الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

عن زيادة الحرّ والبرد ونقصانهما ، ووفور الأمطار والأنداء أو قلّتهما. وكلّ هذا على طريق الجملة.

فأمّا ما يصيبون فيه ولا يكادون أن يخطئوا فيما يجري مجرى التفصيل ، فهو أيضا مضبوط محصور قد عرف النّاس طريقه ووجهه ، وأنّه الحساب الّذي يدلّهم على كسوف القمر في وقت معيّن وبرج محدود ، وطلوع الكوكب أو غروبه في زمان بعينه.

ولو كانت غيره من الأحكام الّتي تدّعونها تجري ـ في أنّ الحساب طريق إليها ودالّ عليها ـ مجراه لوجب أن توجد فيه الإصابة ، ويفقد الخطأ ، كما وجدناه في الخبر عن كسوف الكواكب وغروبها ، أو تكثر الإصابة ويقلّ الخطأ. وقد وجدنا الأمر فيما يحكمون عليه وينذرون به بالضدّ من هذا ؛ لأنّ الإصابة فيه هي القليلة والخطأ هو الكثير ، وأنّ [ما] يقع من إصابتهم فيها الأقرب ممّا يقع من المخمّن والمرجّم الّذي لا يرجع في قوله إلى أصل ، ولا ينظر في دليل.

وإذا صحّ ما ذكرناه ، وورد القرآن بأخبار عن حوادث مستقبلة مفصّلة ووقعت مخبراتها (١) بحسب الأخبار ، فيجب أن تكون دلالة أو معجزة ؛ لخروجها عن العادة وعمّا يتمكّن البشر منه ويصلون إليه.

فمنها : قوله تعالى في انهزام المشركين ببدر : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٢).

وقوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (٣).

وقوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ

__________________

(١) في الأصل : غيرانها ، وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

(٢) سورة القمر : ٤٥.

(٣) سورة الروم : ١ ـ ٣.

١٢١

آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (١).

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٢).

وقوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وقوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (٤).

فأمّا إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الغيوب الخارجة عن القرآن ، فكثيرة جدّا ، نحو (٥) : قوله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «تقاتل بعدي النّاكثين والقاسطين والمارقين».

وإنذاره له عليه‌السلام بقتل ذي الثّديّة (٦) ، المخدج اليد.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار رحمة الله عليه : «تقتلك الفئة الباغية» (٧).

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٧.

(٢) سورة التوبة : ٣٣.

(٣) سورة الفتح : ١٩.

(٤) سورة البقرة : ٩٤ ـ ٩٥.

(٥) الأخبار المنقولة في هذا المقام تعدّ من الأخبار المتواترة والمرويّات المشهورة الّتي رواها جلّ من تعرّض لأحداث الوقائع الثلاث المشهورة التي وقعت أيّام خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أي وقعة الجمل وصفّين والنهروان. راجع على سبيل المثال : دلائل النبوّة ٦ / ٤١٠ و ٤٢٧ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٣٩ ، كنز العمّال ٦ / ٨٢ ، صحيح البخاريّ ٤ / ٢٤٣.

(٦) وهو حرقوص بن زهير التميميّ ، من رءوس الخوارج ، راجع أسد الغابة ١ / ٣٩٦ و ٢ / ١٤٠.

(٧) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٥ : «ومنها : إخباره صلوات الله وسلامه عليه بالغيوب ، مثل قوله في عمّار رضي الله عنه : «تقتلك الفئة الباغيّة» ... وإشعاره لأمير المؤمنين عليه‌السلام بأنّه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، ويقتل ذا الثّديّة.

١٢٢

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسراقة (١) : «كأنّي بك وقد لبست سواري كسرى».

وما ذكرناه من هذه الأخبار قليل من كثير. وفي استقصاء ذكرها (٢) خروج عن الغرض ، وهي معروفة. وجميع ما تلوناه من أخبار القرآن وقصصناه من أخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله الخارجة عن القرآن وقعت مخبراتها وفقا لها.

ومعلوم أنّ مثل هذه الأخبار لا تقع عن ظنّ وترجيم ؛ لأنّ الظّنّ لا يمكن معه الصّدق في مثل هذه الأخبار على سبيل التفصيل ، ولا بدّ أن تكون دالّة على علم المخبر بها.

وليس يجوز أن يكون العلم بذلك معتادا ؛ لأنّ العلوم المعتادة لا تخرج عن قسمين : الضّرورة ، والاكتساب. وقد علمنا أنّه ليس في سائر العلوم الضّروريّة المعتادة علم بما يحدث على سبيل التفصيل. ولو كان مكتسبا لكان واقعا عن النّظر في دليل ، ولا دليل يدلّ على ما يتجدّد من أفعال النّاس وما يختارونه ويجتنبونه مفصّلا.

وإذا صحّت هذه الجملة فالإخبار عن الغيوب لا يخرج عن وجهين :

إمّا أن يكون من فعل الله تعالى ، نحو ما تلوناه من أخبار القرآن ، ومن فعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو ما قصصناه من أخباره (٣) الخارجة عن القرآن.

__________________

(١) هو أبو سفيان سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ المدلجيّ الحجازيّ. كان ينزل القديد بين مكّة والمدينة ، وكان في الجاهليّة معروفا باقتفاء الأثر. وهو من أشراف قومه وشعرائهم ، وكان ممّن تعقّب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع جماعة من المشركين حين هاجر عليه‌السلام من مكّة إلى المدينة ، وحينما لحق بالنبيّ ، ورآه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليه فساخت قوائم فرسه في الأرض ، فندم وطلب من الرسول أن ينجّيه ، فدعا له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأطلق ورجع إلى قومه. أسلم بعد واقعة الطائف في السنة الثامنة للهجرة. وتولّى البصرة أيّام حكومة عمر بن الخطّاب. توفّي سنة ٢٤ ه‍.

(٢) في الأصل : ذكرنا ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : أخبار ، والمناسب ما أثبتناه.

١٢٣

فإذا كانت من فعل الله تعالى لم تدلّ على اختصاصه بالعلم الخارق للعادة الّذي ذكرناه ، فقلنا : إنّ من أجله تمكّن من الصّدق عمّا يحدّث ، بل يكون المعجز في هذا الموضع هو إنزال الخبر إليه واطّلاعه قبل أحد من البشر عليه ، فقد حصل خرق العادة به لا محالة في هذا الوجه. وإذا كان من فعله عليه‌السلام فهو دالّ على العلم الّذي أشرنا إليه ، والمعجز هاهنا هو العلم ؛ لأنّه الّذي خرق العادة.

والذي أنكرناه في صدر الكلام أن يكون الوجه الّذي منه لزم العلم بصدق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الابتداء هو تضمّن القرآن للإخبار عن الغيوب ، أو أن تكون جهة إعجازه مقصورة على ذلك دون غيره.

فأمّا إذا قيل بأنّ هذه الجهة من إحدى جهات الإعجاز ، ورتّب الاستدلال بهذا الترتيب الّذي ذكرناه ؛ فذاك الصّحيح الّذي لا يمكن دفاعه.

[إعجاز القرآن في نفي الاختلاف عنه]

وأمّا من ذهب إلى إعجازه من حيث زال عنه الاختلاف والتناقض (١) ، واعتلّ لقوله بأنّ العادة لم تجر بأن يسلم الكلام الطويل ـ مع سرد القصص فيه والأخبار ـ من ذلك ، وأنّ في سلامة القرآن منه دلالة على أنّه من فعل الله تعالى.

والصّحيح الّذي لا إشكال فيه أنّ سلامة القرآن ـ مع تطاوله ، وتكرّر القصص

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٣ ـ ٤٠٤ : «وأمّا من ذهب في إعجازه إلى زوال الاختلاف عنه والتناقض مع طوله ، وادّعى أنّ ذلك ممّا لم تجر العادة في كلام طويل بمثله.

والذي يبطل قوله : إنّه لا شبهة في أنّ ذلك من فضائل القرآن ومن آياته الظاهرة ، لكنّه لا ينتهي إلى أن يدّعى أنّه وجه إعجازه وأنّ العادة انخرقت به ؛ لأنّ الناس يتفاوتون في زوال الاختلاف والتناقض عن كلامهم. وليس يمتنع أن يزول عن الكلام ذلك كلّه ، مع التيقّظ الشديد والتحفّظ التامّ. فمن أين لمدّعي ذلك أنّ العادة لم تجر بمثله؟».

١٢٤

فيه وضرب الأمثال ـ من الاختلاف أو التناقض (١) يدلّ على فضيلة عظيمة ورتبة جليلة ، ومزيّة على المعهود من الكلام ظاهرة ؛ فأمّا أن ينتهي إلى الإعجاز وخرق العادة ، فبعيد ولا برهان لمدّعيه عليه ؛ لأنّا قد وجدنا النّاس يتفاوتون في السّلامة من هذه الأمور المذكورة تفاوتا شديدا ؛ ففيهم من يكثر في كلامه الاختلال والاضطراب ويغلب عليه ، وفيهم من يتحفظ فقلّ ذلك في كلامه.

فليس بمنكر أن يزيد بعضهم في التحفّظ والتصفّح لما يورده ، فلا يعثر منه على تناقض (٢).

وليس يمكن أحدا أن يدّعي أنّ التحفّظ وإن اشتدّ ، والعناية وإن قويت ، فإنّ المناقضة والاختلاف غير زائل ؛ فإنّه متى ادّعى هذا تعذّر عليه إيراد شبهة تعضد دعواه ، فضلا عن برهان.

ولو قيل لمن سلك هذه الطريقة : أرنا أوّلا ـ قبل أن ننظر فيما يمكن من الكلام المستأنف ، أو لا يمكن ـ أنّ جميع ما تنوّق فيه الحكماء من كلامهم ، وروّوا فيه من أمثالهم قد لحق جميعه التناقض والاختلاف ، حتّى أنّه لو لم يسلم شيء منه من ذلك لظهر بطلان قوله من قرب.

فإن قيل : أليس من البعيد أن يسلم الكلام الطويل بما ذكرناه؟

قيل : لسنا نشكّ في بعد ذلك ، وإنّما كلامنا على القطع على تعذّره وإلحاقه بما يخرق العادات ؛ فأمّا بعده فقد سبق إقرارنا به.

فإن قالوا : فقد قال الله عزوجل : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٣) ، وهذا نصّ صريح لصحّة ما ذهبنا إليه (٤).

__________________

(١) في الأصل : تناقض ، والأنسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : تناقضه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) سورة النساء : ٨٢.

(٤) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٤٠٤ : «فأمّا قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ

١٢٥

قيل لهم : إنّما علمنا بهذا القول أنّه لو كان من عند غيره لوجد فيه اختلاف كثير ، وقد تقدّم لنا العلم بكونه صدقا ودليلا ، من طريق ليس هو اعتبار زوال الاختلاف والتّناقض عنه. وكلامنا إنّما هو على من جعل وجه إعجازه وكونه دليلا زوال الاختلاف عنه ، وظنّ أنّه : (يركن من استدراك) (١) (٢) ، وكذلك من جهة العادة واعتبارها. فليس القطع إذا ـ على ما ذكروه من طريق السّمع ـ بقادح في طريقنا.

والكلام على من جعل إعجازه صحّة معانيه واستمرارها على النظر وموافقتها للعقل ، يقرب من الكلام على من اعتبر زوال الاختلاف والمناقضة ؛ لأنّ كلّ ذلك إنّما يدلّ على الفضيلة وعلوّ المنزلة ، ويشهد بأنّ فاعله حكيم عليم. والإعجاز وخرق العادة غير هذا.

ولو لم يصرف الله تعالى العرب عن معارضة القرآن لبطل الإعجاز عندنا ، ولم يخرج القرآن من أن يكون على الصّفات الّتي ذكروها من صحّة المعاني ، وموافقة العقل.

وكذلك لو سلبه الله تعالى القدر من الفصاحة الّتي بان بها من الفصيح المعتاد ـ عند من ذهب إلى ذلك فيه ـ لوجب فيه جميع ما ذكروه من الصّفات ، ولاستحال خروجه عنها.

وهذا يكشف عن أنّ هذه المعاني إنّما وجبت فيه ، من حيث كان كلاما

__________________

غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فإنّما هو جهة ؛ لعلمنا بالقرآن [انّه] لو كان من عند غيره لكان فيه اختلاف ، وإنّما رددنا على من قال : إنّي أعلم ذلك بذلك قبل العلم بصحّة القرآن ، وجعله وجه إعجازه».

(١) في الأصل : استدراك غير منقوطة ـ وهي غير مفهومة.

(٢) كذا في الأصل.

١٢٦

للحكيم ، وأنّه لا تأثير لها في الإعجاز ؛ لوجودها مع زواله.

على أنّ جميع ما ذكروه من صحّة المعاني وملاءمة العقل ، حاصل في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وواجب في أخباره ، وإن لم يجب فيها الإعجاز.

١٢٧
١٢٨

[مذهب القائلين إنّ إعجاز القرآن كونه قديما]

فأمّا المعتقدون بقدم القرآن ، والجاعلو وجه إعجازه كونه قديما ، أو عبارة عن الكلام القديم وحكاية له (١) فإنّ الأدلّة الّتي نصبها الله تعالى على حدث القرآن تقضي ببطلان قولهم ، وهي مذكورة في غير موضع.

وكيف يكون القرآن قديما ، وهو حروف وأصوات تكتب وتتلى وتسمع [و] جائز عليه التجزّي والانقسام ، ذو أوّل وآخر؟! وكلّ هذه الصّفات ممّا لا يجوز على القديم ، ولا يختصّ بها إلّا المحدث.

على أنّ القرآن من الكلام المفيد ، والكلام لا يفيد إلّا بأن يحدث بعضه في إثر بعض ، ويتقدّم بعضه على بعض ؛ لأنّ قول القائل : «دار» لو لم يتقدّم الدال على الألف ، والألف على الراء ، لم يكن بأن يسمع «دارا» بأولى من أن يسمع «رادا».

وهذا يبيّن أنّ الكلام إذا وجدت حروفه كلّها معا ، ولم يكن لبعضها على بعض تقدّم في الوجوه لم يكن مفيدا.

وبعد ، فإنّ القديم تعالى متكلّم بالقرآن ، وهذه الإضافة تقتضي أنّه فاعل له ؛ لأنّ الكلام إنّما يضاف إلى المتكلّم منّا من حيث فعله.

__________________

(١) إشارة إلى مذهب أهل الحديث والأشاعرة.

١٢٩

يبيّن ذلك أنّه لو أضيف على غير هذا الوجه لم يخل من وجوه :

إمّا أن يقال : إنّه كلام له ، وأنّه متكلّم به من حيث أوجب كونه (١) على صفة معقولة وحسب ما نقول في العلم وما جرى مجراه ، أو لأنّه حلّه ، أو حلّ بعضه ؛ أو لأنّه قائم به.

والكلام ليس ممّا يوجب صفة للمتكلّم ؛ لأنّه لو أوجب ذلك لاستحال ـ لو خلق له لسانان ـ أن يوجد (٢) فيهما حرفان متضادّان ؛ لأنّه من حيث كان متكلّما بهما يجب أن يكون على صفتين متضادّتين ، كما يستحيل وجود علم وجهل بشيء مخصوص في جزءين من قلبه ، من حيث كان ذلك يوجب كونه على حالين متضادّتين.

وقد علمنا صحّة وجود الكلام بالآلتين لو خلقتا ، وجواز كونه متكلّما إنّما يوجد فيهما ، وإن امتنع ذلك في العلم والجهل وما جرى مجراهما ممّا يوجب الأحوال للحيّ. فصحّ أنّ الكلام ممّا لا يوجب صفة للمتكلّم ، وبطل القسم الأوّل الّذي ذكرناه.

وليس يجوز أن يكون متكلّما به لأنّه حلّه أو حلّ بعضه ؛ لأنّ ذلك يوجب كون اللّسان متكلّما ، والصّدى مخبرا وآمرا وناهيا. ويوجب أيضا إبطال كون المتكلّم متكلّما وسقوط هذه الإضافة أصلا ؛ لأنّ الكلام ليس بحرف واحد ، وإنّما تجتمع الحروف فتصير كلاما ، ومحلّ كلّ حرف غير محلّ الآخر ؛ لحاجة الحرف إلى أبنية مختلفة ، فيجب على هذا أن يكون قولنا : «قام زيد» ليس بكلام لمتكلّم في الحقيقة ؛ لأنّ المتكلّم ما حلّه الكلام. وهذه الجملة ليس يصحّ اختصاصها بمحلّ واحد ، فتخرج من أن تكون كلاما لمتكلّم.

__________________

(١) في الأصل : وكونه ، ولعلّ المناسب حذف الواو.

(٢) في الأصل : ويوجد ، والظاهر ما أثبتناه.

١٣٠

فأمّا القول بأنّه : «متكلّم بالكلام لأنّه قائم به» ، فلفظ مجمل قصد إلى المعلّق به عند ضيق الكلام. وحاجته إلى التفسير والتّفصيل كحاجة ما تقدّم.

وليس يصحّ أن يراد بهذه اللّفظة ـ أعني قولهم : قائم (١) به ـ إلّا بعض ما ذكرناه وافسدنا [ه] من الحلول وإيجاب الصّفة ، وإلّا فالوجوه الّتي تستعمل فيها ، من القيام الّذي هو الانتصاب ، أو الثّبات والبقاء ، أو غير ذلك ممّا لا يجوز على الكلام أصلا.

وكذلك إن قيل : إنّ المتكلّم إنّما كان متكلّما لأنّ له كلاما ، وقعت المطالبة بتفسير هذه اللّفظة ، والكشف عن الغرض بها ، فإنّه لا يمكن أن يذكر فيها إلّا بعض ما أوردناه وتكلّمنا عليه.

فإن قالوا : جميع ما ذكرتموه مبنيّ على أنّ الكلام هو الأصوات والحروف المسموعة. وليس الكلام في الحقيقة ما تظنّون ، بل هو معنى في النّفس لا يجوز عليه شيء ممّا جاز على الأصوات الّتي ذكرتموها من الانقسام والتجزّي ، وهذا المسموع عبارة عنه وحكاية له.

قيل لهم : ليس يجب أن نتكلّم في قدم شيء أو حدوثه ونحن لا نعقله ولا نثبته ؛ لأنّ الكلام في الصّفات فرع على إثبات الذّوات. وما يقولونه في الكلام غير معقول عندنا ولا سبيل إلى إثباته ، فلا معنى للتشاغل معكم بالخوض في قدمه وحدوثه. والواجب أن تطالبوا بإثبات ما تدّعونه أوّلا ، فإنّه يتعذّر عليكم.

على أنّ من أثبت الكلام معنى في النّفس ـ ولم يشر إلى بعض المعاني المعقولة من أفعال القلوب ، كالقصد والاعتقاد وما يجري مجراهما ـ لم يجد فرقا بينه وبين من ادّعى مثل ذلك في جميع أجناس الأعراض ، حتّى يقول : إنّ الصّوت في الحقيقة ليس هو المسموع بل هو معنى في النّفس يدلّ هذا عليه. وكذلك اللّون

__________________

(١) في الأصل : قام.

١٣١

وسائر الأجناس.

ولو قيل أيضا لهؤلاء ـ : إنّ المعنى الّذي يدّعونه في النّفس ليس هو الكلام في الحقيقة ، بل الكلام معنى غيره. والمعنى الّذي يشيرون إليه دالّ عليه ومنبئ عنه ، ثمّ يجب ذلك عليهم في معنى بعد آخر ـ لم يجدوا فصلا!

ولتقصّي هذه الجمل الّتي أوردناها موضع هو أليق بها من كتابنا هذا ، وإنّما نبّهنا بما ذكرناه على طريق الكلام ـ وإن كان المقصد غيره ـ كراهة أن يخلوا كلامنا من برهان على فساد ما تعلّق به القوم.

على أنّا لو تجاوزنا لهم عن الكلام في قدم القرآن وحدوثه لم يصحّ أن يكون معجزا على طريقتهم هذه ، وبطلت فائدة التّحدّي به لأنّ المتحدّي لا يصحّ تحدّيه إلّا بما هو مقدور متأتّ ، إمّا منه أو من المؤيّد له بالعلم ، فكأنّه يقول : تعاطوا فعل كذا وكذا ممّا ظهر على يدي ، فإن تعذّر عليكم فاعلموا أنّي صادق ، إمّا من حيث خصّني الله تعالى بما معه تأتّى منّي ما تعذّر عليكم ، أو من حيث أظهر على يدي ذلك الفعل بعينه وأيّدني به.

ومتى كان الأمر الّذي دعاهم إلى فعله مستحيلا متعذّرا على كلّ قادر ، لم يصحّ التّحدّي به ولا الاحتجاج بتعذّره ؛ لأنّهم لو قالوا له : قد دعوتنا إلى ما لا تقدر أنت ولا المؤيّد لك على فعل مثله ، فأين موضع حجّتك علينا؟ ولم صرت بأن تدّعي الإبانة والتّخصيص بتعذّره علينا أولى بأن ندّعي نحن عليك مثل ذلك من حيث تعذّر عليك ، بل على كلّ قادر؟! وإذا لم يكن بين هذه الدّعاوى فرق بطل الاحتجاج بما ذكروه.

وبعد ، فلا فرق بين التّحدّي بالقرآن إذا كان قديما ـ على ما يدّعون ـ وبين التحدّي بذات القديم تعالى. وإذا فسد التحدّي بذلك ، من حيث استحال تعلّق القدرة به ، فالأوّل مثله.

١٣٢

فإن قالوا : التحدّي إنّما كان بحكاية الكلام القديم ، دون ذاته.

قيل لهم : ليس يخلو التحدّي من أن يكون واقعا بأن يحكوه بلفظه ومعناه معا ، أو بأن يحكوه بمعناه (١) دون لفظه ، أو بلفظه دون معناه.

وقد علمنا أنّ كلّ من قال : «القرآن» ، فقد حكاه بلفظه ومعناه ، وأنّ القوم الّذين شوفهوا بالتحدّي به قد كانوا يتمكّنون من ذلك ويفعلونه.

وحكاية معناه دون لفظه متأتّية من كلّ من عقل المعاني وفهمها ، فصيحا كان أو ألكن ، عربيّا كان أو أعجميّا.

ومن أتى في الحكاية باللّفظ والمعنى معا فهو حاك للّفظ لا محالة ، وإن ضمّ إليه المعنى ؛ ففسدت الوجوه الثّلاثة. وليس يمكن في القسمة غيرها ؛ لأنّ ما خرج عنها ليس بحكاية.

فإن قالوا : إنّما تحدّاهم بالابتداء للحكاية على الوجه الّذي وردت منه ، فمن حكاها بعد السّماع منه لا يكون معارضا ؛ لأنّه غير مبتدئها؟

قيل لهم : هذا رجوع إلى التحدّي بالمستحيل الّذي لا يدخل تحت قدرة قادر ؛ لأنّ الابتداء لا يتكرّر كالاحتذاء ، فإذا طالبهم بأن يبتدءوا ، فحكاية ما قد ابتدأ هو حكايته ؛ فقد كلّفهم المحال الّذي لا يوصف [به] القديم تعالى ، وهو أقدر القادرين عليه.

ولو قالوا له : وأنت أيضا لا تقدر على الابتداء بجميع ما يبتدئ أحدنا حكايته ، من كلام أو شعر ، فليس لك من هذا إلّا ما عليك ؛ لكانت المقابلة واقعة موقعها.

وإنّما صحّ لنا ولغيرنا ـ ممّن يرغب عن طريقة هؤلاء ـ الفصل (٢) بين حكاية

__________________

(١) في الأصل : معناه ، والمناسب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : والفصل ، والظاهر حذف الواو.

١٣٣

القرآن ممّن حفظه وتلاه وبين المعارضة الّتي يدعى القوم إليها ؛ لأنّ التحدّي عندنا وقع بالابتداء مثله في فصاحته ، مع طريقة نظمه لا بحكايته ، فالتالي له وإن كان حاكيا فليس بمعارض عندنا. ويجب أن يكون معارضا عند من ادّعى أنّ التّحدّي وقع بالحكاية.

فإن قالوا : فنحن أيضا نقول إنّ التّحدّي وقع بأن يحكى في فصاحته لا في ألفاظه ومعانيه ، فلا يجب أن يكون التالي له معارضا!

قيل لهم : هذا رجوع من طريقتكم ، ودخول في مذهب الفرقة الأولى الّتي قد مضى الكلام عليها مستقصى.

وإذا صرتم إلى هذا ، فأيّ معنى لقولكم : إنّ التّحدّي به إنّما كان من حيث كان حكاية للكلام القديم؟

ولا فرق في (١) ما ذكرتموه الآن ـ بين أن يكون حكاية لكلام قديم ، أو لكلام محدث ـ في أنّ التّحدّي به من جهة الفصاحة يصحّ على ما يقع التحدّي بالشّعر وغيره ، وإن لم يكن قديما ، ولا حكاية لكلام قديم.

* * *

قد وفينا ـ أرشدك الله ـ بما شرطنا من الرّدّ على جميع من خالف القول بالصّرفة ، واعتمدنا من بسط الكلام في مواضع ، واختصاره في أخر ما اقتضته مواقعه ، بعد أن لم نخلّ به ولم نورد مستغنى عنه.

وما ذكرناه ، إذا ضبط وأتقن استدرك ضابطه من جملته ـ إمّا تصريحا أو تلويحا ـ الجواب عن أكثر ما يستأنف المخالفون إيراده من الاعتراضات والشّبهات.

__________________

(١) في الأصل : بين ، والظاهر ما أثبتناه.

١٣٤

ونحن نتلو ذلك بذكر ما يلزم من عدل عن مذهب الصّرفة ، من أسئلة المخالفين في النّبوّة الّتي لا تتوجّه على القائلين بالصّرفة ، ليكون ما نذكره أدعى إلى القول بها ، وأحثّ على اعتقادها. ثمّ نتّبع ما ذكره صاحب الكتاب المعروف ب «المغني» (١) من الكلام في هذا المعنى ، فنحكيه بألفاظه ، ونبين عمّا فيه من فساد واضطراب ، بعون الله تعالى ومشيّته.

__________________

(١) يقصد به كتاب «المغني في أبواب التوحيد والعدل» المشهور مختصرا بكتاب «المغني» للقاضي عبد الجبّار الأسدآباديّ الهمدانيّ ، المتوفّى سنة ٤١٥ هجريّة ، ويتعرّض المصنّف لأقوال القاضي من الجزء الذي صنّفه في «إعجاز القرآن».

١٣٥
١٣٦

فصل

[في بيان ما يلزم مخالفي الصّرفة]

قد سأل مخالفوا الصّرفة ، فقالوا :

إذا كنتم إنّما تعتمدون في إعجاز القرآن أنّ الله تعالى هو المؤيّد به لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تصديقا له على خرقه لعادة الفصحاء من حيث قعدوا عن معارضته ونكلوا (١) عن مقابلته ، فاعملوا على أنّ خروجه عن العادة في الفصاحة مسلّم لكم على ما اقترحتموه ، من أين لكم أنّ الّذي خرق به عادتنا ، وألقاه إلى من ظهر عليه هو الله تعالى؟!

وما أنكرتم أن يكون المظهر ذلك على يديه بعض الجنّ الّذين قد اعترفتم بوجودهم ، ويكون قصده به الإضلال لنا والتلبيس ؛ لأنّكم لا تحيطون علما بمبلغ فصاحتهم ، وهل انتهوا من الفصاحة إلى حدّ يجاوز ما نعهدهم أم لا ، بل كلّ ذلك مجوّز غير مقطوع على شيء منه؟!

وإذا كان ما ذكرناه جائزا غير ممتنع بطل قطعكم على أنّه من قبل الله تعالى! (٢).

__________________

(١) نكل : إذا أراد أن يصنع شيئا فهابه.

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٥ : «قد بيّنا في كتابنا في جهة إعجاز القرآن أنّ من

١٣٧

وقد سئل عن هذا السؤال على وجه آخر آكد من الّذي ذكرناه :

قيل : إذا كان من ظهر القرآن على يديه لم يدّعه لنفسه ، ولا قال إنّه من كلامه ، بل ذكر أنّ ملكا ألقاه إليه وادّعى أنّه رسول الله عزوجل ، وأنتم ـ قبل أن يصحّ إعجاز القرآن ووجه دلالته على النّبوّة ـ تجوّزون على الملائكة فعل القبيح ؛ لأنّكم إنّما ترجعون في عصمتها إلى الكتاب. ولا علم لكم أيضا بمقدار فصاحة الملائكة ونهاية ما يقدرون عليه من الكلام ، فكيف يصحّ قطعكم على أنّه من عند الله تعالى ، مع ما ذكرناه؟ ومن أين لكم أنّ الملك الّذي أتى به صادق في دعواه أنّه رسول الله ، ولعلّه من كلامه ، وإن فارق كلام البشر؟!

وقد قام هذا السّؤال بالقوم وقعد ، وذهب بهم كلّ مذهب ، وتعاطوا في الجواب عنه طرقا ، كلّها غير صحيح ولا مستمرّ.

ونحن نذكر ما أجابوا به ، وما يمكن أن يجاب به ممّا لم يذكروه ، ونتكلّم بما عندنا فيه (١) :

__________________

لم يقل في جهته ما اخترناه من الصرفة يلزمه سؤالان لا جواب عنهما إلّا لمن ذهب إلى الصرفة.

السؤال الأوّل : أن يقال : ما أنكرتم أن يكون القرآن من فعل بعض الجنّ ألقاه إلى مدّعي النبوّة ، وخرق به عادتنا ، وقصد بنا إلى الإضلال لنا والتلبيس علينا ، وليس يمكن أن يدّعى الإحاطة بمبلغ فصاحة الجنّ وأنّها لا يجوز أن تتجاوز عن فصاحة العرب ، ومع هذا التجويز لا يحصل الثقة بأنّ الله تعالى هو المؤيّد بالقرآن لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٦ : «وقد يمكن إيراد معنى هذا السؤال على وجه آخر ، فيقال : إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدّع في القرآن أنّه كلامه ، وإنّما ذكر أن ملكا هبط به إليه ، وقد يجوز أن يكون ذلك الملك كاذبا فيه على ربّه ، وأن يكون القرآن الذي نزل به من كلامه لا من كلام خالقه ؛ فإنّ عادة الملائكة في الفصاحة ممّا لا نعرفه ، وعصمة

١٣٨

ممّا أجيب به عنه ، أن قالوا :

قد ثبت أنّ القديم تعالى حكيم لا يجوز عليه استفساد خلقه ولا التلبيس على عباده ، فلو مكّن الجنّ أو الملائكة ممّا ذكرتموه ، لكان نهاية الاستفساد والتّضليل للمكلّفين. وفي ثبوت حكمته دلالة على أنّه يمنع ما طعنتم به ، ولا يمكن منه (١).

وليس الأمر في الاستفساد والتّضليل هو أن يلطف في القبيح ، أو يسلب المكلّفين الطّريق إلى الفرق بين الحجّة والشّبهة ، والدّلالة وما ليس بدلالة.

فأمّا المنع من الشّبهات وفعل القبائح ، فغير واجب عليه تعالى في دار المحنة والتكليف ، من حيث كان في المنع عن ذلك دفع لهما.

وليس يجب ـ إذا كان تعالى لا يفعل الشّبهات ـ أن يمنع منها ويحول بين فاعلها وبينها ، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه.

والاستفساد في هذا الموضع منسوب إلى من أظهر ما ليس بمعجز على يد من ليس برسول ، ولا يجوز نسبه إلى الله تعالى (٢).

__________________

الملائكة قبل العلم بصحّة القرآن والنبوّة لا يمكن معرفتها ، فالسؤال متوجّه على ما ترويه.

وقد حكينا في كتابنا المشار إليه طرقا كثيرة لمخالفينا سلكوها في دفع هذا السؤال ، وبيّنا فسادها بما بسطناه وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات».

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٦ : «قالوا : إنّ هذا استفساد للمتكلّمين ، وحكمته تعالى تقتضي المنع من الاستفساد».

(٢) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٦ : «وهذا غير صحيح ، لأنّ الذي يمنعه أن يفعل الله تعالى الاستفساد ، فأمّا أن يمنع منه فليس بواجب ؛ لأنّ هذا يوجب أن يمنع الله تعالى كلّ ذي شبهة من شبهته ، وأن لا يمكّن المتعبّدين المنحرفين (المشعبذين المخرقين) من شيء دخلت منه شبهة على أحد. وقد علمنا أنّ المنع من الشّبهات وفعل

١٣٩

ومن انفسد به واشتبه عليه أمره ، فمن قبل تقصيره أتي ؛ لأنّه لو شاء أن ينظر لعلم الفرق بين المعجز في الحقيقة وغيره ؛ فإنّ ما يجوّز العقل وقوعه ممّن يجوز أن يفعل القبيح ، لا يصحّ إلحاقه بالمعجزات.

ونحن ننقض هذا المعنى عند مناقضتنا لصاحب الكتاب الملقّب ب «المغني» ، فلذلك أخّرنا بسط الكلام فيه هاهنا.

طريقة أخرى

قد أجيب عنه ، بأن قيل :

إنّ المراعى في دلالة المعجز على النّبوّة خرق العادة ، وظهور ما لو لم يكن المدّعي صادقا لم يظهر. وقد علمنا أنّ في ظهور القرآن ـ على الوجه الّذي ظهر عليه ـ خرقا للعادة ، وأنّه لا فرق في كونه خارقا لها بين أن يكون من فعل الله تعالى ، أو من فعل بعض ملائكته. وإنّما دلّ إذا كان من فعله تعالى من الوجه الذي ذكرناه ـ وهو خرق العادة ـ فيجب أن يدلّ وإن كان من فعل الملك ؛ لاتّفاقهما في وجه الدّلالة. وبطل أن يكون التجويز الّذي ذكر قادحا في إعجازه (١).

وهذا في نهاية الضّعف ؛ لأنّ الفعل الّذي يكون معجزا ودالّا على صدق من ظهر عليه لا بدّ فيه من شرائط :

__________________

القبائح في دار التكليف غير واجب. وليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد ، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف».

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في كتابه الذخيرة / ٣٨٨ : «قالوا : إنّه لا فرق في خرق العادة بالقرآن ودلالته على الإعجاز ، بين أن يكون من فعله تعالى ، أو من فعل بعض الملائكة ؛ لأنّه إنّما دلّ إذا كانت من فعله تعالى لخرق العادة ، لا لأنّه من فعل تعالى ، فيجب أن يدلّ وإن كان من فعل الملك ، للاشتراك في خرق العادة».

١٤٠