عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

واحد هو الإنسان ، ثمّ إذا أخرجت من القوّة إلى الفعل تصير أنواعا كثيرة من أجناس الملائكة ، والشياطين ، والسباع ، والبهائم ، بحسب نشأة ثانية ، أو ثالثة ، فلها بعد البدن المادي اختلافات جنسية ، ونوعية ، وشخصية ، بحسب تجوهرها وفعليتها.

ومن هنا قال مولانا الصادق عليه‌السلام : «الإنس على ثلاثة أجزاء ، فجزء تحت ظلّ العرش ، يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ، وجزء عليهم الحساب والعذاب ، وجزء وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين» (١).

وتبيّن أيضا أن النفوس آمنة من الفساد عند حادثة موت الأجساد ، ولا يتغيّر أصل الذات عند فقد الآلات.

__________________

(١) ـ الخصال : ١ : ١٥٤ ، ح ١٩٢.

٢٦١

في الإنسان بما هو إنسان

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (١)

فصل

المركب العنصري لما استوفى درجات المعدن والنبات والحيوان ـ بما هو حيوان ـ وصفى مزاجه ، وقرب من الاعتدال جدا ، تخطّى خطوة أخرى إلى جانب القدس إن كان من أهل السلوك إلى الله ، على صراط الله ، بأن يكون ناقصا ، ضعيف الفعلية ، كبعض الصبيان من أهل الذكاء ، والاستقامة ، فمن تكون لهم نفوس حيوانية ضعيفة ، ولم يصيروا أناسا بعد فيتقرّب إلى الله سبحانه بالتوجه إليه توجّها طبيعيا ، فيتقرّب الله إليه ضعف تقرّبه ، كما هو سنّته تعالى ، فيفيد له صورة كمالية ناطقة ، بأن يبدّل صورته الناقصة بصورة كاملة ذات نفس ملكوتية ناطقة ، مستخدمة لسائر القوى النباتية والحيوانية ، فيصدر عنها ببساطتها كلّ ما يصدر من النبات والحيوان ، بما هو حيوان ، وتزيد عليه بأفعال مختصّة بها ، فيوكّل الله تعالى بها ـ مع تلك الملائكة الّتي كانت له أولا ـ ملائكة أخرى ، أرفع درجة منهم ، بها يدرك الكليات مجردة عن المواد أصلا ، إدراكا زائدا على إدراك سائر الناس ، وتحصل له ملكة المراجعة إلى عالم القدس ، والتوصل إلى

__________________

(١) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٦.

٢٦٢

معرفة حقائق الأمور من هناك ، أو بالفكر والرويّة ، باقتناص المجهولات العقلية من المعلومات ، وهذا هو الإنسان بما هو إنسان.

وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فيما يروى أن بعض اليهود اجتاز بهعليه‌السلام وهو يتكلّم مع جماعة ، فقال له : يابن أبي طالب ، لو أنك تعلّمت الفلسفة لكان يكون منك شأن من الشأن ، فقال عليه‌السلام : وما تعني بالفلسفة؟ أليس من اعتدلت طباعه صفا مزاجه ، ومن صفا مزاجه قوي أثر النفس فيه ، ومن قوي أثر النفس فيه سما إلى ما يرتقيه ، ومن سما إلى ما يرتقيه فقد تخلّق بالأخلاق النفسانية ، ومن تخلّق بالأخلاق النفسانية فقد صار موجودا بما هو إنسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان ، فقد دخل في الباب الملكي الصوري ، وليس له عن هذه الغاية مغيّر (١) ، فقال اليهودي : الله أكبر يابن أبي طالب ، لقد نطقت بالفلسفة جميعها ، في هذه الكلمات ، رضي الله عنك (٢).

فصل

ومن البراهين على تجرّد نفسه الناطقة ـ سوى ما أسلفناه ـ إدراكه للكليات المحضة ، وتجريده المعاني عن المواد بالكلية ، على نحو ما قرّرناه في تجرّد القوّة المتخيّلة ؛ لتجريدها الصور عن المواد ، بل المعاني أشد تجرّدا ، وكلّ إدراك ونيل فبضرب من التجريد ، إلّا أن الحس يجرّد الصور عن المادة ، بشرط حضور المادة ، والخيال يجرّدها عنها وعن بعض غواشيها ، والوهم يجرّدها عن

__________________

(١) ـ في المصدر : معبر.

(٢) ـ ورد قريب منه في الصراط المستقيم : ١ : ٢١٣ و ٢١٤.

٢٦٣

الكلّ ، مع إضافة ما إلى المادة ، والناطقة ينالها مطلقة فتفعل في المحسوس عملا تجعله معقولا.

فصل

ثم إن للإنسان تصرّفا في أمور جزئية ، وتصرّفا في أمور كلية ، والثاني فيه اعتقاد فقط، من غير أن يصير سببا لفعل دون فعل ، إلّا بضم آراء جزئية ، فإذا حصل الرأي الجزئي تتبع القوّة المروّية قوى أخرى في أفعالها البدنية ، من الحركات الاختيارية ، أولها الشوقية الباعثة ، وأخيرتها الفاعلة المحرّكة للعضلات بالمباشرة ، وكلّ هذه تستمدّ في الابتداء من القوّة المتصرّفة في الكليات بإعطاء القوانين ، وكبريات القياس ، فيما يروّي كما يستمد من الّتي بعدها في صغريات القياس ، والنتيجة الجزئية.

وصل

فللنفس الإنسانية في ذاتها ـ باعتبار ما يخصّها من القبول عما فوقها والفعل فيما دونها ـ قوّتان : علّامة ، وفعّالة.

فبالأولى يدرك التصورات والتصديقات ، ويعتقد الحقّ والباطل ، فيما يعقل ويدرك ، ويسمى بالعقل النظري.

وبالثانية يستنبط الصناعات الإنسانية ، ويعتقد الجميل والقبيح ، فيما يفعل ويترك ، ويسمى بالعقل العملي ، وهي الّتي تستعمل الفكر والرويّة في الأفعال والصنائع ، مختارة للخير ، أو ما يظن خيرا ، ولها الجربزة والبلاهة والتوسط

٢٦٤

بينهما ، المسمى بالحكمة ، وهي من الأخلاق ، لا من العلوم المنقسمة إلى الحكمتين : العملية والنظرية ؛ لأنها ـ وخصوصا الأخيرة منهما ـ كلما كانت أكثر كانت أفضل ، وهذه القوّة خادمة للنظرية ، مستمدة بها في كثير من الأمور.

وصل

وعن صاحبة هاتين القوّتين عبّر مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث كميل السابق (١) : بالناطقة القدسية ، حيث جعل قواها الفكر ، والذكر ، والعلم ، والحلم ، والنباهة ، وخاصّيّتها النزاهة ، والحكمة ، فإنّ بعض ذلك إشارة إلى النظرية ، والبعض الآخر إلى العملية ، وكلّ ما ورد في الأخبار من مدح العقل والعاقل فهو راجع إليهما ، وإلى صاحبهما ، كقول مولانا الصادق عليه‌السلام : «العقل دليل المؤمن» (٢).

وفي الحديث القدسي : «ما خلقت خلقا أحسن منك ، إياك آمر ، وإياك أنهى ، وإياك أثيب ، وإياك أعاقب» (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بالعقل استخرج غور الحكمة ، وبالحكمة استخرج غور العقل ، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح» (٤).

وكان عليه‌السلام يقول : «التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي الماشي في

__________________

(١) ـ أنظر ص ٢٥٤ من هذا الكتاب.

(٢) ـ الكافي : ١ : ٢٥ ، ح ٢٤.

(٣) ـ الكافي : ١ : ٢٦ ، ح ٢٦.

(٤) ـ الكافي : ١ : ٢٨ ، ح ٣٤.

٢٦٥

الظلمات بالنور بحسن التخلّص ، وقلّة التربّص» (١).

إلى غير ذلك من الروايات.

فصل

الرأي الكلي إنّما يكون عند النظري ، والرأي الجزئي عند العملي المعدّ نحو المعمول ، ذاك للصدق والكذب ، وهذا للخير والشرّ ، هو للواجب والممكن والممتنع ، وهذا للجميل والقبيح والمباح ، فلهما شدّة وضعف في الفعليات ، ورأي وظن في العقليات ، والعمل يحتاج في أفعاله كلّها إلى البدن في هذه النشأة إلّا نادرا ، كإصابة العين من بعض النفوس الشريرة.

وأمّا الأفعال الخارقة للعادات من المتجرّدين الكاملين ، فهي في مقام أخروي ، كما سيأتي بيانه.

وأمّا النظري فله حاجة إلى البدن ، وإلى العملي ، ابتداء لا دائما ، بل قد يكتفي بذاته هاهنا ، كما في النشأة الآخرة ، إن كان من صفّ الأعالي والمقرّبين ، وأمّا إن كان من أصحاب اليمين ، فمبدأ أفاعيله وتصوراته العقل العملي ، وبه تكون سعادته في الآخرة.

ولكلّ منهما مراتب أربع في الاستكمال ، نقصّها عليك ، فاستمع.

__________________

(١) ـ المصدر نفسه.

٢٦٦

فصل

أما النظري فأولى مراتبها ما يكون للنفس بحسب أصل الفطرة حين استعدادها لجميع المعقولات لخلوها عن كلّ صورة ، وقبولها لأن تكون فيها ماهية كلّ موجود وصورته ، من غير تعسّر ، وتأبّي ، وامتناع من قبلها ، فإن عسر عليها شيء ، فإما لأنّه في نفسه ممتنع الوجود، أو كان ضعيف الكون شبيها بالعدم ، أو شديد الوجود قويا يغلب عليها ويقهرها ، ويفعل بها ما يفعل الضوء الشديد بعين الخفّاش ، ليس إلّا ، فهي في هذه المرتبة في قبولها للصور العقلية كالمادّة الأولى في قبولها للصور الحسّية ، فهي إذن من حيث الكون العقلي قوّة محضة ليس لها جوهرية ، ولا قوام بذاتها ، ولا لها إدراك لذاتها ، ولا لغيرها ، إلّا بالقوّة ؛ إذ الإدراك ـ كما دريت ـ تابع للمدرك ، بل هو عينه من وجه ، وإن كانت هي من حيث الكون الحسّي والخيالي جوهرا قائما بذاته ، مدركا لها ، وللمحسوسات ، والمتخيّلات ، والموهومات ، بل هي مجردة عن المواد أيضا ، من حيث الخيال ، كما دريت ، فهي في هذه المرتبة نهاية عالم الجسمانيات ، بل الخياليات أيضا ، في الكمال الحسّي ، والخيالي ، وبداية عالم الروحانيات في الكمال العقلي.

فإن نظرت إلى ذاتها في عالمي الحسّ والخيال وجدتها مبدأ جميع القوى الجسمانية ، ومستخدم سائر الصور الحيوانية ، والنباتية ، والجمادية ، فإنّها من آثارها ولوازمها في هذا العالم.

وإذا نظرت إليها في العالم العقلي وجدتها قوّة صرفة ، لا صورة لها عند

٢٦٧

سكان ذلك العالم ، كما قال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) (١).

فنسبتها إليه نسبة البذر إلى الثمرة ، فإنّ البذر بذر بالفعل ، ثمرة بالقوة ، وتسمى النفس عند ذلك عقلا هيولانيا ، ثمّ تحصل فيها ممّا فوقها بسبب مراجعتها إليه وإدراكها للمعاني العلمية شعاع عقلي تكون منزلته منها منزلة ضوء الشمس من البصر الّذي هو بدونه باصر بالقوة ، فيحدث فيها عن رسوم المحسوسات الّتي هي معقولات بالقوة ، وكانت محفوظة في خزانة المتخيّلة أوائل المعقولات الّتي اشترك فيها جميع الناس من الأوليات ، والتجربيات ، والمتواترات ، والمقبولات ، وغيرها.

وهذه الصور إذا حصلت للإنسان يحدث له بالطبع تأمّل ورويّة فيها ، وتشوّق إلى استنباطات ، ونزوع إلى بعض ما لم يكن تعقّله أولا ، وتسمى النفس عند ذلك عقلا بالملكة ، ثمّ يحصل فيها ممّا فوقها بسبب كثرة مراجعتها إليها ، وتكرر مطالعتها المعقولات منه مرة بعد أخرى ، واتصالها به كرّة بعد أولى.

وتحصيل الحدود الوسطى ، واستعمال القياسات والتعاريف ، وخصوصا البراهين والحدود ، نور عقلي ، به تشاهد المعقولات المكتسبة متى شاءت ، من غير تجشّم ، وتسمى النفس عند ذلك من حيث إن المعقولات حاصلة لها عقلا بالفعل ، ومن حيث إنها تشاهدها عقلا مستفادا ، وفعلها الإرادي في هذا الباب ليس إلّا تحصيل الحدود واستعمال البراهين.

وأمّا فيضان النور العقلي فليس بإرادته ، بل بتأييد من الحقّ سبحانه ، بتوسّط الملك العقلي ، الّذي هو ربّ نوع الإنسان المسمى في الشرع ب «روح القدس» ، وحال حصول الكمالات النظرية عند ذلك كحال حصول الأوائل على

__________________

(١) ـ سورة المائدة ، الآية ٦٨.

٢٦٨

سبيل اللزوم ، بلا اكتساب ، وكما أن في الفطريات لو سأل سائل : لم كان هذا هكذا؟ لم يكن جواب ، كذلك هاهنا إذا سأل سائل : لم كان البرهان الصحيح ، والحدّ الصريح ، يوجب علما؟ لم يكن جواب. فالمقدّمات إنّما هي معدّات ، والواهب غيرها.

ومن هنا قيل : «عرفت ربّي بربّي ، ولو لا ربّي ما عرفت ربّي».

وفي أدعية أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : «إلهي بك عرفتك ، وبك اهتديت إلى أمرك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت» (١).

فصل

روى محمّد بن الحسن الصفّار ، في كتاب بصائر الدرجات ، بأسانيده المتّصلة عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، أنه سئل : تسألون عن الشيء فلا يكون عندكم علمه؟ قال : ربما كان ذلك ، قيل : كيف تصنعون؟ قال : يتلقّانا به روح القدس (٢).

وروى عن سيّد العابدين ، وأبيه الحسين عليهم‌السلام ، مثله (٣).

وروى ـ أيضا ـ بسند صحيح ، عن إبراهيم بن عمر ، قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : أخبرني عن العلم الّذي تعلمونه ، أهو شيء تعلّمونه من أفواه الرجال بعضكم من بعض ، أو شيء مكتوب عندكم من رسول الله؟ قال : فقال : الأمر أعظم من ذلك ، أما سمعت قول الله عزوجل في كتابه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ

__________________

(١) ـ ورد نص هذا الدعاء في مهج الدعوات : ١٤٤ ، من أدعية الإمام الحسن عليه‌السلام.

(٢) ـ بصائر الدرجات : ٤٥١ ، ح ١ و ٤.

(٣) ـ بصائر الدرجات : ٤٥١ ، ح ٢ ؛ وص ٤٥٢ ، ح ٧.

٢٦٩

رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (١) ، قال : قلت : بلى ، قال : فلما أعطاه الله تلك الروح علم بها ، وكذلك هي إذا انتهت إلى عبد علم بها العلم ، والفهم (٢).

وروى الصدوق ، محمّد بن علي بن بابويه ، في كتاب معاني الأخبار ، عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٣) ، قال : روح اختاره الله ، واصطفاه ، وخلقه ، وأضافه إلى نفسه ، وفضّله على جميع الأرواح ، فنفخ منه في آدم (٤).

فصل

قال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : يشبه أن يكون الإنسان لكونه ذا درجات متفاوتة بدنا ، ونفسا ، صورة ، ومعنى ، بحسب كلّ وقت ومقام ، واقعا تحت تصرّف صاحب آخر ، وينتقل تخمير طينته وتربية صورته من يد إلى يد أخرى ، لملائكة الله الموكّلين بأمره من أهل الجبروت ، وعالم العقل ، ينقلونه بأيديهم إلى أن يتشرّف تخمير طينته بالوقوع في يدي الرحمن، فالأنسب أن يكون ربّ نوعه المسمى بروح القدس ، أو جبرئيل ، أو روانبخش ، أو غير ذلك ، مبدأ لجماعة كثيرة غير محصورة من العقول المترتبة الواقعة تحت حيطته وقاهريته ، نسبته إليها كنسبة الجوهر النطقي من الإنسان إلى بدنه ، وقواه الحيوانية والنباتية

__________________

(١) ـ سورة الشورى ، الآية ٥٢.

(٢) ـ بصائر الدرجات : ٤٥٩ ، ح ٣.

(٣) ـ سورة الحجر ، الآية ٢٩ ؛ وسورة ص ، الآية ٧٢.

(٤) ـ معاني الأخبار : ١٦ ، ح ١١ ، وفيه «فأمر فنفخ» بدل «فنفخ».

٢٧٠

والطبيعية ، ويكون كلّ واحد من تلك العقول مربّيا لنوع من أنواع تلك القوى الكثيرة الغير المحصورة للإنسان الكامل.

ثم لو فرض أن إنسانا وقع له الارتقاء إلى مقام فوق مقامات هذه الملائكة ، الّذين كانوا يدبّرون أمره ويعطونه الحياة والفضيلة ، فيقع عند ذلك في تصرّف ملك آخر فوق هذا المسمى بالأسامي المذكورة ، وهكذا إلى أن لا تكون واسطة بينه وبين الحقّ ، كما وقع لنبيّنا ـ صلوات الله عليه وآله ـ في معراجه.

وربما كان الإنسان حال انسلاخ نفسه عن بدنه والأكوان وترقّيه في طبقات النفوس والعقول متصاعدا مارّا على العوالم طبقة بعد طبقة ، متّحدا بكلّ عقل ونفس ، اتحادا يفيده الانسلاخ عن جملة صفاته وأحواله الجزئية ، الّتي كان بكلّ منها تحت تربية عقل من العقول ، وتصريف مدبّر من المدبّرات ، وهكذا ، حتى يتحدان ، كمل معراجه بالعقل الأوّل ، فإذا كمل اتحاده بالعقل الأوّل تنسلخ منه جميع صفات الأكوان ، ونقائص الإمكان ، وهناك يحصل القرب الحقيقي ، ويصحّ له ـ بصفته الوجودية النورية ـ الأخذ عن الله ، والاستنارة من نوره ، بدون واسطة عقل ، أو نفس ، كما هو شأن نبيّنا ـ عليه وآله السلام ـ وشأن العقل الأوّل مع الحق.

ثم إذا رجع إلى مقام البشرية كان كما كان في بعض مقامات القربة قبل الفناء الأخير، مع زيادة سكينة ، ولذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يجمع بين الأخذ الأتم عن الله بواسطة العقل الأوّل ، والنفوس بموجب خاصية حكم إمكانه الباقي منه ، ووجوب كلّ فرد من أفراد العقول المترتبة طولا وعرضا ، وبين الأخذ عن الله بدون واسطة أصلا ، بحكم وجوبه.

وممّا يؤيّد ذلك ما أخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفاوت مقاماته ، ودرجات أخذه عن

٢٧١

الله العلوم والكمالات ، فكان يخبر أحيانا أنه يأخذ عن جبرئيل ، وأن جبرئيل يأخذ عن ميكائيل ، وميكائيل عن إسرافيل ، وإسرافيل يأخذ عن الله ، ويخبر أحيانا أنه كان يأخذ عن ميكائيل ، بدون واسطة جبرئيل ، وأخبر أنه كان يلقي إليه أحيانا إسرافيل ، فيأخذ عنه دون واسطتهما ، وأخذ أحيانا عن الله ، من غير واسطة لأحد من الملائكة ، كما دلّ عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لي مع الله وقت ، لا يسعني فيه ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل» (١).

وإن شئت أن تعرف معنى تأييد هذا الروح ، وفيضان هذا النور ، وكيفية تحصيل العقل بالفعل ، والرجوع إلى العالم العقلي ، والاتّصال به ، بل بما فوقه ، حقّ المعرفة فاستمع لما استفدناه من أستاذنا ـ سلّمه الله ـ وهو من تحقيقاته الشريفة.

فصل

قد دريت أن المدرك قبل الإدراك مدرك بالقوة ، كما أن مدركه مدرك بالقوة ، وكلاهما إنّما يصيران بالفعل بعد الإدراك ، والإدراك إنّما يكون باتّحاد ما بالمدرك ، بأن يصير المدرك صورة ذات المدرك ، فمعنى صيرورة العقل الهيولاني عقلا بالملكة ، أو العقل بالملكة عقلا بالفعل ، أنه حصلت في الذات العاقلة بالقوّة المعقولات الّتي انتزعتها عن المواد صائرة معقولات بالفعل ، وقد كانت من قبل أن ينتزع معقولات بالقوة ، كما كانت تلك الذات عاقلة بالقوة ، فهي الآن صارت صورا لتلك الذات الكاملة ، وتلك الذات إنّما صارت عقلا بالفعل

__________________

(١) ـ بحار الأنوار : ١٨ : ٣٦٠ ، ضمن البيان الّذي ذكره العلّامة المجلسي رحمه‌الله.

٢٧٢

بالتي هي معقولات بالفعل.

وكلّ معقول بالفعل هو عقل وعاقل بالفعل ؛ لأنّه موجود صوري لا تخالطه غواش مادية ، وعوارض ظلمانية ساترة لوجهها ، حتّى تحتاج في معقوليّتها لذاتها إلى عمل عامل ، وإلى تعرية معرّ ، وتجريد مجرّد إياها ، فلا يفارق كون الشيء معقولا بالفعل كونه عاقلا بالفعل، ولا كونه هذا المعقول ؛ لأن نحو وجوده الخارجي نحو معقوليته وعاقليّته ، فمعنى كون النفس عاقلة بالفعل ليس هو ، غير أن المعقولات صارت صورا لها ، على أنها صارت بعينها تلك الصور ، والمعقولات الّتي كانت بالقوّة معقولات ، فهي من قبل أن تصير معقولة بالفعل، ليس وجودها هذا الوجود العقلي ، بل كان وجودها وجودا حسيّا تابعا لسائر ما يقترن بها ، فهي مرّة من باب الأين ، ومرة من باب الحركة والانتقال ، ومرة من مقولة متى ، ومرة ذات وضع ، إلى غير ذلك من مقولات الأجناس المختلفة.

وإذا حصلت معقولات بالفعل ارتفع عنها كثير من تلك المعاني ، وصار وجودها وجودا آخر ، ويفهم معانيها على غير المفهوم منها أوّلا.

مثال ذلك : الأين ، فإنّ المعقول منه لم تجد فيه شيئا من لوازم الأين في الخارج ، من التزاحم وغيره ، وما من موجود من الموجودات الطبيعية العقلية إلّا ويمكن أن تحصل صورا لتلك الذات العاقلة ، وكلما حصلت لها صورة تصير هي هو بعينها من غير تفاسد ، فعلى حسب كثرة المعقولات للذات العاقلة بالفعل يكون وفور جمعيّتها وشمولها لتلك المعاني وحصولها صورا لذاتها ، فبهذا الوجه يمكن القول بصيرورة الذات الأحدية العقلية كلّ الأشياء.

وأيضا فإنّ كلّ بسيط الحقيقة يجب أن يكون كلّ الأشياء ، وإلّا لكان ذاته

٢٧٣

متحصّل القوام من هوية أمر ، ولا هوية أمر ، فيكون مركبا ولو في العقل ، فما به الشيء هو هو غير ما به يصدق عليه أنه ليس هو ، فكلما كان الشيء أبسط فهو أحوط للوجود وأشمل ، وبالعكس ، وقد مضى بيان ذلك في مباحث مبدأ الوجود.

وقد ظهر من هذا أن الوجود النفسي إذا بلغ إلى مقام العقل صار هو هو بعينه ؛ إذ لا تعدد في العقول إلّا بحسب الأكمل والأنقص ؛ إذ لا تعدد في أفراد نوع واحد إلّا في المادّيات ، فلا يمكن عقلان في رتبة واحدة من الكون.

وصل

ومن هذا يعلم أنه إذا فرضت نفوس كثيرة بلغت إلى درجة عقل واحد من العقول ، صارت كلّها عقلا واحدا من غير تفاسد ، ولا بطلان ، ولا تجدد حال في العقل.

وهذه الوحدة لا تنافي امتيازها امتيازا عقليا ؛ لشعورها بذاتها ، وبأحوالها ، وهيئاتها المكتسبة من التعلّق بالأبدان ، وغير ذلك ، وهذا كامتياز كون الإنسان حسّاسا ، ومتخيّلا ، وعاقلا ، فإنّ هذه الأكوان الثلاثة أكوان إدراكية ، هي عين الشعور ، ويجدها الإنسان من ذاته ، ويدرك هويّته هوية حسّاسة ، متخيّلة ، عاقلة ، كما يظهر لمن راجع وجدانه.

وإذا جاز أن يكون صورة واحدة عقلية في غاية التجرّد صورة مطابقة لأعداد كثيرة من صور جسمانية في غاية التكثّف ، بحيث يتّحد بها ، فليجز كون صورة واحدة عقلية هي روح القدس ، صورة مطابقة لنفوس كثيرة إنسية ، يكون

٢٧٤

هو منها تمام تلك الهويات.

ومن تأمّل في إدراك الحواس وتقوّمها بإدراك الخيال ، والإدراك ضرب من الوجود ، لم يستبعد اضمحلال الوجود الأضعف في الوجود الأقوى.

وكذا من نظر في بداية وجود الإنسان ، وترقّياته في الأكوان الجوهرية ، من لدن وجوده الجمادي إلى أن يبلغ إلى مرتبة العقل النظري ، لم ينكر هذا المطلوب ؛ حيث تحقّق له في كلّ استكمال جوهري فناء وبقاء ، وخلع ولبس ، غير ما يوجد في المركّبات العنصرية من الكون والفساد الّذي منشؤه التضاد والتعاند بين الصور المتفاسدة ، بل إنك قد عرفت أن النفس في مقامها الطبيعي متحدة بالبدن اتحادا حقيقيا ، وفي مقامها الحسّي متحدة بالحواس، وكذا في سائر مقاماتها ، وقد مضى عليها برهة لم يكن لها شيء من مبادىء هذه الصفات ، أو أكثرها ، كما قال سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١). وسيأتي عليه زمان تنفسخ عنه هذه أو أكثرها ، وهو هو ، وينقلب إلى أهله مسرورا.

ولمّا جاز أن يكون وقتا في مقام الحيوانية بحيث لا يعرف غير الأكل والجماع ، والحس والحركة ، ولا يكون فيه شيء من آثار العقل أصلا ، إلّا قوّة بعيدة ، وقوّة الشيء ليس وجوده ، بل إمكانه ، ووقتا بحيث يستكمل ويصير عاقلا ومعقولا ، فبالحقيقة صار الكائن حيوانا كائنا ، ملكا عقليا ، لا بمجرّد المجاز والتشبيه ، أو بمجرّد صفة عارضة ، بل بحركة ذاتية وانقلاب وجودي من نشأة إلى نشأة ، فليجز مثل ذلك فيما نحن بصدده ، أي فيما فوق ذلك.

فقد ظهر أن النفس عند تحصيلها لجميع المعقولات واستحضارها لها ،

__________________

(١) ـ سورة الإنسان ، الآية ١.

٢٧٥

ومشاهدتها إياها ، تصير بعينها العقل ، ويفنى وجودها في وجود ربّ نوعه العقلي ، المسمى بروح القدس ، والمعبّر عنه بالنور ، وتبقى ببقائه بعينه.

وسيأتي أن العقول كلّها فانية في ذات الله سبحانه ، باقية ببقائه تعالى ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم ، فالنفوس الكاملة الفانية أيضا كذلك ، وهذا من الأسرار التي لا يمسّها إلّا المطهرون ، وهو الفناء في التوحيد ، في اصطلاح الصوفية ، وكأنه المشار إليه بقوله سبحانه في الحديث القدسي : «ومن قتلته فأنا ديته» (١) ، وما في معناه.

وفي الحديث النبوي : «لي مع الله وقت ، لا يسعني فيه ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل» (٢).

وفي كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في خطبة البيان (٣) ، المنسوبة إليه وغيرها ، ممّا ينبّه على مثل هذا المعنى كثير ، وكذا في كلام سائر أئمتنا المعصومين من أهل البيتعليهم‌السلام ، كما روي عنهم بأسانيد معتبرة ، وعسى أن تقف على طرف من ذلك في مواضع من المباحث الآتية ، إن شاء الله.

وروي عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، أنه كان يصلّي في بعض الأيام فخرّ مغشيّا عليه في أثناء الصلاة ، فسئل بعدها عن سبب غشيته ، فقال : «ما زلت أردد هذه الآية حتّى سمعتها من قائلها» (٤) ، وفي رواية : «من المتكلم بها» (٥).

__________________

(١) ـ المستدرك : ١٨ : ٤١٩ ، ح ٢ ، عن تفسير الشيخ أبي الفتوح الرازي ، وفيه : «ومن قتلته فعليّ ديته ، ومن عليّ ديته فأنا ديته».

(٢) ـ العقد الحسيني : ٤٥.

(٣) ـ أنظر : إلزام الناصب في إثبات الحجّة الغائب : ٢ : ١٩٢ ، ٢٢٨.

(٤) ـ مفتاح الفلاح : ٣٧٢.

(٥) ـ تفسير الصافي : ١ : ٧٣ ، ورسائل الشهيد الثاني : ١٤١ ، ولم يذكر المصدر أيضا.

٢٧٦

وممّا ينسب إلى مولانا الصادق عليه‌السلام ـ أيضا ـ وإن لم أره في كتاب معتمد عليه ، أنه قال : «لنا حالات مع الله ، وهو فيها نحن ، ونحن فيها هو ، ومع ذلك هو هو ، ونحن نحن».

وفي كلام بعض الحكماء (١) : ثمّ ترقّيت بذهني من ذلك العالم إلى العوالم الإلهية والحضرة الربوبية ، فصرت كأني موضوع فيها ، معلّق بها ، فأكون فوق العوالم العقلية.

وأمّا ما في كلمات الصوفية من ذلك فأكثر من أن يحصى ، وأشهر من أن يخفى.

وصل

وكأنّ إلى مثل هذه الوحدة أشير في حديث طوبى ، حيث قيل : يا رسول الله ، سألناك عنها ، فقلت : شجرة أصلها في داري ، وفرعها على أهل الجنة ، ثمّ سألناك عنها ، فقلت : شجرة في الجنة ، أصلها في دار عليّ ، وفرعها على أهل الجنة ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ داري ودار علي غدا واحدة ، في مكان واحد (٢).

وروى في كتاب بصائر الدرجات ، بسند صحيح ، عن سعد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنه قال ـ في حديث له ـ : ألا ومن خرج في شهر رمضان من بيته في سبيل الله ، ونحن سبيل الله الّذي دخل عليه ، فلما طاف بالحصن ، والحصن هو

__________________

(١) ـ هو : أرسطو طاليس ، في كتابه المعروف ب «أثولوجيا». أنظر : الأسفار الأربعة : ٨ : ٣٠٧ و ٣٠٨.

(٢) ـ العمدة : ٣٥١ ، مع اختلاف يسير.

٢٧٧

الإمام ، وكبّر عند رؤيته كانت له يوم القيامة صخرة أثقل في ميزانه من السماوات السبع ، والأرضين السبع ، وما بينهنّ ، وما تحتهن ، قلت : يا أبا جعفر ، وما الميزان؟ قال : إنك قد ازددت قوّة وبصرا يا سعد ، رسول الله الصخرة ، ونحن الميزان ، وذلك قول الله في الإمام: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) ، قال : ومن كبّر بين يدي الإمام قال : لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، كتب الله له رضوانه ، ومن يكتب الله له رضوانه الأكبر يجمع بينه وبين إبراهيم ، ومحمد ، والمرسلين ، في دار الجلال ، قال : فقلت : وما دار الجلال؟ فقال : نحن الدار ، وذلك قول الله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٢) ، فنحن العاقبة يا سعد ، وأمّا مودّتنا للمتّقين ، فقال الله تبارك وتعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٣) ، فنحن جلال الله وكرامته الّتي أكرم الله تبارك وتعالى العباد بطاعتنا (٤).

وعن زيد الشحّام ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت له : أيما أفضل ، الحسن أم الحسين؟ فقال : إنّ فضل أوّلنا يلحق بفضل آخرنا ، وفضل آخرنا يلحق بفضل أوّلنا ، فكلّ له فضل ، قال : قلت له : جعلت فداك ، وسّع عليّ في الجواب ، فإني ما سألتك إلّا مرتادا ، فقال : نحن من شجرة طيّبة ، برأنا الله من طينة واحدة ، فضلنا من الله ، وعلمنا من عند الله ، ونحن أمناؤه على خلقه ، والدعاة إلى دينه ، والحجّاب فيما بينه وبين خلقه ، أزيدك يا زيد؟ فقلت : نعم ، فقال : خلقنا واحد ، وعلمنا واحد ، وفضلنا واحد ، وكلّنا واحد عند الله ، فقلت : أخبرني بعدتكم ، فقال :

__________________

(١) ـ سورة الحديد ، الآية ٢٥.

(٢) ـ سورة القصص ، الآية ٨٣.

(٣) ـ سورة الرحمن ، الآية ٧٨.

(٤) ـ بصائر الدرجات : ٣١١ ، ح ١٢ ، مع اختلاف يسير.

٢٧٨

نحن اثنا عشر ، هكذا حول عرش ربّنا عزوجل ، في مبدأ خلقنا ، أوّلنا محمّد ، وأوسطنا محمّد، وآخرنا محمّد (١).

وفي رواية أخرى ، عنه عليه‌السلام : علمنا واحد ، وفضلنا واحد ، ونحن شيء واحد (٢).

وعن الأعمش ، عنه ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليلة أسري بي إلى السماء ، فبلغت السماء الخامسة ، نظرت إلى صورة علي بن أبي طالب ، فقلت : حبيبي جبرئيل ، ما هذه الصورة؟ فقال جبرئيل : يا محمّد ، اشتهت الملائكة أن ينظروا إلى صورة عليّ ، فقالوا : ربّنا إن بني آدم في دنياهم يتمتعون غدوة وعشية بالنظر إلى علي بن أبي طالب ، أخي حبيبك محمّد ، وخليفته ، ووصيه ، وأمينه ، فمتّعنا بصورته قدر ما يتمتّع أهل الدنيا به ، فصوّر لهم صورته من نور قدسه عزوجل ، فعلي عليه‌السلام بين أيديهم ليلا ونهارا ، يزورونه ، وينظرون إليه ، غدوة وعشية.

قال الراوي : فأخبرني الأعمش ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهم‌السلام ، أنه قال : فلما ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه صارت تلك الضربة في صورته الّتي في السماء ، فالملائكة ينظرون إليه غدوة وعشية ، ويلعنون قاتله ابن ملجم ، فلما قتل الحسين بن علي ـ صلوات الله عليه ـ هبطت الملائكة وحملته حتّى أوقفته مع صورة علي في السماء الخامسة ، فكلما هبطت الملائكة من السماوات من علا ، وصعدت ملائكة سماء الدنيا فمن فوقها إلى السماء الخامسة لزيارة صورة علي ، والنظر إليه وإلى الحسين بن علي ، يتشحّط بدمه ، لعنوا يزيد ، وابن زياد ،

__________________

(١) ـ غيبة النعماني : ٨٥ ، ح ١٦ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ـ كتاب المحتضر : ١١٤.

٢٧٩

وقاتلي الحسين بن علي ـ صلوات الله عليه ـ إلى يوم القيامة.

قال الأعمش : قال لي جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : هذا من مكنون العلم ومخزونه، لا تخرجه إلّا إلى أهله (١).

وعن الفضل بن عمر ، قال : قلت لمولانا الصادق عليه‌السلام : ما كنتم قبل أن يخلق الله السماوات والأرض؟ قال : كنّا أنوارا ، نسبّح الله ونقدّسه ، حتّى خلق الله الملائكة ، فقال لهم الله عزوجل : سبّحوا ، فقالوا : أي ربّنا ، لا علم لنا ، فقال لنا : سبّحوا ، فسبّحنا ، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا ، إلّا أنا خلقنا أنوارا ، وخلقت شيعتنا من شعاع ذلك النور ، فلذلك سمّيت شيعة ، فإذا كان يوم القيامة التحقت السفلى بالعليا ، ثمّ قرب ما بين إصبعيه(٢).

وروى الصدوق محمّد بن علي بن بابويه ، بإسناده المتصل عن مولانا الرضا ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ، عن رسول الله صلى الله عليهم ـ إلى أن قال : ـ أوّل ما خلق الله عزوجل أرواحنا ، فأنطقنا بتوحيده وتمجيده ، ثمّ خلق الملائكة ، فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا ، استعظموا نورنا ، فسبّحنا لنعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون ، وأنه منزّه عن صفاتنا ، فسبّحت الملائكة لتسبيحنا ، ونزّهته عن صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا ، هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلّا الله (٣).

وروى ابن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب ، عن سلمان ، قال : سمعت حبيبي المصطفى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول : كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عزوجل ،

__________________

(١) ـ كتاب المحتضر : ١٤٦ ، باختلاف يسير في بعض الألفاظ.

(٢) ـ بحار الأنوار : ٢٦ : ٣٥٠ ، ح ٢٤ ، عن المحتضر ، ولم أعثر عليه في كتاب المحتضر.

(٣) ـ كمال الدين : ١ : ٢٥٤ ، ضمن الحديث ٤.

٢٨٠