عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

نَسَباً) (١). والشياطين في قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) (٢).

فهي أجسام لطيفة ، حيّة ، ذوات نفوس قوية ، غالبة على أجسادها ، قادرة على التمدّد والانقباض ، وعلى تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ، بعضها ممّا يوجب لها سهولة النفوذ في المنافذ ، وعلى الأعمال الشاقّة ، قال الله عزوجل ، في قصّة سليمان ، على نبيّناوعليه‌السلام : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (٣) ، إلى أن قال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٤).

ولعل الوجه في ظهور صورها في بعض الأوقات دون بعض ، أنّ أبدانها لطيفة ، مقتصدة في اللطافة ، قابلة للتخلخل والتكاثف ، فإذا صارت متكاثفة غلظ قوامها ، فرؤيت ، وإذا صارت متخلخلة دقّ قوامها ولطف جسمها ، فغابت عن الأبصار ، كالهواء إذا صار غيما بالتكاثف رؤي ، وإذا عاد إلى لطافته لم ير ، فإنّ الغيم ربّما يكون بتكاثف الهواء نفسه من دون مدد من بخار البحار ، كما مضى ذكره.

ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا ، وإدراكاتنا الوهمية ، وأوائل العقليات.

قال الله جل جلاله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا

__________________

(١) ـ سورة الصافات ، الآية ١٥٨.

(٢) ـ سورة الكهف ، الآية ٥٠.

(٣) ـ سورة سبأ ، الآية ١٢.

(٤) ـ سورة سبأ ، الآية ١٣.

٣٦١

حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (١) ، فمنهم مؤمن صالح ، ومنهم كافر مارد ، قال الله تعالى ، حكاية عنهم : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) (٢) ، وقال سبحانه أيضا عنهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) ـ إلى قوله : ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) (٣).

قال مولانا الصادق عليه‌السلام : «الجن على ثلاثة أجزاء : فجزء مع الملائكة ، وجزء يطيرون في الهواء ، وجزء كلاب وحيّات» (٤).

فصل

قيل : لما كان لنفوسها ضرب من الفعلية والكمال في أوّل الفطرة ؛ لغلبة النارية على أبدانها ، فليس لها إمكان الترقّي إلى الكمالات العقلية ، كما للإنسان الذي خلق ضعيفا تهيّأ لذلك ، وفعلية صورها تضاد لفعلية صور الأنوار السماوية ، ولهذا صارت مزجورة عنها ، مرجومة من ملائكتها ، كلّما دنت وقربت إليها لاستراق السمع صارت مدحورة مرجومة من معدن النور والرحمة ، كما قال سبحانه : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٥) ، وهو من الأنوار الملكية ، أو الفلكية المضادّة لها نفسا وبدنا.

__________________

(١) ـ سورة الأحقاف ، الآية ٢٩.

(٢) ـ سورة الجن ، الآية ١٤.

(٣) ـ سورة الجن ، الآية ١ ـ ٤.

(٤) ـ الخصال : ١ : ١٥٤ ، ح ١٩٢.

(٥) ـ سورة الجن ، الآية ٩.

٣٦٢

وقال عزوجل : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١).

وروي أنّ الشياطين كانت تصعد إلى السماء ، ثمّ تجاوز سماء الدنيا إلى غيرها ، فلما ولد عيسى عليه‌السلام منعوا من مجاوزة سماء الدنيا ، وصاروا يسترقون منها السمع ، فيستمع الجني الكلمة يتكلم بها الملك من أمر الله ، فيلقيها لوليه من الإنس ، فيخلط فيها الكذب ، حتّى ولد نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنعوا من التردد إلى السماء ، إلّا قليلا ، حتّى بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فمنعوا أصلا.

قال تعالى ، حكاية عنهم : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٢) الآيات.

وفي الاحتجاج عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، في حديث يذكر فيه أخبار الكاهن ، قال: «وأمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك وهي لا تحجب ، ولا ترجم بالنجوم ، وإنما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء ، فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة، ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه ، فيختطفها ، ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر ـ ممّا كان يخبر به ـ فهو ما أدّاه إليه شيطانه ممّا سمعه ، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين عن

__________________

(١) ـ سورة الصافات ، الآية ٨ ـ ١٠.

(٢) ـ سورة الجن ، الآية ٨ و ٩.

٣٦٣

استراق السمع انقطعت الكهانة» (١).

فصل

لا تستبعدنّ حصول الحياة في النار ، فإنّك قد دريت أن المتعلّق للنفس أولاهما القلب والروح ، وهما في غاية السخونة ، بل الحق أنّ الحياة لا تحصل إلّا بسبب الحرارة الغريزية.

ومن هنا قد يقال : إن كرة النار مملوءة من الروحانيات.

ولا تستنكرنّ أيضا أن تشتعل الأجرام الدخانية ـ الجنّية والشيطانية ـ بأشعّة الكواكب ، فتحترق وتهلك ، أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي ، فإنّها ليست بخارجة عن حدّ الجواز والإمكان ، وقد نطق بها القرآن الصادع به سيّد الإنس والجان ، صلوات الله عليه وآله.

فصل

للجنّ غذاء ، وتوالد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العظم : «إنه زاد إخوانكم من الجنّ»(٢).

وفي التهذيب عن الصادق عليه‌السلام ، أنه سئل عن الاستنجاء بالعظم والروث والعود ، فقال : «أمّا العظم والروث فطعام الجن ، وذلك مما اشترطوا على رسول

__________________

(١) ـ الاحتجاج : ٢ : ٣٣٦ ، ضمن مسائل الزنديق للإمام الصادق عليه‌السلام.

(٢) ـ سنن الترمذي : ١ : ١٥ ، ح ١٨.

٣٦٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : لا يصلح بشيء من ذلك» (١).

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه : إنّ وفد الجان جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : يا رسول الله ، متعنا ، فأعطاهم الروث والعظم (٢). قيل : إنهم يغتذون بريحها.

قال صاحب الفتوحات : لما غلب على الجان عنصر الهواء والنار ، لذلك كان غذاؤهم ما يحمله الهواء ممّا في العظام من الدسم ، فإنّ الله جاعل لهم فيها رزقا (٣).

قال : وأخبرني بعض المكاشفين أنه رآهم يجيؤون إلى العظام حتّى يقربوا منها ، كما تقرب النحلة من الزهرة ، ثمّ ترجع ، وقد أخذت رزقها وغذاءها ، في ذلك القدر ، فسبحان اللطيف الخبير.

قال : وكما وقع التناسل في البشر ، بإلقاء الماء في الرحم ، كذلك وقع في الجان ، بإلقاء الهواء في رحم الأنثى منهم.

وأمّا اجتماع بعضهم ببعض عند النكاح فالتواء ، مثل ما تبصر الدخان الخارج من الأتون (٤) ، أو من فرن الفخار ، يدخل بعضه في بعض ، فليتذّ كلّ واحد من الشخصين بذلك التداخل ، ويكون ما يلقونه كلقاح النخلة ، بمجرّد الرائحة كغذائهم سواء (٥).

__________________

(١) ـ التهذيب : ١ : ٣٥٤ ، ح ١٦.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ١ : ٣٠.

(٣) ـ الفتوحات المكية : ١ : ١٣٢.

(٤) ـ الأتّون ـ بالتشديد ـ : الموقد. (لسان العرب : ١٣ : ٧ ، مادّة أتن).

(٥) ـ أنظر : المصدر السابق.

٣٦٥

فصل

وأمّا الشياطين فليس فيهم نتاج ، إنّما تبيض وتفرخ ، وأولادهم ذكور ، ليس فيهم أناث ، كذا في الخصال عن الصادق عليه‌السلام (١).

وفي تفسير علي بن إبراهيم : أن الشياطين من ولد إبليس ، وليس فيهم مؤمنون إلّا واحد اسمه هام بن حيم بن لاقيس بن إبليس ، ثمّ ذكر قصّته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

ويشبه أن يكون توالدهم معنويا تابعا لتوالد بني آدم ، كما أشير إليه بقوله سبحانه في حكاية جرت لآدم وإبليس خطابا للّعين : لا يولد له ولد إلّا ولد لك ولد (٣).

وفي القرآن المجيد : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (٤). فذرّيته هي أولاده المعنوية.

قال في الفتوحات : إن شيطان الإنس ، أو الجن ، إذا ألقى في قلب العبد أمرا ما يبعده عن الله به ، فقد يلقي أمرا خاصا ، وهو خصوص مسألة بعينها ، وقد يلقي أمرا عاما ، فتح له في ذلك طريقا إلى أمور لا يفطن لها الشيطان الجنّي ، ولا الإنسي ، تتفقه فيه النفس ، وتستنبط من تلك الشبه أمورا إذا تكلّم بها تعلّم منه

__________________

(١) ـ الخصال : ١ : ١٥٢ ، ح ١٨٦.

(٢) ـ تفسير القمّي : ١ : ٣٧٥.

(٣) ـ تفسير العياشي : ١ : ٢٧٦ ، ح ٢٧٧ ، وفيه : «ولدان» بدل «ولد».

(٤) ـ سورة الكهف ، الآية ٥٠.

٣٦٦

إبليس الغواية ، فتلك الوجوه الّتي تنفتح له في ذلك الأسلوب العام الّذي ألقاه إليه أوّلا شيطان الإنس ، أو الجنّ ، تسمى شياطين معنوية ؛ لأنّ كلّ واحد من شياطين الإنس والجن يجهلون ذلك ، وما قصدوه على التعيين ، وإنما أرادوا بالقصد الأوّل فتح هذا الباب عليه ، فإنهم علموا أن في قوّته وفطنته أن يدقّق النظر فيه ، فينقدح له من المعاني المهلكة لا يقدر على ردّها بعد ذلك ، وسببه ذلك الأصل الأوّل ، فإنّه اتّخذه أصلا صحيحا ، ودلّ عليه ، فلا يزال التفقه فيه يسرقه حتّى خرج به عن ذلك الأصل.

وعلى هذا جرى أهل البدع والأهواء ، فإنّ الشياطين ألقت إليهم أصلا صحيحا ، يشكون فيه ، ثمّ طرأت عليهم التلبيسات من عدم الفهم ، حتّى ضلّوا ، فينسب ذلك إلى الشيطان بحكم الأصل ، ولو علموا ذلك علموا أنّ الشيطان ـ في تلك المسائل ـ تلميذ لهم، يتعلّم منهم (١).

فصل

لما كان لكلّ ما له وجود في عالم الحسّ ، كذلك له وجود في عالم الغيب والتمثّل ، فالجنّة والشياطين كما أن لهما وجودا في هذا العالم ـ عالم الحس ـ كذلك لهما وجود في ذلك العالم ، وكأنه إليه أشير في حديث مولانا الصادق عليه‌السلام : «فجزء مع الملائكة» (٢).

ولهما في ذلك العالم صور مختلفة ، حسب اختلاف الصفات النفسانية

__________________

(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ١ : ٢٨١ و ٢٨٢.

(٢) ـ الخصال : ١ : ١٥٤ ، ح ١٩٢.

٣٦٧

وأغراضها ، كما مرّت الإشارة إليه في الغرائب الإنسانية.

وربما يتمثّلان لأهل هذا العلم ببعض صورهما ، ويلتبس على الرائي بالصور الحسية الظاهرة ، كما يتمثّلان بصورهما الموجودة في هذا العالم ، وقد ذكرنا فيما سلف بيان هذا الالتباس.

وأكثر ما يكون هذا في المواضع المظلمة ، والغارات ، والحمّامات الخالية ، والبوادي القفرة ، حيث يكون اشتغال النفس بالحواسّ الظاهرة قليلا ، وسلطنة الخيال قوية ، ولا سيّما النفوس الناقصة الواهنة الكاهنة.

ويشبه أن يكون تمثّلها لأمثال هذه النفوس ، كتمثّل الملائكة للنفوس الكاملة ، ووجودهما في عالم الغيب على أصناف ، خلقت ثمّة على سبيل الإبداع ، وصنف انتقلت إليه من هذا العالم بعد قطع تعلّقها عن الأبدان الطبيعية الجنّية ، أو الإنسية ؛ وذلك لأنّ الناقصة من النفوس الإنسانية تلتحق هناك بالجنّ ، والشريرة منها تلتحق بالشياطين ، كما أن الكاملة منها تلتحق بالملائكة.

يرشد إلى ذلك قول الله عزوجل : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) (١).

قال بعض الحكماء : إن النفوس المتجسدة الخيرة ملائكة بالقوة ، فإذا خرجت قوّتها إلى الفعل ، وفارقت أجسادها ، صارت ملائكة بالفعل ، وكذلك النفوس المتجسّدة الشريرة هي شياطين بالقوة ، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل.

فهذه النفوس الشيطانية توسوس أهل الشيطنة بالقوّة لتخرجها من القوّة

__________________

(١) ـ سورة الأنعام ، الآية ١٢٨.

٣٦٨

إلى الفعل ، كما قال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (١).

أو شياطين الإنس هي النفوس المتجسّدة الشريرة ، آنست بالأجساد ، وشياطين الجن هي النفوس الشريرة المفارقة للأجساد المستحجبة عن الأبصار.

ومثل وسوسة هذه النفوس المفارقة لهذه النفوس المتجسّدة كمثل من قويت شهوته للطعام والشراب ، وضعفت حرارته الهاضمة عن نضجها ، فهو يشتهي ولا يستمرىء ، فعند ذلك تكون همّته أن يرى الطعام والشراب ، والآكلين لهما ، لينظر إليهم فيستروح من ألم شهواته الممنوع عنها ؛ لضعف الآلة ، وبطلان فعل القوّة ، فهكذا حكم تلك النفوس المفارقة ، كما أشير إليه بقوله تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٢).

فصل

ولما كانت الجنسيّة علة الضمّ ، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضمّ إليها الأرواح الطاهرة النورانية من النفوس الكاملة المفارقة للأبدان الواقعين في عالم الملكوت مع الملائكة المبتدعة هنالك ، فيعينونها على أعمالها الّتي هي من باب الخيرات والمبرات.

__________________

(١) ـ سورة الأنعام ، الآية ١١٢.

(٢) ـ سورة الناس ، الآية ٤ ـ ٦.

٣٦٩

والنفوس الشريرة الخبيثة تنضم إليها الأرواح الخبيثة من النفوس الشريرة المفارقة عن الأبدان الواقعين هنالك مع الشياطين ، فيعينونها على أعمالها الّتي هي من باب الشرور والآثام ، والظلم والعدوان ، ويسمى الأوّل إلهاما ، والثاني وسوسة ، كما مضى بيانه في مباحث الملائكة الموكّلين بالحيوان الكامل ، وقد أسمعناك كلاما آخر في وسوسة الشيطان ، وإخراجه آدم من الجنة بسبب الحيّة في مباحث تقدّم خلق الأرواح على الأجساد ، وتأخّرها عنه ، وهبوط آدم من الجنّة.

فصل

قال بعض العلماء : إن أصل الضلالة والعمى والجهل من الشيطان ، وأصل الهدى والبصيرة واليقين من الملك.

واسم إبليس كشجرة خبيثة ، والشياطين بمنزلة أغصان هذه الشجرة الملعونة ، وأوراقها وأثمارها هي الأفكار الجزئية المتعلّقة بالشهوات العاجلة الحيوانية ، واللذّات الدنياوية ، وإليه أشير في قوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ* طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ* فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (١).

واسم الملك والعقل كاسم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها ، كما أشير إليه في القرآن ، وثمارها الحاصلة منها هي العلوم الكلية ، والمعارف الإلهية ، وهي أيضا شجرة طوبى الّتي غرستها يد

__________________

(١) ـ سورة الصافات ، الآية ٦٤ ـ ٦٦.

٣٧٠

الرحمن ، وهي أيضا شجرة مباركة ، لا شرقية ولا غربية ، لتجرّدها عن شرق العالم وغربه ، وعدم اختصاصها بمكان أو زمان ، فلا توجد في جانب دون جانب ، كما لا توجد في وقت دون وقت.

فصل

وقال بعضهم : إنّ أوّل من سلك سبيل الغواية والضلالة ، وطرده الحقّ عن عالم رحمته، ووقع عليه اسم إبليس ، هو جوهر نطقي شرّير ، يتولّد من طبقة دخانية نارية ، لها نفس ملكوتية ، صدرت بجهة ظلمانية ردية ، شأنه الإغواء ، وسبيله الإضلال ، كما في قوله تعالى ، حكاية عن اللعين : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١) ، وقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢) ؛ وذلك لأنّ له سلطنة ـ بحسب الطبع ـ على الأجسام الدخانية والبخارية ، ونفوسها الجزئية ، والطبائع الوهمانية ، وتطيعها تلك النفوس والقوى الوهمانية لمناسبة النقص والشرارة ، وكونه مجبولا على الإغواء والإفساد والاستكبار ، وادّعاؤه العلو ، كما في قوله سبحانه : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٣) ، إنّما هو بمقتضى طبعه ، الغالب عليه النارية الموجبة للإهلاك والعلو.

ووجه تأثيره في نفوس الآدميين : إمّا من جانب المؤثّر ، فللطافته ، وسرعة نفوذه في عروقهم ، ولطائف أعضائهم ، وأخلاطهم الّتي هي محال الشعور

__________________

(١) ـ سورة ص ، الآية ٨٢ و ٨٣.

(٢) ـ سورة الأعراف ، الآية ١٦.

(٣) ـ سورة ص ، الآية ٧٥.

٣٧١

والاعتقاد ، واقتداره على إغوائهم بالوسوسة والإضلال ، كما ورد في الحديث : «إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم» (١).

وفي القرآن المجيد : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (٢).

وإما من جانب القابل ؛ فلقصور القوى الإدراكية لأكثر الإنسان ، وضعفها عن المعارضة والمجاهدة مع جنوده ، وإغوائهم من القوى الشهوية والغضبية ، وغيرهما ، لا سيّما الوهمية ، إلّا من عصمه الله من عباده المخلصين ، والذين أيّدهم الله بالعقل ، وهداهم إلى الصراط المستقيم (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣).

وصل

وكأنّ عن هذا الملعون عبّر بالجهل ، في ما رواه في الكافي ، بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال : إنّ الله خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره ، فقال له : أدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فأقبل ، فقال الله تعالى : خلقتك خلقا عظيما ، وكرّمتك على جميع خلقي ، قال : ثمّ خلق الجهل من البحر الأجاج ، ظلمانيا ، فقال له : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فلم يقبل ، فقال له : استكبرت ، فلعنه ، ثمّ جعل للعقل خمسة وسبعين جندا ، فلما رأى الجهل ما أكرم الله به العقل ، وما أعطاه ، أضمر له العداوة، فقال الجهل : يا ربّ ، هذا خلق مثلي ،

__________________

(١) ـ عوالي اللئالي : ١ : ٢٧٣ ، ح ٩٧ ؛ وص ٣٢٥ ، ح ٦٦.

(٢) ـ سورة الأعراف ، الآية ٢٧.

(٣) ـ سورة المجادلة ، الآية ٢٢.

٣٧٢

خلقته وكرّمته ، وقوّيته ، وأنا ضدّه ، ولا قوّة لي به ، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته ، فقال : نعم ، فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي ، قال : قد رضيت ، فأعطاه خمسة وسبعين جندا. الحديث بطوله (١).

فصل

يشبه أن يكون الإنسان إذا غلبت عليه الشيطنة من الحيلة والمكر والتمرّد عن طاعة الله ، وطلب الأنانية والافتخار ، وزالت عنه السكينة والطمأنينة ، وانقطع عن قلبه إلهام الملائكة ، وإفاضة الحقّ عليه بالعلوم الحقّة الإيمانية ، أن تتّحد نفسه بذلك الجوهر النطقي الملكوتي ، الّذي هو بمنزلة ربّ نوع الشياطين ، وهو مظهر اسم المضلّ ، فيكون مآله إلى دار البوار ، ومنزل الأشرار.

كما أنه إذا غلب عليه طلب المعرفة ، وطهر أرض نفسه من خبائث الصفات الرذيلة، والشرور النفسانية ، من طلب الشهوات والمعاصي والسفسطة في العقائد ، والوسواس في العبادات ، والحيلة في المعاملات ، وتنوّر قلبه بالإيمان بالله واليوم الآخر ، والاعتقادات الحقّة ، وكمل في ذلك ، تتّحد نفسه بالعقل الّذي هو ربّ نوع الإنسان ، ومظهر اسم الهادي ، فتكون عاقبته إلى جوار الله ، في مقعد صدق.

ومن هنا قيل : إبليس كلّ إنسان هو نفسه عند متابعة الهوى ، وسلوك طريق الوسواس ، والجحود والعتوّ والاستكبار ، فافهم ، فإنّه من الأسرار الغامضة ، أعاذنا الله من شرّ إبليس وجنوده.

__________________

(١) ـ الكافي : ١ : ٢٠ ، ح ١٤.

٣٧٣

في حدوث العالم

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ

اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ

وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ

الْعالَمِينَ) (١)

فصل

إن للعالم ربّا مبدعا ، محدثا ، صانعا ، قيّوما ، مدبّرا ، أزليّا ، واجبا لذاته ، عالما به قبل كونه ، كان في الأزل وليس في الوجود رسم ، ولا طلل ، كما في الحديث المشهور : «كان الله ولم يكن معه شيء» (٢) ، وإنما أحدث العالم عن العدم البحت ، والليس الصرف ، والنفي المحض ، إلى فضاء الوجود ، وعرصة الشهود ، لا من شيء كان ، ولا مثال سبق ، وكان لم يزل بلا زمان ، ولا مكان ، وهو الآن كما كان ليس بينه وبين شيء من المكانيّات امتداد مكاني ، ولا طرف امتداد مكاني ، ولا بينه وبين شيء من الزمانيات امتداد زماني ، ولا طرف امتداد زماني ، وهو بكلّ شيء محيط.

__________________

(١) ـ سورة الأعراف ، الآية ٥٤.

(٢) ـ كنز العمّال : ١٠ : ٣٧٠ ، ح ٢٩٨٥٠.

٣٧٤

فصل

حدوث العالم ـ بمعنى افتقاره إلى الصانع ، ومسبوقيته بالعدم في الجملة ، أي الأعم من العدم في الزمان ـ من ضروريات الدين ، وعليه إجماع المسلمين ، بل العقلاء كافّة ، والحكماء أجمعين ، وله وجوه من البراهين ، وقد خلت منّا إشارات وتنبيهات على طرف من ذلك.

والآن نريد أن نذكر نبذا ممّا ورد فيه عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، ممّا هو جامع بين نوري العقل والشرع ، وشيئا ممّا ذكر فيه بعض قدماء أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ والحكماء الأقدمين، ثمّ نذكر البرهان على الحدوث الزماني للعالم ، بمعنى كونه مسبوقا بالعدم الزماني على حسب ما يليق به ، ويكشف عن معنى العدم السابق عليه ، وكيفية تأخّره عن الحقّ ، وتقدّم الحقّ عليه ، من غير أن يكون الله سبحانه في طرف الزمان ، أو في شيء منه ، على ما فهمه أكابر العرفاء ، وحقّقه آحاد العلماء ، قدّس الله أسرارهم ، وهو معنى غامض ، لا تناله أيدي الأكثرين ، وليس اعتقاده من ضروريات الدين ، ولا اعتقاد الحدوث الزماني بأي معنى أريد ، كما يظهر من التتبع لكلمات السلف من علماء الدين ، فإنّها صريحة في أن الواجب اعتقاده إنّما هو افتقار العالم إلى الصانع ، ومسبوقيّته بالعدم في الجملة ، خاصّة وأن إطلاق حدوث العالم راجع إليه ، وأن الغرض من إثباته الردّ على الدهرية ، والطبيعيين ، المنكرين للصانع ، الزاعمين لقدم العالم ، ووجوب وجوده ، خذلهم الله ؛ ولذلك كلما سئل العلماء عن البرهان على ذلك أخذوا يستدلون على إثبات الصانع ، وليس في كلامهم عن الزمان حرف أصلا ، إلّا إشارات إلى الحدوث الزماني ، بالمعنى الغامض الّذي نثبته ، وترميزات إليه ،

٣٧٥

كما هو دأبهم في سائر المكنونات من العلم ؛ تنبيها على أنه من العلم المكنون.

ولو لا مخافة التطويل لنقلنا عباراتهم حتّى يتبيّن صدق ما ذكرناه ، ولكن فيما نذكره من كلام أئمّتنا عليهم‌السلام ، وشيعتهم المتقدّمين ، كفاية ، إن شاء الله ، فاستمع لما يتلى عليك من ذلك ، ومن الله التأييد.

فصل

روى الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن بابويه القمّي رحمه‌الله ، في كتاب التوحيد ، بإسناده : أنه سأل عبد الكريم بن أبي العوجاء مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام ، فقال : ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال : إني ما وجدت شيئا صغيرا ، ولا كبيرا ، إلّا إذا ضمّ إليه مثله صار أكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ، ولو كان قديما ما زال ، ولا حال ؛ لأنّ الّذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ، ويبطل ، فكون وجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الأزل دخوله في العدم ، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد ، فقال عبد الكريم : علمت في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت ، واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها؟ فقال العالم عليه‌السلام : إنّما نتكلّم على هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إيّاه ، ووضعنا غيره ، ولكن أجبتك من حيث قدّرت أن تلزمنا ، ونقول : إنّ الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضمّ شيء منه إلى مثله كان أكبر ، وفي جواز تغيّره عليه خروجه من القدم ، كما بان في تغييره دخوله في الحدث ، ليس لك

٣٧٦

وراءه شيء يا عبد الكريم ، فانقطع وخزي (١).

وبإسناده : أنه سأله أبو شاكر الديصاني : ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال الصادق عليه‌السلام : نستدل عليه بأقرب الأشياء ، قال : وما هو؟ فدعا عليه‌السلام ببيضة ، فوضعها على راحته ، فقال : هذا حصن ملموم ، داخله غرقىء رقيق ، تطيف به فضّة سائلة ، وذهبة مائعة ، ثمّ تنفلق عن مثل الطاووس ، أدخلها شيء؟ قال : لا ، قال : فهذا الدليل على حدث العالم ، قال : أخبرت فأوجزت ، وقلت فأحسنت ، وقد علمت أنا لا نقبل إلّا ما أدركناه بأبصارنا ، أو سمعناه بآذاننا ، أو شممناه بمناخرنا ، أو ذقناه بأفواهنا ، أو لسمناه بأكفّنا ، أو تصور في القلوب بيانا ، أو استنبطته الروايات إيقانا ، قال عليه‌السلام : ذكرت الحواسّ الخمس ، وهي لا تنفع شيئا بغير دليل ، كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح (٢).

وبإسناده : أنه دخل على مولانا الرضا عليه‌السلام رجل ، فقال له : يابن رسول الله ، ما الدليل على حدث العالم؟ قال : أنت لم تكن ، ثمّ كنت ، وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك، ولا كوّنك من هو مثلك (٣).

فصل

قال الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن بابويه القمّي رحمه‌الله : من الدليل على حدوث العالم : أنا وجدنا أنفسنا وسائر أجسام العالم لا تنفكّ ممّا يحدث فيها من الزيادة ، والنقص ، ويجري عليها من الصنعة والتدبير ، ويعتورها من الصور

__________________

(١) ـ كتاب التوحيد : ٢٩٦ ، ح ٦ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ـ كتاب التوحيد : ٢٩٢ ، ح ١.

(٣) ـ كتاب التوحيد : ٢٩٣ ، ح ٣.

٣٧٧

والهيئات ، وقد علمنا ضرورة أنا لم نصنعها ، ولا من هو من جنسنا ، وفي مثل حالنا صنعها ، وليس يجوز في عقل ، ولا يتصور في وهم أن يكون ما لم ينفكّ من الحوادث ولم يسبقها قديما ، ولا أن توجد هذه الأشياء على ما نشاهدها عليه من التدبير ، ونعاينه فيها من اختلاف التقدير ، لا من صانع ، أو تحدث لا بمدبّر.

ولو جاز أن يكون العالم بما فيه من اتقان الصنعة ، وتعلّق بعضه ببعض ، وحاجة بعضه إلى بعض ، لا بصانع صنعه ، ويحدث لا بموجد أوجده ، لكان ما هو دونه في الإحكام والإتقان أحق بالجواز ، وأولى بالتصوّر والإمكان ، وكان يجوز على هذا الوضع وجود كتابة لا كاتب لها ، ودار مبنية لا باني لها ، وصورة محكمة لا مصوّر لها ، ولا يمكن في القياس أن تأتلف سفينة على أحكم نظم ، وتجتمع على أتقن صنع ، لا بصانع صنعها ، أو جامع جمعها.

فلما كان ركوب هذا وإجازته خروجا عن النهاية ، والعقول ، كان الأوّل مثله ، بل غير ما ذكرناه من العالم ، أو ما فيه من ذكر أفلاكه ، واختلاف أوقاته ، وشمسه ، وقمره ، وطلوعهما ، وغروبهما ، ومجيء برده ، وقيظه ، في أوقاتهما ، واختلاف ثماره ، وتنوّع أشجاره، ومجيء ما يحتاج إليه منها في إبّانه ، ووقته ، أشدّ مكابرة ، وأوضح معاندة ، وهذا واضح بحمد الله.

قال : وسألت بعض أهل التوحيد والمعرفة عن الدليل على حدث الأجسام ، فقال : الدليل على حدث الأجسام أنها لا تخلو في وجودها من كون وجودها مضمّن بوجوده ، والكون هو المحاذاة في مكان دون مكان ، ومتى وجد الجسم في محاذاة دون محاذاة مع جواز وجوده في محاذاة أخرى ، علم أنه لم يكن في تلك المحاذاة المخصوصة إلّا لمعنى ، وذلك المعنى محدث ،

٣٧٨

فالجسم ـ إذن ـ محدث ؛ إذ لا ينفك من المحدث ، ولا يتقدّمه (١).

فصل

قال تالس الملطي (٢) ـ وهو أوّل من تفلسف بالملطيّة ، بعدما قدم إليها من مصر ـ : إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة هويته ، وإنما يدرك من جهة آثاره وإبداعه ، وتكوينه الأشياء.

ثم قال : إن القول الّذي لا مردّ له هو أن المبدع كان ولا شيء مبدع ، فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات ؛ لأنّ قبل الإبداع إنّما هو فقط ، وإذا كان هو فقط فليس يقال ـ حينئذ ـ جهة وجهة ، حتّى يكون هو وصورة ، أو حيث وحيث ، حتّى يكون هو ذو صورة ، والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين ، والإبداع هو تأييس ما ليس بشيء ، وإذا كان هو مؤيّس الآيسات فالتأييس لا من شيء يتقادم ، فمؤيّس الأشياء لا يحتاج أن تكون عنده صورة الأيس بالأيسية.

قال : لكنه عنده العنصر الّذي فيه صور الموجودات ، والمعلومات كلّها ، فانبعثت منه كلّ صورة موجودة في العالم ، على المثال الّذي في العنصر الأوّل ،

__________________

(١) ـ التوحيد : ٢٩٨ ، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.

(٢) ـ هو مؤسّس المدرسة الأيونية ، ولد بين سنة «٦٣٩» وسنة «٦٣٦» قبل الميلاد ، وتوفّي سنة «٥٤٦» قبل الميلاد ، فعاش نحو قرن من الزمان ، ويقال : إنّه فينقي الأصل. لم يكتف طاليس بما تعلّمه من علم الفلك ، كما كانت عادة أبناء الأغنياء في ذلك العصر ، بل زعم أنّه اكتشف المادّة الّتي تبقى بالرغم ممّا ينتابها من التغيّرات، فقال : إنّ الماء مصدر الأشياء كلّها ، منه تكوّنت الموجودات ، وإليه تعود. أنظر : تاريخ الفلسفة ، حنّا أسعد فهمي : ٢٣ وما بعدها.

٣٧٩

وهو محل الصور ، ومنبع الموجودات ، وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلّا وفي ذات العنصر صورة ومثال عنه (١).

أقول : ويشهد لقوله هذا ما نقلناه فيما سبق عن مولانا زين العابدين عليه‌السلام : أن في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر ، وإنه تأويل قوله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢) ، هذا إن أريد بالعرش العلم ، أو الملك ، دون الجسم ، وإن صحّ ذلك أيضا من وجه.

وقال أفلاطون (٣) الإلهي المعروف بالتوحيد والحكمة من اليونانيين : إنّ

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ٥ : ٢٠٧ و ٢٠٨ ، نقلا عن تالس الملطي.

(٢) ـ سورة الحجر ، الآية ٢١. وقد ذكر المؤلّف هذا الحديث في ص ٢٦٨ من الجزء الأوّل.

(٣) ـ ولد أفلاطون سنة «٤٢٧ ق. م» من أبوين أرستقراطيين ، لهذا نجده أرستقراطي الشرب ، رغم تأثّره بالمحيط ، وبمجتمعه ، وتربيته ، وتعليمه ، فجمهوريته جمهورية ارستقراطية ، ومع أنّه ينتقد الشعر والكهنوت والأساطير ، فهو شاعر ، وقد اضطرّ لحفظ جمهوريته من الانقلابات أن يستحلّ درج الأساطير الّتي تحفظ العامّة من الشقاق والانتفاضة على حكومته الجمهورية الأرستقراطية ، ونعثر في جمهوريته على الشيوعية والاشتراكية ، والتعليم الحرّ ، والتحليل النفسي ، وما قاله روسو بالعود إلى الطبيعة ، وما أورده نيتشه وبعض الكتّاب في الأدب والارستقراطية ، وبرغسن في التعليم الحر والدافع الحيوي وغيرهم. حتى قال أمرسن : إنّ أفلاطون هو الفلسفة ، والفلسفة هي أفلاطون ، فأحرقوا الكتب ، فكلّها من هذا الكتاب.

وتتألف جمهوريته من عشرة كتب ، في خمسة أقسام : ١ ـ بحثه في الأوّل عن العدالة. ٢ ـ الكتاب الثاني والثالث والرابع يبحث عن أركان الدولة ، وتعليم طبقة الحكّام ، وبه يحدّد المقصود من العدالة في الدولة تجاه الأفراد. ٣ ـ الكتاب الخامس والسادس والسابع بحث فيه عن الشيوعية ، والحكّام ، وأصول تعليمهم ومدارجهم. ٤ ـ الكتاب الثامن والتاسع بحث فيه عن تدهور الحكومة وأدوارها حتّى ينتهي لأعنفها ، وفيها الاستبداد الكامل ، وذلك ضدّ العدالة. ٥ ـ النتيجة ، وخلود النفس ، وجزاء الفضيلة يوم الدينونة.

أنظر ترجمته في : السقيفة أم الفتن : ٢٧ ، وفهرست ابن النديم : ٣٠٦.

٣٨٠