محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]
المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
وصل
ثم هذا الإمكان إمّا ذاتي فقط ، وذلك إذا كان في المبدعات ، وإما استعداديّ ، وذلك إذا كان في المكوّنات.
ففي الإبداعيات إذا ثبت الإمكان ووجد المقتضي ، ورفع المانع ، حصل المقصود والغاية ، والمانع والقاسر لا يوجد ولا يتصوّر في المفارقات ؛ لعدم الاتفاقات والمزاحمات هناك، كما في عالم الحركات.
وأمّا في هذا العالم فالقواسر وإن كانت موجودة إلّا أنها ليست دائمية ، ولا أكثرية ؛ لأنها من العلل الاتّفاقية ، وليست من الأسباب الذاتية للأشياء ، وقد برهن أنّ العلل الاتّفاقية أقلّية الوجود ، ومع قلّتها لا توجد إلّا في غير الفلكيّات من هذا العالم ، وأمّا فيها فالطبائع الأثيرية على مقتضى حالها من الفوز بمقاماتها اللائقة ، فلها الوصول إلى غاياتها ، وقد بيّنا كيفية وصولها ، وحشرها إلى بارئها.
ثم الغاية للطبيعة الجزئية أولا وبالذات طبيعة جزئية أخرى ، وهكذا إلى ما شاء الله ، والغاية في الطبيعة الكلّية العقلية طبيعة عقلية أخرى فوقها ، بالعلّية والشرف.
وقد دريت أنّ لكلّ طبيعة حسّية ـ فلكية كانت ، أو عنصرية ـ طبيعة أخرى عقلية في العالم الإلهي ، وهي أصول هذه الأشباح الكائنة المتجدّدة ؛ لأنها فاعلها ، وغايتها ، وصورتها أيضا ؛ لأنّ تلك الأصول هي عقليات بالفعل ، وهذه لا تخلو عن القوّة والإمكان ، وهذه بحسب وجودها الكوني التجدّدي سالكة مشتاقة إليها ، فهي من حيث جزئيّتها وتشخّصها الزماني الاتّصالي تنال منها
شيئا فشيئا ، على التتالي ، وتصل إليها وصولا بعد وصول ، وتحصل لذاتها منها حصولا بعد حصول على التدريج ؛ إذ لكلّ صورة عقلية شؤون وجهات ، ووجوه ، وحيثيّات ، لا يحيط به إلّا الله عزوجل.
وأمّا بحسب وجودها العقلي فهي واصلة إليها ، متّحدة بها اتّحاد ذي الغاية بغايتها عند الوصول.
وأمّا تلك الصور العقليات والعلوم الإلهيات ، فهي أبدا ملتحقة بفاعلها ، وغايتها ملاحظة لجمال بارئها ومبدعها ، لم ترجع عنه إلى ذواتها طرفة عين ؛ لأن الإمكان هنالك لا يفارق الفعلية ، والقصور لا يباين التمام ، فهي أبدا مستهلكة الذوات في ذات الحبيب الأوّل ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم ، كما ورد في الخبر ، فلا مجال لهم في الأنانية ، والغيرية.
وقد دريت التركيب الاتّحادي بين المادّة والصورة الجسمية ، وكذا بينهما وبين الطبيعة ، فالكلّ واصلة إلى مبدئها ، وكذا النفوس ؛ لأنّ النفس إمّا عقل ، وإمّا طبيعة ، وكلّ نفس وقعت على الصراط المستقيم الإنساني ، فإنّها تمرّ على جميع الكائنات ، وتصادف سائر الموجودات ، حتّى تصل إلى الله سبحانه ؛ إذ لها قوّة الانتقال من حال إلى حال أعلى.
فالعناصر تنقلب جمادا ، والجماد ينقلب نباتا ، والنبات يسلك حيوانا ، والحيوان يصير إنسانا ، والإنسان يصير ملكا (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (١) ، كما مضى بيانه مفصّلا.
__________________
(١) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٩.
فصل
وما لم يقع على الصراط المستقيم من النفوس ، فإن كانت نطقية ناقصة غير مشتاقة إلى الكمال العقلي ، سواء كان عدم اشتياقها بحسب الفطرة ، أو لعارض ، فهي تحشر إلى العالم المتوسّط المثالي الّذي هو قالب وحكاية وظلّ للعالم العقلي ، وبه قوامه ، ودوامه.
وكذا النفوس البهيمية ، والسبعية ، البالغة حدّ الخيال بالفعل ، فكلّ منها يحشر في صورة مناسبة لهيئته النفسانية.
وأشخاص كلّ نوع منها مع كثرتها وتميّزها وتشكّلها بأشكالها ، وأعضائها المناسبة لها ، المتّفقة بحسب نوعها ، المختلفة بشخصيّاتها ، واصلة إلى مبدأ نوعها ، وربّه ، من العقول الّتي هي فاعلها وغايتها ، وتلك العقول محشورة إلى الله تعالى ، كما دريت.
والمحشور إلى المحشور إلى شيء ، محشور إلى ذلك الشيء لا محالة.
وصل
وأمّا النفوس المشتاقة إلى العقليات الغير البالغة إلى كمالها العقلي ، فهي متردّدة في الجحيم ، معذّبة دهرا طويلا ، أو قصيرا ، بالعذاب الأليم ، ثمّ يزول عنها الشوق إلى العقليات ، إمّا بالوصول إليها إن تداركته العناية الإلهية بجذبة ربّانية ، أو شفاعة ملكيّة ، أو إنسانية ؛ لقوّة الشوق ، وضعف العائق ، أو بطول المكث في البرازخ السفلية ، والاستيناس إليها ، فيزول عنها العذاب ، ويسكن عند المآب ، إمّا
إلى الدرجة العليا ، وإمّا إلى المهبط الأدنى ، فيحشر إلى الله من جهة أخرى ، من غير تناسخ.
وسنتكلّم في عذابها عن قريب ، إن شاء الله.
وصل
وأمّا النفوس الحيوانية الّتي هي حسّاسة فقط ، وليست ذات تخيّل وحفظ بالفعل ، فهي عند موتها وفساد أجسادها ترجع إلى مدبّرها العقلي ، لكن لا يبقى امتيازها الشخصي، وكثرة هويّاتها المتعدّدة بتعدّد أجسادها ، بل صارت كلّها موجودة بوجود واحد ، متّصلة بعقلها ؛ لأنها بمنزلة أشعّة نيّر واحد ، انقسمت وتعدّدت بتعدّد الروازن الداخلة هي فيها ، فإذا بطلت الروازن زال التعدّد بينها ، ورجعت إلى وحدتها الّتي كانت عند المبدأ ، كرجوع الحواسّ الخمسة المتفرّقة في أعضاء البدن إلى الحسّ المشترك ، واتحادها به.
وكسائر القوى الحسّاسة وغيرها المتفرّقة في مواضع البدن ، المجتمعة عند النفس ، فإنّ اتحاد الفاعل يوجب اتّحاد الفعل ، وإنما يتعدّد الفعل بتعدّد القابل بالعرض ، فإذا فسدت القوابل رجع الفعل إلى وحدته الأصلية الّتي له من جهة الفاعل ، فكما أنّ الباقية بذاتها متميّزة في القيمة ، إنّما هي النفس ، وأمّا سائر قواها فهي باقية ببقائها ؛ لاتّصالها بها ، واتّحادها بوحدتها ، فكذلك النفوس الحيوانية الغير المستقلّة بذاتها ، ولا الشاعرة لذاتها ترجع عند ارتفاع تكثّرها ، الّذي لأجل تكثّر أجسادها إلى مبدئها وأصلها ، متّحدة به ، باقية ببقائه.
فصل
وأمّا النفوس النباتية الّتي ليس لها الترقّي إلى المرتبة الإنسانية ، ولا الحيوانية ، ممّا اقتصر في حركاته ومساعيه على تحصيل الكمال النباتي ، فمعادها عند فساد أجسادها إلى مقام أنزل ، وحشرها إلى مدبّر عقلي أدنى ، بالقياس إلى المدبّرات العقلية لأنواع الحيوانات.
قال أرسطا طاليس (١) في كتاب الربوبية : فإن قال قائل : إن كانت قوّة النفس تفارق الشجرة بعد قطع أصلها ، فأين تذهب تلك القوّة ، أو تلك النفس؟
قلنا : تصير إلى المكان الّذي لم تفارقه ، وهو العالم العقلي ، وكذا إذا فسد الجزء البهيمي تسلك النفس الّتي فيه إلى أن تأتي العالم العقلي ، وإنما تأتي ذلك العالم ؛ لأنّ ذلك العالم هو مكان النفس ، وهو العقل ، والعقل ليس في مكان ، فالنفس ـ إذن ـ ليست في مكان (٢).
فإن لم تكن في مكان فهي ـ لا محالة ـ فوق وأسفل ، وفي الكلّ ، من غير أن تنقسم وتتجزّأ تجزّأ الكلّ ، فالنفس في كلّ مكان ، وليست في مكان.
أراد في كلّ مكان الجسم الّذي هو فيه ، دون سائر الأجسام الّتي لا تعلّق لها بها.
قال أستاذنا ـ مدّ ظلّه ـ : إنّ النبات (٣) إذا قطع من أصله ، أو جفّ ، يسلك
__________________
(١) ـ تقدّمت ترجمته في هذا الكتاب ص؟؟؟؟.
(٢) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٩ / ٢٥٥ و ٢٥٦.
(٣) ـ في المصدر : صورة النبات.
أولا إلى عالم الصور المقدارية الّتي بلا هيولى ، وينتهي منه إلى العالم العقلي ، كما ذكره المعلّم الأوّل ، فإذا انتهت إلى ذلك العالم الصوري ، فتصير إمّا من أشجار الجنّة إن كانت ذات طعم جيّد ، كالحلاوة ونحوها ، طيّبة الرائحة ، أو من أشجار الجحيم إن كانت رديئة الطعم ، مرّة المذاق ، كريهة الرائحة ، كشجرة الزقّوم ، طعام الأثيم.
وأصول هذه الأشجار تنتهي إلى سدرة المنتهى ، (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١) ، كما أنّ جميع النفوس تنتهي أولا إلى النفس الكلية الّتي فوقها العقل الكلّي ، وهو مأوى النفوس الكلّية ، كما أنها منتهى النفوس الجزئية (٢).
وصل
وأمّا الجماد والعناصر ، فقد دريت أن لها ـ أيضا ـ نفوسا ملكوتية في عالم المثال ، غير العقول الّتي لها في العالم الأعلى ، من أرباب الأنواع ، وأنها متقوّمة بتلك النفوس ، كما أنّ تلك النفوس متقوّمة بتلك العقول ، فحشرها إنّما يكون إلى تلك الصور النفسانية لا محالة، ثمّ إلى ما فوقها.
قال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : ومن الشواهد العرشية الدالّة على أنّ لهذه الصور الطبيعية صورا نفسانية ، هي معادها وباطنها ، وأخرى عقلية ، هي معاد معادها ، وباطن باطنها : أنّا متى أحسسنا بشيء خارجي ، وقعت له صورة غير صورتها الخارجية في قوانا الحسّاسة الّتي هي من جنس الحيوانات المقتصرة على
__________________
(١) ـ سورة النجم ، الآية ١٥ و ١٦.
(٢) ـ الأسفار الأربعة : ٩ / ٢٥٦.
النفس الحسّاسة فقط ، فإذا وقعت تلك الصورة في حسّنا ، واستكمل بها الحسّ ، حصلت من تلك الصورة صورة أخرى ، ألطف وأشرف منها ، فتصوّرت بها قوّة خيالنا الّتي دلّت البراهين ـ الّتي أقمناها ـ على تجرّدها ، وتجرّد ما ارتسم فيها ، وتمثّل لها ، وكذلك انتقلت من الصورة الّتي في قوّة خيالنا صورة أخرى عقلية إلى قوّة عقلنا ، فلو لا أنّ بين محسوس كلّ طبيعة ومتخيّله ومعقوله علاقة ذاتية ، كما بين حسّنا وخيالنا وعقلنا من الرابطة الاتّحادية ، لما كان كذلك.
وكذلك الأمر ـ على عكس ذلك الصعود ـ في سلسلة النزول ، فإنّا متى تعقّلنا صورة عقلية وقعت منّا حكاية مثالية مطابقة لها في خيالنا ، وإذا اشتدّ وجود الصورة في عالم الخيال انتقلت منه في قوّة الحسّ (١) ، وتمثّلت بين يدي الحسّ صورة في الخارج ، كما قال تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (٢) ، ومن هذا القبيل رؤية النبي صلىاللهعليهوآله جبرئيل والملائكةعليهمالسلام في هذا العالم.
فقد ثبت أن لكلّ صورة طبيعية في عالم الشهادة صورة نفسانية في عالم الغيب ، هي معادها ، ومرجعها الّذي تحشر إليه بعد زوال المادّة ودثورها ، وهي الآن أيضا متّصلة بها ، متقوّمة بقوامها ، راجعة إليها ، لكنها لمّا كانت مغمورة في غمرات الظلمات والأعدام ، غريقة في بحر الهيولى والأجسام ، لا يستبين حشرها إلى تلك الصورة النفسانية المقيمة لها ، إلّا لأهل المعرفة والشهود ، فإذا انفسخت هذه الصورة بدثور مادّتها ، وتجرّدت عن غواشيها الجسمانية الّتي هي مقبرة ما في علم الله ، برزت صورتها من هذه المكامن والمقابر إلى ذلك العالم ،
__________________
(١) ـ هكذا في المخطوطة ، وفي المصدر «انفعلت منه قوّة الحسّ».
(٢) ـ سورة مريم ، الآية ١٧.
عالم المعرفة والكشف واليقين ، وحشرت إليه (١).
وصل
ثم إذا رجعت هذه الأشياء إلى مقارّها الأصلية بعد خروجها عن عالم الحركات والاستحالات والشرور والآلام ، بالموت والفساد للأجسام ، والفزع والصعق للنفوس ، كما قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٢) ، تعطف عليها الرحمة الإلهية تارة أخرى بالحياة الّتي لا موت فيها ، والبقاء الّذي لا انقطاع له ، كما قال : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣) ، قال : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) (٤) ، وتلك الأرض الأخروية هي صورة نفسانية ذات حياة وقبول للإشراقات العقلية الفائضة منه تعالى ، وهي هذه الأرض ، ولكن بعد أن تقبض ، فإنّها إذا صارت مقبوضة بأيدي سدنة الملائكة الجاذبة تصير صورة نفسانية قابلة لأن تجذبها وتقبضها أيدي الرحمن ، كما قال عزوجل : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٥).
والفرق بين القبض والطيّ ، أن القبض يستدعي أن يكون للمقبوض وجود عند القابض ، أشرف من وجوده الّذي كان في تلك المرتبة ، كمادّة الغذاء إذا
__________________
(١) ـ الأسفار الأربعة : ٩ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.
(٢) ـ سورة الزمر ، الآية ٦٨.
(٣) ـ سورة الزمر ، الآية ٦٨.
(٤) ـ سورة الزمر ، الآية ٦٩.
(٥) ـ سورة الزمر ، الآية ٦٧.
جذبته وقبضته القوّة الغاذية ، فإنّها تتبدّل صورتها بصورة شبيهة بالمغتذي ، وهي أشرف.
وأمّا الطيّ فيستدعي أن لا يبقى للمطوي وجود وأنانية ، فقبض الأرض إشارة إلى تبدّل صورتها الطبيعية بصورة نفسانية أخروية ، كما قال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) (١).
وطيّ السماء إشارة إلى فنائها بنفسها ، واتحادها بالعقل ، وهو المشار إليه بيمينه تعالى ، والعقل الصرف ممّا قد دريت أنه فان عن نفسه ، وباق بالحقّ عزوجل.
وصل
قال بعض العلماء : إنّ قابض روح الأرض هي النفس النباتية الّتي هي كلمة فعّالة ، وقوّة من قوى ملائكة موكّلة على أديم الأرض ، شأنها إحالة الأرض ، فتسلّخ عنها الصور الأرضية ، ليعوّض عنها بأحسن صورة وأطهر كسوة.
وكذلك قابض روح النبات ومتوفّيه ، ورافعه إلى سماء الحيوانية هي النفس المختصّة بالحيوان ، وهي من أعوان الملائكة الموكّلة بإذن الله لهذا الفعل ، باستخدام القوى الحسّاسة والمحرّكة.
وكذلك قابض روح الحيوان ومتوفّيه ، ورافعه إلى سماء الدرجة الإنسانية ، هي النفس المختصّة بالإنسان ، وهي كلمة الله المسمى بالروح القدسي ، الّذي
__________________
(١) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٤٨.
شأنه إخراج النفوس من القوّة الهيولانية إلى العقل المستفاد بأمر الله ، وإيصال الأرواح إلى جوار الله ، وعالم الملكوت الأخروي ، وهم المرادون بالملائكة والرسل في قوله عزوجل : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (١) ، (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) (٢) ، (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٣).
وأمّا الإنسان ـ بما هو إنسان ـ فقابض روحه ملك الموت (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٤).
أما المرتبة العقلية فقابضها هو الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (٥) ، (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٦) ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٧) ، ففي هذه التحويلات كانت كلّ مرتبة لاحقة أشرف من سابقتها ، ولم تكن للمنتقل من الحالة السابقة إلى اللاحقة حسرة وندامة على زوال النشأة الأولى ، بل إن كانت ففي أمر آخر.
والقابض للروح هو بعينه القابض لأجزاء البدن ، ولهذا اختلفت الروايات في ذلك أيضا.
ففي بعضها أنّ الجامع لأجزاء بدن آدم هم الملائكة ، وفي بعضها أنّ الآخذ لتراب قالبه هم رسل الله ، لتكون لهم الرسالة إلى عباده ، وفي بعضها أنّ ملك
__________________
(١) ـ سورة النساء ، الآية ٩٧.
(٢) ـ سورة الأنعام ، الآية ٩٣.
(٣) ـ سورة الأنعام ، الآية ٦١.
(٤) ـ سورة السجدة ، الآية ١١.
(٥) ـ سورة الأنفال ، الآية ٥٠.
(٦) ـ سورة آل عمران ، الآية ٥٥.
(٧) ـ سورة المجادلة ، الآية ١١.
الموت أخذ قبضة من التراب ، وفي بعضها أنّ الله سبحانه قبض بيده قبضة من أديم الأرض. فهذه الروايات محمولة على المراتب المذكورة (١).
وصل
قد ظهر من هذه البيانات ، وممّا أسلفنا من الأصول ، أنّ للموجودات في كلّ نفس موتا جديدا ، وبعثا منه ، وحشرا إلى ما بعده ، وأنّ عدد الموت والبعث والحشر كثير ، لا يحصى ، بل هي بعدد الأنفاس ، كما قيل.
وظهر ـ أيضا ـ أنّ الموت عبارة إمّا عن النقل من الدنيا إلى الآخرة ، وإما عن الانتقال من صورة إلى أخرى.
وعند التحقيق هو إسقاط إضافة الوجود الخاصّ إلى ماهيته ، وإذا أسقطت إضافة جميع الوجودات الخاصة إلى ماهياتها ، وشوهد الوجود الحقّ على صرافة وحدته ، قامت القيامة الكبرى ، وجاءت الطامّة العظمى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) ، و (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣) ، (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤) ، إذ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٥) ، فإنّ القهّار هو الّذي يقهر كلّ موجود غيره ، ويبقى هو وحده ، ولا شكّ أنه تعالى إذا ظهر من حيث هو هو لا يبقى للغير وجود ، ولا أثر ، (لَهُ الْحُكْمُ
__________________
(١) ـ لم نعثر على مصادرها.
(٢) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٤٨.
(٣) ـ سورة الحج ، الآية ٥٦.
(٤) ـ سورة غافر ، الآية ١٦.
(٥) ـ سورة الرحمن ، الآية ٢٦ و ٢٧.
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١).
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «وإنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده ، لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ، ولا مكان ، ولا حيّز ، ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلّا الواحد القهّار ، الّذي إليه مصير جميع الأمور» (٢).
وصل
وأمّا الصور الجسمانية ، والهيولى ، والحركة ، والزمان ، ونحوها ممّا لا حظّ له من الوجود ، إلّا كونه استعداد وإمكانا لشيء آخر هو الصورة والكمال ، وممّا شأنه الانقسام والسيلان والاضمحلال لو لا النفوس والطبائع الممسكة إيّاه عن التفرّق والانفصال ، المعطية له الوحدة والاتّصال ، فلا حشر لها إلى النشأة الآخرة ، ودار القرار ؛ لعدم إمكان انتقالها من هذا العالم ، وإلّا لكان للّاقرار قرار ، وللعدم وجود ، وللتجدّد ثبات ، وللموت حياة ، فمآلها ـ لا محالة ـ إلى العدم والبطلان ، ومعادها إلى البوار والهلاك والفقدان.
وكذا الجسم المستحيل الكائن الفاسد ، من حيث هو هو ، فكما أن مبدأ هذه الأشياء أمور عدمية من باب الإمكان والقصور ، فكذا معادها ومرجعها إلى الزوال والبطلان ، فإنّ الغايات على نحو المبادىء ، وكما علمت هذا في الجسمانيات ، فقس عليه نظائره في النفسانيات ، فإنّ غاية الجبن والجهل
__________________
(١) ـ سورة القصص ، الآية ٧٠.
(٢) ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المعتزلي : ١٣ / ٩٠.
والبلادة وأشباهها ، إلى الهلاك والبطلان ، من غير تعذيب وإيلام ، إن كانت بسيطة ، غير ممزوجة بشرّ وجودي ، وإن كانت ممزوجة بعناد واستكبار ونفاق كانت مع عذاب شديد ، وعقاب أليم ، إلى أن تتخلّص منه.
وصل
وليعلم أنّ العذاب الأليم إنّما يكون للجاحدين للحق ، والمنكرين للعلوم ، والكاسبين لأنفسهم شوقا إلى الكمالات العقلية في الدنيا ، ثمّ التاركين الجهد في كسبها ، ففقدت منهم القوّة الهيولانية ، وحصلت لهم فعلية الشيطنة ، ورسخت في أوهامهم العقائد الباطلة ، دون الناقصين بحسب الغريزة عن إدراك المراتب العالية ، فإنّ شقاوة هؤلاء غير مؤلمة ؛ لعدم معرفتهم بالكمال ، ولا شوقهم إليه ، فهي بمنزلة الموت ، أو الزمانة في الأعضاء ، من غير شعور بمؤلم ، وكلاهما مشتركان في عدم الانجبار في الآخرة ، إلّا أنّ البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة تبرأ ، فعذاب الناقصين بالذوات عظيم من دون ألم.
وإلى أمثالهم الإشارة بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١).
وعذاب الجاحدين والمنافقين أليم ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ
__________________
(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٦ و ٧.
مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١).
وهذا الألم العقلي الكائن عن المضادات للحق ، هو بإزاء اللّذة والراحة الكائنة عن مقابلاتها ، وكما أنّ تلك أجلّ من كلّ إحساس بأمر ملائم ، فكذلك هذا أشدّ من كلّ إحساس ، بمناف حسّي ، من تفريق اتّصال بالنار ، أو تجميد بالزمهرير ، أو قطع بالمناشير ، أو غير ذلك ، أعاذنا الله وإخواننا منه.
فصل
ثم ليعلم أنّ الألم ، عقليا كان أو حسّيا ، لا بدّ وأن يزول يوما ، ويؤول إلى النعيم ، ولو بعد أحقاب ؛ لأنّ القسر لا يدوم ، والهيئات المضادة للحق غريبة عن جوهر النفس ، فكذا ما يلزمها.
قال الشيخ الأعرابي (٢) في فصوص الحكم : أمّا أهل النار فمآلهم إلى
__________________
(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٨ ـ ١٠.
(٢) ـ هو : محمّد بن علي بن محمّد ، ابن العربي (٥٦٠ ـ ٦٣٨ ه) (١١٦٥ ـ ١٢٤٠ م) ، أبو بكر الحاتمي ، الطائي ، الأندلسي ، المعروف بمحيي الدين بن عربي ، الملقّب بالشيخ الأكبر ، فيلسوف ، من أئمّة المتكلّمين في كلّ علم. ولد في مرسية «بالاندلس» ، وانتقل إلى إشبيلية ، وقام برحلة ، فزار الشام ، وبلاد الروم ، والعراق ، والحجاز ، وأنكر عليه أهل الديار المصرية شطحات صدرت عنه ، فعمل بعضهم على إراقة دمه ، كما أريق دم الحلّاج وأشباهه ، وحبس ، فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي ـ من أهل بجاية ـ فنجا. واستقرّ في دمشق ، فتوفّي فيها ، وهو ـ كما يقول الذهبي ـ قدوة القائلين بوحدة الوجود. له نحو أربعمائة كتاب ورسالة ، منها : الفتوحات المكّية ، ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ، وديوان شعر أكثره في التصوّف ، وفصوص الحكم ، ومفاتيح الغيب ، والتعريفات ، وغيرها.
أنظر ترجمته في : الأعلام : ٦ : ٢٨١ ، وحاشية رد المحتار لابن عابدين : ٤ : ٤٢٣ ، ومعجم المؤلّفين : ١١ : ٤٠.
النعيم ، لكن في النار ، إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم (١).
وقال في موضع آخر منه : الثناء بصدق الوعد ، لا بصدق الوعيد ، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد ، لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) (٢) ، ولم يقل «ووعيده» ، بل قال : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) (٣) ، مع أنه توعد على ذلك. انتهى (٤).
ويصدّقه ما رواه شيخنا الصدوق في كتاب التوحيد ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ، عن آبائه ، قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ، ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار» (٥).
وقال في الفتوحات : يدخل أهل الدارين فيهما ، السعداء بفضل الله ، وأهل النار بعدل الله ، وينزلون فيهما بالأعمال ، ويخلّدون فيهما بالنيّات ، فيأخذ الألم جزاء العقوبة موازيا لمدة العمر في التنزّل في الدنيا ، فإذا فرغ الأمد جعل لهم نعيم في الدار (٦) الّتي يخلّدون فيها ، بحيث إنهم لو دخلوا الجنّة تألّموا ؛ لعدم موافقة الطبع الّذي جبلوا عليه ، فهم يتلذّذون بما هم فيه من نار وزمهرير ، وما فيها من لدغ الحيّات والعقارب ، كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال والنور ، ولثم
__________________
(١) ـ فصوص الحكم : ١ : ١٦٩.
(٢) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٤٧.
(٣) ـ سورة الأحقاف ، الآية ١٦.
(٤) ـ فصوص الحكم : ١ : ٩٣ و ٩٤.
(٥) ـ كتاب التوحيد : ٤٠٦ ، ح ٣.
(٦) ـ في المصدر : النار.
الحسان ، من الحور ؛ لأنّ طبائعهم تقتضي ذلك.
ألا ترى الجعل على طبيعة يتضرّر بريح الورد ، ويلتذّ بالنتن ، والمحرور من الإنسان يتألّم بريح المسك ، فالّلذات تابعة للملائم ، والآلام تابعة لعدمه (١).
وقال أيضا : إنّ النار قد تتّخذ دواء لبعض الأمراض ، وهو الداء الّذي لا يشفى إلّا بالكي من النار ، كقوله : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) (٢) ، فقد جعل الله النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشد من النار في حقّ المبتلي به ، وأيّ داء أكبر من الكبائر ، فقد جعل الله لهم النار يوم القيامة دواء ، كالكي بالنار ، فدفع بدخولهم النار يوم القيامة داء عظيما ، أعظم من النار ، وهو غضب الله ؛ ولذلك يخرجون بعد ذلك من النار إلى الجنّة ، كما جعل الله في الحدود الدنياوية وقاية من عذاب الآخرة (٣).
وقال المحقّق كمال الدين عبد الرزاق الكاشي (٤) في شرحه للفصوص : إنّ أهل النار إذا دخلوها ، وتسلّط العذاب على ظواهرهم وبواطنهم ، ملكهم الجزع والاضطراب ، فيكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، متخاصمين ، متقاولين ، كما نطق به كلام الله في مواضع ، وقد أحاط بهم سرادقها ، فطلبوا أن يخفّف عنهم العذاب ، أو أن يقضى عليهم ، كما حكى الله عنهم بقوله : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (٥) ، أو أن يرجعوا إلى الدنيا ، فلم يجابوا إلى طلباتهم ، بل
__________________
(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٢ : ٦٤٨.
(٢) ـ سورة التوبة ، الآية ٣٥.
(٣) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٢ : ١٦١.
(٤) ـ تقدّمت ترجمته في هذا الكتاب ، في ص؟؟؟؟.
(٥) ـ سورة الزخرف ، الآية ٧٧.
أخبروا بقوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (١) ، وخوطبوا بمثل قوله : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٢) ، (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (٣).
فلما يئسوا ووطّنوا أنفسهم على العذاب والمكث على مرّ السنين والأحقاب ، وتعلّلوا بالأعذار ، ومالوا إلى الاصطبار ، وقالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٤) ، فعند ذلك رفع الله العذاب عن بواطنهم ، وخبت نار الله الموقدة الّتي تطّلع على الأفئدة ، ثمّ إذا تعودوا بالعذاب بعد مضي الأحقاب ألفوه ، ولم يتعذّبوا بشدّته ، بعد طول مدّته ، ولم يتألّموا به ، وإن عظم ، ثمّ آل أمرهم إلى أن يتلذّذوا به ، ويستعذبوه ، حتّى لو هبّ عليهم نسيم من الجنّة استكرهوه وتعذّبوا به ، كالجعل وتأذّيه برائحة الورد ، لتألّفه بنتن الأرواث ، والقاذورات (٥).
وصل
قال أستاذنا ـ سلّمه الله ـ : إنّ الأصول الحكمية دالّة على أن القسر لا يدوم على طبيعة ، وإنّ لكلّ موجود غاية يصل إليها يوما ، وإنّ الرحمة الإلهية وسعت كلّ شيء ، كما قال جلّ ثناؤه : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَ
__________________
(١) ـ سورة البقرة ، الآية ١٦٢.
(٢) ـ سورة الزخرف ، الآية ٧٧.
(٣) ـ سورة المؤمنون ، الآية ١٠٨.
(٤) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٢١.
(٥) ـ أنظر : شرح فصوص الحكم ، للكاشاني : ١٢٣.
شَيْءٍ) (١).
وعندنا ـ أيضا ـ أصول دالّة على أن الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها ، كما أنّ الجنة ونعيمها وخيراتها دائمة بأهلها ، إلّا أن الدوام لكلّ منهما على معنى آخر (٢).
وأشار ـ دام ظلّه ـ بذلك إلى عدم المنافاة بين عدم انقطاع العذاب عن أهل النار ، وبين انقطاعه عن كلّ واحد من أهلها في وقت ، فافهم.
ثم قال : وأنت تعلم أن نظام الدنيا لا ينصلح إلّا بنفوس غليظة ، وقلوب قاسية ، فلو كان الناس كلّهم سعداء بنفوس خائفة من عذاب الله ، خاشعة ، لا ختلّ النظام بعدم القائمين بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ ، كالفراعنة ، والدجاجلة ، والنفوس المكّارة ، كشياطين الإنس ، والنفوس البهيمية ، كجهلة الكفّار.
وفي الحديث الربّاني : إنّي جعلت معصية ابن آدم سببا لعمارة العالم (٣).
وقال سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٤) ، فكونها على طبقة واحدة ينافي الحكمة ، وفيه إهمال سائر الطبقات الممكنة من غير أن يخرج من جهة القوّة إلى الفعل ، وخلو أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها ، فلا يتمشى النظام إلّا بوجود الأمور الخسيسة والدنية المحتاج إليها في هذه الدار الّتي يقوم بها أهل الظلمة
__________________
(١) ـ سورة الأعراف ، الآية ١٥٦.
(٢) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٩ : ٣٤٧ و ٣٤٨.
(٣) ـ لم نعثر على مصدره.
(٤) ـ سورة السجدة ، الآية ١٣.
والحجاب ، ويتنعّم بها أهل الذلّة والقسوة المبعّدين عن دار الكرامة والمحبّة والنور ، فوجب في الحكمة الحقّة التفاوت في الاستعدادات لمراتب الدرجات في القوّة والضعف ، والصفاء والكدورة ، وثبت بموجب قضائه اللازم النافذ في قدره بوجود السعداء والأشقياء جميعا.
فإذا كان وجود كلّ طائفة بحسب قضاء إلهيّ ، ومقتضى ظهور اسم ربّاني ، فتكون لها غايات طبيعية ، ومنازل ذاتية ، والأمور الذاتية الّتي جبلت عليها الأشياء إذا وقع الرجوع إليها تكون ملائمة لذيذة ، وإن وقعت المفارقة عنها أمدا بعيدا ، والحيلولة عن السكون إليها ، والاستقرار لها زمانا مديدا ، كما قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) (١).
والله تعالى يتجلّى بجميع الأسماء في جميع المقامات والمراتب ، فهو الرحمن الرحيم ، وهو العزيز القهّار.
وفي الحديث : لو لا أنّكم تذنبون لذهب بكم وجاء بقوم يذنبون ، فيستغفرون ، فيغفر الله لهم (٢).
وقال : والآلام دالّة على وجود جوهر أصليّ ، مقاوم لها ، والتقاوم بين المتضادّين لا يكون دائميا ، ولا أكثريا ، لما حقّق في مقامه ، فلا محالة يؤول إمّا إلى بطلان أحدهما ، أو إلى الخلاص ، لكن الجوهر النفساني من الإنساني لا يقبل الفساد ، ولو فسد لاستراح من العذاب.
وقوله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٣) ، أي لا يموت موت البهائم
__________________
(١) ـ سورة سبأ ، الآية ٥٤.
(٢) ـ الأسفار الأربعة : ٩ : ٣٤٨ و ٣٤٩.
(٣) ـ سورة طه ، الآية ٧٤ ؛ وسورة الأعلى ، الآية ١٣.
والحشرات ، ولا يحيى حياة السعداء والعقلاء ، يعني يكون حيّا بحياة أخرى نازلة دنيّة (١).
وصل
وممّا استدل به على ذلك في الفتوحات ، قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢) ، وما ورد في الحديث النبوي : «لم يبق في النار إلّا أهلها» (٣) الّذين هم أهلها ؛ وذلك لأنّ أشدّ العذاب على أحد مفارقة وطنه الّذي ألفه ، فلو فارق النار أهلها لتعذّبوا باغترابهم عما أهلّوا له ، وأنّ الله قد خلقهم على نشأة تألف ذلك الموطن (٤).
واستدلّ أستاذنا ، بقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الآية (٥) ، فإنّ المخلوق الّذي غاية وجوده أن يدخل في جهنّم بحسب الوضع الإلهي ، والقضاء الربّاني لا بدّ أن يكون ذلك الدخول موافقا لطبعه ، وكمالا لوجوده ؛ إذ الغايات ـ كما مرّ ـ كمالات للوجود ، وكمال الشيء موافق له ، لا يكون عذابا في حقّه ، وإنما يكون عذابا في حقّ غيره ممّن خلق للدرجات العالية (٦).
__________________
(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٩ : ٣٥١ و ٣٥٢.
(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٩.
(٣) ـ لم نعثر على مصدره ، ولكن قال في الفتوحات : ورد في الصحيح : ويدخلهم الجنّة إذ لم يكونوا من أهل النار الّذين هم أهلها ، ولم يبق في النار إلّا أهلها الّذين هم أهلها». أنظر : الفتوحات المكّية : ٣ : ٢٥.
(٤) ـ أنظر الأسفار : ٩ : ٣٥٢.
(٥) ـ سورة الأعراف ، الآية ١٧٩.
(٦) ـ الأسفار الأربعة : ٩ : ٣٥٢.