه!

وقصّة الفرزدق في قصيدته الفائيّة مشهورة ، وذلك أنّ الرّواية جاءت بأنّه كان جالسا في مسجد المدينة ، في جماعة فيهم كثير (٣) عزّة ، يتناشدون الأشعار ، حتّى

__________________

(١) ديوان حسّان بن ثابت / ٢٥٨.

(٢) الشيصبان : قبيلة من الجنّ.

(٣) هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعيّ ، أبو صخر ، شاعر مشهور من أهل المدينة ،

١٥٦

طلع عليهم غلام ، فقال : أيّكم الفرزدق؟

فقال له بعض الحاضرين : أهكذا تقول لسيّد العرب وشاعرها؟

فقال : لو كان كذلك لم أقل له هذا! قال له الفرزدق : من أنت ، لا أمّ لك؟!

قال : رجل من الأنصار من بني النّجّار ، ثمّ أنا ابن أبي بكر بن حزم ، بلغني أنّك تقول إنّي أشعر العرب ، وقد قال صاحبنا حسّان شعرا ، فأردت أن أعرضه عليك ، وأؤجّلك فيه سنة ، فإن قلت مثله فأنت أشعر النّاس ، وإلّا فأنت كذّاب منتحل! ثمّ أنشده :

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (١)

إلى آخر القصيدة. وقال له : قد أجّلتك فيه حولا.

ثمّ انصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه حتّى خرج من المسجد ، فعجب الحاضرون ممّا جرى. فلمّا كان من الغد أتاهم الفرزدق وهم مجتمعون في مكانهم ، فقال : ما فعل الأنصاريّ؟ فنالوا منه وشتموه ، يريدون بذلك أن تطيب نفس الفرزدق. فقال : قاتله الله! ما رميت بمثله ، ولا سمعت بمثل شعره!

ثمّ قال لهم : إنّي فارقتكم بالأمس فأتيت منزلي ، فأقبلت أصعّد وأصوّب في كلّ فنّ من الشّعر ، وكأنّي مفحم لم أقل شعرا قطّ ، حتّى إذا نادى المنادي الفجر (٢)

__________________

وأكثر إقامته كانت بمصر ، كان شاعر بني مروان يعظّمونه ويكرمونه. كان دميما قصيرا متيّما بحبّ عزّة بنت جميل ، مات بالمدينة سنة ١٠٥ ه‍.

(١) ديوان حسّان بن ثابت / ٢٢١. يفخر حسّان بهذا البيت وغيره من أبيات القصيدة بكرم قومه ونجدتهم. الجفنات : القصاع. الغرّ : البيض من كثرة الشحم الذي فيها ، وكثرته دليل على الكرم.

(٢) كذا في الأصل : وفي الأغاني ٩ / ٣٣٨ : بالفجر.

١٥٧

رحلت ناقتي ، ثمّ أخذت بزمامها. فقدت بها (١) حتّى أتيت ذبابا ـ وهو جبل بالمدينة ـ ثمّ ناديت بأعلى صوتي : أجيبوا أخاكم أبا لبينى!

فجاش صدري كما يجيش المرجل (٢) فعقلت ناقتي ، وتوسّدت ذراعها ، فأقمت حتّى قلت مائة وأربع عشرة قافية! فبينا هو ينشدهم ، إذا طلع الأنصاريّ حتّى انتهى إليهم ، فقال :

أما إنّي لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقّتّه لك ، ولكنّي أحببت ألّا أراك إلّا سألتك ما صنعت؟ فقال له الفرزدق : اجلس ، ثمّ أنشده.

عزفت بأعشاش ، وما كنت (٣) تعزف

فأنكرت (٤) من حدراء ما كنت تعرف (٥)

و «أبو لبينى» الّذي ناداه الفرزدق في هذه القصيدة هو الذي يقال : إنّه شيطان الفرزدق والمظاهر له على قول الشّعر والملقية إليه ، كما قالوا : إنّ عمرا شيطان المخبّل السّعديّ (٦) ، وإنّ مسحلا شيطان الأعشى. وأنشدوا في ذلك قول الأعشى :

دعوت خليلي مسحلا ، ودعوا له

جهنّام ، جدعا للهجين المذمّم (٧)

وهو الّذي يعنيه بقوله في هذه القصيدة أيضا :

حباني أخي الجنّيّ ، نفسي فداؤه

بأفيح جيّاش من الصوت خضرم (٨)

__________________

(١) في الأغاني : فقدتها.

(٢) المرجل : قدر من نحاس ، وقيل : يطلق على كلّ قدر يطبخ فيها.

(٣) في الديوان والأغاني : كدت.

(٤) في الديوان : وأنكرت.

(٥) شرح ديوان الفرزدق لإيليا حاوي ٢ / ١١٣.

(٦) هو ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف السّعديّ ، من بني تميم ، شاعر فحل من مخضرمي الجاهليّة والإسلام ، هاجر إلى البصرة وعمّر طويلا ، مات في حكومة عمر أو عثمان ، له شعر كثير جيّد.

(٧) ديوان الأعشى / ١٨٣. جهنّام : تابع مسحل ، من الجنّ.

(٨) ديوان الأعشى / ١٨٤. وفيه : بأفيح جيّاش العشيّات خضرم.

١٥٨

وأنشدوا أيضا في هذا المعنى لأعشى بني سليم :

وما كان جنّيّ الفرزدق بارعا

وما كان فيهم مثل خافي المخبّل

وما في الخوافي مثل عمرو وشيخه

ولا بعد عمرو [شاعر] (١) مثل مسحل

وأراد بقوله : «الخوافي» الجنّ ، وواحدهم خاف ، سمّوا بذلك لخفائهم.

وقد قيل أيضا : إنّ الجنّ قتلت حرب بن أميّة (٢) ، ومرداس بن أبي عامر السّهميّ ، وأنّ السبب في ذلك إحراقهما شجرة بقرية (٣) ، وأنّهما لمّا أحرقاها سمعا هاتفا يقول :

ويل لحرب فارسا

قد لبسوا القوانسا

لتقتلن بقتله

جحاجحا عنابسا

وهذا الخبر معروف. وكذلك سعد بن عبادة (٤) ، قيل إنّ الجنّ قتلته ،

__________________

(١) البيت ناقص ، وأكملناه من الحيوان ٦ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧. والبيتان باختلاف في الأوّل.

(٢) هو حرب بن أميّة بن عبد شمس القرشيّ ، من سادات قومه ، وهو جدّ معاوية بن أبي سفيان. كان معاصرا لعبد المطّلب بن هاشم ، مات بالشام وتزعم العرب أنّ الجنّ قتلته بثأر حيّة.

(٣) في الأصل : شجرا بقربه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) سعد بن عبادة بن دليم الخزرجيّ ، كان سيّد الخزرج وأحد الأمراء الأشراف في الجاهليّة ، شهد العقبة مع سبعين من الأنصار وأسلم ، وكان أحد النقباء الاثني عشر ، وشهد المواقف مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طمع في الخلافة خلافا لوصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام ، ولم يبايع أبا بكر ، وعاداه وعادى عمر ، وهاجر من المدينة إلى الشام ، فبعث إليه عمر بن الخطّاب من يقتله.

قال ابن عبد ربّه الأندلسيّ في العقد الفريد ٥ / ١٤ : أبو المنذر هشام بن محمّد الكلبيّ ، قال : بعث عمر رجلا إلى الشام ، فقال : ادعه إلى البيعة ، واحمل له بكلّ ما قدرت عليه ، فإن أبى فاستعن الله عليه. فقدم الرجل الشام ، فلقيه بحوران في حائط ، فدعاه إلى البيعة ، فقال :

١٥٩

وقالت في ذلك :

قد (١) قتلنا سيّد الخز

رج سعد بن عباده

ورميناه بسهمي

ن فلم نخطئ فؤاده

ونظائر ما ذكرناه كثيرة جدّا ، إن ذهبنا إلى تقصّيها خرجنا عن غرضنا.

ومذاهب العرب في هذا الباب مشهورة ، وما يدّعونه فيه معروف ، ولا سبيل معه إلى القطع على أنّ قصيدة بعينها من قول من أضيفت إليه ، وأنّه السّابق إلى نظمها والمتفرّد به من غير معين ولا ظهير ، على ما يحتاج إلى ذكر الجنّ ، والتعلّق بما تدّعيه العرب في بابهم.

ونحن نعلم أنّ مع نفيهم ـ أو نفي تمكّنهم من إظهار الشّعر وغيره على أيدي البشر ـ لا يمكن القطع على شيء ممّا ذكر أيضا ؛ لأنّ الشّعر المضاف إلى الشّاعر نفسه يمكن أن لا يكون ـ أو أكثره ـ له ، بأن أعانه عليه معين لم يضفه إلى نفسه ، وأضافه هذا وادّعاه ، فروي عنه.

[أو] أن يكون قولا لخامل ، ظفر به من ادّعاه فأضافه (٢) إليه دون قائله في الحقيقة ، ولبعد العهد في هذا الباب تأثير قويّ.

وممّا يشهد بصحّة ما ذكرناه أنّا قد وجدنا جماعة من مجوّدي الشّعراء قد أغاروا على شعر غيرهم فانتحلوه ، مع منازعة قائليه لهم ومجاذبتهم عليه. ولم

__________________

لا أبايع قرشيّا أبدا ... فرماه بسهم فقتله ... فبكته الجنّ ، فقالت :

وقتلنا سيّد الخز

رج سعد بن عباده

ورميناه بسهمي

ن فلم نخطئ فؤاده!

(١) في الأصل : نحن ، والمناسب ما أثبتناه وفقا لسير أعلام النبلاء ١ / ٢٧٧ ، والبيتان في طبقات ابن سعد ٧ / ٢٧٤ ومختصر تاريخ ابن عساكر ٩ / ٢٢٧ باختلاف.

(٢) في الأصل : فأضاف ، والمناسب ما أثبتناه.

١٦٠