الموضح عن جهة إعجاز القرآن - المقدمة

الموضح عن جهة إعجاز القرآن - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

المقدّمة

منذ بدء نزول آيات القرآن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فى جزيرة العرب ، أدرك هؤلاء العرب ـ وفنّ القول الأدبيّ أوضح مزاياهم ـ أنّ القرآن يغاير مألوف القول ومتداول الكلام ، فلا نظير له في الشعر الذي هم ألصق الناس به وأعرفهم بدقائقه ، ولا هو من نمط النثر المعروف والخطابة الشائعة.

وكثيرا ما كان سماع آيات من القرآن من لدن عرب الجاهليّة محرّكا في دواخلهم نقطة خفيّة توقظهم على الإحساس بوجود «سرّ» خاصّ في التعبير القرآنيّ هو الذي يشدّهم اليه ، ليكون ذلك تمهيدا للإقبال على مضمونه والانفتاح على رسالة القرآن. وكان أهل الجاهليّة يدركون ، أمام النصّ القرآنيّ الآسر ، أنّهم في مقابل كلمات وعبارات فيها من الهيمنة والسطوة والجذب الباطنيّ ما جعلهم طائفتين اثنتين : طائفة سلّمت أنّ في القرآن روحا إلهيّة غيبيّة يخلو منها تماما قول البشر ، فكان أن آمنت بالنبيّ ورسالته. وطائفة أخرى أحسّت أنّ في القرآن شيئا غريبا يهجم على القلب ويهيمن ـ أو يكاد يهيمن ـ عليه ، بيد أنّ خلفيّاتها الاجتماعيّة أو الاعتقاديّة الموروثة كانت تسوق أتباع هذه الطائفة الى الفرار من التسليم للقرآن ومن الإقرار بتفرّده وتميّزه الصادر من الغيب الإلهيّ ، فكان هؤلاء

١

يلجئون الى المغالطة فينعتون القرآن بالسّحر ؛ بسبب هذه السلطة الداخليّة التي يجدونها في أنفسهم ، أو يصفونه بالكهانة أحيانا ، وبالشعر أخرى. وكانوا لا يفتئون يمنعون الذين لم يكونوا قد سمعوا القرآن من سماعه ؛ لئلّا يغلب عليهم ويفضي بهم الى الإيمان به (١).

وأراد الله تعالى أن يغلق عليهم سبل الهروب من أمام حقيقة القرآن الغالبة ، وأن يجرّدهم من الذرائع التي تصدّهم عن الإيمان بالقرآن ورسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن يكشف عن تزويرهم وتمويههم ، فكان أن واجههم بأسلوب صاعق حشرهم في زاوية ضيّقه ، هو أسلوب «التحدّي» الذي عجزوا عن جوابه والثبات أمامه.

لقد تحدّاهم الله سبحانه في خاصّة قدراتهم البيانيّة التي هم أقدر الناس عليها ، ليثبت لهم إلهيّة القرآن ، وليفضح في الوقت نفسه مفترياتهم وأقاويلهم. وهذا التحدّي الذي حمله القرآن نفسه قد تكرّر مرّات عديدة في صيغ شتّى. وهو في كلّها قد تعمّد مغالبتهم جميعا ، مصرّحا بعجزهم ـ ولو كانوا مجتمعين متآزرين ـ عن مماثلته كلّه ، أو مماثلة عشر سور منه ، أو حتّى سورة واحدة من سوره مهما قصرت ... ليخلص الى هذه الغاية ، وهي : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢)؟! ومنذ البدء كان القرآن قد أعلن عن النتيجة وكشف كشفا مستقبليّا عن عجز العرب عن معارضته : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا

__________________

(١) حكى القرآن عن أمثال هؤلاء أنّ بعضهم كان يقول لبعض : «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون» فصّلت : ٢٦. وحكى أيضا أنّهم كانوا يهوّنون من شأن القرآن ومن مزاياه المتفرّدة ، فكانوا يشيعون أنّهم ـ أو صفوة بلغائهم في الأقلّ ـ قادرون أن يقولوا مثل القرآن ؛ فلا مزيّة له إذا ولا هو دليل نبوّة (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا)! الأنفال : ٣١.

(٢) هود : ١٤.

٢

عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (١).

وكان في هذا التحدّي وفي عجزهم أمام هذا التحدّي حجّة بيّنة بأنّ القرآن من عند الله أوحاه الى عبده ورسوله. وبغياب المحاولات الجادّة لمعارضة القرآن من قبل أهل الفصاحة والتعبير الأدبيّ الرفيع من خلاصات العرب ، سقطت الافتراءات والتخرّصات بشأن القرآن ، وثبتت غلبته في هذا التحدّي على مدى الزمان.

* * *

وانطلقت بعدئذ رسالة الاسلام ، فاتّسع نطاقها ليضمّ جزيرة العرب كلّها ، ثمّ ليمتدّ خارج الجزيرة الى أقاليم واسعة وبلدان مترامية في الشرق والغرب. بيد أنّ جوهر الإعجاز القرآنيّ ظلّ سرّا محوريّا دارت حوله الأبحاث ، وتعدّدت بشأنه الدراسات. وقد تركّزت جهود الباحثين والمتخصّصين في محاولات للاقتراب من هذا السرّ الإعجازيّ في فنّ القول القرآنيّ : في بلاغته وفصاحته وقدرته البيانيّة الأخّاذة. ومن هنا شهدت القرون الإسلاميّة الأولى نتاجات أدبيّة واسعة تبحث في القرآن من حيث الأسلوب والألفاظ والجمال البيانيّ ، في محاولة للتعرّف على ذلكم السرّ المعجز ، وللمقارنة بين تألّق التعبير القرآنيّ وبين كلام البلغاء والفصحاء. وأفضى بهم هذا كلّه الى العناية الفائقة بعلوم البلاغة التي تختصّ بدراسة الأسلوب والصورة واللفظة المفردة ، حتّى حاز الاهتمام بالبلاغة المقام الأوّل من بين سائر العلوم. وقد عبّر أبو هلال العسكريّ عن هذه الحالة بقوله : «إنّ أحقّ

__________________

(١) البقرة : ٢٣ ـ ٢٤.

٣

العلوم بالتعلّم وأولاها بالتحفّظ ـ بعد المعرفة بالله جلّ ثناؤه ـ علم البلاغة ومعرفة الفصاحة الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى. وقد علمنا أنّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة وأخلّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصّه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب ، وما شحنه به من الإيجاز البديع والاختصار اللطيف ، وضمّنه من الحلاوة ، وجلّله من رونق الطلاوة ، مع سهولة كلمه وجزالتها وعذوبتها وسلاستها ...» (١).

وهكذا غدت الدراسات البلاغيّة مقدّمة لدراسة القرآن وتفسيره ، وضرورة لتذوّق وإدراك البيان القرآنيّ ، حتّى أنّك تجد من العلماء من كان لا يبدأ بتدريس تلاميذه كتب التفسير إلّا بعد أن يدرس هؤلاء التلاميذ فنون البلاغة. وقد ألّف يحيى بن حمزة العلويّ كتابه (الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز) ليكون تمهيدا لتدريسه تفسير الكشّاف للزمخشريّ الذي «لا سبيل الى الاطّلاع على حقائق الإعجاز إلّا بإدراكه والوقوف على أسراره وأغواره. ومن أجل هذا الوجه كان متميّزا عن سائر التفاسير» (٢).

وقاد الإيمان بأنّ سرّ إعجاز القرآن في فصاحته وبلاغته إلى إيجاد حركة تأليف كبيرة في لغة القرآن وفصاحته. واهتدى من المؤلّفين من اهتدى إلى أنّ الأعجاز كامن في «النّظم» القرآنيّ ، وفي طريقة صياغة العبارة وفي فصاحة الألفاظ كذلك ، أي في القول القرآنيّ : ألفاظا مفردة وتراكيب ، وفيما تتضمّنه من المعاني الصحيحة العالية. ومن هنا نشأت «نظريّة النّظم» في دراسات الإعجاز بوصفها بلورة راقية للدراسات البيانيّة للقرآن.

__________________

(١) كتاب الصناعتين ١.

(٢) الطراز ١ / ٥.

٤

وقد ظهر مصطلح «النظم» منذ عصر مبكّر ، فاستعمل استعمالا خاصّا يرتبط بأسلوب القرآن ، كما استعمل احيانا اصطلاحا بلاغيّا عامّا. ولعلّ سيبويه (ت ١٨٠ ه‍) من أقدم مستخدمي مصطلح النظم في أساليب التعبير حينما تحدّث عن معنى النظم وائتلاف الكلام ، وما يفضي الى صحّته وفساده وحسنه وقبحه (١).

وذكر عمرو بن كلثوم العتّابيّ (ت ٢٢٠ ه‍) أنّ الألفاظ للمعاني بمنزلة الأجساد للأرواح ، فينبغي أن توضع مواضعها ، وإلّا تغيّر المعنى وفسد النظم (٢).

وفي سياق الأسلوب القرآنيّ آمن الجاحظ (ت ٢٥٥ ه‍) أنّ القرآن معجز بنظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد (٣).

واستمرّ مصطلح النظم متداولا في لغة أدباء وعلماء آخرين ، من مثل ابن قتيبة (ت ٢٧٦ ه‍) (٤) ، وإبراهيم بن المدبّر (ت ٢٧٩ ه‍) (٥) ، والمبرّد (ت ٢٨٥ ه‍) الذي كانت البلاغة تعني عنده حسن النظم (٦) ، والطبريّ (ت ٣١٠ ه‍) (٧) ، وأبي سعيد السيرافيّ (ت ٣٦٨ ه‍) (٨) ، وعليّ بن عيسى الرمّانيّ (ت ٣٨٦ ه‍) (٩) ، والخطّابيّ (ت ٣٨٨ ه‍) الذي تلخّصت رؤيته في إعجاز القرآن بأنّه «إنّما صار معجزا لأنّه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمّنا أصحّ المعاني» (١٠) ، وأبو هلال العسكريّ (المتوفّى آخر القرن الرابع الهجريّ) (١١) ، والباقلانيّ (ت ٤٠٣ ه‍) في مثل

__________________

(١) الكتاب ١ / ٨.

(٢) كتاب الصناعتين ١٦٧.

(٣) الحيوان ٤ / ٩٠.

(٤) تأويل مشكل القرآن ٢٩٩.

(٥) الرسالة العذراء ١٧.

(٦) البلاغة للمبرّد ٥٩.

(٧) جامع البيان عن تأويل آي القرآن ١ / ٦٥.

(٨) الإمتاع والمؤانسة ١ / ١٠٧.

(٩) النكت في إعجاز القرآن ١٠٧.

(١٠) بيان إعجاز القرآن ٢٧.

(١١) كتاب الصناعتين ١٦٧.

٥

قوله : «فأمّا شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به ، ولا يصحّ وقوع مثله» (١) ، وقوله : «وقد تأمّلنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرّف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها على حدّ واحد من حسن النظم وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا» (٢). وصرّح بأنّ الإعجاز ليس «في نفس الحروف ، وإنّما هو في نظمها وإحكامها ورصفها» (٣).

وعني القاضي عبد الجبّار (ت ٤١٥ ه‍) عناية خاصّة بالنظم (٤) ، حتّى إذا جاء عبد القاهر الجرجانيّ (ت ٤٧١ ه‍) كان أوسع من كتب في الموضوع من خلال كتابه (دلائل الإعجاز). وقد أعانه ما كان يتمتّع به من ذوق وسلامة طبع على تجلية مفهوم النظم تجلية تطبيقيّة لآيات كثيرة من القرآن. وقد قرّر أنّ إعجاز القرآن في نظمه وما يتضمّنه هذا النظم من إحكام يؤلّف بين المعنى في أصدق وأروع مظاهره ، واللفظ في أجمل وأدقّ هيئاته (٥).

وظلّت قضيّة النظم وصلتها بالإعجاز ـ بعد عبد القاهر ـ بدون إضافة تذكر أو تجديد ذي شأن حتّى العصر الحديث.

وفي هذا السياق ألّف عدد من قدامى المؤلّفين كتبا ورسائل في نظم القرآن ، وقد احتفظت المصادر بأسماء عدد منها وبإشارات الى مضامين بعضها. ولعلّ أبرزها كتاب نظم القرآن للجاحظ (ت ٢٥٥ ه‍) ، أشار اليه في كتابه (الحيوان) بقوله :

__________________

(١) إعجاز القرآن ١١٢.

(٢) إعجاز القرآن ٣٧.

(٣) التمهيد ١٥١.

(٤) المغني ١٦ / ١٩٧.

(٥) ينظر دلائل الإعجاز ، فقد وضعه المؤلّف كلّه في بيان قضية النظم.

٦

«كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه» (١). ونصّ على هذا الكتاب من القدماء الخيّاط المعتزليّ (٢). وألّف محمّد بن يزيد الواسطيّ (ت ٣٠٦ ه‍) كتابا في أنّ «إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه» (٣). وكتب من بعده الحسن بن عليّ بن نصر الطوسيّ (ت ٣٠٨ ه‍) كتاب نظم القرآن (٤). ثمّ ألّف أبو عليّ الحسن بن يحيى بن نصر الجرجانيّ (توفّي أوائل القرن الرابع الهجريّ) كتاب نظم القرآن في مجلّدين (٥) ، وقد نقده من بعده واختار منه مكيّ بن أبي طالب القيسيّ المغربيّ (ت ٤٢٧ ه‍) في كتابه (انتخاب كتاب الجرجانيّ في نظم القرآن وإصلاح غلطه) (٦).

وممّن كتبوا في نظم القرآن كذلك : عبد الله بن أبي داود السجستانيّ (ت ٣١٦ ه‍) (٧) ، وأبو زيد أحمد بن سليمان البلخيّ (ت ٣٢٢ ه‍) (٨) ، ثمّ أحمد بن عليّ بن الإخشيد أو الإخشاد (ت ٣٢٦ ه‍) (٩).

* * *

وإلى جوار سيادة فكرة النظم واستمرارها الطويل بوصفها مكمن الإعجاز في التعبير القرآنيّ ، كان ثمّة فكرة أخرى في تفسير الإعجاز ، لكنّها أقلّ شيوعا وأدنى حظّا في القبول من لدن المعنيّين بشأن القرآن عامّة وشأن البيان القرآنيّ خاصة ، هي فكرة «الصّرفة». ويراد بالصرفة في هذا السياق أنّ الله تعالى أراد أن يثبت أنّ

__________________

(١) الحيوان ١ / ٩.

(٢) الانتصار ٢٥ ، ١١١.

(٣) الفهرست ٢٢٠.

(٤) طبقات المفسّرين للداوديّ ١ / ١٣٨.

(٥) تاريخ جرجان ١٨٦.

(٦) إنباه الرواة ٣ / ٣١٦.

(٧) تاريخ بغداد ٩ / ٤٦٤.

(٨) البصائر والذخائر للتوحيديّ ٢ / ٣٧٩.

(٩) الفهرست ٤١.

٧

القرآن منزل من عنده وليس من اصطناع البشر ، فصدّ العرب عن معارضته ودفعهم عن مجاراته ، أي أنّه منعهم منعا قهريّا أن يأتوا بمثل القرآن ، وصرفهم عنه صرفا مقصودا يدركون معه أنّهم معجزون أمامه ، على الرغم من وفرة قدراتهم البيانيّة وبراعتهم في القول.

والواقع أنّ هذه الفكرة قد نشأت ـ أوّل ما نشأت ـ في بيئة المتكلّمين منذ أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ، ذلك أنّ مسألة إعجاز القرآن كانت قضيّة من القضايا الاعتقاديّة المتّصلة بالنبوّة ، وقد استأثرت بالجدل والنقاش ، وهي ممّا يقع في صلب موضوع علم الكلام. وكان المعتزلة ـ وهم من أبرز من عني بالنظر العقليّ في مسائل الاعتقاد ـ هم الذين قد نبتت في بيئتهم فكرة الصرفة ، إلى جوار ما شاع بينهم وبين غيرهم من القول بالفصاحة والنظم القرآنيّ المعجز.

ويبدو أنّ إبراهيم بن سيّار النظّام (ت ٢٢٤ ه‍) كبير معتزلة عصره كان أقدم من ذهب هذا المذهب في قوله : «إنّ العرب لم يعجزوا عن معارضة القرآن ، وإنّما صرفهم الله عن تلك المعارضة». لكنّ النظّام لم يعالج هذه الفكرة بشيء من البيان والتفصيل ، أو إنّه قال بها «من غير تحقيق لكيفيّتها وكلام في نصرتها» كما يقول الشريف المرتضى (١).

وقد استهوت فكرة الصرفة عددا من تلامذة النظّام ، كان أبرزهم الجاحظ الذي مال اليها على الرغم من إيمانه بتفوّق النظم القرآنيّ الذي ألّف فيه كتابا مستقلّا. لكنّ الجاحظ ، شأنه شأن سلفه النظّام ، لم يكشف عن أبعاد لهذا المذهب ولم يبسط القول فيه ، فلم يفرد له بابا في كتاب ، وإنّما ذكره ذكرا عابرا في معرض حديث له

__________________

(١) الذخيرة في علم الكلام ٣٧٨.

٨

عن ملك النبيّ سليمان (ع) ، حين قال بعد ما أورد من شواهد : «ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن بعد أن تحدّاهم الرسول بنظمه ، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه ، ولو طمع فيه لتكلّفه ...» (١). وهذا الصرف ـ في رؤية الجاحظ ـ نظير ما وقع لبني إسرائيل في التّيه «فقد كانوا أمّة من الأمم يكسعون أربعين عاما في مقدار فراسخ يسيرة ولا يهتدون إلى المخرج. وما كانت بلاد التّيه إلّا من ملاعبهم ومتنزّهاتهم ... ولكنّ الله صرف أوهامهم ورفع القصد من صدورهم» (٢).

ويفهم من كلام الجاحظ أنّ الصّرفة عنده إنما كانت لحماية القرآن من معارضة الذين يتكلّفون هذه المعارضة ليموّهوا على إغرار الناس ومن لا علم لهم بمزايا نظم القرآن ، وإلّا فإنّ القرآن كان وما يزال معجزا في هذا النظم.

* * *

ومهما يكن فإنّ أبرز من استوفى الكلام عن الصّرفة من بين المتكلّمين المعنيّين بأمر القرآن هو المتكلّم الإماميّ الفقيه الأديب الشريف المرتضى (ت ٤٣٦ ه‍) ؛ فإنّه كان يذهب إلى القول بالصرفة وتحدّث عن خطوط الموضوع الكبرى في كتابه (الذخيرة في علم الكلام). ثمّ لمّا وجد أنّ المسألة تقتضي المزيد من البسط والإيضاح وردّ الاعتراضات ، أراد أن يجلّي الصورة التي يراها لهذا اللون من الإعجاز ، فألّف كتابا خاصّا في الموضوع أسماه (الموضح عن جهة إعجاز القرآن أو الصّرفة).

قصد المرتضى في كتابه (الموضح) إلى بيان أنّ الله تعالى تحدّى العرب بالقرآن

__________________

(١) الحيوان ٤ / ٣١.

(٢) نفسه.

٩

فأوقعهم ، من هذه الناحية ، بالعجز عن تعاطي محاكاته بأن سلبهم ما فيهم من قدرة علميّة ونفسيّة وبيانيّة على هذه المحاكاة ، كلّما قصدوا إليها وهمّوا بها ، فانصرفوا عن محاولة الإتيان بمثل القرآن ـ وهو موضوع التحدّي ـ فيما عبّر عنه بالصّرفة .. التي هي ، في هذه الرؤية ، «جهة إعجاز القرآن». أي أنّ إعجاز القرآن هو هذا الذي كان يجده العرب في أنفسهم من العجز العجيب عن مجاراته ، وكأنّهم مسلوبو الحول والقوّة ، فاقدو القدرة ، عاجزون تمام العجز عن التصرّف حياله. وكان هذا كافيا ليؤمنوا أنّ القرآن صادر من مصدر إلهيّ.

إن هذه الرؤية احتاجت من الشريف المرتضى إلى بيان مفصّل فيه من الردّ على المعترضين ومن الدفاع شيء كثير. وبعبارة أخرى : إنّه استطاع أن يجلّي الفكرة من خلال ما عكف عليه في كتابه من ردود ونقض ومن إزالة الإبهام وكشف الغموض. وهو بعمله هذا تمكّن من تقديم وضوح كاف لنظرية الصّرفة لم يسبقه اليه أحد من سابقيه ، ولم يزد عليه أحد من لاحقيه.

* * *

إنّ محاولة الشريف المرتضى التفصيليّة هذه تعدّ محاولة جريئة كانت تخالف التّيار السائد وتعاكس مجراه ، مع أنّه كان يعتقد بمزايا النظم والفصاحة القرآنيّة العالية. وقد ظلّت خطوته هذه تثير التحفّظ إزاءها والصمت حيالها في أقلّ تقدير. ويبدو أنّ نفرا من علماء الإماميّة ممّن تأثّروا بالمرتضى قد مالوا الى الصّرفة في شطر من حياتهم العلميّة ، ثمّ ما لبثوا أن هجروها وابتعدوا عنها ؛ لأنّها ربّما كانت تحمل تعريضا ـ ولو يسيرا وعابرا ـ بإعجاز القرآن الداخليّ القائم على تفرّد مضمونه وتفرّد أسلوبه البيانيّ ، في حين تعني الصّرفة أنّ إعجاز القرآن مصدره إرادة من خارجه هي التي تحوطه بالعناية وتقطع السبيل على المعارضين.

١٠

ومهما يكن فإنّ كتاب (الموضح عن جهة إعجاز القرآن أو الصّرفة) هو عمل علميّ كبير دالّ على تخصّص مؤلّفه وعلى قدرته الكلاميّة وطاقته الأدبيّة الرفيعة وإلمامه الواسع باللغة والأدب والتاريخ وأساليب البيان.

والكتاب يهيّئ لدراسي الإعجاز ومؤرّخي علوم القرآن فرصة جديدة للتعرّف على أثر مهم طالما أنسي وأغفل ، إذ كان في عداد المفقود من مؤلّفات الشريف المرتضى. ولم يكن أحد يعلم أنّه كان قابعا أجيالا طويلة في زاوية من زوايا خزانة مخطوطات المكتبة المركزيّة في الآستانة الرضويّة في مدينة مشهد المقدّسة ، حتّى قيّض الله تعالى من وجده ولم يمنعه السّقط الذي كان في أوّله من التعرّف عليه.

ثمّ كان هذا المسعى لإخراج الكتاب لأوّل مرّة على يد الفاضل المحقّق سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد رضا الأنصاريّ القمّيّ الذي بذل جهدا علميّا مشكورا في القيام بأعباء التحقيق والتقديم للكتاب. وتولّى مجمع البحوث الإسلاميّة في الآستانة الرّضويّة المقدّسة إخراجه ليطّلع عليه المعنيّون بالقرآن وبدراسات الإعجاز فيه ، وليكون ذلك مقدّمة لإنتاج دراسات حوله تناسب موقعه في تاريخ حركة التأليف في إعجاز القرآن الكريم.

مجمع البحوث الإسلاميّة

قسم الكلام والفلسفة

عليّ البصريّ

١١
١٢

مراجع المقدّمة

١ ـ إعجاز القرآن : أبو بكر محمّد بن الطيّب الباقلانيّ (ت ٤٠٣ ه‍). تحقيق أحمد صقر ، دار المعارف بمصر ١٩٦٤.

٢ ـ الإمتاع والمؤانسة : أبو حيّان التوحيديّ (ت ٤١٤ ه‍). تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين ، القاهرة ١٩٥٢.

٣ ـ إنباه الرواة على أنباه النحاة : عليّ بن يوسف القفطيّ (ت ٦٤٦ ه‍). تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، مصر ١٩٥٥.

٤ ـ الانتصار للقرآن : الباقلانيّ (مخطوط مكتبة بايزيد في استانبول).

٥ ـ البصائر والذخائر : أبو حيّان التوحيديّ. تحقيق إبراهيم الكيلانيّ ، دمشق.

٦ ـ البلاغة : محمّد بن يزيد المبرّد. تحقيق رمضان عبد التوّاب ، القاهرة ١٩٦٥.

٧ ـ بيان إعجاز القرآن : حمد بن محمّد الخطّابيّ (ت ٣٨٨ ه‍). تحقيق محمّد خلف الله أحمد ومحمّد زغلول سلّام (في ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) ، دار المعارف بمصر ١٩٧٦.

٨ ـ تاريخ جرجان : حمزة بن يوسف السهميّ (ت ٤٣٧ ه‍). حيدرآباد الدكن ١٩٦٧.

١٣

٩ ـ تأويل مشكل القرآن : عبد الله بن قتيبة. تحقيق أحمد صقر ، القاهرة ١٩٧٣.

١٠ ـ التمهيد : أبو بكر الباقلّانيّ (ت ٤٠٣ ه‍). تحقيق مكارثي ، بيروت ١٩٥٧.

١١ ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن : محمّد بن جرير الطبريّ (٣١٠ ه‍) ، القاهرة ١٣٢٣ ه‍.

١٢ ـ الحيوان : عمرو بن بحر الجاحظ (ت ٢٥٥ ه‍). تحقيق عبد السلام هارون ، القاهرة ١٩٣٨.

١٣ ـ دلائل الأعجاز : عبد القاهر الجرجانيّ (٤٧١ ه‍). تحقيق محمود محمّد شاكر ، القاهرة.

١٤ ـ الذخيرة في علم الكلام : الشريف المرتضى علم الهدى عليّ بن الحسين الموسويّ (ت ٤٣٦ ه‍). تحقيق السيد أحمد الحسينيّ ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ ١٤١١ ه‍.

١٥ ـ الرسالة العذراء : إبراهيم بن المدبّر (ت ٢٧٩ ه‍). تحقيق زكي مبارك ، مصر.

١٦ ـ الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز : يحيى بن حمزة العلويّ. القاهرة ١٣٣٢ ه‍ / ١٩١٤ م.

١٧ ـ طبقات المفسّرين : محمّد بن عليّ الداوديّ (ت ٩٤٥ ه‍). تحقيق علي محمّد عمر ، القاهرة ١٩٧٥.

١٨ ـ الفهرست : محمّد بن إسحاق النديم (ت ٣٨٠ ه‍). تحقيق رضا تجدّد ، طهران ١٩٧١.

١٩ ـ الكتاب : عمرو بن عثمان سيبويه (ت ١٨٠ ه‍). بولاق ١٣١٦ ـ ١٣١٧ ه‍.

٢٠ ـ كتاب الصناعتين : أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكريّ. تحقيق : محمّد

١٤

أبو الفضل إبراهيم والبجاويّ ، مصر ١٩٧١.

٢١ ـ المغني في أبواب التوحيد والعدل : القاضي عبد الجبّار (ت ٤١٥ ه‍). تحقيق أمين الخوليّ ، القاهرة ١٩٦٠.

٢٢ ـ النكت في إعجاز القرآن : عليّ بن عيسى الرمّانيّ (ت ٣٨٦ ه‍). تحقيق محمّد خلف الله أحمد ومحمّد زغلول سلّام (في ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) ، دار المعارف بمصر ١٩٧٦.

١٥