الموضح عن جهة إعجاز القرآن

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

الموضح عن جهة إعجاز القرآن

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-444-628-3
الصفحات: ٣٤٤

الشّمس من مطلعها ، أو ورود بعض الثّمار في إبّانها ، على الوجه الّذي جرت به العادة أن يعلم بذلك صدقه. وهذا ممّا لا شبهة في بطلانه.

فأمّا الوجه في إيجابنا اختصاصه بالمدّعي للنّبوّة على وجه التّصديق لدعواه فهو أنّه متى لم يعلم هذا ، فلا بدّ من التجويز لوقوعه لغير وجه التّصديق ، ومع التّجويز لذلك لا يعلم صدق المدّعي. فإذا لا بدّ من العلم بأنّه لم يفعل إلّا للتّصديق ، وأنّه لو فعل لغيره لكان قبيحا خارجا عن الحكمة.

وإنّما زدنا في هذا الشّرط أن يخصّ الله تعالى به المدّعي للنّبوّة على وجه التّصديق ، ولم نشرط الاختصاص المطلق الّذي يشرطه غيرنا في هذا الموضع ؛ لأنّ المعجزات على ضربين :

منها : ما لا يمكن فيه النقل والحكاية.

ومنها : ما يمكن ذلك فيه.

فالضّرب الأوّل : إذا علم حدوثه مطابقا لدعوى المدّعي ، على وجه لم تجر به العادة وأنّه من فعل القديم تعالى تكاملت دلالته ؛ لأنّ حال حدوثه غير منفصلة من حال اختصاصه بالمدّعي ، ولأنّه ممّا لا يمكن أن يقال فيه : إنّه حدث غير مطابق لدعواه ولا مختصّ به ، وجعله هو بالنّقل والحكاية مختصّا به.

وأمّا الضّرب الثّاني : فلا يمكن أن يعلم (١) بوروده مطابقا للدّعوى أنّه مفعول لتصديقها ؛ وإن علم في الجملة أنّه من فعل الله تعالى وأنّه خارق للعادة ؛ لأنّ حكايته إذا أمكنت جاز أن يكون الله تعالى فعله تصديقا لغير من ظهر عليه.

وإن ورد مطابقا لدعواه بنقله وحكايته ، أو بنقل (٢) من يجري مجراه في ارتفاع الأمان من أن يفعل القبيح ، فلا بدّ في هذا الضّرب من اشتراط وقوع

__________________

(١) في الأصل : يعلمه ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(٢) في الأصل : ينقل ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٠١

الاختصاص ، من جهة القديم تعالى ؛ لنأمن وقوعه ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح.

ولأنّه لو جاز أن يدلّ الاختصاص ـ الّذي لا نأمن أن يكون الله تعالى ما أراده ولا فعل المعجز من أجله ـ لجاز في الأصل أن يدلّ على النبوّة ما لا نثق بأنّه من فعله تعالى.

فإذا كان ما ليس من فعله لا يدلّ ـ من حيث جاز وقوعه ممّن يفعل القبيح ، ويصدّق الكذّاب ـ فكذلك ما لا يعلم وقوع الاختصاص به من جهته تعالى لا يدلّ لهذه العلّة.

ولا فرق في حصول الاختصاص الدّالّ على النّبوّة بين أن يحدث الله تعالى ما يمكن فيه الحكاية والنّقل على يد الرّسول وبحضرته ، وبين (١) أن يحدثه ويأمر بعض ملائكته بإنزاله إليه واختصاصه به ؛ لأنّ على الوجهين جميعا ، يرجع الاختصاص إلى القديم تعالى ، غير أنّه إذا أحدثه على يده كان المعجز نفس ذلك الفعل الحادث ، وإذا أمر بنقله إليه كان العلم الواقع موقع التّصديق هو أمره بنقله إليه.

ونحن نؤخّر استقصاء ما يحتمله هذا الكلام من الزّيادات والتّفريعات ، لنتكلّم عليه عند إيراد صاحب الكتاب له في مواضعه ، لئلّا يقع منّا تكرار.

وإذا صحّت هذه الجملة الّتي أوردناها بطل قول صاحب الكتاب : إنّ الّذي يجب أن يعلم من الاختصاص ظهور القرآن من جهته وجعله إيّاه دلالة على نبوّته ، وأنّ ما عدا ذلك ـ مثل أن لا يكون ظهر على يد غيره في السماء أو في الأرض ـ تصحّ الدّلالة من دونه ، وإن كان يجب حلّ الشّبهة فيه ، إذا أورد على سبيل الطّعن ، من غير أن يكون تقديمه واجبا في الدّلالة ؛ لأنّ القدر الّذي ذكره ليس بكاف في

__________________

(١) في الأصل : وهو ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

٢٠٢

الدّلالة من وجهين :

أحدهما : أنّ ظهوره ـ وإن علم من جهته ، ثمّ علم أيضا كونه ناقضا للعادة ومتعذّرا على البشر ـ فغير ممتنع عند المستدلّ أن يكون من فعل من ليس ببشر من ملك أو جنّيّ ، ويكون ذلك الفاعل هو الّذي خصّ من ظهر على يديه ؛ لأنّ العقول لا دلالة فيها على مبلغ ما تنتهي إليه منزلة من عدا البشر في الفصاحة والبلاغة. وهي غير موجبة كون أحوالهم مساوية لأحوالنا فيهما حتّى يقطع على أنّ ما يتعذّر علينا متعذّر عليهم. وهذا يبيّن أنّ الّذي اقتصر على ذكره من الاختصاص ليس بمقنع.

والوجه الثّاني : أنّه لو سلّم ـ مع الاختصاص الّذي ذكره ، ومع نقضه للعادة وتعذّره على البشر ـ كونه من فعل القديم تعالى ، وخروجه من مقدور جميع المحدثين ؛ لم تستقم أيضا الدّلالة دون أن يعلم أنّ القديم تعالى هو الّذي خصّه به ، وفعله على يده تصديقا له.

ومتى لم يعلم ذلك فلا بدّ من التّجويز ؛ لوقوع الاختصاص من جهة غيره ممّن (١) يجوز أن يفعل القبيح ؛ لأنّه ممّا يمكن فيه النّقل والحكاية ، ومع التّجويز لذلك لا تصحّ الدّلالة.

وهذا الوجه أخصّ بالطّعن على ما أورده هاهنا ، لأنّه ذكر ما يحتاج إلى علمه من اختصاص المعجز بالرّسول ، دون حال المعجز في نفسه ومن فعل أيّ فاعل هو ، وإن كان قد صرّح فيما يأتي بأنّ مع تجويز كونه من فعل غير الله تعالى ، قد يدلّ على النّبوّة.

فقد وضح بما ذكرناه أنّ ما ادّعي أنّه ليس بشرط في الدّلالة وأنّه إنّما يجب

__________________

(١) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.

٢٠٣

بيان الوجه فيه ـ عند إيراده على سبيل الطّعن والشّبهة ـ لا بدّ أن يكون شرطا ، بدلالة أنّه متى ادّعي [و] لم يتقدّم العلم به للمستدلّ ، كان مجوّزا لما لا تصحّ الدّلالة مع تجويزه.

وليس له أن يقول : فكيف السّبيل إلى العلم بالاختصاص الّذي ذكرتموه ، وأنّ المعجز لم يظهر على غير مدّعي النّبوّة ، وذلك ممّا لا سبيل إليه إذا كان المعجز ممّا يمكن فيه النّقل والحكاية؟ لأنّا سنبيّن فيما نستقبله من الكلام الطريق إليه ، ونوضّح القول فيه ، ونكشفه بمشيئة الله تعالى وعونه.

فأمّا قوله : إنّ ظهور القرآن على يد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو الاختصاص الّذي لا يمكن غيره ؛ لأنّه إن لم يكن حدث إلّا في تلك الحال لم يصحّ في الاختصاص غيره ، وإن كان قد حدث في السّماء على ملك ، فالاختصاص لا يصحّ إلّا على هذا الوجه. وحمله ذلك على تعلّق الفعل بالفاعل ، واقتصارنا عليه في الدّلالة ، من غير طلب لما هو لديه منه من التعلّق ... إلى آخر كلامه ؛ فباطل بما أوردناه ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ الاختصاص الّذي اقتصر عليه غير كاف في الدّلالة ، وأنّه متى علم أنّ المظهر للمعجز على يد المدّعي هو القديم تعالى ، أو من أمره القديم تعالى بإظهاره استقامت دلالته.

وإن فرّق بين الاختصاصين يكون أظهر من كون أحدهما دالّا على الأمر المطلوب ، والآخر غير دالّ ، ولا ممّا يستحقّ أن يكون دالّا ، فكيف يصحّ ادّعاؤه مع ما ذكرناه أنّه لو لم يحدث إلّا عند ادّعاء النبوّة لم يكن له من الحكم إلّا ما له ، وإن كان حادثا من قبل؟

وقوله : «إنّ هذا الاختصاص هو الّذي لا يمكن غيره».

إن أراد نفي صحّة حصول اختصاص يزيد على ما ذكره فبما أوردناه يفسده ؛ لأنّا قد بيّنا اختصاصا أزيد ممّا اقتصر عليه ، ودللنا أيضا على أنّ دلالة المعجز

٢٠٤

لا تستمرّ إلّا مع ثبوته ، وأنّ الّذي اقتصر عليه غير كاف في الدّلالة.

وإن أراد أنّه لا طريق يوصل إلى العلم ، إنّما هو أكثر من الاختصاص الّذي ذكره ، وإن كان حصوله جائزا ، فسنبيّن فيما بعد أنّ إلى ذلك طريقا يمكن أن يعلم منه.

ولو لم يكن طريق يوصل إليه أيضا ـ على ما اقترح ـ لم يجب أن يكون ما اقتصر عليه في الاختصاص دالّا ؛ لأنّه إن وجب ذلك كان بمنزلة من يقول : إذا لم يكن لي سبيل إلى العلم بالاختصاص ـ الّذي إذا ثبت وعلم حصوله كان دالّا على التّصديق لا محالة ـ جعلت ما أجد السّبيل إلى الوقوف عليه من الاختصاص دالّا ، وإن كان ممّا إذا اعتبر لم تكن فيه دلالة.

فأمّا تعلّق الفعل بالفاعل : فإنّما لم يطالب فيه بتعلّق أزيد من المعلوم لنا ؛ لأنّ القدر الحاصل من التّعلّق كاف في الدّلالة على ما نريده من كونه فعلا له. ولو لم يكن ذلك كافيا لطالبنا بزيادة عليه. وإنّما أبطلنا قول من يقول : جوّزوا أن تقع أفعالكم من الله تعالى ، بحسب قصودكم ؛ لأنّها لا يمكن أن تضاف إلى الله تعالى إلّا بهذا الضرب من التّعلّق المعلوم حصوله معنا ، وإذا كان تعلّقها بنا متيقّنا (١) ـ ولم يمكن أن يتعلّق بغيرنا ، لو كانت متعلّقة به ، إلّا على هذا الوجه ، واستحال أن تكون متعلّقة بنا وبغيرنا معا. لاستحالة فعل من فاعلين ـ وجب القطع على أنّها أفعال لنا ، ونفي حصول علقة بينها وبين غيرها.

فقد كان يجب على صاحب الكتاب ، إذا أراد التّسوية بين الأمرين أن يدلّ على أنّ الاختصاص الّذي ذكره مقنع في الدّلالة ، وأنّ إثبات ما يزيد عليه غير ممكن ، ليلحق بتعلّق الفعل بالفاعل. ولو فعل لم تكن عليه حجّة ، لكنّه اقتصر على الدّعوى

__________________

(١) في الأصل : منتفيا ، وما أثبتناه ورد في الهامش بلا علامة التصحيح.

٢٠٥

في أنّ الاختصاصين لا فرق بينهما ، وقد بيّنا أنّ بينهما فرقا واضحا.

قال صاحب الكتاب (١) :

«[فإن قال] (٢) : فإنّي أقدح بذلك في كونه معجزا أصلا.

فأقول (٣) : إذا كان لا ينفصل حاله ـ وقد حدث من حاله ، وقد كان من قبل حادثا ـ فيجب أن لا يكون دليلا على النّبوّة ، وأن يكون الّذي يدل (٤) عليها ما يعلم في الحال أنّه حادث ، كإحياء الموتى وقلب العصا حيّة ، دون الأمور الّتي يجوز فيها ما ذكرناه.

وهذا كما قلتم : إنّ تعلّق الفعل بفاعله إنّما يدلّ على حاجته إليه ، وحدوثه من قبله ، متى علم أنّه حادث. فأمّا إذا (٥) لم يعلم ذلك لم يصحّ كونه دالّا.

وكذلك القول في المعجز ، إنّه لا بدّ من إثبات حادث عند دعواه من قبله تعالى يحلّ محلّ التّصديق ؛ فإذا كان الأمر الّذي يظهر يجوز أن لا يكون في حكم الحادث ، فيجب أن لا يصحّ الاستدلال به ؛ أو لستم قد فصلتم بين دلالة القيام والقعود على حاجتهما إلى محدث ، وبين حمرة موضع الضّرب وخضرته بأن قلتم : إنّ ذلك حادث ، فصحّ أن يدلّ؟

وهذا ليس بواضح (٦) ، وإنّما يظهر بعد كون (٧) ، فلا يصحّ أن يدلّ ، فيجب مثل ذلك في المعجز.

فإن قلتم : إنّ القرآن حادث في الحقيقة ، في حال ظهوره على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو خارج من الباب الّذي ظننتم.

قيل لكم : إنّه ـ وإن كان حادثا ـ فهو في حكم الباقي ، كما أنّه الآن (وإن كان

__________________

(١) المغني في أبواب التوحيد والعدل ١٦ / ١٦٨ ـ ١٧٠.

(٢) من المغني.

(٣) في المغني : وأقول.

(٤) في المغني : دلّ.

(٥) في المغني : فاذا.

(٦) في المغني : بواقع.

(٧) في المغني : كمون.

٢٠٦

حادثا إذا تلاه التّالي فهو في حكم الباقي ، فإذا جاز) (١) فيه أن يكون في حكم الباقي وفي حكم الحادث ، فيجب أن تدلّوا على أنّه في حكم الحادث ، ليتمّ الاستدلال لكم به على النّبوّة.

وبعد ، فإنّكم تقولون في القرآن ما يمنع أن يكون حادثا في حال ظهوره على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عندكم ، لأنّكم تزعمون أنّه تعالى أحدثه جملة واحدة في السّماء ، وأنّ جبريل عليه‌السلام كان ينزله على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب الحاجة إليه ، فكيف يصحّ أن تقدّروه تقدير الحادث ، وأنتم تصرّحون القول بأنّه ممّا تقدّم حدوثه ، فإذا كان ذلك حاله عندكم فكيف يدلّ على نبوّته عليه‌السلام؟

ثمّ قال : قيل له : إنّ المعتبر في هذا الباب أن (٢) يظهر عند ادّعائه النّبوّة ما لو لا صحّة نبوّته لم يكن ليظهر ، فمتى كان الأمر الّذي يظهر عليه بهذا الصّفة صحّ كونه دالّا على النّبوّة.

يبيّن ذلك أنّ ما يظهر عند ادّعائه فقد كان يجوز أن يظهر لو لا صحّة نبوّته لا يجوز أن يكون دالّا ؛ فإذا كان هذا طريق دلالة المعجزات ، وهو قائم في القرآن كقيامه في إحياء الموتى وما شاكله ، فيجب أن تكون دلالة الجميع لا تختلف ، من حيث لم يختلف طريق دلالته.

ومتى لم نقل بهذه الطريقة لم يصحّ الاستدلال بالمعجزات. وهذا كما نقوله في دلالة المحدث على الفاعل أنّه يعتبر فيه وقوعه بحسب أحواله ، على وجه لو لاه لم يقع ؛ فمتى علمنا ذلك من حاله دلّ ، وإن اختلف أحواله وأجناسه ؛ فكذلك إذا علمنا من حال الأمر الظاهر على مدّعي النبوّة أنّه حادث عند دعواه ، على وجه لو لاه ولو لا صحّة نبوّته لما ظهر ، فيجب أن يكون دالّا. واختلاف أحواله لا يؤثّر في هذا الباب.

يبيّن ذلك : أنّه لو كان المعتبر بأن يتقدّم العلم بحال ذلك الأمر الظّاهر لوجب مثله

__________________

(١) من الهامش ، مع علامة التصحيح ، وليست في المغني.

(٢) في الأصل : بأن ، وما أثبتناه من المغني.

٢٠٧

في الشّاهد ؛ فكان يجب أن لا يدلّ ظهور الشّعر والخطب ممّن يختصّ بهما على تقدّم في العلم ، بأن يجوّز أنّ ذلك قد كان حادثا ، وأنّ المختصّ به لم (يبتدئ به) (١) ، بل أخذه عن غيره ، وهذا يطرّق باب الجهالات في دلالة الفعل على أحوال الفاعلين.

يبيّن ذلك : أنّه قد ثبت أنّ إحياء الموتى حادث لا محالة من قبله تعالى ، وأنّ نقل الجبال وقلب المدن ، إلى ما شاكلهما (٢) قد يجوز ، بل نقطع على حدوثهما من قبل من ادّعى النّبوّة. ولم يمنع ذلك من كونه دالّا ، للوجه الّذي ذكرناه ، وهو أنّه ممّا قد علم أنّه لو لا صدقه في ادّعاء النّبوّة لما ظهر ، وإن خالف حالهما حال إحياء الموتى.

وكذلك فلو جعل دليل نبوّته أنّه يمتنع على النّاس القيام والقعود ، أو يتّفق من العالم تصديقه ، والخضوع له عند أدنى (٣) وهلة ، لكان ذلك يدلّ (٤) كدلالة إحياء الموتى من الوجه الّذي بيّناه.

وإن كانت الحال مختلفة ، فبعض ذلك حادث من قبله تعالى (٥) وبعضه يكشف عن تغيير أحوال العقلاء في الدّواعي (٦) ، إلى غير ذلك.

فكذلك القول في ظهور القرآن : أنّه يجب أن يكون دالّا ، وإن لم يعلم المفكّر أنّه ابتدأه ، أو ابتدأ في الحال ؛ لأنّ حاله ـ وهو كذلك ـ كحاله وإن كان مبتدأ في الوقت ، كما أنّ حال نقله الجبال عن قدرته كحاله لو كان القديم تعالى فعله».

الكلام عليه

يقال له : قد أطلت السّؤال والجواب معا بما لا محصول. واعتمدت على

__________________

(١) في المغني : ينشده.

(٢) في الأصل : شاكلها ، وما أثبتناه من المغني.

(٣) في المغني : أوّل.

(٤) من المغني.

(٥) في هذا الموضع من المغني زيادة : وبعضه يكشف عن أمر قد حدث من قبله.

(٦) في المغني : الدعاوي.

٢٠٨

دعوى لم تتشاغل بالدّلالة على صحّتها. وقدّمت أمام جوابك مقدّمة صحيحة ، لكنّك لم تتبيّن وجه موافقتها لما ادّعيته وعوّلت عليه ، وظننت أنّ المقدّمة إذا كانت صحيحة مسلّمة فقد صحّ ما رتّبته عليها ممّا لا تقتضي صحّتها صحّته! وهذا لا يخرج عن أن يكون غلطا أو مغالطة ؛ لأنّه لا شبهة فيما ذكرته من أن المعتبر في هذا الباب ـ بما يظهر عند ادّعاء النّبوّة ممّا يعلم ـ أنّه لو لا صحّة نبوّة المدّعي لم يظهر ، لكن من أين لك فيما اقتصرت عليه وادّعيته أنّه كاف في الدّلالة أنّه بهذه الصّفة؟

أو ليس قد بيّنا أنّ ظهور الأمر الّذي يمكن فيه النّقل والحكاية ـ وإن كان خارجا من العادة ـ غير كاف في الدّلالة على صدق من ظهر على يديه واختصّ به ، من حيث كان جائزا أن يكون هو الّذي خصّ نفسه بظهوره ونقله عمّن خصّه الله تعالى به وجعله علما على صدقه ، أو نقله إليه غيره ممّن يجري مجراه في جواز فعل القبيح منه؟! وإنّا متى لم نأمن هذه الحال فلا سبيل إلى التّصديق والقطع على صحّة الدّعوى (١).

وقد كان يجب أن يكون توفّرك كلّه مصروفا إلى أنّ الكفاية واقعة بالقدر الّذي اقتصرت عليه ، وأنّه لو لا صحّة نبوّة المدّعي لم يكن ، وإلّا فلا منفعة فيما قدّمته ؛ لأنّا نقول لك على سبيل الجملة :

كلّ أمر ظهر على مدّعي النّبوّة ـ على وجه لو لا صحّة نبوّته لما ظهر على ذلك الوجه ـ فهو دالّ على صحّة النّبوّة ، ويبقى على من ادّعى في فعل معيّن ـ على سبيل التفصيل ـ أنّه دالّ ، أن يبيّن موافقته لتلك الجملة.

وقد بيّنا أيضا الفرق بين دلالة إحياء الموتى وما جرى مجراه ممّا لا يمكن

__________________

(١) في الأصل : الدعوة ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٠٩

فيه النّقل ، وبين القرآن وأمثاله ؛ لأنّ النّقل بحيث لم يكن فيه حصل لنا الأمان من الوجه الّذي لأجل تجويز ما يأتي فيه النقل ، لم يكن دالّا ، فسقط بذلك قول من سوّى بين الأمرين ، وادّعى أنّ طريق دلالة الجميع لا يختلف.

فأمّا دلالة الفعل على الفاعل فغير مفتقرة إلى اعتبار جنس الفعل ونوعه والنّظر في أحواله ؛ لأنّ تعلّقه به واحتياجه في وقوعه إلى أحواله لا يختلفان ، وإن اختلفت أجناس الأفعال وأحوالها. فالواجب على من ظنّ في الموضع الّذي تقدّم ـ أنّه دالّ من غير حاجة إلى النّظر فيما أوجبنا النّظر فيه ، وحمل ذلك على دلالة الفعل على الفاعل ـ أن يبيّن فيما ادّعاه أنّه بهذه الصّفة ؛ فإنّا لم نقل في الفعل والفاعل ما ذكرناه إلّا بدلالة أوجبت علينا القول به ، ونحن نطلب بمثلها من ادّعى ، في بعض الأشياء ، مساواته لدلالة الفعل على فاعله؟ مع أنّا قد دللنا ـ فيما تقدّم وتأخّر ـ على أنّ الاقتصار على ما اقتصر عليه صاحب الكتاب غير كاف ، وأنّه مخلّ بما لا بدّ في دلالة التّصديق منه ، ولا غنى بها عنه.

فأمّا قوله : «لو كان المعتبر بأن يتقدّم العلم بحال ذلك الأمر الظّاهر ، لوجب أن لا يدلّ ظهور الشّعر والخطب على علم من اختصّ بهما ؛ لتجويزه أن يكون ذلك حادثا من قبل ، وأنّ المختصّ به أخذه عن غيره».

فقد بيّنا فيما تقدّم من هذا الكتاب كيفيّة القول في دلالة الشّعر وما جرى مجراه من الكلام على علم فاعله ، وما يقطع به على إضافته إلى من ظهر منه وما لا يقطع به ، وفصلنا بينه وبين ظهور القرآن ، واستوفيناه غاية الاستيفاء.

على أنّا نقول له : كلّ شعر أو كلام ليس بشعر ظهر من بعضنا ، وجوّزنا أن يكون نقله وحكاه ، لفقد ما يقتضي أن يكون المبتدئ به والسابق إليه ، من الدّلائل والأمارات الّتي قد تقدّم ذكرنا لها فيما سلف من الكتاب ؛ فإنّه لا يدلّ على أنّ من ظهر عليه عالم بكيفيّة صيغته وترتيبه. وأكثر ما يدلّ عليه من حاله أنّه عالم

٢١٠

بحكايته ؛ لأنّ الحكاية هي المعلوم حدوثها من جهته ، وقد ضربنا لذلك مثالا لا شبهة فيه ، وهو :

أن يحضر أحدنا ثوبا حسن الصّنعة لم يشاهد قبله مثله ، ويدّعي أنّه صانعه ، ولا يرجع إلى إضافته له إليه إلّا إلى دعواه.

فإذا كان من الواجب عند كلّ أحد الامتناع من تصديق هذا المدّعي وإضافة الثّوب إلى صنعته والاستدلال به على علمه ، دون أن يعلم أنّه هو المبتدئ بصنعته ، وأنّه لم ينقله عن صنعته. ولا يجري ذلك في باب الدّلالة مجرى أن يصنع بحضرتنا ثوبا ، فكذلك القول في الكلام ؛ لأنّ النّقل فيه يمكن كما يمكن في الثّوب وأشباهه.

ثمّ يقال له : خبّرنا عنك لو أحضرك محضر قصيدة من الشّعر ، وادّعى أنّه مؤلّفها ومبتدعها ـ وهو ممّن يجوز أن يكذب في خبره ، ولم ترجع في علمه بالشّعر إلّا إلى ظهور القصيدة من جهته ، دون أن يقع منه التّصرّف في أمثالها والقول في أوزان ومعان تقترح عليه ـ ما كنت تقطع على علمه بالشّعر وصحّة إضافة القصيدة إليه؟

فإن قال : «نعم ، كنت أقطع بذلك» ، قال قولا مرغوبا عنه ، ولزمه أن يقطع فيمن أحضره الثّوب وسائر ما يمكن فيه النقل بمثل ذلك! وقيل له : ومن أيّ وجه علمت صحّة قول هذا المدّعي ، وأنت لا تأمن أن يكون كاذبا جاهلا بقول الشّعر وتأليفه ، وإنّما نقل تلك القصيدة عن غيره؟ وفساد ارتكاب ذلك أظهر من أن يخفى ، فيحوج إلى الإطالة.

فإن قال : إذا لم يظهر منه إلّا القدر الّذي ذكرتموه ، ولم يجز أن أقطع على علمه بتأليف الشّعر ، ولا على أنّه صاحب القصيدة.

قيل له : أفليس إذا علمت ببعض ما قدّمناه من الدّلائل والأمارات ، أنّ تلك

٢١١

القصيدة لم يسبق إليها تقطع على علمه ؛ فلا بدّ من : بلى؟!

فيقال له : فقد صرت في باب إضافة الشّعر إلى من ظهر عليه بغير حاله (١) ، وهل هو ممّا سبق إليه أو ابتدأ من جهة من ظهر معه؟ وبطل تقديرك أنّ ذلك غير محتاج إليه في باب الشّعر. كما أنّه ـ على ما ادّعيته ـ غير محتاج إليه في دلالة القرآن ؛ لأنّك قد صرّحت بأنّ القرآن دالّ مع تجويز النّاظر أنّه منقول غير مبتدأ ، وليس يمكنك أن تقول مثل هذا في دلالة الشّعر وما أشبهه من الكلام.

على أنّا قد بيّنا أنّ تجويز النّاظر في القرآن أن يكون مفعولا ـ قبل ادّعاء من أظهر (٢) الرّسالة ، وأنّه انتقل إليه بغير الله تعالى ، أو غير من أمره الله تعالى بنقله إليه ـ يمنع من صحّة الاستدلال به ، فبطل ما ذكره على كلّ حال.

فأمّا تسويته بين نقل الجبال وإحياء الموتى ، واتّفاق التّصديق من جميع الخلق على وجه غير معتاد في باب الدّلالة وإن كان وجهها مختلفا ، وقوله : «فكذلك ظهور القرآن يدلّ ، وإن لم يعلم المفكّر أنّه ابتدأه (٣) في حال ، لأنّ حاله وهو مبتدأ كحاله لو كان غير مبتدأ في باب الدّلالة ؛ فلا شكّ في أنّ دلالة ما ذكره من نقل الجبال وإحياء الموتى والاتّفاق على التّصديق غير مختلفة ، وإن كانت هذه الأمور في أنفسها مختلفة. وإنّما لم تختلف لأنّ مرجع كلّ ذلك إلى فعل الله تعالى ، يقطع على أنّه لم يفعله إلّا للتّصديق والإبانة ؛ لأنّ إحياء الموتى وإن كان فعله تعالى ، وواقعا موقع التّصديق بغير واسطة ؛ فكذلك نقل الجبال واجتماع العالم على التّصديق ؛ لأنّ نقل الجبال يدلّ ـ إذا لم يكن من فعله تعالى على يد من ظهر عليه ـ على اختصاص الفاعل بقدر لم تجر العادة بمثلها ، واقعة من فعله تعالى على سبيل التّصديق.

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) في الأصل : ظهر ، والمناسب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : ابتدأ ، والمناسب ما أثبتناه وفقا للمغني.

٢١٢

واجتماع الخلق على التّصديق يدلّ أيضا على أمور فعلها ـ جلّ وعزّ ـ على خلاف العادة ، اقتضت بإجماع الدّواعي واتّفاقها.

وجميع هذه الوجوه نأمن فيها أن يكون الاختصاص بالتّصديق واقعا ممّن يجوز أن يصدّق كذّابا.

وليس كذلك الحال فيما يجري مجرى الكلام ، إذا اعتبرنا وجه دلالته على النّبوّة ؛ لأنّا إذا لم نعلمه مبتدأ في الحال ، ولم نعلم ـ إن كان غير مبتدأ ـ أنّ نقله إلى من ظهر عليه ـ إنّما كان بالله تعالى ، وبمن أمره الله تعالى بنقله ـ يجوز أن يكون انتقاله وظهوره إنّما كانا ممّن يجوز أن يصدّق الكذّاب ، فلم يكن إلّا من هذا الوجه ، وفارق ما تقدّم.

ولا فرق متى علم مبتدأ في الحال ـ بين أن يكون من فعل الله تعالى ، أو من فعل من ظهر عليه ـ بعد أن يكون غير معتاد ؛ لأنّه إن كان من فعله تعالى جرى مجرى إحياء الموتى في الدّلالة بغير واسطة. وإن كان من فعل من ظهر عليه جرى مجرى نقل الجبال وقلب المدن ـ إذا علمنا أنّ الله تعالى لم يتولّ فعلهما ـ في الدّلالة على أمور وقعت من فعله تعالى موقع التّصديق ، وهي العلوم التي يتمكّن معها من فعل مثل ذلك الكلام.

وليس المعوّل ـ في الطّعن على ما اعتمده في هذا الموضع ـ على أنّ القرآن إذا لم يعلم مبتدأ في الحال وجوّز أن يكون حادثا قبلها لم يدلّ على النّبوّة حسب ما سأل عنه نفسه. بل المعوّل على ما بيّناه من أنّه إذا لم يعلم حادثا ، ويجوز انتقاله ممّن يجوز منه فعل القبيح لم يكن [دالّا]. وإلّا فلو علمناه متقدّم الحدوث ، وأمنّا أن يكون انتقاله واختصاصه ممّن ظهر عليه من جهة من يجوز منه القبيح ، لكان دالّا.

ولعلّنا أن نفصّل فيما يأتي من الكتاب ـ بعون الله ـ الكلام في المعجز الواقع

٢١٣

موقع التّصديق ، وهل يجوز أن يتقدّم ما هذه صفته الدّعوى (١) أم لا يجوز؟

وهل القدر الكثيرة الّتي يتمكّن بها من الأفعال الخارجة عن العادة ـ إذا كانت. هي المعجز والعلم الدالّ على الصّدق فيمن يختصّ بها ـ ويجوز أن يتقدّم الدّعوى ، أم لا يجوز أن يتقدّمها ، ولا بدّ من حدوثها في حال الدّعوى؟ فإنّ كلام صاحب الكتاب إلى هذه الغاية ليس يقتضي أكثر ممّا ذكرناه.

قال صاحب الكتاب (٢)

«وعلى هذا الوجه قلنا : إنّ المبتدئ بالاستدلال على تعلّق الفعل بالفاعل ، ودلالته (٣) على أنّه قادر قد يصحّ استدلاله متى علم تعلّقه بأحواله ، وإن لم يفكّر في أنّ الأعراض يجوز عليها الانتقال ، وإن كان متى عرضت له شبهة في ذلك يلزمه أن ينظر في حلّها ، لا لأنّ أصل استدلاله لم يصحّ ، وإنّما كان كذلك لأنّه مع تجويز الانتقال ، حال ما يظهر منه في أنّه يقع بحسب أحواله عنده ، كحاله متى لم يجز الانتقال عليه ؛ فوجه الدّلالة لا يتغيّر بهذا التّجويز ، فلم يتغيّر حاله في صحّة الاستدلال. فكذلك القول فيما ذكرناه من دلالة القرآن على النّبوّة.

يبيّن صحّة ذلك : أنّ الناظر في إحياء الموتى ـ وإن لم يستدلّ فيعلم أنّ الحياة لا يجوز فيها الانتقال والظهور والكمون ـ يمكنه أن يستدلّ به على صحّة النّبوّة ، من حيث علم أنّه لو لا صحّة النّبوّة لم يحدث ذلك بالعادة ، (فيقارن حاله عنده حال الأمور المستمرّة على العادة) (٤) ، فبهذه التّفرقة يمكنه الاستدلال ؛ فإذا كانت صحيحة ، وإن لم يقع النظر في أنّ حدوثه متجدّد في الحقيقة ، أو

__________________

(١) في الأصل : الدعوة ، خلافا لما جرى عليه المؤلّف في الكتاب.

(٢) المغني ١٦ / ١٧٠ ـ ١٧١.

(٣) في الأصل : دلالته ، وما أثبتناه من المغني.

(٤) زيادة من المغني ليست في الأصل.

٢١٤

حدوثه في هذه العين متجدّد ، بل كان ذلك كالمجوّز عنده.

فكذلك القول في القرآن ، أنّه لا فرق بين أن يعلم أنّ ظهوره ابتداء لم يتقدّم من قبل ، أو جوّز تقدّمه ، ثم ظهوره الآن على وجه لم تجر العادة بمثله ، في أنّ على الوجهين جميعا قد علم التّفرقة بينه وبين ما يحدث على طريقة العادة.

وهذا يكشف لك عن (١) صحّة ما قلناه من أنّ المعتبر في هذا الباب أن يعلم المستدلّ أنّه ظاهر عند الدّعوى ، على وجه يفارق حاله حال الأمور المعتادة.

فمن (٢) عرف هذه التّفرقة فقد صحّ استدلاله ، وإن جوّز فيه ما ذكرناه».

الكلام عليه

يقال له : أمّا الناظر في تعلّق الفعل بالفاعل أنّه قادر متى (٣) كان مجوّزا على الأعراض الانتقال ـ فإنّه لا سبيل له إلى العلم بأنّ اختراع ذلك الفعل الّذي علم ظهوره من الفاعل ، إنّما كان به.

والاستدلال ـ مع هذا التّجويز ـ على أنّه قادر على اختراعه وإحداث عينه ، إنّما (٤) يعلم تعلّق ظهوره به على الوجه الّذي ظهر عليه.

ومتى علم في الأعراض أنّها لا يصحّ عليها الانتقال صحّ أن يعلم ما ذكرناه من تعلّق الحدوث به. ولم نجد صاحب الكتاب فصّل هذا التفصيل ، بل أطلق القول بأنّ دلالة الفعل لا تختلف في الحالين.

فإن كان أراد أنّ الدّلالة على الإحداث والاختراع لا تختلف ـ مع تجويز الانتقال وامتناعه ـ فقد بيّنا اختلافها. وإن أراد أنّها لا تختلف من الوجه الآخر ، فقد ذكرناه.

__________________

(١) في الأصل : من ، وما أثبتناه من المغني.

(٢) في المغني : فمتى.

(٣) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.

(٤) في الأصل : وإنّما ، وهو غير مناسب للسياق.

٢١٥

وقد تقدّم الكلام في أنّ النّاظر في القرآن إذا جوّز انتقاله إلى من ظهر على يده ممّن يجوز منه القبيح ، لم يمكنه الاستدلال به. فبان الفرق بينه وبين دلالة الفعل على الفاعل.

فأمّا النّاظر في إحياء الموتى ـ مع تجويزه على الحياة الانتقال والكمون والظّهور ـ فليس تخلو حاله من وجهين :

إمّا أن يكون ـ مع تجويزه على الحياة الانتقال ـ يجوّز أن تنتقل بغير الله تعالى.

أو يكون غير مجوّز لذلك ، بل معتقدا أنّ انتقالها لا يكون إلّا به تعالى.

فإن كان على الوجه الأوّل : لم يصحّ استدلاله على النّبوّة ؛ لما ذكرناه من التّجويز الّذي لا نأمن معه أن يكون الانتقال وقع ممّن يجوز أن يفعل القبيح.

وإن كان النّاظر على الوجه الثّاني : صحّ استدلاله مع تجويز الانتقال ؛ لأنّ الانتقال في هذا الوجه يجري مجرى الحدوث والاختراع في أنّه خارق للعادة ، ومن فعل من نأمن منه فعل القبيح ، فكيف يتوهّم أنّ النّاظر في إحياء الموتى ـ دلالته على صدق من ظهر عليه ـ يمكنه الاستدلال به ، مع تجويزه في الحياة أن تكون منتقلة بغير الله تعالى؟ وأن يكون ناقلها بعض من يجوز عليه تصديق الكذّاب؟

وهل هذا إلّا كقول من يقول : إنّ النّاظر في إحياء الموتى يمكنه الاستدلال به على النّبوّة ، مع تجويزه أن تكون الحياة داخلة تحت مقدور البشر ، ومن جملة ما يمكنهم أن يفعلوه؟

فإذا كان ظهور الحياة ـ مع هذا التّجويز ـ لا يدلّ ، من حيث كنّا لا نأمن إذا كانت الحياة مقدورة لهم من أن يقع من مصدّق للكذّاب! وكذلك حالها عند من جوّز عليها الانتقال بغير من نثق بحكمته. وهذا أوضح من أن يخفى على متأمّل.

فأمّا قوله : «إنّ المعتبر هو أن يعلم المستدلّ في القرآن وأمثاله أنّه ظاهر عند

٢١٦

الدّعوى ، على وجه يفارق الأمور المعتادة. ومتى عرف هذه المعرفة صحّ استدلاله ، وإن جوّز فيه ما ذكرناه».

فقد مضى الكلام في أنّ القدر الّذي ذكره غير كاف في الدّلالة ، وأنّه لا بدّ أن يأمن النّاظر من أن يكون ذلك الأمن الّذي ليس بمعتاد ظهر بفاعل يجوز عليه الاستفساد وفعل القبيح ؛ لأنّ حكم الأمر المفارق للعادة ـ في هذا الوجه ـ حكم الدّاخل تحتها ، من حيث جاز فيهما جميعا أن يقعا من غير حكيم ، وعلى وجه لا يوجب التّصديق.

ثمّ يقال له : من أيّ وجه لم يدلّ سائر الأفعال المعتادة منّا إذا ظهرت على بعض من يدّعي النّبوّة؟

فلا بدّ من أن يفزع إلى ما ذكرناه من أنّها إذا كانت بهذه الصّفة لم نأمن من أن تقع من مصدّق أو كذّاب.

فحينئذ يقال له : فإذا كانت هذه العلّة موجودة من بعض ما يقع على خلاف العادة من الأفعال ، فلا بدّ من القول بأنّه غير دالّ ، وإلّا فالمناقضة ظاهرة.

ثمّ يقال له : أليس قد يصحّ أن يستدلّ المستدلّ ، فيعلم أنّ القديم تعالى قادر على أجناس وأفعال كثيرة لا يقدر البشر عليها ، وإن كان شاكّا في حكمته ويجوّز أن يفعل القبيح؟ فلا بدّ من الاعتراف بذلك ؛ لأنّ أحد العلمين غير متعلّق بالآخر.

فيقال له : خبّرنا عمّن نظر في بعض ما يظهر على مدّعي النّبوّة ، فعرف أنّه من فعل الله تعالى ، وممّا لا يتمكّن البشر منه ، وأنّه خارق للعادة : أيصحّ استدلاله به على النّبوّة ، مع تجويزه على الله تعالى فعل القبيح ، وتصديق الكذّاب؟

فإذا قال : لا.

قيل له : فقد بطل قولك : إنّ المعتبر في صحّة الاستدلال هو بأن يظهر عند الدّعوة أمر مفارق للعادة ، وأنّ ما عدا ذلك من أحواله لا حاجة إلى العلم به.

٢١٧

وبعد ، فإنّ الّذي منع في هذا الموضع من صحّة الاستدلال على النّبوّة ، قائم في الموضع الّذي اختلفنا فيه ، إذا جوّز أن يكون ظهور ذلك الأمر وانتقاله ممّن يجوز أن يفعل القبيح.

فإن قال : إذا سوّيتم في الكلام الذي ذكرتموه بين المعتاد وغير المعتاد في أنّه غير دالّ ، فلم شرطتم في دلالة المعجز أن يكون خارقا للعادة؟ وأيّ تأثير لكونه خارقا لها؟

قيل له : إنّا لم نجعل المعتاد مساويا بغير المعتاد في كلّ موضع ، وإلّا أبطلنا الحاجة في دلالة المعجز إلى كونه خارقا للعادة كما ظننت ، وإنّما سوّينا بينهما في امتناع الاستدلال على النّبوّة بهما في الموضع الّذي يجوز في كلّ واحد منهما أن يكون واقعا ممّن يجوز أن يفعل القبيح ، ويصدّق الكذّاب.

فأمّا تأثير كون الفعل خارقا للعادة في غير هذا الموضع ، فواضح معلوم ؛ لأنّ ما وقع من أفعال الله تعالى على مجرى العادة إنّما لم يدلّ على النّبوّة من حيث جوّز النّاظر أن يكون واقعا لغير التّصديق ، وعلى مجرى العادة. وإذا كان غير معتاد زال هذا التّجويز.

فإن قال : إنّما قلت : المعتبر بأن يعلم النّاظر في الأمر الظّاهر أنّه خارق للعادة ، ويكتفي به في الاستدلال ؛ لأنّه يأمن أن يكون ظهوره و. انتقاله ممّن يجوز أن يستفسد ويفعل القبيح ، من حيث يعلم أنّ القديم تعالى لا يمكّن من ذلك ، ويمنع منه من يرومه ؛ فيصحّ استدلاله.

قيل له : فقد صرت إذا إلى قولنا ، وتركت ما أنكرناه عليك ، لأنّا لم نخالفك في الوجه الّذي منه أمن أن يقع من فاعل للقبيح ، فيذكر فيه طريقا دون طريق! وإنّما أنكرنا إطلاقك أنّ العلم بما أوجبناه غير محتاج إليه ولا مفتقر في صحّة الاستدلال إلى تقدّمه ، وأنّه ليس يحتاج إلى أكثر من العلم بأنّ الفعل على خلاف العادة. وإذا

٢١٨

اعترفت بأنّه لا بدّ من أن يأمن وقوعه من فاعل للقبيح ، فقد تمّ ما أردناه.

وسنتكلّم على فساد ما اعتمده ـ من إيجاب المنع من ذلك على الله تعالى ـ ونبيّن أنّه لا وجه لوجوبه فيما بعد ، بمشيئة الله تعالى.

قال صاحب الكتاب (١) ، بعد كلام قد تقدّم منّا إبطال ما فيه من شبهة :

«فإن قال : إنّ المفكّر إذا جوّز ذلك ، (وأن تكون نقلت ذلك) (٢) إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على وجه لا يدلّ [على النّبوّة] (٣) بل إرادة للمفسدة ، لأنّه يجوز أن يكون من فعل الملائكة ، وأنّ عادتهم جارية بهذا الحدّ من الفصاحة ، وإن كانوا يعصون ويجوز منهم الاستفساد. فكيف يصحّ مع هذا التجويز أن يقولوا إنّ الاستدلال به يصحّ؟

ثمّ قال : قيل له : قد بيّنا أنّ ما هو عادة للملائكة قد يكون نقضا للعادة فينا. وقد صحّ أيضا أنّ نقل الملائكة الشيء إلى واحد دون آخر ، من باب نقض العادة (٤) من الوجهين ، فلا يقدح (٥) ذلك في دلالته على النّبوّة ، ولو كان ذلك يقدح في دلالة النّبوّة لوجب لو ادّعى النّبوّة وجعل الدّلالة على نبوّته طلوع الشّمس من مغربها ، بل حركة الأفلاك على خلاف عادتها وحصل ذلك ، ألّا يمكن الاستدلال به على النّبوّة ؛ لتجويز المفكّر أنّ ذلك من فعل بعض الملائكة ؛ لأنّ العقل (٦) كما دلّ على أنّ مثل القرآن قد (يجوز أن) (٧) يقدر عليه الملك ،

__________________

(١) المغني ١٦ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٢) في المغني : زيادة : ولم يتقدّم منه أنّ الملائكة لا تعصي ، جوّز أنّها نقلت إلى الرسول.

(٣) من المغني.

(٤) في الأصل : للعادة ، وما أثبتناه من المغني ، وبعدها في المغني : فيعلم المفكّر أنّ ذلك يتضمّن نقض العادة من الوجهين ، وهذه الزيادة ليست في الأصل.

(٥) في الأصل : ولا تقدم ، وما أثبتناه من المغني.

(٦) في الأصل : الفعل ، والمناسب أثبتناه من المغني.

(٧) ليست في المغني.

٢١٩

فكذلك قد دلّ على أنّ (١) ما ذكرناه في الشّمس والفلك ، قد يجوز أن يقدر عليه الملك ؛ فإذا كان ذلك لا يقدح (٢) في دلالتها (٣) على النّبوّة من الوجه الّذي ذكرناه ، فكذلك (٤) في القرآن ، فقد بطل ما سأل عنه».

الكلام عليه

يقال له : لا فرق بين ما ذكرته من حركة الشّمس في خلاف جهتها ، وحركة الأفلاك على غير عادتها إذا جوّزنا ، فرجع ذلك [بين] أن يكون من مقدور الملائكة وبين ما يظهر على مدّعي النّبوّة من الكلام الّذي يجوز أن يكون من مقدورهم ، في أنّ جميعه لا يدلّ على النّبوّة إلّا بعد العلم بأنّ الملائكة لم تعص في فعل ذلك ، على سبيل الاستفساد ؛ لأنّ العلّة في كلّ واحدة.

وكيف ظننت أنّا نقول في حركة الأفلاك بخلاف ما قلناه في القرآن ، حتّى اعتمدت وجعلت أصلا فعل من لا خلاف عليه ، ولا نزاع فيما قرّره؟

ولست تخلو فيما ادّعيته من دلالة حركة الأفلاك على النّبوّة ـ مع التجويز الّذي ذكرناه ـ من أن يسند إلى ضرورة أو إلى استدلال ، وما نظنّك تدّعي في ذلك الاضطرار ؛ لأنّك تعلم أنّ الفرق بين ما يدلّ على النّبوّة وما لا يدلّ إلّا لا يعلم إلّا بدقيق النّظر وشديد التعب ، فلم يبق إلّا الاستدلال الّذي كان يجب أن نذكر وجهه ، لينتظم الوصفين معا.

ثمّ يقال له : أيمكن النّاظر أن يستدلّ بما ذكرته من حركة الأفلاك وطلوع الشّمس ، مع تجويزه وقوع ذلك من فعل البشر ، وكونه من جملة مقدوراتهم؟

__________________

(١) من المغني.

(٢) في الأصل : لا يقدم ، وما أثبتناه من المغني.

(٣) في الأصل : دلالتهما ، وما أثبتناه من المغني.

(٤) من المغني.

٢٢٠