عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

ونحن نشير إلى طرف من تلك الطرق إشارة إجمالية على وجه كلي ، لكي تعرف جملة كيفية السبيل الممكن إلى ذلك ، ثمّ نذكر ما وجدوه وحصّلوه في كلّ فرد فرد على سبيل الحكاية ، من دون حسابات جزئية ، لخصوص الأفراد ؛ لئلّا نخرج عن الغرض من وضع الكتاب ، وسياقته ، فإنّ كمال النفس في معرفة الأصول والكليات ، دون تفريع الجزئيات ، وهكذا دأبنا ، وعليه عملنا في هذه السياقة ، ولله الحمد.

وصل

إذا سار سائر على خطّ نصف النهار على أرض مستوية ، لازما في مسيره للخطّ بأن ينصب علائم يكون النظر من كلّ إلى ثانيها ، بحيث تستر ثالثها بقدر ما يزيد جزء واحد في عرض البلد ، أو ينقص ، فالقدر الّذي قطعه يكون حصّة درجة واحدة من الدائرة العظيمة الّتي تقع على الأرض ؛ وذلك لموازاة الدوائر العظام الأرضية للعظام الفلكية ، فإذا قدر ذلك بالفراسخ وضرب عددها في ثلاثمائة وستين حصل مقدار محيط الدائرة العظمى من الأرض.

وقد تبيّن في مساحة الدوائر والأكوان محيط كلّ دائرة ثلاثة أمثال قطرها ، وسبع قطرها ، بالتقريب ، فإذا قسّمت فراسخ المحيط على ثلاثة وسبع حصل مقدار قطرها ، فنصفه نصف القطر ، وهو المقدار الّذي تقدر به الأبعاد ، كما أن جرم الأرض يقدر به الأجرام.

وقد تبيّن أن السطح الّذي يحيط به قطر الكرة في محيط أعظم دائرة تقع فيها مساو للسطح المحيط بالكرة ، فعلى ذلك التقدير إذا ضرب القطر في محيط الدائرة العظمى حصل تكسير كرة الأرض ، ومن طريق آخر يؤخذ ذلك من

٦١

كسوف الشمس ، فينظر كم ما بين مدينة ومدينة من الفراسخ ، وكم بينهما من ساعة ، فتقسم الفراسخ على أجزاء الساعة ، فيعرف به المحيط ، وبالمحيط القطر ، والتكسير على القياس المذكور.

فصل

إذا أخذ مقدار ارتفاع كوكب ، له اختلاف منظر ، كالقمر ، بأن فرضت عظيمة تمرّ بمركزه وقطبي الأفق ، واستعلم مقدار القوس الّتي منها بين الأفق والكوكب بأجزاء تلك الدائرة بآلات وضعت لذلك ، كالاسطرلاب وغيره ، وهو ارتفاعه المرئي ، ثمّ استعلم ارتفاعه الحقيقي لذلك الوقت في تلك البقعة بتلك الأجزاء ، بالحساب ، وأخذ التفاوت ، حصل ـ لا محالة ـ مثلّث إحدى زواياه اختلاف المنظر ، وهي الّتي عندها موضع القمر ، والثانية تمام الارتفاع الحقيقي ، وهي الّتي عندها مركز الأرض ، والثالثة هي الّتي عندها موضع الناظر.

والأوليان معلومتان ؛ لمعلومية وتريهما ، فإذا فرض الضلع الّذي هو نصف قطر الأرض واحدا صارت زاويتان ، وضلع معلومة ، وأمكن حينئذ معرفة الزاوية الباقية ، ومقدار الضلعين الباقيين ، أي الخارجين من مركز العالم ، وموضع الناظر إلى مركز الكوكب ؛ لما ثبت في الهندسة أنه إذا كانت مقادير زاويتين وضلع من مثلّث مستقيم الأضلاع معلومة ، كانت مقادير أضلاعه الباقية وزواياه معلومة.

وبيانه هاهنا : أن زوايا كلّ مثلث تساوي قائمتين ، ومقدار القائمتين على المركز نصف المحيط ؛ لأنّ مجموعه موزّع على أربع قوائم ، فإذا جمع قوسا الزاويتين المعلومتين كان الباقي إلى نصف الدور مقدار الزاوية الباقية ، ونسب

٦٢

أضلاع المثلث بعضها إلى بعض كنسب جيوب الزوايا الّتي موترها تلك الأضلاع على التناظر ، أي جيوب قسيها ، فهذه أربعة متناسبة ، جهل منها واحد ، فيمكن استعلامه على القاعدة ، الّتي بها يستخرج ذلك.

وبعد الكواكب عن مركز العالم بأجزاء دائرة مائلة ، الّتي يدور عليها ستّون جزء ؛ إذ هو نصف قطر تلك الدائرة المقسومة بثلاثمائة وستين.

وإذا عرف مقدار واحد بتقديرين أمكن أن يحوّل كلّ ما يقدر بواحد من ذينك التقديرين إلى التقدير الآخر ؛ لكون الجميع على نسبتهما ، فبهذا يعرف بعد القمر عن الأرض.

فصل

إذا رصد خسوفان جزئيان للقمر مختلفان في القدر ؛ لاختلاف العرض ، ويكون ازدياد الانخساف ـ لا محالة ـ بحسب انتقاص العرض ، فإذا أخذ الفضل بين العرضين بالحساب ، عرف مقدار التفاوت بين القدرين ، والقدران معلومان بالإضافة إلى تمام الجرم ، بإحدى النسب الكسرية ، فبذلك يعرف قدر بقية الجرم.

وبمثل هذا يعرف قطر دائرة الظلّ ، مع وجدان حفظ النسبة في الخسوفات المتعدّدة في الأبعاد المختلفة ؛ وذلك لأنّ دائرة الظلّ تابعة لصفحة القمر في القرب والبعد ، فيعرض لكلّ منهما بحسب اختلاف الأبعاد ، مثل ما يعرض للآخر من الصغر والكبر ، فتبقى تلك النسبة بحالها ، وبمعرفة بعد القمر الأبعد ، وقطره قطر دائرة الظل ، يتوصل إلى معرفة مقدار بعد الشمس الأوسط ، وبعد رأس

٦٣

مخروط ظل الأرض عن مركز العالم ، ومقدار قطر القمر بما به نصف قطر الأرض واحد.

وبعضهم لما وجد بآلة الرصد قطر الشمس في أكثر الأحوال مساويا في النظر لقطر القمر في البعد الأبعد ، حكم بأن قطرها في بعدها الأوسط مساو بحسب الحسّ لقطره في البعد الأبعد ، فلم يثبت لجرمها في أبعادها تفاوتا يعتدّ به.

وآخرون لما وجدوا كسوفات بقي فيها من الشمس حلقة نورانية ، وكسوفات تامة ، ماكثة زمانا صالحا ، أثبتوا لجرمها التفاوت الحسّي ، بحسب أبعادها.

فصل

ثبت في علم المناظر أن كلّ جرمين متساويين في الرؤية ، ومختلفين في البعد ، يكون نسبة أقربهما إلى أبعدهما في مقدار قطر الجرم ، كنسبة بعد الأقرب إلى بعد الأبعد ، ولذلك تكون نسبة نصف قطر القمر إلى نصف قطر الشمس كنسبة بعد القمر عن الأرض إلى بعد الشمس عنها ، فيكون نصف قطر الشمس أيضا معلوما ، على أنّ نصف قطر الأرض واحد.

وقد تبيّن في الهندسة أن نسبة الكرة إلى الكرة تكون كنسبة مكعّب القطر إلى مكعّب القطر ، فإذا ضربت هذه المقادير في أنفسها مرّتين فتصير مكعّبة ، علم نسبة جرم الشمس إلى جرم الأرض.

٦٤

وصل

ويعرف من بعد الشمس الأوسط بعداها الآخران ، فإنّ تباعدها عنه فيهما بقدر ما بين مركزيها ، ولما لم يكن بين أفلاك الكواكب خلاء ، ولا جرم معلوم ، غير أفلاكها ، جعل البعد الأبعد لكلّ كوكب البعد الأقرب للكوكب الّذي فوقه ، لتكون الأبعاد المأخوذة هي الّتي لا يمكن أن تكون أقل منها ، فيكون البعد الأقرب للشمس البعد الأبعد للزهرة ، وبتفاوت ما بين مركزيه يعرف بعداه الآخران.

وعلى هذا القياس أبعاد عطارد ، مع أن بعده الأقرب بهذا الحساب موافق لبعد القمر الأبعد بالحساب الأوّل ، ولما وجد بين فلكي النيّرين بعد ، حكم بأن فلكي السفليين بينهما؛ إذ لا وجه لتعطيل البعد بين الأفلاك.

وبمثل هذا من أخذ تفاوت ما بين المركزين بالحساب تعرف أبعاد الكواكب الأخر.

وأمّا أجرامها فتؤخذ أقطارها الحسّية في أبعادها الأواسط بالرصد ، وتنسب إلى قطر الشمس في بعدها الأوسط ، ونسبة البعد إلى البعد كنسبة القطر إلى القطر ، على القياس السابق ، وبتكعيب القطر يعرف مقدار الجرم ، كما مرّ ، ولم يلتفتوا في معرفة الأبعاد إلى أنصاف أقطار الكواكب ، ولا إلى ما ليس له قدر معلوم عندنا ، كثخن جوزهر القمر ، إلى غير ذلك من المساهلات ؛ لخروج معرفة ذلك عن وسعهم ، وكون التدقيق في مثله تطويلا من غير طائل ؛ ولهذا صار أكثر هذه الأحكام تقريبية.

٦٥

ولنتكلم الآن في تفاصيل المقادير ، على ما وجدوه بالفراسخ ، على أن كلّ فرسخ ثلاثة أميال ، كلّ ميل أربعة آلاف ذراع ، كلّ ذراع أربعة وعشرون إصبعا ، كلّ إصبع مقدار ستّ شعيرات ، كلّ شعيرة قدر ستّ شعرات من عرف الفرس ، فاسمع.

فصل

نصف قطر الأرض ألف ومائتان وثلاثة وسبعون فرسخا ، بالتقريب ، وقس عليه دورها ، وتكسيرها ، والمعمور منها.

ونصف قطر عالم الكون والفساد ـ أعني من مركز الأرض إلى مقعّر فلك القمر ـ إثنان وأربعون ألفا وسبعمائة وتسعة فراسخ.

ونصف قطر تدوير القمر بخمسة أمثال نصف قطر الأرض ، وسدس مثله.

وأبعد بعد القمر عن مركز العالم ، وهو عند كونه في الذروة والتدوير في الأوج ، أربعة وستّون مثلا لنصف قطر الأرض ، وسدس مثله ، وأقرب بعده ، وهو كونه في حضيض التدوير ، والتدوير في الحضيض ، ثلاثة وثلاثون مثلا ونصف مثل تقريبا ، ولوسط بعده الكائن بين هذين هو نصف مجموعهما والأرض تسعة وثلاثون مثلا وربع مثل القمر.

ونصف قطر تدوير عطارد اثنان وعشرون جزء ونصف جزء ، على أن يكون نصف قطر الحامل ستين جزء ، وبعده الأبعد مائة وأربعة وسبعون مثلا لنصف قطر الأرض ، وهو البعد الأقرب للزهرة ، كما أن البعد الأبعد للقمر هو البعد الأقرب لعطارد ، وبعد عطارد الأوسط الكائن بين بعديه هو نصف مجموعهما ،

٦٦

وأبعد بعد الزهرة ألف ومائة وستون مثلا له ، وهو البعد الأقرب للشمس ، وبعدها الأبعد ألف ومائتان وستون مثلا له بالتقريب. والأوسط يعرف بالقياس.

وبعد رأس مخروط الظل مائتان وثمانية وستون مثلا له.

وجرم الأرض مثل جرم عطارد اثنين وعشرين ألف مرّة ، ومثل جرم الزهرة ستة وثلاثين مرة بالتقريب ، وجرم الشمس مساو لمائة وستة وستين مثلا ، وربع وثمن مثل جرم الأرض ، ونصف قطر التدوير للزهرة ثلاثة وأربعون جزء وسدس جزء ، وللمرّيخ تسعة وثلاثون جزء ونصف جزء ، وللمشتري أحد عشر جزء ونصف جزء ، ولزحل ستة أجزاء ونصف جزء. كلّ ذلك بحسب ما يكون نصف قطر الحامل ستّين جزء.

وبعد المرّيخ الأبعد ثمانية آلاف وثمانية وعشرون مثلا لنصف قطر الأرض ، وبعده الأقرب هو الأبعد للشمس ، والأوسط نصف مجموعهما ، وجرم المرّيخ مثل جرم الأرض مرة ونصف مرة تقريبا.

وثخن فلك المرّيخ سبعة آلاف وخمسائة وستون مثلا لنصف قطر الأرض.

وقطر كرة الشمس ألفان وخمسمائة وعشرون مثلا له ، فثخن فلك المرّيخ ثلاثة أمثال غلظ فلك الشمس ، مع ما فيه من الأفلاك والعناصر.

وممّا يستغرب في هذا المقام كون المرّيخ في مقابلته للشمس على بعد ستة بروج أقرب إليها منه في الاحتراق مجتمعا معها في دقيقة واحدة ؛ وذلك لعظم تدويره ، وغلظ فلكه.

والبعد الأبعد للمشتري أربعة عشر ألفا ومائتان وتسعة وخمسون مثلا لنصف قطر الأرض ، وبعده الأقرب هو الأبعد للمريخ ، والأوسط بالقياس ، وجرم

٦٧

المشتري مثل جرم الأرض اثنين وثمانين مرة وربع بالتقريب.

وبعد الأبعد لزحل تسعة عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وستون مثلا لنصف قطر الأر ، وبعده الأقرب هو الأبعد للمشتري ، والأوسط بالقياس ، وجرم زحل مثل الأرض سبعا وسبعين مرة بالتقريب.

وأكبر الثوابت ثمانية وتسعون مثلا وسدس مثل الأرض ، وأصغرها عشرة أمثالها وثلث مثلها ، فأعظم هذه الأجرام الشمس ، ثمّ كواكب القدر الأوّل من الثوابت ، ثمّ المشتري ، ثمّ زحل ، ثمّ باقي الكواكب الثابتة ، ثمّ المرّيخ ، ثمّ الأرض ، ثمّ الزهرة ، ثمّ القمر ، ثمّ عطارد.

ومنتهى الأبعاد المعلومة المقادير وهو بعد الثوابت عن مركز الأرض خمسة وعشرون ألف ألف ، وأربعمائة واثنا عشر ألف ، وثمانمائة وتسعة وتسعون فرسخا.

وأمّا بعد محدّب الفلك الأعظم فلا يعلم إلّا الله سبحانه ، فسبحان بديع السماوات والأرض ، ما أعظم ما نرى من خلقك ، وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك ، وما أهول ما نرى من ملكوتك ، وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ، وما أسبغ نعمك في الدنيا ، وما أصغرها في نعم الآخرة.

٦٨

في لمّية حركات الأفلاك

(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ

لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١)

فصل

قد دريت أن للأفلاك نفوسا ناطقة ، ذوات إدراكات كلية ، وأن لها في حركاتها مرادا عقليا ، لا حسّيا ، فالآن نفتّش عن ذلك ، أهو أمر حاصل ممكن ، أو غير ممكن؟

فنقول : لا جائز أن تكون أغراضها بالحركة أمرا حاصلا ، وإلّا فما طلبته ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل ، ولا أمرا جزئيا دفعيا ، وإلّا فوقفت إن نالت ، أو يئست ، إن كان ممّا لا ينال ، ولا أمرا مظنونا ، كطلب مدح ، أو ثناء ، أو صيت ؛ لأنّ المظنون غير دائم ، ولوجوب حركاتها بإيجاب محرّكها ، واستيجابها لغاياتها ، ولا اهتماما بالعالم السفلي من الأجسام العنصرية لإيصال نفع إليها ، أو شفيقة عليها ، وإن حصل ذلك على سبيل التبعية رشحا للخيرات ؛ لما دريت أن المقصود يجب أن يكون أشرف من القاصد ، ولا يكون لقاصد غرض صحيح في ما دونه ، وما هو أخسّ منه إلّا على وجه الغلط والخطأ ، والأجسام العنصرية حقيرة

__________________

(١) ـ سورة الرعد ، الآية ٢.

٦٩

بالنسبة إلى الأفلاك ؛ لأنها كائنة فاسدة ، مستحيلة.

ودريت أن جملة الأرض ـ بما فيها ـ جزء يسير من جرم الشمس الّتي لا نسبة لجرمها إلى فلكها ، فكيف إلى الفلك الأقصى ، وكلّ ما على الأرض ما دام على الأرض فهو خسيس ناقص.

أولا ترى أن الإنسان الّذي هو أشرف ما في الأرض أكثره ناقص النفس ، فضلا عن البدن ، وكامل النفس لا ينال قطّ تمام الكمال ، ولو نال فإنما يناله من حيث اتّصال نفسه بالعالم الأعلى ، والموضع الشامخ العقلي ، والجواهر السماوية ، قد علمت أنها كاملة تامة ، إلّا ما رجع إلى أخسّ أعراضها ، وهو الوضع ، فلا يقصد الأشرف الأخس لأجل الأخسّ في نفسه ، على أن حصول الأوضاع ـ أيضا ـ ليس من كمالات أنفسها ، بل أجرامها ، وهي كتوابع ورشحات حاصلة من غايات نفسانية ، من باب الكمالات اللائقة بها ؛ وذلك لأنّ الحركة دائما إنّما تكون لأجل شيء آخر وسيلة إليه ، ولا تكون هي بما هي حركة منظورا إليها بالقصد الأوّل ، وهذا ظاهر ، ولا ريب لأحد في أن العاقل لا يتردّد في بيته لمجرّد إخراج الأوضاع من القوّة إلى الفعل.

ثم ما من ناقص إلّا وفوقه مراتب من الكمال ، وبينه وبين المطلوب الكامل من كلّ الوجوه درجات جوهرية لا تعدّ ولا تحصى ، فإذا كان له جوهر إدراكيّ متصوّر لما فوقه كيف أقصر نظره وحصر مطلوبه في اكتساب أخس الأمور وأدونها؟

فليس غرضها ـ إذن ـ إلّا تحصيل ما هو فوقها من المراتب العقلية ، سيّما وقد تبين أن كلّ سافل فله عشق إلى العالي ، وفي جبلّته شوق إلى تحصيل ما هو أعلى وأشرف منه.

٧٠

فكمال النفس إنّما يتحقّق بصيرورتها جوهرا عقليا بالفعل ، أو أعلى منه ، فيجب أن تكون تصوّراتها تصوّر أمر شريف من باب الجواهر العقلية ، أو ما هو أعلى منها ، وصورة الجوهر جوهر أيضا.

فالحاصل لنفوس السماوات في كلّ حين أمر صوري جوهري ، إمّا إفاضات متتالية متواردة عليها ، ممّا هو فوقها ، أو تجلّيات وانكشافات لها منه ، بها تقع رجوعات واتّصالات لهذه النفوس بما فوقها.

وبالجملة : يجب أن يكون ذلك المطلوب ممّا يمكن أن ينال شيء منه في كلّ حين ، نيلا تدريجيا ، حتّى تدوم الحركة الموصلة إلى المطلوب التدريجي ، نيلا تدريجيا ، فيكون تصوّر الجمال سبب العشق ، والعشق سبب الطلب ، أي الإرادة ، والطلب سبب الحركة ، والحركة سبب حصول المطلوب.

ويجب أن يكون أمرا صوريا جوهريا ؛ إذ العرض مطلقا لا يكون كمالا لجوهر موجود بالفعل ؛ إذ كمال الشيء وتمامه أشرف وجودا ، وأوكد حقيقة منه ، وكلّ عرض وجوده أضعف وأخسّ من كلّ جوهر.

فالعقول الّتي هي فواعل الجواهر السماوية ومبادئها ، ينبغي أن تكون هي المعشوقات ، وغاية الحركات لنفوس السماوات ؛ لأنّ التفات كلّ شيء في استكماله وطلبه الخير إلى ما هو علّته ومفيض وجوده ، فيكون التفات كلّ واحدة من النفوس السماوية إلى حقيقتها العقلية الّتي هي علّتها ، وربّ نوعها ؛ إذ يستحيل أن يكون معشوق الكلّ في حركتها واحدا ، كما أن العلّة القريبة للكل ليست واحدة من جميع الجهات ، وإن كان مبدع الجميع ومعشوق الكلّ ذاتا أحدية حقه بسبب كثرة الجهات العقلية والنفسية الّتي هي بالحقيقة الحجب النورية ، الّتي لو كشفت لأحرقت شدّة ضياء سبحات وجهه ، وقوّة نور جلاله ، كلّ

٧١

ما انتهى إليه بصره.

فالمطلوب في الجميع على الوجه الأشمل الأعم ذات واحدة إلهية ، ولهذا اشتركت في مطلق الحركة الدورية ، والطلب المطلق الكمالي هو الّذي أدار رحاها (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (١).

ولكلّ واحدة معشوق عقلي متوسّط يخصّها ، ومحرّك نفسي مباشر يحرّكها ، ولهذا اختلفت الحركات والجهات ، فتكثّرت العقول حسب تكثّر الأجرام الحسّية ، وتحرّك الكرات ، فتكون النفوس هي الملائكة العملية المحرّكة بطريق المزاولة والفعل ، كتحريك الروح للبدن.

وتلك العقول هي الملائكة العملية المحرّكة بطريق العشق والشوق ، كتحريك المعلّم للمتعلّم من غير التفات وتغيّر ؛ لبراءتها عن علائق المواد ، ومباشرة الأجسام ، وقربها في الصفات من ربّ الأرباب ، جلّ جلاله ، فللأفلاك في كلّ شوق وحركة كمال وجوهر آخر ، ولها بحسب كلّ كمال جوهري حدث شوق آخر ، وحركة أخرى ، فيكون لها في كلّ آن من الآنات وصول إلى المفارق المحض ، ورجوع إلى العالم الأعلى ، وكذلك يفيض من ذلك العالم المفارق في كلّ آن على موادّها صورة جوهرية أخرى.

فهكذا تتالي الإشراقات ، وتوالي الاتّصالات ، وتنازل الإفاضات ، وتصاعد الكلمات الطيبات ، لا يزال على الاتصال ، ففي كلّ آن لها بعث وخلق جديد ، ولها في جميع الدهر حدوث واحد من الله ، وحشر واحد إليه ، وحدة جمعية ، كما قال سبحانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢) ، وقال :

__________________

(١) ـ سورة هود ، الآية ٤١.

(٢) ـ سورة لقمان ، الآية ٢٨.

٧٢

(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (١).

هكذا حقّق هذا البحث أستاذنا ـ أدام الله بركاته (٢) ـ وتمام الكلام فيه يأتي في مباحث حدوث العالم ، إن شاء الله.

ولنتكلم الآن في كيفية صدور جزئيات الحركات لتحصيل الكمالات على ما استفدناه منه ـ سلّمه الله ـ فاستمع :

فصل

لما ثبت أن النفوس الفلكية تشتاق إلى كمالات المبادىء العقلية ، وتلك الكمالات ممكنة الحصول لها ؛ لكونها ناطقة ، ذوات إدراكات كلية ، وقد تبيّن أن صور الكائنات على ترتيبها الّذي هي عليه ثابتة في المبادىء العقلية ، وأنها محيطة بكلّ الموجودات على وجه كلي، منزّه عن الزمان.

فإذا اشتاقت النفوس إلى كمالاتها سرت علاقتها الشوقية بتوسّط التصورات الجزئية إلى نفوسها الحيوانية الّتي هي بمنزلة الخيال فينا ، فانبعث شوق وهمي تابع لإدراك خيالي ، فحرّك جرمها ، فحدث وضع تستعد به النفس لاستفاضة كمال ما من الكمالات العقلية ، فإذا أفاض عليها كمال ، وأشرقت عليها هيئة نورية ، حاكت متخيّلتها بصورة جزئية ، فانبعث شوق آخر جزئي ، فتحرّك حركة أخرى إلى ما لا يتناهى.

وكلما تشخصت الصورة الكلية الفائضة على النفس الناطقة في متخيّلة

__________________

(١) ـ سورة هود ، الآية ١٢٣.

(٢) ـ أنظر : المبدأ والمعاد : ١٨٠ و ١٨١.

٧٣

نفسها الحيوانية أدركتها ، فإذا أدركتها أدركت ـ لا محالة ـ ما يلزمها من الحوادث أيضا ، وشأن النفس أن يكون توجّهها إلى بعض العلويات ، واستحضارها إيّاها ، واشتغالها بها ، يوجب ذهولها عن البعض الآخر ، فكلّ صورة لاحقة تذهلها عن الصورة السابقة ، وما يلزمها ، فلا يلزم أن تكون صور الكائنات الغير المتناهية حاصلة في النفوس السماوية دفعة.

فصل

الحق أن نسب مقادير حركات الأفلاك بعضها إلى بعض ـ باعتبار أزمنة عوداتها ـ نسب عددية ، كما يؤيده الرصد ، لا صمية ، كما ظنّ.

وعلى هذا فتتكرر الأوضاع بعد مرور مبلغ من الآلاف الكثيرة ، كما أشير إليه بقوله سبحانه : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (١) ، فيكون بعد كلّ دورة من الأدوار كأنه قيامة عظمى ، وهي بعد انقضاء يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، وذلك بعد سبع قيامات وسطوية ، كلّ منها في انقضاء سبعة آلاف سنة ، مدّة أدوار الكواكب السبعة بالاختصاص والاشتراك ، فإنّ نفوس الأفلاك خزائن الله الجسمانية ، وعقولها خزائنه الروحانية الّتي لا تنفد ، ولا تبيد ، أزلا وأبدا ، وهي واصلة إلى الأرض على التدريج ، شيئا فشيئا ، يعني أنها إنما تصل إلى العالم العنصري بواسطة التغيّرات الفلكية ، وتبدّل أوضاعها واستحالاتها على ما سيأتي بيانه عن قريب. ولمّا استحال الجمع بين الأحوال المتجددة والتشكّلات المتفاوتة ، قال

__________________

(١) ـ سورة الطارق ، الآية ١١.

٧٤

الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) ، وقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢).

ولا يلزم تكرر الحوادث في العالم بتكرر الصور الجزئية عند تكرر الأوضاع المعينة على هذا التقدير ، كما توهّمه من ظنّ صمية تلك النسب ؛ هربا من ذلك ، وأخذا بما هو أدل على القدرة ؛ وذلك لأنّ كلّ وضع يقارنه من الأوضاع السفلية والعلوية ، واستعدادات المواد ، والصور السابقة ، والأحوال اللاحقة ما ليس قبله ذلك ، واعتبر بإلقاء حبّات متساوية في الماء متعاقبة حيث لم يلزم حركة الماء وتشكيله في النوبة الثانية كحركته وتشكيله في النوبة الأولى ، مع تساوي الأسباب ؛ لامتزاج أثر السابق باللاحق ، فإذن يجوز أن تقبل القوّة المتخيّلة الفلكية بسبب ذلك الوضع المماثل للوضع السابق صورة جزئية غير الصورة الأولى الحاصلة في ذلك الوضع ، فافهم.

فصل

وممّا يشير إلى تجدد السماويات وترقّياتها في أطوارها وأدوارها لحظة فلحظة إلى أن تفنى في ذات الله سبحانه ، وتقوم قيامتها ، ويلوّح إلى أن حقائقها عند الله غير الّتي نراها بأبصارنا.

منها على سبيل الرمز : ما رواه الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن بابويه القمي رحمه‌الله ، في كتاب التوحيد ، بإسناده عن أبي ذر الغفاري رضى الله عنه ، قال : «كنت

__________________

(١) ـ سورة الرعد ، الآية ٣٩.

(٢) ـ سورة الحجر ، الآية ٢١.

٧٥

آخذا بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن نتماشى جميعا ، فما زلنا ننظر إلى الشمس حتّى غابت ، فقلت : يا رسول الله ، أين تغيب؟ قال : في السماء ، ثمّ ترفع من سماء إلى سماء ، حتّى ترفع إلى السماء السابعة العليا ، حتّى تكون تحت العرش ، فتخرّ ساجدة ، فتسجد معها الملائكة الموكّلون بها ، ثمّ تقول : يا ربّ من أين تأمرني أن أطلع؟ أمن مغربي ، أم من مطلعي؟ فذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١) ، يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه [العليم] (٢) بخلقه ، قال : فيأتيها جبرئيل بحلّة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله في الصيف ، أو قصره في الشتاء ، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع ، قال : فتلبس تلك الحلّة كما يلبس أحدكم ثيابه ، ثمّ ينطلق بها في جوّ السماء حتّى تطلع من مطلعها.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : فكأنّي بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ، ثمّ لا تكسى ضوء ، وتؤمر أن تطلع من مغربها ، فذلك قوله عزوجل : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (٣) ، والقمر كذلك من مطلعه ومجراه في أفق السماء ، ومغربه ، وارتفاعه إلى السماء السابعة ، ويسجد تحت العرش ، ثمّ يأتيه جبرئيل بالحلّة من نور الكرسي ، فذلك قوله عزوجل : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (٤)» (٥).

__________________

(١) ـ سورة يس ، الآية ٣٨.

(٢) ـ ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.

(٣) ـ سورة التكوير ، الآية ١ و ٢.

(٤) ـ سورة يونس ، الآية ٥.

(٥) ـ كتاب التوحيد : ٢٨٠ ، ح ٧.

٧٦

في خلق المركّبات

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ

لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١)

فصل

إن الله سبحانه سخّر السماوات والنجوم ونفوسها الناطقة المدبّرة لها ، والملائكة الموكّلين بها بأمره ، فجعلها في حركاتها المتفنّنة ، وأوضاعها المختلفة ، وعباداتها المتنوعة ، ذوات أفعال وتأثيرات في الأرضين ، والأجرام السفلية ، تأثيرا على سبيل الرشح ، كما أشرنا إليه ، وجعل تلك الأجرام السفلية ذوات تأثّر وانفعال منها تشبه تأثّر النسوان من الذكران من وجه ، لا بمعنى أن السماويات توجد شيئا من الأرضيات ، أو تفيض عليها صورة ، هيهات ما للجسم المظلم الميت وللجسماني المفتقر إليه والإنارة ، والإحياء ، والخلق ، والإبداء (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢) ، بل بمعنى أنها تعدّ القوابل الأرضية والمواد السفلية لفيضان الصور ، والأعراض عليها ، من واهبها الّذي هو الله سبحانه بتوسّط ملائكتة العقلية ، فإنّ الله سبحانه جعل لكلّ شيء من خلقه

__________________

(١) ـ سورة النحل ، الآية ١٣.

(٢) ـ سورة ص ، الآية ٢٧.

٧٧

سببا ، ولسببه سببا ، إلى أن ينتهي إليه تعالى ، وهو مسبب الأسباب كلّها ، جملتها وتفصيلها ، فالأسباب مترتبة متوجّهة نحو المسببات بإذنه تعالى ، وهو الّذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.

فشرب السموم ـ مثلا ـ سبب للهلاك بإذنه تعالى ، كما أن شرب الدواء سبب للشفاء بإذنه ، وكذلك الأسباب الكلية الأصلية الثابتة المستقرة الّتي لا تزول ، ولا تحول ، كالأرض والسماوات والنجوم بحركاتها المتناسبة الّتي لا تتغيّر ولا تنفد إلى أن يبلغ الكتاب أجله ، وتوجّهها إلى المسبّبات الحادثة منها لحظة فلحظة.

ألا ترى إلى الشمس كيف تؤثر بمحاذاتها الموضع من الأرض في إضاءة ذلك الموضع ، ثمّ بتوسّط الضوء في سخونتها ، ثمّ بتوسط السخونة في خلخلة الجسم المتسخّن ، أو إصعاده ، ثمّ بسبب التخلخل أو الصعود في إخراجه من موضعه الطبيعي ، ثمّ بسبب الخروج من موضعه في امتزاجه بغيره ، ثمّ بسبب الامتزاج في فيضان صورة عليه غير صورته الأولى.

فانظر في إعدادها ذلك الجسم لقبول تلك الهيئات والصور من الله سبحانه ، ثمّ انظر كيف توثر باختلاف حركاتها الذاتية والعرضية المقتضي لحدوث الفصول الأربعة من الربيع والصيف والخريف والشتاء ، في اختلاف أحوال المركّبات ، من المعادن ، والنباتات ، والحيوانات ، واختلاف صورها ، وأعراضها ، ونفوسها ، في حياتها وموتها ، وحرارتها وبرودتها ، ورطوبتها ويبوستها ، ونضارتها وجمودها ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اغتنموا برد الربيع فإنه يفعل بأبدانكم ما يفعل

٧٨

بأشجاركم ، واجتنبوا برد الخريف ، فإنه يفعل بأبدانكم ما يفعل بأشجاركم» (١).

وإلى القمر كيف يؤثر في نضج الفواكه ، ومدّ المياه وجزرها ، وازدياد الرسل في الضروع ، ونشوء الحرث والنسل ، والزروع ونقصانها وذبولها ، بحسب امتلائه وانجلائه ، وإشراقه وانمحاقه ، وغير ذلك ، وكلّ ذلك مقدّر بقدر معلوم ؛ لأنها منوطة بحركات الشمس والقمر (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٢) ، أي حركاتها بحساب معلوم (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣).

وإلى غيرهما من الكواكب ، كيف تؤثر في السفليات بحسب أحوالها المختلفة ، كما فصّلت في علم النجوم تفصيلا ، حار فيه أصحابه حيرة لا محيص لهم عنها.

ثم ألم تنظر إلى الهيئات الفائضة على الطبائع والصور والنفوس الّتي تصدر عنها الأفعال في موادّها ، ومواد غيرها ، وتصير محرّكة للأجسام ، مازجة بعضها ببعض ، كما يشاهد من القوى الغاذية والنامية ، كيف تنبعث من السماويات ، فلها ـ لا محالة ـ تأثير في نفوسنا ، ونفوس سائر السفليات ، وإنما لم تؤثّر نفوسنا فيها ؛ لأنها ضعيفة القوى بسبب كونها منشعبة متفرّقة ، فيضعف تأثيرها ، ويصد بعضها بعضا عن فعلها بالتمام ، كما تشغل القوّة الحسية الخيالية عن فعلها بالتمام ، وإذا لم تشغلها قوي فعلها ، كما في النائم ، وإن لم يتم بعد لضعفها ، وقوى الكواكب غير منشعبة ، بل كأنها قوّة واحدة.

فالقوّة الباصرة فيها هي القوّة السامعة ، وهي القوّة المصوّرة ، فكأنها

__________________

(١) ـ بحار الأنوار : ٥٩ : ٢٧١.

(٢) ـ سورة الرحمن ، الآية ٥.

(٣) ـ سورة الرعد ، الآية ٢.

٧٩

متوفّرة على قوّة واحدة ، فيقوى تأثيرها ، ولا يصد بعضها بعضا ، فيصحّ صدور الفعل عنها بالتمام ، فلهذا تؤثّر فينا ، ولا نؤثر فيها.

وصل

روى في الكافي بإسناده عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنه سئل عن النجوم : أحقّ هي؟ فقال : نعم (١).

وإنه سئل أيضا عن النجوم ، فقال : ما يعلمها إلّا أهل بيت من العرب ، وأهل بيت بالهند (٢).

وقال في حديث آخر ساقه في ذلك : إنه أصل الحساب حقّ ، لكن لا يعلم بذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلهم (٣).

وقال له عبد الرحمن بن سيابة : جعلت فداك ، الناس يقولون : إن النجوم لا يحلّ النظر فيها ، وهي تعجبني ، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شيء يضرّ بديني ، وإن كانت لا تضرّ بديني فو الله إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : ليس كما يقولون ، لا تضرّ بدينك ، ثمّ قال : إنّكم تنظرون في شيء منها كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر ، ثمّ قال : أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة؟ قلت : لا ، والله ، قال : أفتدري كم بين الزهرة والقمر من دقيقة؟ قلت : لا ، قال : أفتدري كم بين السنبلة والشمس من دقيقة؟ قلت : لا ،

__________________

(١) ـ الكافي : ٨ : ٣٣٠ ، ح ٥٠٧.

(٢) ـ الكافي : ٨ : ٣٣٠ ، ح ٥٠٨ ، وفيه «من الهند» بدل «بالهند».

(٣) ـ الكافي : ٨ : ٣٥١ ، ذيل الحديث ٥٤٩.

٨٠