محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]
المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
والتبليغ.
فكلّ رسول نبي ، ولا عكس. وكلّ رسول أو نبي أو إمام فهو وليّ ، ومحدّث ، ولا عكس. وكلّ رسول إمام ، ولا عكس. ولا نبيّ إلّا وولايته أقدم على نبوّته. ولا رسول إلّا ونبوّته أقدم على رسالته. ولا إمام إلّا وولايته أقدم على إمامته.
والولاية باطن النبوّة ، والإمامة والنبوّة باطن الرسالة ، وباطن كلّ شيء أشرف وأعظم من ظاهره ؛ لأنّ الظاهر محتاج إلى الباطن ، والباطن مستغن عن الظاهر ؛ ولأن الباطن أقرب إلى الحق ، فكلّ مرتبة من المراتب المذكورة أعظم من لاحقتها ، وأشرف.
وأيضا فإنّ كلّا من النبوّة والولاية صادرة عن الله ، ومتعلّقة بالله ، وكلا من الرسالة والإمامة صادرة عن الله ، ومتعلّقة بعباد الله ، فيكون الأوليان أفضل.
وأيضا كلّ من الرسالة والإمامة متعلّق بمصلحة الوقت ، والنبوّة والولاية لا تعلّق لهما بوقت دون وقت ، ومع ذلك كله فليس يجب أن يكون الولي أعظم من النبي ، ولا من الرسول ، ولا من الإمام ، ولا النبي أعظم من الرسول ، بل الأمر في الكلّ بالعكس في ولي يتبع نبيا ، أو رسولا ، أو إماما ، أو نبيّ يتّبع رسولا ؛ لأنّ لكلّ من النبي والإمام مرتبتين ، وللرسول ثلاث مراتب ، وللولي الواحدة.
فمن قال : إن الولي فوق النبي ، فإنما يعني بذلك في شخص واحد ، بمعنى أن النبي ، من حيث إنه ولي ، أشرف منه من حيث إنه نبي ورسول.
وكذا الإمام ، من حيث إنه ولي ، أشرف منه من حيث إنه إمام ، كيف يكون الولي أفضل من النبي مطلقا ، ولا ولي إلّا وهو تابع لنبي ، أو إمام ، والتابع لا يدرك المتبوع أبدا ، فيما هو تابع له فيه ؛ إذ لو أدركه لم يكن تابعا؟
نعم ، قد يكون ولي أفضل من نبي ، إذا لم يكن تابعا له ، كما كان أمير المؤمنين عليهالسلام أعظم من جميع الأنبياء والأولياء ، بعد نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وكذا أولاده المعصومون عليهمالسلام.
فصل
لكلّ من النبوّة والولاية اعتباران : اعتبار الإطلاق ، واعتبار التقييد ، أي العام والخاص.
والنبوّة المطلقة : هي النبوّة الحقيقية ، الحاصلة في الأزل ، الباقية إلى الأبد ، وهو اطلاع النبي المخصوص بها على استعداد جميع الموجودات بحسب ذواتها ، وماهياتها ، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه الّذي يطلبه بلسان استعداده ، من حيث الإنباء الذاتي ، والتعليم الحقيقي الأزلي.
وصاحب هذا المقام هو الموسوم بالخليفة الأعظم ، وقطب الأقطاب ، والإنسان الكبير ، وآدم الحقيقي ، المعبّر عنه ب «القلم الأعلى» ، و «العقل الأوّل» ، و «الروح الأعظم» ، وإليه الإشارة بقوله صلىاللهعليهوآله : «أوّل ما خلق الله نوري» (١) ، و «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» (٢) ، ونحو ذلك. وإليه استندت كلّ العلوم والأعمال ، وإليه تنتهي جميع المراتب والمقامات ، نبيا كان أو وليا ، رسولا كان أو وصيا.
وباطن هذه النبوّة هي الولاية المطلقة ، وهي عبارة عن حصول مجموع هذه الكمالات بحسب الباطن في الأزل ، وإبقائها إلى الأبد ، ويرجع إلى فناء
__________________
(١) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ٩٩ ، ح ١٤٠.
(٢) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٢١ ، ح ٢٠٠.
العبد في الحق ، وبقائه به ، وإليه الإشارة بقوله صلىاللهعليهوآله : «أنا وعلي من نور واحد ، وخلق الله روحي وروح علي بن أبي طالب قبل أن يخلق الخلق بألفي (١) عام ، وبعث عليا مع كلّ نبي سرا ، ومعي جهرا» (٢).
وبقول أمير المؤمنين عليهالسلام : «كنت وليا وآدم بين الماء والطين» (٣).
وقوله : «أنا وجه الله ، وأنا جنب الله ، وأنا يد الله ، وأنا القلم الأعلى ، وأنا اللوح المحفوظ» (٤) ، إلى آخر ما قال في خطبة البيان ، وغيرها.
وبقول الصادق عليهالسلام : «إنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله على خلقه». الحديث (٥) ، وقد مرّ تمامه (٦).
والنبوّة المقيدة : هي الإخبار عن الحقائق الإلهية ، أي معرفة ذات الحق ، وأسمائه ، وصفاته ، وأحكامه ، فإن ضمّ معه تبليغ الأحكام والتأديب بالأخلاق ، والتعليم بالحكمة ، والقيام بالسياسة ، فهي النبوّة التشريعية ، وتختص بالرسالة ، وقس عليها الولاية
المقيدة.
__________________
(١) ـ في المصدر : بألفي ألف.
(٢) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٢٤ ، ح ٢١٠ ، مثله ، إلّا أنه لم ترد فيه عبارة «وبعث عليا ...» ، وقد ذكر في قصص الأنبياء للجزائري : ٩١ ، قال : وروى صاحب كتاب القدسيات ، من علماء الجمهور ، أنه قال جبرئيل عليهالسلام للنبي صلىاللهعليهوآله : إنّ الله بعث عليا مع الأنبياء باطنا ، وبعثه معك ظاهرا.
(٣) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٢٤ ، ح ٢٠٨ ، وفيه «وصيا» بدل «وليا».
(٤) ـ وردت هذه العبارات في حديث مفاخرة أمير المؤمنين عليهالسلام مع ولده الحسين عليهالسلام. أنظر : الفضائل : ٨٣.
(٥) ـ ذكره أيضا في التفسير الصافي بعنوان : وروي عن الصادق عليهالسلام. أنظر : تفسير الصافي : ١ : ٨٦.
(٦) ـ أنظر ص ٢٨٩ من هذا الكتاب.
وصل
فكل من النبوّة والولاية ، من حيث هي صفة إلهية ، مطلقة ، ومن حيث استنادها إلى الأنبياء والأولياء ، مقيّدة ، والمقيّد مقوّم بالمطلق ، والمطلق ظاهر في المقيّد ، فنبوّة الأنبياء كلهم جزئيات النبوّة المطلقة ، وكذلك ولاية الأولياء جزئيات الولاية المطلقة.
ولكلّ من الأقسام الأربعة ختم ، أي مرتبة ليس فوقها مرتبة أخرى ، ومقام لا نبيّ على ذلك المقام ، ولا ولي ، إلّا الشخص المخصوص به ، بل الكلّ يكون راجعا إليه ، وإن تأخّر وجود طينة صاحبه ، فإنه بحقيقته موجود قبله.
وخاتم النبوّة المطلقة نبينا صلىاللهعليهوآله ، وخاتم الولاية المطلقة هو ومولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليهما ـ فإنهما كنفس واحدة.
والنبوّة المقيدة إنّما كملت وبلغت غايتها بالتدريج ، فأصلها تمهّد بآدم عليهالسلام ، ولم تزل تنمو وتكمل حتّى بلغ كمالها إلى نبينا صلىاللهعليهوآله ، ولهذا كان خاتم النبيين ، وإليه الإشارة بما روي عنه صلىاللهعليهوآله ، أنه قال : «مثل النبوّة مثل دار معمورة لم يبق فيها إلّا موضع لبنة ، وكنت أنا تلك اللبنة» (١) ، أو لفظ هذا معناه.
وكذلك الولاية المقيدة إنّما تدرّجت إلى الكمال حتّى بلغت غايتها إلى المهدي الموعود ظهوره ، الّذي هو صاحب الأمر في هذا العصر ، وبقيّة الله اليوم في بلاده وعباده ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آبائه المعصومين.
ولنشر الآن إلى بعض صفات النبي والولي ، وأصول المعجزات على الوجه الكلي ، وتفصيل ذلك يطلب من كتاب علم اليقين.
__________________
(١) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٢٢ ، ح ٢٠٣ ، بهذا المضمون.
فصل
قال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : قد عرفت أن الإنسان البالغ حدّ الكمال ملئتم من عوالم ثلاثة ، من جهة مبادىء إدراكاته الثلاثة.
وثبت أن كلّ صورة إدراكية فهو ضرب من الوجود ، ولكلّ منها قوّة واستعداد ، وكمال ، والكمال هو صيرورة الشيء بالفعل ، فكمال التعقّل في الإنسان هو اتصاله بالملأ الأعلى ، ومشاهدته ذوات الملائكة المقرّبين.
وكمال القوّة المصوّرة يؤدي به إلى مشاهدة الأشباح المثالية ، وتلقّي المغيّبات والأخبار الجزئية منهم ، والاطلاع على الحوادث الماضية والآتية ، وكمال القوّة الحسّاسة يوجب له شدة التأثير في المواد الجسمانية بحسب الوضع ، فإنّ قوّة الحس تساوق قوّة التحريك الموجبة لانفعال المواد ، وخضوع القوّة الجرمانية ، وطاعة الجنود البدنية ، وقلّ من الإنسان من تكمل فيه جميع هذه القوى الثلاث.
فمن اتّفق فيه مرتبة الجمعية في كمال هذه النشآت الثلاث فله رتبة الخلافة الإلهية ، واستحقاق رئاسة الخلق ، فيكون رسولا بين الله يوحى إليه ، مؤيّدا بالمعجزات ، منصورا على الأعداء ، فله خصائص ثلاث :
أولها : أن تصفو نفسه في قوّتها النظرية ، صفاء تكون شديدة الشبه بالروح الأعظم ، فيتّصل به متى أراد من غير كثير تعمّل وتفكّر ، حتّى يفيض عليه العلوم اللدنية ، من غير توسط تعليم بشري ، بل يكاد زيت عقله المنفعل يضيء لغاية استعداده بنور العقل الفعّال الّذي ليس هو بخارج عن حقيقة ذاته المقدسة ، وإن لم تمسسه نار التعليم البشري بمقدحة الفكر ، وزند البحث والتكرار ، فإنّ النفوس
متفاوتة في درجات الحدس والاتصال بعالم النور ، فمن محتاج (١) إلى التعلّم في جلّ المقاصد ، بل كلّها ، ومن غبي لا يفلح في فكره ، ولا يؤثر فيه التعليم أيضا ، حتّى خوطب النبي الهادي في حقّه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (٢) ، (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣) ، و (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) (٤) ؛ وذلك لعدم وصولهم بعد إلى درجة استعداد الحياة العقلية ، فلم يكن لهم سمع باطني يسمع به الكلام المعنوي ، والحديث الربّاني.
ومن شديد الحدس كثيرة ، كمّا وكيفا ، سريع الاتصال بعالم الملكوت ، يدرك بحدسه أكثر المعلومات في زمان قليل ، إدراكا شريفا نوريا ، سمّيت نفسه قدسية [وكما أن مراتب الناس تنتهي بهم في طرف نقصان الفطرة وخمود نورها ، إلى عديم الحدس والفكر يعجز الأنبياء عن إرشادهم ، فيجوز أن ينتهي في طرف الكمال وقوّة الحدس وشدة الإشراق إلى نفس قدسية] (٥) ، ينتهي بقوّة حدسه إلى آخر المعقولات في زمان قصير ، من غير تعلّم ، فيدرك أمورا يقصر عن دركها غيره من الناس إلّا بتعب الفكر والرياضة ، في مدّة كثيرة ، فيقال له : نبي ، أو ولي ، وإن ذلك منه أعلى ضروب المعجزة والكرامة ، وهو من الممكنات الأقلّية.
والخاصية الثانية : أن تكون قوّته المتخيلة قوية بحيث يشاهد في اليقظة عالم الغيب ، وتتمثّل له الصور المثالية العينية ، ويسمع الأصوات الحسية من
__________________
(١) ـ في المصدر : فمن زكي لا يحتاج.
(٢) ـ سورة القصص ، الآية ٥٦.
(٣) ـ سورة فاطر ، الآية ٢٢.
(٤) ـ سورة النمل ، الآية ٨٠ ؛ وسورة الروم ، الآية ٥٢.
(٥) ـ ما بين المعقوفين نقلناه من المصدر.
الملكوت الأوسط ، فيكون ما يراه ملكا حاملا للوحي ، وما يسمعه كلاما منظوما من قبل الله تعالى ، أو كتابا في صحيفة ، وذلك لغاية قوته ، وشدة تمكّنه في الحدّ المشترك بين المعقول والمحسوس ، فلا يستغرقه حسّه الباطن عن حسّه الظاهر ، وليست كالأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى جانب غابت عن الآخر ، وإذا ركنت إلى مشعر ذهلت عن غيره ، بل لا يشغله شأن عن شأن ، ولا تصرفها نشأة عن أخرى ، فإذا توجّهت إلى الأفق الأعلى وتلقّت أنوار المعلومات بلا تعليم بشري من الله يتعدّى تأثيرها إلى قومه ، وتتمثل صورة ما يشاهده لروحه البشري ، ومنه إلى ظاهر الكون ، فتتمثل الحواس الظاهرة ، سيّما السمع والبصر ، لكونهما أشرفها وألطفها.
وقيل : إن غلب على الخيال جانب الحس شبّه كلّ معقول بمحسوس ، وإن غلب عليه العقل شبه كلّ محسوس بمعقول ، فخيال الأنبياء عليهمالسلام يرى من المحسوس المعنى المعقول ، وهو ما كان صدوره منه ، أو وروده عليه ، ومرجعه إليه ، فيرى شخصا في هذا العالم ، ويحكم عليه أنه تفاحة من الجنة ، وشخصا قطعت يده في سبيل الله ، ثبت له جناحان يطير بهما في الجنة ، وشخصا قتل في سبيل الله حيّا قائما يرزق ، فرحا مستبشرا بما آتاه الله من فضله.
وعلى العكس من ذلك يرى من المعقول محسوسا ، ومن الروحاني جسمانيا ، «هذا جبرئيل جاءكم يعلّمكم أمر دينكم» (١) ، (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (٢).
ثم من قوّة إشراق نور خياله ونور روحه يشرق ـ أيضا ـ على من يناسبه
__________________
(١) ـ سنن الترمذي : ٤ : ١١٩ ، ذيل الحديث ٢٧٣٨.
(٢) ـ سورة مريم ، الآية ١٧.
في تلك القوّة والاستعداد ، فيراه كما رأى النبي.
فالتخيّل ـ إذن ـ فيصل بين العالمين ، وحاجز بين البحرين ، ومفصل بين الحكمين ، ولو لاه لما بقي محسوس ومعقول للإنسان ، ولا كانت الصورة والمعنى مدركين بمدرك الحس والبرهان. انتهى.
قال أستاذنا : والخاصية الثالثة : أن تكون له قوّة في النفس من جهة جزئها العملي ، وقواها التحريكية ، تؤثر في مادّة العالم بإزالة صورة ونزعها عن المادة ، أو تلبسها إياها ، فيؤثر في استحالة الهواء إلى الغيم ، وحدوث الأمطار ، وتكوّن الطوفانات والزلازل ، لاستهلاكه أمة فجرت وعتت عن أمر ربّها ورسله ، ويسمع دعاؤه في الملك والملكوت ؛ لعزيمة قوية ، فيستشفي المرضى ، ويستسقي العطشى ، وتخضع له الحيوانات ، وقد ثبت إمكان ذلك ، وأن الأمزجة تتأثر عن الأوهام ، إمّا عن أوهام عامية ، أو عن أوهام شديدة التأثير في بدء الفطرة ، أو بالتعويد والاكتساب ، فلا عجب من أن يكون لبعض النفوس قوّة كمالية مؤيدة من المبادىء ، فصارت كأنها نفس العالم ، فتؤثر في غير بدنها تأثيرها في بدنها ، فتطيعها مادّة العالم طاعة البدن للنفس ، فتؤثر في إصلاحها وإهلاك ما يفسدها ، أو يضرّها ، كلّ ذلك لمزيد قوّة شوقية ، واهتزاز علوي يوجب شفقة على خلق الله ، شفقة الوالد لولده.
وكيف لا يجوز ذلك وقد جاز في جانب الشر من النفوس الشريرة الدنية ، كالعين ، فجوازه في جانب الخير من النفوس العظيمة الشديدة البطش ، المستحقّة لمسجودية الملائكة تعليمهم الأسماء ، أرجح وأولى.
ومثل هذا يعبّر عنه بالكرامة والمعجزة عند الناس. هذا ملخّص كلامه (١).
__________________
(١) ـ أنظر : الشواهد : ٣٤١ ـ ٣٤٣.
قال : والجمهور يعظمون هذه الخاصية أكثر من الأوليين ؛ لغلبة الجسمانية عليهم ، ثمّ يعظمون أمر الإخبار عن الحوادث الجزئية أكثر من تعظيم الاطلاع على المعارف الحقيقية.
وأمّا أولو الألباب ، فأفضل أجزاء النبوّة عندهم هو الضرب الأوّل ، ثمّ الثاني ، ثمّ الثالث ، ومجموع الأمور الثلاثة على الوجه المذكور يختصّ بالأنبياء عليهمالسلام ، وكلّ جزء منها ربما يوجد في غيرهم.
والأوّل لا يكون إلّا خيرا وفضيلة ، وهو قد يوجد في الأولياء على وجه التابعية للأنبياء ، وكلّ من الأخيرين ينقسم إلى الخير والشر ، فإنّ ضربا من الإخبار ببعض المغيبات الجزئية من الحوادث ربما يوجد في أهل الكهانة والمستنطقين ، وكذا قوّة التأثير للنفس المتعدي من النفوس الشريرة ، كما يأتي ذكره (١).
أقول : أنظر الآن إلى شرف الإنسان ، وبعد مراقيه ، كيف وصل إلى ما وصل ، وكيف فعل ما فعل؟
قال الشيخ السهروردي ، صاحب الإشراق (٢) : لما رأيت الحديدة الحامية
__________________
(١) ـ أنظر : الشواهد : ٣٤٥.
(٢) ـ يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي ، الشافعي (٥٤٩ ـ ٥٨٧ ه) (١١٥٤ ـ ١١٩١ م) ، شهاب الدين ، أبو الفتوح ، حكيم ، صوفي ، متكلّم ، فقيه ، أصولي ، أديب ، شاعر ، ناثر. ولد في سهرورد من قرى زنجان في العراق العجمي ، ونشأ بالمراغة ، وعاش بأصفهان ، ثمّ ببغداد ، ثمّ بحلب ، ونسب إليه انحلال العقيدة ، فأفتى العلماء بإباحة دمه ، فسجنه الملك الظاهر غازي ، فخنق في سجن قلعة حلب. من تصانيفه : التلويحات في الحكمة ، التنقيحات في أصول الفقه ، حكمة الإشراق ، هياكل النور في الحكمة ، والألواح العمادية ، و...
أنظر : الذريعة : ٢ : ١٠٣ ، والأعلام : ٨ : ١٤٠ ، ومعجم المؤلّفين : ١٣ : ١٨٩.
تتشبّه بالنار بمجاورتها ، وتفعل فعلها ، فلا تتعجّب من نفس استشرقت واستنارت واستضاءت بنور الله ، فأطاعها الأكوان.
في تقدّم خلق الأرواح على الأجساد ، وتأخّرها عنها ،
وهبوط آدم من الجنة
(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (١)
فصل
قد استبان من المباحث السالفة أن النفوس الإنسانية حادثة بحدوث الأبدان ، من جهة نشأتها الطبيعية ، وتصرّفها في الأبدان ، فإنّها منذ كانت نباتية ثمّ حيوانية ثمّ إنسانية ، كان وجودها متوقّفا على استعداد خاصّ ، وشرائط مخصوصة في أبدانها ، فليعلم الآن أن لها تقدّما على أبدانها أيضا ، من جهة أخرى ؛ وذلك لأنّ لها أن تعود إلى مبدئها ومنشئها بعد استكمالاتها الحاصلة لها من أبدانها ، ومفارقتها إياها ، كما دريت من قبل ، فما نشأ منها من العالم العقلي الكلّي ، والخلق الأوّل ، والملكوت الأعلى ، فأصله سابق على سائر الموجودات ، وهو موجود هناك بوجود أصله ، فهو ـ إذن ـ متقدّم على الموجودات كلّها ، وهي المسماة بالنفوس الكلية الإلهية في كلام أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما مر ذكره (٢) ، وما نشأ منها من العالم النفساني القدري التفصيلي ،
__________________
(١) ـ سورة الأنبياء ، الآية ١٠٤.
(٢) ـ أنظر ص ٢٥٤ من هذا الكتاب.
والملكوت الأسفل ، وعالم الذر ، ومحل أخذ الميثاق المعبّر عنه بالظلال والطين الذي تنشأ منه طينة الجنة والنار الحسّيتين ، فأصله وإن كان متأخّرا عن الأوّل إلّا أنه متقدّم على هذا العالم الأدنى المادي ، فله أيضا التقدم على بدنه العنصري من هذه الجهة ، وقد مرّ التنبيه على ذلك في مباحث أصول النشآت.
وصل
وإلى هذه السابقية واللاحقية للنفوس الكلية الإلهية ، أشير في الحديث النبوي بقولهصلىاللهعليهوآله : «نحن الآخرون السابقون» (١).
وفي لفظ آخر : «أنا أوّل الأنبياء خلقا ، وآخرهم بعثا» (٢).
وفي حديث آخر : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (٣).
وفي آخر : «خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» (٤).
وفي رواية : «بأربعمائة عام» (٥).
وفي حديث آخر : «أوّل ما أبدع الله تعالى النفوس المقدسة المطهرة ، فأنطقها بتوحيده ، ثمّ خلق بعد ذلك سائر خلقه» (٦).
__________________
(١) ـ المناقب لابن شهرآشوب : ٣ : ٢٦٩.
(٢) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٢٢ ، ح ٢٠٢.
(٣) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٢١ ، ح ٢٠٠.
(٤) ـ أمالي المفيد : ١١٣ ، ح ٦.
(٥) ـ لم نعثر على مصدره.
(٦) ـ بحار الأنوار : ٥٨ : ٧٨.
وفي بصائر الدرجات ، بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : «قال الله تبارك وتعالى : يا محمّد ، إني خلقتك وعليا نورا يعني روحا بلا بدن ، قبل أن أخلق سمائي وأرضي وعرشي وبحري ، فلم تزل تهلّلني وتمجّدني» (١).
وإلى تقدّم سائر النفوس على أبدانهم العنصرية أشير فيما رواه في الكافي ، بإسناده عن الباقر عليهالسلام ، أنه سئل عن قول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢) ، قال : «أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة (٣) ، فعرفهم ، وأراهم نفسه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه» (٤).
وفي تفسير علي بن إبراهيم : «عن ابن مسكان ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : قلت له : معاينة كان هذا؟ قال : نعم ، فثبتت المعرفة ، ونسوا الموقف ، وسيذكرونه ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ ، ولم يؤمن بقلبه ، فقال الله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) (٥)» (٦).
وفي الكافي ، عنه عليهالسلام ، أنه سئل : كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال : جعل فيهم ما
__________________
(١) ـ الكافي : ١ : ٤٤٠ ، ح ٣ ، ولم أعثر عليه في بصائر الدرجات ، فلعله من اشتباه الناسخ ، والله العالم.
(٢) ـ سورة الأعراف ، الآية ١٧٢.
(٣) ـ في المصدر إضافة : فخرجوا كالذرّ.
(٤) ـ الكافي : ٢ : ١٢ ، ح ٤.
(٥) ـ سورة يونس ، الآية ٧٤.
(٦) ـ تفسير القمّي : ١ : ٢٤٨.
إذا سألهم أجابوه (١).
وبإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام ، قال : «إن الله خلق الخلق ، فخلق من أحبّ ممّا أحب ، وكان ما أحبّ أن يخلقه من طينة الجنة ، وخلق من أبغض ممّا أبغض ، وكان ما أبغض أن يخلقه من طينة النار ، ثمّ بعثهم في الظلال ، قال : قلت : وأيّ شيء الظلال؟ قال : ألم تر ظلّك في الشمس ، شيئا وليس بشيء ، ثمّ بعث فيهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله ، وهو قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢) ، ثمّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيين ، فأقرّ بعضهم ، وأنكر بعض ، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا ، فأقرّ بها ـ والله ـ من أحب ، وأنكرها من أبغض ، وهو قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) (٣) ، ثمّ قال أبو جعفر عليهالسلام : كان التكذيب ثمّ» (٤).
وبإسناده الصحيح عنه عليهالسلام ، أنه كان يقول : «إنّ الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذرّ ، يوم أخذ الميثاق على الذرّ بالإقرار له بالربوبية ، ولمحمد صلىاللهعليهوآله بالنبوّة ، وعرض الله عزوجل على محمّد صلىاللهعليهوآله أمته في الطين ، وهم أظلّة ، وخلقهم من الطينة الّتي خلق منها آدم ، وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام ، وعرضهم عليه ، وعرضهم علينا ، ونحن نعرفهم في لحن القول» (٥).
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إنّ الله مثل لي أمتي في الطين ، وعلّمني أسماءهم كما علّم آدم الأسماء كلّها ، فمرّ بي
__________________
(١) ـ الكافي : ٢ : ١٢ ، ح ١.
(٢) ـ سورة الزخرف ، الآية ٨٧.
(٣) ـ سورة يونس ، الآية ٧٤.
(٤) ـ الكافي : ٢ : ١٠ ، ح ٣.
(٥) ـ الكافي : ١ : ٤٣٧ ، ح ٩ ، مع اختلاف يسير.
أصحاب الرايات ، فاستغفرت لعلي وشيعته» (١).
وفي معناه أخبار كثيرة في بصائر الدرجات (٢). وفي بعضها قال قائل : يا رسول الله ، قد عرض عليك من خلق ، أرأيت من لم يخلق؟ قال : صوّر لي ـ والذي يحلف به رسول الله ـ في الطين حتّى لأنا أعرف بهم من أخيكم بصاحبه (٣).
وفيه بإسناده عن الصادق عليهالسلام ، قال : قال رجل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : يا أمير المؤمنين أنا والله أحبك ، قال : فقال له : كذبت ، [قال : بلى والله إني أحبك وأتولّاك ، فقال له أمير المؤمنين : كذبت] (٤) ، قال : سبحان الله يا أمير المؤمنين ، أحلف بالله أني أحبّك ، فتقول كذبت! قال : وما علمت أنّ الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ، فأسكنها (٥) الهواء ، ثمّ عرضها علينا أهل البيت ، فو الله ما منها روح إلّا وقد عرفنا بدنه ، فو الله ما رأيتك فيها ، فأين كنت؟ قال أبو عبد اللهعليهالسلام : كان في النار (٦).
وفي معنى هذه الأخبار أخبار كثيرة ، وقد مضى طرف منها.
__________________
(١) ـ الكافي : ١ : ٤٤٣ ، ح ١٥.
(٢) ـ أنظر : بصائر الدرجات : ٨٣ ، ب ١٤ باب في رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه عرف ما رأى في الأظلّة والذر وغيره ، وص ٨٧ ، ب ١٥ باب في أمير المؤمنين عليهالسلام أنه عرف ما رأى في الميثاق وغيره.
(٣) ـ بصائر الدرجات : ٨٥ ، ح ٩.
(٤) ـ ما بين المعقوفتين أضفناه من المصدر.
(٥) ـ في المصدر «فأمسكها».
(٦) ـ بصائر الدرجات : ٨٧ ، ح ٢.
وصل
لعلّ تشبيه ماهيات الأشخاص الجزئية القدرية الإنسانية ، وحقائقها العلمية الظلّية ، قبل إشراق نور الوجود عليها بالذرّ ، أي النمل الصغار الحمر ، الصغيرة الجثّة ، إنّما هو لخفائها مع حياتها ، وكونها محلّا للشعور والحركة.
ومعنى أخذ الميثاق لهم وعليهم ، وإشهادهم عليه ، استنطاق حقائقهم بألسنة قابليات جواهرها ، وألسن استعدادات ذواتها عند كون نفوسهم في أصلاب آبائهم العقلية ، ومعادنهم الأصلية ، يعني شاهدهم وهم رقائق في تلك الحقائق.
وعبّر عن تلك الآباء بالظهور ؛ لأنّ كلّ واحد منهم ظهر ، أو مظهر لطائفة من النفوس ، أو ظاهر عنده ؛ لكونه صورة عقلية نورية ظاهرة بذاتها.
وأشهدهم على أنفسهم ، أي أعطاهم في تلك النشأة الإدراكية العقلية شهود ذواتهم العقلية وهويّاتهم النورية ، فكانوا بتلك القوى العقلية يسمعون خطاب : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، كما يسمعون الخطاب في دار الدنيا بهذه القوى البدنية ، وقالوا بألسنة تلك العقول : بلى أنت ربّنا الّذي أعطيتنا وجودا قدسيا ربّانيا ، سمعنا كلامك ، وأجبنا خطابك.
أو نقول : تصديقهم به كان بلسان طباع الإمكان قبل نصب الدلائل لهم ، أو بعد نصب الدلائل وأنه نزل تمكينهم من العلم به ، وتمكّنهم منه ، بمنزلة الإشهاد والاعتراف ، كما نبّه عليه مولانا الصادق عليهالسلام بقوله : «جعل فيهم ما إذا سألهم
أجابوه» (١) ، كما مرّ ذكره ، نظير ذلك قوله عزوجل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) ، وقوله سبحانه : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣) ، ومعلوم أنه لا قول ثمة ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى.
أو نقول : إن ذلك النطق إنّما كان باللسان الملكوتي الّذي به يسبّح كلّ شيء بحمد ربّه ؛ وذلك لأنهم كانوا مفطورين بالفطرة الّتي فطر الناس عليها ، وهي المعرفة والتوحيد ؛ وذلك كما نطق الحصى في كفّ النبي صلىاللهعليهوآله ، وبه تنطق الأرض يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) ، وبه تنطق الجوارح (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٥).
وصل
قال بعض أهل المعرفة : النفوس الإنسانية إنّما هبطت إلى هذا العالم من عالم آخر ، وهو مأواها الطبيعي ، وموطنها الأصلي ، وهي كانت هناك حيّة ، مختارة ، لطيفة ، عالمة ، قادرة بقوّة مبدعها ، سائحة في عالمها ، فرحانة ، مطمئنة عند بارئها (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٦) ، وهي الجنة الّتي كان فيها أبوها العقلي ، وأمّها
__________________
(١) ـ الكافي : ٢ : ١٢ ، ح ١.
(٢) ـ سورة النحل ، الآية ٤٠.
(٣) ـ سورة فصلت ، الآية ١١.
(٤) ـ سورة الزلزلة ، الآية ٤.
(٥) ـ سورة فصلت ، الآية ٢١.
(٦) ـ سورة القمر ، الآية ٥٥.
النفسية.
فإذا أهبطت من هناك لخطيئة وقعت من أبيها وأمها ، وفرّت من سخط الله ، وانحطّت إلى السفل ، وحوّلت إلى هذا العالم ، انقلبت حياتها موتا ، ونورها ظلمة ، وتبدّلت قدرتها عجزا ، واختيارها اضطرارا ، واستقرارها اضطرارا ، ولطافتها كثافة ، وزالت كرامتها وشرفها وكمالها ، إلى المذلّة ، والخسّة ، والنقص ، وانجرّت جمعيتها ووحدتها إلى التفرقة والكثرة ، فهي ما لم تصل ثانيا إلى معادها الأصلي ، ولم تزل الكثرة والتفرقة عنها بالكلية ، كأنها لم تكن ، لم تسكن ولم تطمئن من انزعاجها واستفزازها.
فإن قيل : إذا كانت النفوس مبتهجة بكمالها العقلي اللائق بحال تلك النشأة ، فما العلة في فيضانها وصدورها عن ذلك؟ وما الغاية في ذلك؟
قلنا : أمّا العلّة الفاعلية فنفس ذات هويّتها العقلية بحسب القضاء الأزلي الربّاني ، اقتضت نزولها إلى عالم الأبدان حكما إجماليا كليا ؛ لجملة النفوس ، وحكما قدريا تفصيليا بحسب الأوقات والأزمنة ، وعللها الجزئية لآحاد النفوس ؛ وذلك بواسطة جهة نقص وإمكان كانت لها ، يعبّر عنها بالخطيئة لأبينا آدم ، وعن صدور النفوس بالفرار من سخط الله ، وليس ذلك إلّا ما يقتضيه ترتيب الوجود ، فإنّ النور الأنقص لا تمكّن له في حضرة النور الأشدّ ، كما أفصح عنه الحديث المشهور : «أنّ لله سبعين حجابا من نور» (١).
وأمّا العلة الغائية ، فهي كمالها العقلي الحاصل لها من جهة تطوّراتها في الأطوار الكونية ، والشؤون الأفعالية ، فإنّ الجمع بين الصفات الملكية والحيوانية والأسماء التنزيهية والتشبيهية ، أدخل في الكمال الجمعي ، وأتمّ بالتشبّه بالإله
__________________
(١) ـ مجمع الزوائد : ١ : ٧٩ ، باب في عظمة الله سبحانه وتعالى.
بقدر الوسع البشري من الاكتفاء بالتجرّد والتنزّه فقط ، وإلّا فيلزم أن يبقى في كتم العدم كثير من الخيرات والكمالات الكونية ، من غير أن يخرج من القوّة إلى الفعل ، مع إمكانها ؛ وذلك ينافي العناية.
وصل
روى الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، أنه قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : لأي علّة جعل الله تبارك وتعالى الأرواح في الأبدان بعد كونها في الملكوت الأعلى ، في أرفع محلّ؟ فقال عليهالسلام : إن الله تبارك وتعالى علم أنّ الأرواح في شرفها وعلوّها متى تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عزوجل ، فجعلها بقدرته في الأبدان الّتي قدّرها لها في ابتداء التقدير ؛ نظرا لها ، ورحمة بها ، وأحوج بعضها إلى بعض ، وعلّا (١) بعضها على بعض ، ورفع بعضها فوق بعض درجات ، وكفى بعضها ببعض ، وبعث إليهم رسله ، واتّخذ عليهم حججه ، مبشّرين ومنذرين ، يأمرونهم بتعاطي العبودية ، والتواضع لمعبودهم ، بالأنواع الّتي تعبّدهم بها ، ونصب لهم عقوبات في العاجل ، وعقوبات في الآجل ، ومثوبات في العاجل ، ومثوبات في الآجل ، ليرغّبهم بذلك في الخير ، ويزهّدهم في الشر ، وليذلّهم بطلب المعايش والمكاسب ، فيعلموا بذلك أنهم مربوبون ، وعباد مخلوقون ، ويقبلوا على عبادته ، فيستحقّوا بذلك نعيم الأبد ، وجنّة الخلد ، ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحق.
ثمّ قال عليهالسلام : يا بن الفضل ، إن الله تبارك وتعالى أحسن نظرا لعباده منهم
__________________
(١) ـ في المصدر : وعلق.
لأنفسهم ، ألا ترى أنك لا ترى فيهم إلّا محبّا للعلو على غيره ، حتّى أن منهم من قد نزع إلى دعوى الربوبية ، ومنهم من قد نزع إلى دعوى النبوّة ، بغير حقّها ، ومنهم من قد نزع إلى دعوى الإمامة ، بغير حقّها ، مع ما يرون في أنفسهم من النقص ، والعجز ، والضعف ، والمهانة ، والحاجة ، والفقر ، والآلام ، المتناوبة عليهم ، والموت الغالب لهم ، والقاهر لجميعهم.
يا بن الفضل ، إن الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم ، ولا يظلم الناس شيئا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون (١).
تمثيل :
ما أشبه حال النفس الإنسانية في تقلّبها في أطوار الخلقة ، ووقوعها من عالم الفطرة في مزابل الجهّال ، ونسيانها عالمها عند الهبوط إلى منازل الأراذل ، إلى أن تصل إلى درجة العقل الفعّال بحال البذر في تقاليب الأطوار ، إلى أن يبلغ مرتبة الثمار ، فيبتدىء أوّله وهو بذر يفسد لبّه في الأرض ، ويفنى عن ذاته في الأماكن الغريبة ، ثمّ يستحيل بقوّة نامية من حال إلى حال ، حتّى ينتهي إلى ما كان أوّلا ، ويصل إلى درجة اللبّ الّذي كان عليها في بدء أمره ، مع عدد كثير من أفراد نوعه ، وفوائد وأرباح كثيرة حاصلة من سفره من الأوراق والقشور والأشجار والأنوار ، فيخرج من بين تلك القشور والحشائش لبّا صافيا ، بإذن الله ، ثمرة صالحة هي نتيجة تلك المقدّمات ، ونهاية تلك الأشعّات تكون موجودة باقية ببقاء موجدها ، مع انفساخ تلك الأمور ، وزوالها.
__________________
(١) ـ كتاب التوحيد : ٤٠٢ ، ح ٩.