عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

فصل

ويخدم المولّد ملكان :

أحدهما : يجعل فضلة الهضم الأخير منيّا ، أو ما يجري مجراه من بيضة ، أو بذور ، وهو إمّا في كلّ البدن ، فتلك المادّة الّتي يفرزها متخالفة الحقيقة ، متشابهة الامتزاج ؛ لخروجه من جميع الأعضاء ، وتولّده عندها جميعا ، فيحصل من العظم مثلا مثله ، ومن اللحم مثله ، وهكذا.

وإما في موضع مخصوص من البدن ، كالأنثيين في الحيوان ، فتكون المادّة المفروزة متشابهة الحقيقة ، وإنما تختلف أجزاؤه باختلاف أوضاعها بالنسبة إلى الرحم ، أو ما يجري مجراه ، وغيره من الأسباب الخفية.

والملك الثاني : يهيّىء كلّ جزء من أجزاء تلك المادّة لقبول صورة مخصوصة من واهب الصور ، أما على تقدير تخالفها ، فبتمزيجها تمزيجات بحسب عضو عضو ، فيخصّ للعصب مزاجا ، وللعظم مزاجا ، وللشريان مزاجا ، وهكذا.

وأمّا على تقدير تشابهها ، فبأن يحيل كلّ جزء ويغيره إلى أن يجعل بعضها مستعدة للعصبية ، وبعضها للعظمية ، وبعضها للشريانية ، إلى غير ذلك ، باختلاف الأسباب المقتضية لذلك.

وهذا الملك إنّما يوجد في تلك المادّة المفروزة عند كونها في الرحم ، أو ما يجري مجراه خاصة.

وهذان الملكان ربما اجتمعا في شخص واحد ، كما في أكثر النباتات ،

١٢١

وربما افترقا في شخصين ، ذكر وأنثى ، كما في أكثر الحيوانات ، وإذا اجتمعا حصل التوليد ، ويسمى الأوّل عند الجمهور بالمغيّرة ، والثاني بالمصوّرة.

أما واهب الصور فهو الله سبحانه ، بتوسّط الحقيقة العقلية ، الّتي هي ربّ نوع النفس النباتية المخدومة لهذه الأملاك جميعا ، كما في سائر الأفاعيل.

قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١).

وقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٢).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في وصف ملك الأرحام : إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ، ثمّ يصوّرها جسدا ، فيقول : يا رب ، أذكر ، أم أنثى؟ أسويّ ، أم معوج؟ فيقول الله ما شاء ، ويخلق الملك (٣).

وفي لفظ آخر : ويصوّر الملك ، ثمّ ينفخ فيها الروح بالسعادة ، أو بالشقاوة (٤).

فصل

إن الأرض للنبات بمنزلة الرحم ، والبذر وما يقوم مقامه من الأصول إذا انفسدت بالرطوبة بمنزلة المني والبيضة ، فإذا نكح الجوّ الأرض ، وأنزل الماء ، ودبّرته في رحمها آثار الأنوار الفلكية ، ضحكت الأرض بالأزهار ، وأنبتت من

__________________

(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ٦.

(٢) ـ سورة الواقعة ، الآية ٥٨ و ٥٩.

(٣) ـ بحار الأنوار : ٥٧ : ٣٨٤ ، ح ١١٤ ، بهذا المضمون.

(٤) ـ ورد هذا الخبر في إحياء علوم الدين : ١٣ : ١٧٨ ، و ١٧٩.

١٢٢

كلّ زوج بهيج ، فمنه ما يولد في الربيع ، ومنه ما يولد في الصيف ، كما يكون حمل الحيوان مختلفا زمانه باختلاف طبيعته ، فإنه لا يقبل من تأثير الزمان فيه إلّا بقدر ما يعطيه مزاجه وطبعه.

وإن من النبات ما لا يتكون إلّا من البذر والثمر ، ومنه ما لا يتكون إلّا من الأصل ، ومنه ما يتكون منهما ، وربما يتكون من بذر واحد في بلاد مختلفة نباتات مختلفة.

وأوّل ما يتكوّن من النبات أوّليّة بالطبع طبقات ثلاثة يقوم جرمه بها ، منها اللب وما يتصل به ، ومنها العود ، كالخشب وما يشبهه ويناسبه ، ومنها الّلحاء وما يتمّه وينتهي إليه.

والغرض الطبيعي في النبات إمّا في عوده ، أو ساقه ، أو أصله ، أو ورقه ، أو قشره ، أو غصنه ، أو ثمره.

ولمّا لم يجد الجرم الصلب غذاء يتشبّه به دفعة بلا تدريج خلق في الأشجار الصلبة لب يشبه المخّ في العظام ، عناية من الله تعالى في حقها.

وأمّا الأشجار الضعيفة القوام ، المتخلخلة فهي بمعزل عن ذلك ؛ لعدم حاجتها إليه ، وما كان الغرض الطبيعي فيه أن يعظم حجمه ويطول قده في مدّة قصيرة امتنع أن يكون صلبا ؛ لأنّ الصلب يحتاج إلى مادّة عاصية ، وقوّة طابخة ، والتصرّف في مثلها يحتاج إلى مدّة طويلة ، فسبحان من أنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كلّ شيء ، فأخرج منه خضرا يخرج منه حبا متراكبا ، ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير

١٢٣

متشابه ، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (١) ، (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢).

__________________

(١) ـ اقتباس من الآية ٩٩ ، من سورة الأنعام.

(٢) ـ سورة الرعد ، الآية ٤.

١٢٤

في الحيوان

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) (١)

فصل

المركّب العنصري لما استوفى درجات النبات ، تخطّى خطوة أخرى إلى جانب القدس إن كان من أهل السلوك ، على صراط الله ، بأن كان ناقصا ضعيف الفعلية جدا ، كأنه يتضرّع في فكاك رقبته من النقصان ، كالأجنّة في بطون أمهاتها ، ممّا لها نفوس نباتية ، ولم تصر حيوانات بعد ، فإذا كان كذلك فيتقرّب إلى الله تعالى بالتوجّه إليه تقرّبا ما ، فيتقرّب الله سبحانه إليه ضعف تقرّبه ، كما هي سنّته تعالى ، فيفيد له بذلك بدل صورته الناقصة صورة كمالية حيوانية ، ذات نفس ملكوتية ، حسّاسة ، درّاكة ، متحرّكة بالإرادة ، فيصدر عنها ببساطتها كلّ ما يصدر من النبات ، ويزيد عليه بأفعال مختصّة بها ، فيوكّل الله تعالى بها ـ مع تلك الملائكة الّتي كانت له أولا ـ ملائكة أخرى أرفع درجة منهم ، بها يدرك ، ويتحرّك بالإرادة ، وهذا هو الحيوان.

__________________

(١) ـ سورة فاطر ، الآية ٢٨.

١٢٥

وصل

فإن كان كاملا في الحيوانية ، بأن يقوى أثر النفس فيه ، ومن شأنه أن يدخل في نشأة الملكوت ويصير حيّا بالذات ، مستقلا في تلك النشأة ، أفاض الله سبحانه عليه عشر حواسّ للإدراك ، خمسة لنشأته الظاهرة ، وخمسة لنشأته الباطنة ، فيصير ذا قدمين ، تكون له قدم في هذه النشأة ، وأخرى في تلك النشأة ، فيأخذ في تكميل النشأتين مبتدئا بالأولى الفانية ، حتّى يبلغ في تكميلها إلى حد ما يمكن له أن يجعلها آلة لتكميل الأخرى ، ثمّ يأخذ في تكميل الأخرى متوجّها إلى الله سبحانه ، وعالم الآخرة ، توجّها غريزيا ، وسلوكا ذاتيا ، كما أشير إليه في قوله تعالى ، مخاطبا لأشرف أنواعه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (١).

فتتكامل ذاته يوما فيوما بالتدريج ، باستعدادات يكتسبها من النشأة الأولى ، وأخلاق وهيئات ، إمّا في سعادة ، أو في شقاوة ، حتّى تستقل في النشأة الأخرى ، وتصير فيها بالفعل ، وتبطل عنه القوّة الاستعدادية ، فيمسك عن تحريك البدن ، ويرفض هذه النشأة الفانية ؛ استغناء عنها ، ويرتحل إلى الآخرة ارتحالا طبيعيا ، وهذا هو الموت الطبيعي للحيوان الكامل ، وهو بعينه ولادة وحياة في النشأة الأخرى ، ومبناه استقلال النفس بحياتها الذاتية ، وترك استعمالها الآلات البدنية على التدريج ، حتّى تنفرد بذاتها ، وتخلع البدن بالكلية ؛ لصيرورتها بالفعل ، وهذه الفعلية لا تنافي الشقاوة الأخروية ؛ إذ ربما تصير شيطانا بالفعل ، أو على شاكلة ما غلبت عليه صفاته الرديّة ، كذا حقّقه أستاذنا (٢) ـ سلّمه الله ـ.

__________________

(١) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٦.

(٢) ـ أنظر : الشواهد : ٨٨ و ٨٩ ، حكمة عرشية.

١٢٦

وصل

وإن كان ناقصا في الحيوانية ، بأن يضعف أثر النفس فيه ، ولم يكن من شأنه الدخول في الملكوت ، والصيرورة من أهله ، أفاض الله سبحانه عليه بعض الحواسّ دون بعض ، إمّا قوية ، أو ضعيفة ، على اختلاف مراتب الحيوانات ، أو كلها ، ولكن ضعيف الباطنية ، وخصوصا حسّ الخيال ، فيعيش في هذه النشأة مدّة ما ، حياة عرضية بقوّة الملكوت ، حيث إن ملائكتها وقواها من تلك النشأة ، ثمّ إذا مات فات ، كالنبات ؛ لعدم تعيّنه واستقلاله في تلك النشأة ، فلم يبق منه إلّا ربّ نوعه الّذي به حياته وقوامه ، وفني هو فيه ، وحشر إليه ، كما قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١).

فصل

إن الله سبحانه خلق الحيوانات أنواعا مختلفة ، وأصنافا شتى ، اختلافا لا يدخل تحت الحصر والضبط ، وربما يقال : إن عدد أنواعها ألف وأربعمائة ، ثمانمائة منها بحرية ، وستّمائة برّية.

وفي الكافي ، بإسناده عن ابن عباس ، قال : «سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الخلق ، فقال : خلق الله ألفا ومائتين في البر ، وألفا ومائتين في البحر ، وأجناس

__________________

(١) ـ سورة الأنعام ، الآية ٣٨.

١٢٧

بني آدم سبعون جنسا ، والناس ولد آدم ، ما خلا يأجوج ومأجوج» (١).

والبرّي يتنفّس ويتروّح للحرارة من الهواء ، والبحري إمّا مكانه وغذاؤه وتنشّقه في الماء، فينقل الماء إلى بطنه ، ثمّ يرده بدل النسيم ، فلا يعيش إذا فارقه ، وإما مكانه وغذاؤه في الماء ، ولكن يتنفّس من الهواء ، سواء كان معدنه في الماء ، ولا يبرز ، أو كان له أن يبرز ، كالسلحفاة ، وإما مكانه وغذاؤه في الماء ولا يتنشّق أصلا ، كأصناف من الصدف.

والمتنفّس ما يتنفّس من طريق واحد ، كالفم والخيشوم ، أو من مسامه ، مثل الزنبور والنحل.

ومن الحيوان ما يحتاج إلى طعم معيّن ، كالنحل ، فإنّ غذاءه زهري ، والعنكبوت ، فإنّ غذاءه ذباب.

ومنه منتن الطعم ، ومنه ما يحتاج إلى مأوى معيّن ، ومنه ما يأوي كيف اتّفق ، إلّا أن يلد فيقيم للحضانة ، ومنه ما هو إنس بالطبع ، كالإنسان ، أو بالمولد ، كالهرة والفرس ، أو بالقسر ، كالفهد ، ومنه ما لا يأنس ، كالنمر ، ومنه ما لا يمكنه أن يعيش وحده ، كالإنسان ، والنحل ، والنمل ، إلّا أن النحل يطيع رئيسا واحدا ، والنمل له اجتماع ، ولا رئيس له.

ومنه ما يحتاج إلى رجل للمشي ، إمّا اثنتين ، أو أربع ، أو ثمانية ، أو أكثر ، ولا بدّ أن تكون زوجا لتعادل الحمل والثقل ، ومنه ما لا يحتاج إلى ذلك ، بل يمشي ببطنه ، قال الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما

__________________

(١) ـ الكافي : ٨ : ٢٢٠ ، ح ٢٧٤.

١٢٨

يَشاءُ) (١).

ومنه ما يحتاج إلى أجنحة اثنتين ، أو أربع ، يطير بهما ، بصفيف ، أو دفيف ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (٢).

وقال : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣).

والمنتقل في الماء منه ما يعتمد في غوصه على رأسه ، وفي السباحة على أجنحته ، كالسمك ، أو يعتمد في السباحة على أرجله ، كالضفدع ، ومنه ما يمشي في قعر الماء ، كالسرطان ، ومنه ما يزحف ، كضرب من السمك لا جناح له.

ومن الحيوان مصوّت ، وغير مصوّت ، وكلّ مصوّت فإنه عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتا ، إلّا الإنسان ، ومنه ما هو شبق كالديك ، ومنه عقيف ، له وقت معيّن يهيج فيه ، ومنه ما تناسله بأن تلد أنثاه حيوانا مثله ، ومنه ما تناسله بأن تبيض أنثاه بيضا ، ومنه ما يبيض في بطنه ، ثمّ يصير بعد ذلك دودا ، مثل البحري المعروف ب «سلاسي» ، وربما كان بيضا ، وصار قبل أن يباض حيوانا ، كأكثر الأفاعي ، إلى غير ذلك من الاختلافات الكثيرة.

فأعدّ الله سبحانه بلطيف صنعه وبلاغ حكمته لكلّ منها آلات وقوى لخاصّ أفاعيلها وحاجاتها ، يناسبها ، فاختلفت الحيوانات بحسب الأعضاء والأدوات وأوضاعها وأحوالها وقواها ومشاعرها ومداركها ، لحكم ومصالح

__________________

(١) ـ سورة النور ، الآية ٤٥.

(٢) ـ سورة الملك ، الآية ١٩.

(٣) ـ سورة النحل ، الآية ٧٩.

١٢٩

مختصة بها.

وكلّ حيوان شحيم ذي ثرب ، فدماغه دسم ، وما لا شحم له فلا دسومة لدماغه ، وذو الأذن ولود غالبا ، وما ليس له أذن ظاهر يتكوّن من الأبيضة.

ومن الحيوان ما لا يغتذي مدّة ، ويكون مع ذلك في غاية السمن والقوّة ، كالدب في الشتاء ، والقنفذ ، ومنه ما يغتذي من الحيوان فقط ، أو من النبات فقط ، أو منهما.

ومن الطير آكل لحم ، ولا قط حبّ ، وآكل عشب.

وكلّ طائر جناحه ذو ريش ، فهو ذو دم ، وما جناحه جلد أو صفاق فقد يكون له دم ، كالخفّاش ، وقد لا يكون ، كالنحل ، وما له جناح صفاقي ولا دم له ، فمنه ما له جناحان ، ومنه ما له أربعة أجنحة ، ومنه ما له إبرة يلسع بها.

وذو الجناحين منه صغير ، ومنه ما يلسع بخرطومه ، كالبعوض والذباب ، وربما كان للجناح الصفاقي غلاف ، كما للجعلان.

والعديم الدم أصغر من ذي الدم ، ما خلا أصناف الحيوان البحري.

فصل

وكما أنها مختلفة في الأعضاء والآلات البدنية ، فكذلك مختلفة في الأخلاق والهيئات النفسانية ، فمنها هاد بالطبع ، قليل الغضب ، والخرق ، كالنقرة ، وشديد الجهل والغضب ، كالخنزير البرّي ، وحليم جزوع كالبعير ، ورديء الحركات يغتال ، كالحية ، وجري قوي شهيم، ومع ذلك كبير النفس ، كريم ، كالأسد ، وقوي يغتال وحشي ، كالذئب ، ومختال مكّار رديء الحركات ،

١٣٠

كالثعلب ، وغضوب شديد الغضب ، سفيه إلّا أنه ملق متودّد ، كالكلب ، وشديد الكيس مستأنس ، كالفيل والقرد ، وذو حياء وحفاظ ، كالأوز ، وحسود منافر ، مباه بجماله ، كالطاووس ، وشديد الحفظ ، كالجمل والحمار ، إلى غير ذلك من الصفات والأخلاق.

ولكلّ منها هاد ، وملهم ، يهديه إلى خصائص أفاعيله ، وأخلاقه ، من الملائكة الموكّلة بها ، بإذن الله ، والله سبحانه وراء الكلّ هو الّذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.

وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ابتدعهم خلقا عجيبا ، من حيوان ، وموات ، وساكن ، وذي حركات ، وأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته ، وعظيم قدرته ما انقادت له العقول ، معترفة به ، ومسلّمة له ، ونعقت في أسماعنا دلائله ، على وحدانيته ، وما ذرأ من مختلف صور الأطيار الّتي أسكنها أخاديد الأرض ، وخروق فجاجها ، ورواسي أعلامها ، من ذات أجنحة مختلفة ، وهيئات متباينة ، مصرفة في زمام التسخير ، مرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح ، والفضاء المنفرج ، كوّنها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة ، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة ، ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في الهواء خفوقا ، وجعله يذف دفيفا ، ونسقها على اختلافها في الأصابيع بلطيف قدرته ، ودقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، ومنها مغموس في لون صبغ قد طوّق بخلاف ما صبغ به ، ومن أعجبها خلقا الطاووس الّذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد». الحديث في نهج البلاغة (١).

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : ٢٣٥ ، خطبة رقم «١٦٥».

١٣١

فصل

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة له ، يصف فيها عجيب خلق أصناف الحيوان : «ولو فكّروا في عظيم القدرة ، وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة ، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر.

أنظروا إلى النملة في صغر جثّتها ، ولطافة تركيبها (١) ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها ، وصبّت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى جحرها ، وتعدّها في مستقرّها ، تجمع في حرّها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، مكفول برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس ، والحجر الجامس ، ولو فكّرت في مجاري أكلها ، في علوها ، وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها ، وأذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ، فتعالى الله الّذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة ؛ لدقيق تفصيل كلّ شيء ، وغامض اختلاف كلّ شيء ، وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء. وكذلك السماء والهواء والرياح والماء.

__________________

(١) ـ في المصدر : هيأتها.

١٣٢

فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات ، فالويل لمن جحد المقدّر ، وأنكر المدبّر (١) ، زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجأوا إلى حجّة فيها ادّعوا ، ولا تحقيق لما وعوا (٢) ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان.

وإن شئت قلت في الجرادة ؛ إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفي ، وفتح لها الفم السوي ، وجعل لها الحسّ القوي ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزّرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم حتّى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة ، فتبارك الله الّذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، ويعفّر له خدّا ووجها ، ويلقي بالطاعة إليه سلما ، وضعفا ، ويعطي له القياد رهبة وخوفا.

فالطير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الريش منها ، والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، قدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام ، دعا كلّ طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السحاب الثقال ، فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها ، فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها» (٣).

__________________

(١) ـ في المصدر : أنكر المقدّر ، وجحد المدبّر.

(٢) ـ في المصدر : أوعوا.

(٣) ـ نهج البلاغة : ٢٧٠ ، من الخطبة «١٨٥» في صفة خلق أصناف الحيوان.

١٣٣

فصل

ومن لطف الله سبحانه أن خلق هذه الحيوانات كلّها ، من عفونات الأرض ، ليصفو الهواء من تلك العفونات الّتي لو خالطت الهواء الّذي أودع الله فيه حياة الإنسان ، وعافيته ، لكان سقيما ، مريضا ، معلولا ، فصفّى له الجوّ بتكوين هذه المعفّنات حيوانا ؛ لطفا منه ، لتقل الأسقام والعلل ، وله الحمد.

فصل

ومن عناية الله سبحانه أن جعل في جبلّة الحيوانات الآلام والأوجاع ، والجوع والعطش ، حثّا لنفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها ؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جرّ منفعة ، ودفع مضرّة ، فلو لا ذلك لتهاونت النفوس بالأجساد ، وأسلمتها إلى المهالك ، قبل فناء أعمارها ، وتقارب آجالها ، ولما علم أنه لا يدوم بقاؤها أبد الآبدين جعل لكلّ منها عمرا طبيعيا أكثر ما يمكن ، ثمّ يجيئه الموت الطبيعي ، شاء أم أبى ، وقد علم الله أنه يموت كلّ يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل ، عدد لا يحصيه إلّا هو ، فجعل بواجب حكمته جثث جيف موتاها غذاء لأحيائها ، ومادّة لبقائها ؛ لئلّا يضيع شيء ممّا خلق بلا نفع ، وفائدة ، فكان في هذا منفعة للأحياء ، ولم يكن فيه ضرر على الموتى ، وهذا أحد وجوه الحكمة في أكل بعض الحيوانات بعضا.

ومن جملة تلك الوجوه أنه لو لم تكن الأحياء تأكل جثث الموتى لبقيت تلك الجثث ، واجتمع منها على ممرّ الأيام والدهور ، حتّى كان يمتلىء بها وجه

١٣٤

الأرض ، وقعر البحار ، وتفسد المياه ، وريحها ، فتصير تلك سببا وهلاكا للأحياء ، فالغرض الأصلي من ذلك إنّما هو جلب المنفعة ، ودفع المضرّة ، وإن كان ينال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل والقبض ، فإنّ ذلك إنّما هو بالعرض.

ولنقتصر في هذا النمط من الكلام على ذلك ، فإنه بحر لا ساحل له ؛ إذ بدائع حكم الله سبحانه وعناياته في خلقه أكثر من أن تصل إلى صفته عمايق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ، ولنشتغل بالبحث عن شيء ممّا دبّر الله سبحانه بلطيف حكمته ، ودقيق صنعه في بدن الحيوان الكامل خاصة ، الّذي يبقى بعد خراب البدن ، سيّما أشرف أنواعه ، الّذي هو الإنسان ، وليقس عليه سائر الأنواع.

فصل

لما كانت النفس الحيوانية من عالم الملكوت ، وهي نشأة لطيفة نورانية ، وبدنها من عالم الملك ، وهي نشأة كثيفة ظلمانية ، والشيء إنّما يتصرّف في ما بينه وبينه مناسبة ، فلا بدّ من متوسّط له مناسبة ما مع كلّ من الطرفين ، ليتمكّن من التصرّف فيه ، بل لا بدّ وأن يكون فيما بين ألطف لطيفه وأكثف كثيفه وسائط متناسبة ، منضودة بعضها بالبعض ، كما في طبقات الأجرام الكلية الفلكية ، والعنصرية ؛ إذ الموجودات مترتبة في اللطافة والكثافة فيما يتّصف بهما ، كما أنها مترتبة في الشرف والخسّة ، كما دلّت عليه قاعدة الإمكان الأشرف.

فخلق الله سبحانه بلطيف صنعه جرما ، حارّا ، لطيفا ، نورانيا ، شفّافا ، يسمى ب «الروح البخاري» ، وجعله مركبا للنفس وقواها ، وكرسيّا لملائكتها ، حيّا بحياتها ، باقيا بتعلّقها به ، فانيا برحلتها عنه ، لا كسائر الأجرام الّتي تزول عنها

١٣٥

الحياة ، وهي باقية ، وبه حياة البدن من الواهب بواسطة النفس ، فكلّ موضع منه يفيض عليه من سلطان نوره يحيى ، وإلّا فيموت.

واعتبر بالسدد ، فلو لا أن قوّة الحس والحركة قائمة بهذا الجسم اللطيف لما كانت السدد تمنعهما ، وقد يخدر العضو بالسدة بحيث لا يتألّم بجرح ، وضرب ، وربما تنقطع الروح فتبطل الحياة منه ، ولو لا أنه شديد اللطافة لما نفذ في شباك العصب ، ومن أخذ بعض عروقه يحسّ بجري جسم لطيف حارّ فيه ، وتراجعه عنه ، وهذا هو الروح ، ومنبعه القلب الصنوبري ، ومنه تتوزّع على الأعضاء العالية والسافلة من البدن ، فما يصعد إلى معدن الدماغ على أيدي خوادم الشرايين معتدلا بتبريده ، فائضا إلى الأعضاء المدركة والمتحركة ، منبثّا في جميع البدن ، يسمى روحا نفسانيا ، وما يسفل منه إلى الكبد بأيدي سفراء الأوردة الّذي هو مبدأ القوى النباتية منبثّا في أعمال البدن ، يسمى روحا طبيعيا.

فصل

وهذا الروح إنّما يحدث من لطائف الأمشاج الأربعة ، الّتي هي : الدم ، والبلغم ، والصفراء ، والسوداء ، كما أن الأعضاء حادثة عن كثافتها على نسبة محدودة مزاجية.

والأمشاج هي أوّل ما يحدث من الغذاء ؛ وذلك لأنّ الغذاء له انهضام ما بالمضغ ؛ لاتصال سطح الفم بسطح المعدة ، بل كأنهما سطح واحد ، وفيه منه قوّة هاضمة ؛ ولهذا لا يوجد في الممضوغ الطعم الأوّل ، ولا الرائحة الأولى.

ثم إذا ورد على المعدة انهضم الانهضام التام بحرارة المعدة ، وبحرارات

١٣٦

تطيف بها ، فصار بذاته في كثير من الحيوان ، وبمعونة ما يخالطه من المشروب في أكثرها ، كيلوسا ، وهو جوهر سيّال شبيه بماء الكشك الثخين.

ثمّ إنه بعد ذلك ينجذب لطيفه من المعدة ، ومن الأمعاء ـ أيضا ـ فيندفع في طريق العروق المتصلة بالأمعاء المسمّاة ماساريقا ، إلى العرق المسمى باب الكبد ، وينفذ في الكبد في أجزاء وفروع للباب داخلة في الكبد ، متصغّرة متضائلة ، فإذا تفرّق في ليف هذه العروق صار كأنّ الكبد بكليتها ملاقية لكلية هذا الكيلوس ، وكان لذلك فعلها فيه أشدّ وأسرع ، وكأنّ الكبد يمتصّه من المعدة والأمعاء ، ويجذبه إلى نفسه ، فحينئذ ينطبخ ، ويستفيد من الكبد الحرارة والحمرة ؛ لرقّة صفاقات تلك الشعب ، وفي كلّ انطباخ لمثله شيء كالرغوة والطفاوة ، وشيء كالدردي والعكر ، وشيء يميل إلى الفجاجة ، كبياض البيض ، فالرغوة هي الصفراء ، والرسوب هو السوداء ، والفج هو البلغم ، والمتصفّى من هذه الجملة نضيجا هو الدم ، وهو الغذاء الحقيقي للبدن.

فصل

إذا تمّت استحالة الكيلوس إلى الدم تميّزت المائية ، وتنجذب من الجانب المحدّب في عرق نازل إلى الكليتين ، وتحمل مع نفسها من الدم ما يكون بكميّته ، وكيفيته ، صالحا لغذاء الكليتين ، فتغذو الكليتين الدسومة والدموية من تلك المائية ، ويندفع باقيها إلى المثانة، وإلى الإحليل ، وتندفع الرغوة الصفراوية إلى المرارة من الجانب المقعّر في منفذ لها فوق الباب، يتصل أحد طرفي المنفذ بالمرارة ، والآخر بالكبد ، فتقذفها المرارة من منفذ آخر إلى الأمعاء ، فتحثّ بحدّتها الأمعاء على دفع الأثفال والفضول ، فيكون سببا للنقاء من الثفل ، ثمّ

١٣٧

تخرج ـ أيضا ـ مع خروج الثفل وبلوغها الأمعاء وعضل المقعدة فيحسّ بالحاجة ، وينهض للتبرّز.

ويتوجّه الرسوب السوداوي إلى الطحال من الجانب المقعّر ـ أيضا ـ في منفذ آخر ، فيحيلها الطحال حتّى يكتسب قبضا وحموضة ، ثمّ يرسل منها في كلّ يوم شيئا إلى فم المعدة، فينبّه بالجوع ، فيحرّك الشهوة بحموضته ، وقبضه ، ثمّ يخرج ـ أيضا ـ مع خروج الثفل ويتوجّه الدم الصافي إلى الأعضاء ، ويتوزّع عليها في شعب العرق الأجوف العظيم النابت من حدبة الكبد ، فيسلك في الأوردة المنشعبة منه ، ثمّ في جداول ، ثمّ في سواقي الجداول ، ثمّ في رواضع السواقي ، ثمّ في العروق الليفية الشعرية ، ثمّ ترشح في فوّهاتها في الأعضاء بتقدير العزيز الحكيم.

وأمّا البلغم فلعدم استحكام انهضامه وتولده من الهضم الأوّل ، لم تحدث له الطبيعة وعاء تقبله ، فما صار منه إلى الكبد مع عصارة الطعام والشراب ، انهضم في الكبد ، وجداولها ، واستحال وصار دما ، وما بقي منه في الأمعاء ولم ينحدر منها إلى الكبد ، اندفع من الأمعاء ، وانغسل بالمرّة الصفراء المنقّية للأمعاء الغاسلة لها بحدّتها وحرافتها ، ومنه ما لا يخرج من البدن لحاجة البدن إليه ؛ لأنّه يغذوه كالدم ، ولافتقاره إليه لحركة المفاصل ، وترطيب الأمعاء.

وكلّ خلط يخرج من الفم بالقيء أو البصاق ، أو ينحدر من الرأس ويخرج من الفم بالتنخّع ، ولا طعم له في طبيعته ، يسمى بلغما.

١٣٨

وصل

ثم إنّ للدم وما يجري معه من الأخلاط في العروق هضما ثالثا ، وإذا توزّع على الأعضاء فيصيب كلّ عضو عنده هضم رابع.

فمراتب الهضم في الحيوانات الكاملة ـ بالنظر إلى أعضاء الغذاء والعضو المغتذي ، وإلى ظهور التغيّرات في الغاية ـ أربع ، وإن كان الغذاء من مبدأ المضغ إلى حين أن يصير جزء من العضو يعرض له في كلّ آن تغيّر واستحالة ، من غير أن يكون ذلك محصورا في عدد ، وينفصل في كلّ مرتبة من هذه المراتب الأربع فضلة ؛ لأنّ الهاضمة لا يمكنها إحالة جميع ما يرد إليها من الغذاء ، إمّا لكثرته ، وإما لأنّ من أجزائه ما لا يصلح أن يصير جزء من المغتذي.

فالفضلة الأولى للهضم الأوّل الّذي يكون في المعدة ، وهي البراز ، ويندفع في طريق الأمعاء ، والثانية للثاني الّذي يكون في الكبد ، ويندفع أكثرها بالبول ، والباقي من طريق الطحال والمرارة ، والثالثة للثالث الّذي يكون في العروق ، والرابعة للرابع الّذي يكون في الأعضاء ، واندفاعها قد يكون طبيعيا ، وقد يكون غير طبيعي ، والثاني قد يكون باقيا على حاله ، من غير تصرّف للهضم الثالث فيه ، كدم البواسير ، والدم الفاسد الخارج بالرعاف ، وغيره ، وقد يستحيل استحالة غير تامة ، كالصديد والقيح ، أو تامة إمّا إلى حالة تصلح للتغذية ، كالثفل النضيج الخارج في البول في حالة الصحة ، ممّا فات القوّة الغاذية ، أو لا ، كالمرّة الخارجة من الأورام المنفجرة ، والأوّل وهو ما يكون اندفاعه طبيعيا قد يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى ، وقد لا يجمع ، والأوّل إمّا أن تكون تلك المنفعة توليد جسم متصل بالبدن من جنس الأعضاء ، وهو مادّة الظفر ، أو لا ، وهو مادّة الشعر ،

١٣٩

أو غير متّصل ، وهو مادّة الولد ، أعني المني ، أو يكون غير توليد جسم آخر.

وحينئذ فتلك المنفعة قد تتعلّق بالمني ، كالوذي الحافظ لرطوبة المني المسهّل لخروجه ، وقد تتعلّق بالجنين حال تكوّنه ، كالطمث لو حال خروجه ، كالرطوبات الكائنة حالة الولادة، أو بعد ذلك ، كاللبن ، وقد لا تتعلّق بهما ؛ وذلك إمّا لدفع ضرر شيء يخرج من البدن ، كالودي الكاسر بلعابيته لحدّة البول ، أو يدخل فيه ، كوسخ الأذن القاتل بمرارته لما يدخل فيها من الذباب ونحوه ، وإما لا لدفع ضرر شيء ، كاللعاب المعين على التكلم بترطيبه اللسان.

والثاني وهو ما لا يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى ، إمّا أن يتكوّن عنه جسم آخر منفصل ، كمادّة القمل ، أو غير منفصل ، كمادّة الحصاة ، وإما أن لا يتكوّن ، وهو إمّا أن لا يكون محسوسا البتّة ، كالبخار المتحلل ، أو يكون محسوسا أحيانا ، كوسخ البدن الكائن من فعل غذائه ، فإنه لا يحسّ به إلّا إذا جمع ، أو دائما ، واندفاعه إمّا من منفذ محسوس ، كالمخاط ، أو غير محسوس ، كالعرق.

والأعضاء القوية تدفع فضولها إلى جاراتها الضعيفة ، كدفع القلب إلى الإبطين ، والدماغ إلى ما خلف الأذنين ، والكبد إلى الأريتين ، كذا أفاد بعض الفضلاء.

فلنشرح أعضاء الحيوان الكامل أولا تشريحا يناسب وضع الكتاب ، مع ذكر منافعها على ما استفدناه من علماء هذا الفن ، مع زوائد ذوات فوائد ، ثمّ نذكر الملائكة الموكّلين به ؛ توسيعا لساحة ميدان التفكّر في عظمة الله ، وبالله التوفيق.

١٤٠