عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

بالمثانة ليرسل مائيته إليها.

ووضعت اليمنى أرفع من اليسرى ؛ لتكون أقرب من الكبد ، وإنما جعلت زوجا ؛ لكثرة المائية ، ويضيق المكان على الكبد ، والأعور ، أو الطحال ، والقولون ، إن جعلت واحدة في أحد الجانبين ، وكان مع ذلك لا تستوي القامة ، بل تكون مائلة إلى جهتها ، أو على المعدة ، والأمعاء ، إن جعلت في الوسط ، وكان مع ذلك يمنع الانحناء إلى قدام ، على أن كلّ عضو من الحيوان خلق زوجا ، والذي لا يرى زوجا فهو ذو شقّين ، كما يظهر بالتأمل فيما مرّ ، فسبحان من خلق من كلّ شيء زوجين لعلكم تذكرون.

فصل

وأمّا المثانة فهي عصبانية ، مخلوقة من عصب الرباط ؛ لتكون أشد قوة ، ووثاقة ، ومع القوّة قابلة للتمدد ، وهي ككيس بلوطي الشكل ، طرفاه أضيق ، ووسطه أوسع ، مبطن بغشاء منتسج من الأصناف الثلاثة من الليف ؛ ليقوم بإتمام الأفعال الثلاثة ، فهي ذات طبقتين ، والبطانة ضعف الظهارة ، عمقا وغلظا ؛ لأنها هي الملامسة للمائية الحادة ، وهي القائمة بالأفعال الثلاثة ، والظهارة وقاية لها ؛ لئلّا تنفسخ عند ارتكازها ، وتمددها.

وهي موضوعة بين الدبر والعانة ، وشأنها أن تكون وعاء للبول ، ومقبضة له إلى أن يخرج دفعة واحدة بالاختيار والإرادة ، فيستغني الإنسان بذلك عن مواصلة الإدرار ، كالمعاء للثفل ، والبول يأتيها من منفذي الكليتين ، كما مرّ.

والمنفذان إذا بلغا إليها خرقا إحدى طبقتيها ، ومرّا فيما بين الطبقتين في

٢٠١

طولها ، ثمّ يغوصان في الطبقة الباطنة ، مفجّرين إياها إلى تجويف المثانة ، حتّى إذا امتلأت وارتكزت انطبقت البطانة على الظهارة مندفعة إليها من الباطن ، كأنهما طبقة واحدة ، لا منفذ بينهما.

ولها عنق دفاع للماء إلى القضيب ، معوّج ، كثير التعاويج ، ولأجلها لا يندفع الماء بالتمام دفعة ، وخصوصا في الذكران ، فإنه فيهم ذو ثلاث تعاويج ، وفي الإناث ذو تعويج واحد ، لقرب مثانتهنّ من أرحامهنّ ، وعلى فمه عضلة تضمه ، وتمنع خروج البول حتّى تطلقه الإرادة المرخية لها ، فسبحان الخالق الكريم ، ما أكرمه ، وأسبغ نعمه.

فصل

وأمّا الثدي فركّب من شرايين ، وعروق ، وعصب ، يحتشي ما بينها نوع من اللحم غددي ، أبيض ، طبيعته طبيعة اللبن ، خلقه الله ليكون المحيل والمولد للّبن ، وهذه الشرايين والعروق تنقسم في الثدي إلى أقسام دقاق ، وتستدير وتلتّف لفائف كثيرة ، ويحتوي عليها ذلك اللحم الّذي هو مولّد اللبن ، فيحيل ما في تجويفها من الدم حتّى يصير لبنا ، بتشبيهه إياه بطبيعته ، كما يحيل لحم الكبد ما يجتذب من المعدة والأمعاء ، حتّى يصير ما بتشبيهه إياه بنفسه ، فسبحان من يسقينا من بين فرث ودم لبنا خالصا ، سائغا للشاربين.

فصل

وأمّا الأنثيان فجوهرهما لحم غددي أبيض ، مثل لحم الثدي ، يحيل الدم النضيج الأحمر اللطيف المنجذب إليها ، كأنه فضلة الهضم الرابع في البدن ، كلّه

٢٠٢

منيا أبيض ، بسبب ما يتخضخض فيه هوائية الروح ، وانجذاب تلك المادّة إليهما في شعب عروق ساكنة ونابضة ، كثيرة الفوهات ، كثيرة التعاويج ، والالتفافات ، ومجرى تلك العروق بالصفاق ، وينزل منه مجريان شبه البرنجين ، ثمّ يتشعّبان فتكون منهما الطبقة الداخلة من كيس البيضتين ، ثمّ يصير من هناك فيها فيستحكم استحالته ، ويكمل نوعه ، ويصير منيّا تامّا ، ويصير في مجريين يفضيان إلى القضيب.

وبسبب كثرة شعب العروق الّتي تأتيها صار الإخصاء الّذي في صورة قطع عرق واحد، كأنه قطع من كلّ عضو عرق ؛ لكثرة الفوّهات الّتي تظهر هناك ، ولهذا يوجد (١) الخصيان ، تذهب قواهم ، وتسترخي مفاصلهم ، ويظهر ذلك في مشيهم ، وجميع حركاتهم ، وفي عقولهم ، وأصواتهم ، فتبارك الله البارىء اللطيف.

فصل

وأمّا القضيب فهو عضو ، مؤلف من رباطات ، وأعصاب وعضلات ، وعروق ضاربة، وغير ضاربة ، يتخللها لحم قليل.

وأصله جسم رباطي ، ينبت من عظم العانة ، كثير التجاويف ، واسعها ، تكون في الأكثر منطبقة ، وتحته وفوقه شرايين كثيرة ، واسعة ، فوق ما يليق به ، وتأتيه أعصاب من فقار العجز ، وإن كانت ليست غائصة في جوهره.

وله ثلاث مجاري : للبول ، والمني ، والودي ، والانعاض يكون بامتلاء تجاويفه من ريح غليظة ، وامتلاء عروقه من الدم ، والإنزال يكون عندما يتمدّد

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة ، ولعل الأنسب «تجد».

٢٠٣

وتنتصب الأوعية الّتي فيها المني ، وتهيج لقذف ما فيها ؛ لكثرته ، أو للذعه ، وأحد الأسباب الداعية إلى ذلك احتكاك الكمرة ، وتدغدغها من الجسم المصاك لها ، فإنّ ذلك يدعو إلى تمدد أوعية المني ، وقذف ما فيها ، وقوّة الانتشار.

وريحه تنبعث من القلب ، وكذا قوّة الشهوة تنبعث منه بمشاركة الكلية ، والأصل هو القلب ، فتبارك الله الخالق البارىء ، أحسن الخالقين.

فصل

وأمّا الرحم فهو للإناث بمنزلة القضيب للرجال ، فهو آلة توليدهنّ ، كما أن القضيب آلة تناسلهم ، وفي الخلقة تشاكله ، إلّا أن إحداهما تامّة بارزة ، والأخرى ناقصة محتبسة في الباطن ، وكأن الرحم مقلوب القضيب ، أو قالبه.

وفي داخله طوق مستدير عصبي ، في وسطه وعليه زوائد ، وخلق ذا عروق كثيرة ؛ ليكون هناك عدة للجنين ، ويكون ـ أيضا ـ للعضل الطمثي منافذ كثيرة ، وهو موضوع فيما بين المثانة والمعاء المستقيم ، إلّا أنه يفضل على المثانة إلى ناحية فوق (١) ، كما تفضل هي عليه بعنقها من تحت.

وهو يشغل ما بين قرب السرّة إلى آخر منفذ الفرج ، وهو رقبته ، وطوله ما بين ست أصابع إلى أحد عشر ، ويقصر ويطول بالجماع ، وتركه ، وتشكّل مقداره بشكل مقدار من يعتاد مجامعتها ، ويقرب من ذلك طول الرحم ، وربما مسّ المعاء العليا.

وهو مربوط بالصلب برباطات كثيرة قوية إلى ناحية السرة ، والمثانة

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة.

٢٠٤

والعظم العريض ، لكنها سلسة ، وجعل من جوهر عصبي له أن يتمدد ويتّسع على الاشتمال ، وأن يتقلّص ويجتمع عند الاستغناء ، ولن يستتم تجويفه إلّا مع استتمام النمو ، كالثدي لا يستتم حجمها إلّا مع ذلك ؛ لأنّه يكون قبل ذلك معطّلا ، وهو يغلظ ويثخن كأنه يسمن في وقت الطمث ، ثمّ إذا طهر ذبل.

وخلق ذا طبقتين ، باطنتهما أقرب إلى أن تكون عرقية ، وخشونتها لذلك ، وفوّهات هذه العروق هي الّتي تنقر في الرحم ، وتسمى نقر الرحم ، وبها تتصل أغشية الجنين ، ومنها يسيل الطمث ، ومنها يعتدل الجنين ، وظاهرتهما أقرب إلى أن تكون عصبية ، وهي ساذجة واحدة ، والداخلة كالمنقسم قسمين ، كمتجاورين ، لا كملتحمين.

ولرحم الإنسان تجويفان ، ولغيره بعدد الأثداء ، وينتهيان إلى مجرى محاذ لفم الفرج الخارج ، فيه يبلغ المني ، ويقذف الطمث ، ويلد الجنين ، ويكون في حال العلوق في غاية الضيق ، لا يكاد يدخله طرف ميل ، ثمّ يتّسع بإذن الله ، فيخرج منه الجنين.

وقبل افتضاض البكر يكون في رقبة الرحم أغشية تنسج من عروق ورباطات رقيقة جدّا ، يهتكها الافتضاض ، ومن النساء من رقبة رحمها إلى اليمين ، ومنهنّ من هي منها إلى اليسار ، وهي عضلية اللحم ، كأنها غضروفية ، وكأنها غصن على غصن ، يزيدها السمن والحمل صلابة.

وللرحم زائدتان تسمّيان قرني الرحم ، وهما الأنثيان للنساء ، وهما كما في الرجال ، إلّا أنهما باطنتان ، وأصغر ، وأشد تفرطحا ، يخص كلّ واحد منهما غشاء عصبي ، لا يجمعها كيس واحد.

وكما أن أوعية المني في الرجال بينهما وبين المستفرغ من أصل القضيب ،

٢٠٥

كذلك للنساء بينهما وبين المقذف إلى داخل الرحم ، إلّا أنها فيهنّ متصلة بهما ؛ لقربها بهما في اللين ، لكونها في كنّ ، بخلافها فيهم ، فإنه جعل بينهما واسطة ؛ لئلّا يتأذى بصلابتهما حال تواترهما ، فتبارك الله الرؤوف الكريم ، ما أرأفه ، وأبين كرمه.

فصل

وأمّا هيئة الخاصرة ، والعانة ، والورك ، فبيانها :

أن عند العجز عظمين كبيرين ، يمنة ويسرة ، يتّصلان في الوسطين قدّام بمفصل موثق ، وهما كالأساس لجميع العظام الفوقانية ، والحامل الناقل للسفلانية ، وكلّ واحد منهما ينقسم إلى أربعة أجزاء ، فالذي يلي الجانب الوحشي يسمى الحرقفة ، وعظم الخاصرة ، والذي يلي القدام يسمى عظم العانة ، والذي يلي الخلف يسمى عظم الورك ، والذي يلي الأسفل الإنسي يسمى حقّ الفخذ ؛ لأنّ فيه التقصير الّذي يدخل فيه رأس الفخذ المحدب ، وقد وضعت عليه أعضاء شريفة ، مثل المثانة ، والرحم ، وأوعية المني من الذكران ، والمقعدة ، والسرّة.

فصل

وأمّا الفخذ فله عظم هو أعظم عظم في البدن ؛ لأنّه حامل لما فوقه ، وناقل لما تحته ، وقبّب طرفه العالي ليتهندم في حقّ الورك ، وهو محدب إلى الوحشي ، وقدّام مقعّر إلى الإنسي ، وخلف ، فإنه لو وضع على استقامته وموازاة للحق

٢٠٦

لحدث نوع من الفحج (١) ، كما يعرض لمن خلقته تلك ، ولم يحسن وقايته للعضل الكبار ، والعصب والعروق ، ولم يحدث من الجملة شيء مستقيم ، ولم يحسن هيئة الجلوس.

ثمّ لو لم يردّ ثانيا إلى الجهة الإنسية لعرض فحج (٢) من نوع آخر ، ولم يكن للقوام واسطة عنها وإليها الميل ، فلم تعتدل ، وفي طرفه الأسفل زائدتان يتهندمان في نقرتين في رأس عظم الساق ، وقد وثقتا برباط يلتفّ ، ورباط في الغور ، ورباطين من الجانبين قويين ، فهندم مقدمهما بالرضفة ، وهي عين الركبة ، وهو عظم عريض في الاستدارة ، فيه غضروفية ، فائدته مقاومة ما يتوقى عند الجثو وجلسة التعلّق من الانتهاك والانخلاع ، فهو دعامة للمفصل ، ولله الحمد.

فصل

وأمّا الساق فهو كالساعد ، مؤلف من عظمين ، أحدهما أكبر وأطول ، وهو الإنسي ، ويسمى القصبة الكبرى ، والثاني أصغر وأقصر ، لا يلاقي الفخذ ، بل يقصر دونه إلّا إنه من أسفل ينتهي إلى حيث ينتهي إليه الأكبر ، ويسمى القصبة الصغرى ، وهي متبرئة عن الكبرى ، في الوسط بينهما فرجة قليلة ، وللساق تحدب إلى الوحشي ، ثمّ عند الطرف الأسفل تحدب آخر إلى الإنسي ، ليحسن به القوام ويعتدل ، فسبحان خالقها الكريم ، وبحمده.

__________________

(١ و ٢) ـ كذا في المخطوطة في الموضعين ، وفي بعض النسخ المطبوعة «الفجج» بالمعجمتين ، وهما هيئتان في المشي ، أما الفحج ـ بإهمال الأولى ـ فهو تداني صدري القدمين ، وتباعد عقبيهما ، وأمّا الفجج ـ بالإعجام ـ فهو الانفراج والاتساع بين القدمين. (بحار الأنوار : ٥٩ : ٥١ في الهامش).

٢٠٧

فصل

وأمّا القدم فمؤلفة من ستة وعشرين عظما ، كعب به يكمل المفصل مع الساق ، وعقب به عمدة الثبات ، وهو أعظمها ، وزورقي به الأخمص ، وأربعة عظام للرسغ ، بها يتّصل بالمشط ، وواحد منها عظم نردي ، كالمسدس ، موضوع إلى الجانب الوحشي ، وبه يحسن ثبات ذلك الجانب على الأرض ، وخمسة عظام للمشط ، بعدد الأصابع في صف واحد ، وأربعة عشر سلاميات الأصابع ، لكلّ منها ثلاثة سوى الإبهام ، فإنّ له اثنين.

أما الكعب فإنّ الإنساني منه أشد تكعيبا من كعوب سائر الحيوانات ، وكأنه أشرف عظام القدم النافعة في الحركة ، كما أن العقب أشرف عظام الرجل النافعة في الثبات ، وهو موضوع بين الطرفين النابتين من قصبتي الساق ، يحتويان عليه بمقعّرهما من جوانبه ، ويدخل طرفاه في العقب في نقرتين دخول ركز ، وهو واسطة بين الساق والعقب ، به يحسن اتصالهما ، ويتوثق المفصل بينهما ، ويؤمن عليه الاضطراب ، وهو موضوع في الوسط بالحقيقة ، ويرتبط به العظم الزورقي من قدام ، ارتباطا مفصليا ، وهذا الزورقي متصل بالعقب من خلف ومن قدام ، بثلاثة من عظام الرسغ ، ومن الجانب الوحشي بالعظم النردي.

وأمّا العقب فهو موضوع تحت الكعب ، صلب مستدير إلى خلف ، ليقاوم المصاكات والآفات ، مملّس الأسفل ، ليحسن استواء الوطىء وانطباق القدم على المستقر عند القيام ، وخلق مثلثا إلى الاستطالة يدقّ يسيرا يسيرا حتّى ينتهي فيضمحلّ عند الأخمص إلى الوحشي ، ليكون تقعير الأخمص متدرّجا من خلف إلى متوسطه.

٢٠٨

وأمّا الرسغ فيخالف رسغ الكف ، فإنه صفّ واحد ؛ وذاك صفّان ، وعظامه أقل عددا ؛ وذلك لأنّ الحاجة في الكف إلى الحركة والاشتمال أكثر ، وفي القدم إلى الوثاقة أشد ، وخلق شكل القدم مطاولا إلى قدّام ليعين على الانتصاب بالاعتماد عليه ، وخلق له أخمص من الجانب الإنسي ؛ ليكون ميل القدم عند الانتصاب وخصوصا لدى المشي إلى الجهة المضادّة لجهة الرجل المشيلة للنقل ، فيعتدل القوام ؛ وليكون الوطىء على الأشياء المدوّرة والناتئة مهندما من غير ألم ، وليحسن اشتمال القدم على ما يشبه الدرج ؛ وليكون بعض أجزائها متجافية عن الأرض ، فيكون المشي أخف ، والعدو أسهل ، ولمثل هذه المنافع خلقت من عظام كثيرة ، فإنّها بذلك تحتوي على الموطوء عليه ، كالكف على المقبوض.

وجملة عظام البدن ـ على ما عدّه أهل هذا الفن ـ مائتان وثمانية وأربعون عظما ، سوى السمسمانية ، والعظم الّذي في الحنجرة ، والذي في القلب.

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام : «إن الله خلق الإنسان على اثني عشر وصلا ، وعلى مائتين وستة وأربعين عظما ، وعلى ثلاثمائة وستين عرقا ، فالعروق هي التي تسقي الجسد كله ، والعظام تمسكها ، واللحم يمسك العظام ، والعصب يمسك اللحم ، وجعل في يديه اثنين وثمانين عظما ، في كلّ يد إحدى وأربعون عظما ، منها في كفّه خمسة وثلاثون عظما ، وفي ساعده اثنان ، وفي عضده واحد ، وفي كفّه ثلاثة وأربعون عظما ، وكذلك في الأخرى ، وفي رجله ثلاثة وأربعون عظما ، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظما ، وفي ساقه اثنان ، وفي ركبته ثلاثة ، وفي فخذه واحد ، وفي وركه اثنان ، وكذلك في الأخرى ، وفي صلبه ثماني (١) فقارة ،

__________________

(١) ـ في المصدر : ثماني عشرة.

٢٠٩

وفي كلّ واحد من جنبيه تسعة أضلاع ، وفي وقصته (١) ثمانية ، وفي رأسه ستّة وثلاثون عظما ، وفي فيه ثمانية وعشرون ، أو اثنان وثلاثون» (٢). انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه.

هذا ما يهتدي إليه الإنسان من تشريح الأعضاء ، ومنافعها ، وما لا يهتدي إليه من المنافع أكثر ، فتبارك الّذي أحسن كلّ شيء خلقه ، وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.

__________________

(١) ـ في المصدر : عنقه.

(٢) ـ المناقب لابن شهرآشوب : ٤ : ٢٥٦.

٢١٠

في الملائكة الموكّلين بالحيوان الكامل

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١)

فصل

إن الله سبحانه وكلّ بالحيوان الكامل ـ سوى ربّ نوعه العقلي الّذي هو من العالم العلوي ـ أصنافا من الملائكة السفلية الجزوية ، بهم أقام وجوده ، وأدام شخصه ، وحفظ حياته.

فمنهم من له مدخل في نباتيّته ، أي نشوءه ونماءه ، ومنهم من له مدخل في حيوانيته، أي إحساسه وحركته الإرادية ، ومنهم من له مدخل في كونه حيوانا خاصا ، له صفات كمالية زائدة على أصل الحيوانية ، مثل النطق ، والتعجّب ، والتضجّر ، والخجل ، والخوف، والرجاء ، بحسب العاقبة ، كالخوف والرجاء بحسب الحال ، إلى غير ذلك من خواصّ المسمى بالانسان من أنواعه.

ومنهم من له مدخل في كونه إنسانا خاصا ، له صفات كمالية زائدة على أصل البشرية ، مثل صيرورة تعقّل الكليّات ملكة له ، وكثرة مراجعته إلى عالم القدس ، وتأيّده بروح القدس ، إلى غير ذلك من خواصّ الإنسان بما هو إنسان ، الذي هو أشرف أنواع الحيوان ، بل هو في الحقيقة جنس آخر ، نسبته إلى الحيوان

__________________

(١) ـ سورة الرعد ، الآية ١١.

٢١١

كنسبة الحيوان إلى النبات ، بل التفاوت أكثر ، وإن اشتمل كلّ على ما تحته ؛ ولهذا عقدنا له بابا على حدة ، كما يأتي.

فهذه أربعة أصناف من الملائكة ، وقد يعبّر عنها كلّها ، أو الثلاثة الأول خاصة ، أو الأولين خاصّة ، بالقوى ، وقد يعبّر عن الكلّ بالنفوس ، وقد يعبّر بالأرواح ، ودع عنك العبارات ، فإنّ المعنى واحد ، وهو مبادىء الأفاعيل في الحيوان ، الّتي هي جهات النفس الحيوانية ، واعتباراتها ، كما أشرنا إليه في النبات.

وإطلاق هذه الألفاظ كلّها عليها وارد في الشرع ، كما ستقف عليه عند ذكرنا الأخبار في ذلك ، وإن كان إطلاق الروح عليها فيه أكثر ، ولا سيّما على الصنف الرابع ، وقد مضى ذكر الصنف الأوّل. وذكر الصنف الرابع ، بمباحث الإنسان ، بما هو إنسان ، أنسب ، فنحن الآن بصدد ذكر الصنفين الآخرين ، ومن الله التأييد.

فصل

أما المتعلّق منهم بالحيوان ، بما هو حيوان ، فمنهم محرّك ، ومنهم مدرك ، والمحرّك إمّا فاعل للحركة ، وإما باعث عليها.

أما الفاعل للحركة فقد مرّ محلّه من البدن ، وكيفية فعله ، وآلته.

وأمّا الباعث عليها ، فهو ملك شوقي ، مذعن لمدركات الخيال ، والوهم ، أو العقل العملي بتوسّطهما ، فيحمل الإدراك له على أن يبعث إلى طلب ، أو هرب ، بحسب السوانح ، وله جناحان ، جناح شهوي باعث على جلب الضروري ، أو

٢١٢

النافع طلبا للّذّة ، وجناح غضبي حامل على دفع وهرب من المضار ؛ طلبا للانتقام ، ومحلّه القلب والدماغ بمعاونته ، ويخدمه الفاعل للحركة ، المنبثّ في الأعضاء ، كما يخدم هو الملائكة المدركة.

فللحركات الاختيارية مباد مترتبة ، أبعدها عن عالم الحركة ، والمادّة ، والخيال ، أو الوهم ، أو ما فوقهما من الملائكة ، ثمّ الملك الشوقي ، وبعده ، وقبل الفاعل ملك آخر ، كأنه جزء للشوقي ، وتمام له ، أو متمم لفعله ، يسمى بالإرادة ، أو الكراهة ، وهذا كالحركات الطبيعية ، فإنّ لها ـ أيضا كما دريت ـ مباد مترتبة ، بعضها من عالم العقل والتأثير ، وبعضها من عالم الأمر والتدبير ، وأدناها من عالم الطبيعة والتسخير ، والكلّ بقضاء الله والتقدير.

والفارق بين تحريكات الحيوان وبين غيرها ، أن في الحيوان إرادة متفننة حسب دواعيه ، وقواه المختلفة ، لتركّبه من العناصر المتضادّة ، وإرادة غيره على نظام واحد ؛ لبساطته ، وهكذا النبات ، وإن كان مركّبا ذا قوى وملائكة متعدّدة ، إلّا أن للجميع مذهبا واحدا ، ولا حاجة لها كثيرا إلى أسباب خارجة عن ذاتها ، ودواع مختلفة عن قصدها.

فصل

وأمّا المدرك من الملائكة ، فمنه ظاهر مشهور ، ومنه باطن مستور.

أما الظاهر فينحصر في الحواسّ الخمس ، الّتي للإنسان ، بحكم الاستقراء ، وقد يستدل عليه بأنه قد ثبت أن الطبيعة لا تنتقل إلى النوع الأكمل إلّا وقد استكملت جميع شرائط النوع الأنقص ، وكمالاته ، فلو كان في الإمكان حسّ

٢١٣

آخر لكان حاصلا للإنسان ؛ لأنّ طبيعته انتقلت من الحيوانية الصرفة إلى النطقية التي هي فوقها ، فلمّا لم يحصل ، علمنا أنّ الحواس منحصرة في الخمس.

وأيضا قد ثبت أن الكيفيات المحسوسة لا يمكن أن تكون فوق ستّة عشر المحسوسة بالذات ، والثلاثة المحسوسة بالعرض ، أعني الحركة والسكون والشكل ، فلا جسم مكيّف بكيفيّة من الكيفيات المحسوسة ما خلا هذه المحسوسات ، فلا حاسّة في الوجود ، ولا في الإمكان غير الّتي تدرك هذه المحسوسات.

وقد بيّنا في التشريح محل هذه الأملاك الحساسة من البدن ، وذكرنا مدركاتها ، وآلاتها ، وإنما بقي علينا أن نبيّن كيفية إدراكاتها ، وتمييز الأهم منها ، والأشرف ، والألطف ، وترتيبها في ذلك ، فنحن الآن بصدد ذلك.

فصل

قد دريت أنّ المدرك لا بدّ وأن يستكمل بالمدرك ، بأن تكون نسبته إليه كنسبة القوّة إلى الفعل ، والنقص إلى الكمال ؛ وذلك إنّما يتصور بأن يكون خاليا عنه ، أو يكون بمنزلة الخالي.

وأيضا الشيء إنّما ينفعل ويتأثّر عند ورود الضدّ ، لا الشبيه ، وبيّن أن مزاج الحيوان ـ بما هو حيوان ـ من جنس الكيفيات الملموسة ، وقد مرّ أيضا أن الممتزج إذا اعتدل في كيفياته صار ذا صورة وحدانية جامعة بوحدانيته لكمال تلك الصور الّتي تركب منها ، والصورة ليست إلّا مبدأ تلك الكيفيات ، والاتحاد في ذي المبدأ يلزم الاتحاد في مبدئه.

٢١٤

ثم إنّ القوّة اللامسة قد مرّ أنها سارية في جميع البدن والأعضاء ، على تخالف مزاجها ، ومزاج الروح الحامل للقوة ، إلّا ما يكون عدم الحس أنفع له ، كالكبد ، والرئة ، والطحال ، والكلية ، والعظم ، فقوام هذه القوّة إنما هو بما به قوام الحيوان ، بما هو حيوان ، أعني كيفية الصورة العنصرية المتوسطة بين الأربع ، فهذه القوّة أيضا من جنس الكيفيات الأول الملموسة ، لكنها بتوسّطها المزاجي ناقصة الكيفية ، بمنزلة الخالي عنها ، القابل لها بالقوة ، فهي إنّما تدرك الأطراف بهذا التوسّط الّذي هو بمنزلة الخالي عن الأضداد ، ولهذا كلما كان مزاج الحيوان أقرب إلى الاعتدال كانت هذه القوّة فيه أقوى ؛ وذلك لأنّ طبيعتها كطبيعة الحيوان ، ومادّتها كمادته ، فكان صلاحها كصلاحه ، ببقاء الاعتدال ، وفسادها بفساده ، بزوال ذلك الاعتدال ، فيمتنع بقاء الحيوان بدون هذه القوّة ، فهي أدنى درجات القوّة الحيوانية ، وأهم الحواس للحيوان ، ولهذا لا يخلو حيوان ما عن هذه القوّة.

ولما كان شأنها أن يحترز بها عن منافيات المزاج بالهرب والتنحّي ، وجب أن يكون كلّ لامس متحركا بالإرادة ، حتّى أن الاسفنجات ـ الّتي يظنّ فيها خلاف ذلك ـ لها حركة انقباض وانبساط ، ولولاها لما عرف حسّها.

وأمّا القوى الأربع الأخر ، فحالها خالية عن كيفية مدركاتها ؛ لأنها ليست من جنس مدركاتها ، بل هي من جنس الكيفيات الملموسة ، كقوّة اللمس ؛ لأنها أجزاء البدن الّذي هو كذلك ، إلّا أنها لما لم تكن ملاقية لمحالها ، كما في اللمس ، وهذا معلوم في غير الذوق ، وفي الذوق أيضا كذلك ، فإنّ العصبة المفروشة في جرم اللسان غائصة فيه ، والغذاء لغلظته لا يتمكن من الغوص فيه ، فلذلك احتاجت هذه القوى في إدراكاتها إلى توسّط جرم لطيف بين محالها وبين مدركاتها ، ليلاقي بطرفيه كليهما ، فتخالطه أجزاء من جسم ذلك المدرك ،

٢١٥

ويغوص في جرم المحلّ ، أو يتكيّف بكيفية المدرك ، ويوصلها إلى المحل.

لست أقول : بشخص كيفية ؛ لامتناع انتقال الأعراض ، بل بكيفية من نوعها ، بإفاضة الله سبحانه عليه ، بسبب الإعداد الحاصل من المخالطة ، على النحو الخاص ، أو يصير ذلك الجرم واسطة من دون مخالطة ، ولا تكيّف ، بل على نحو آخر نذكره.

وعلى التقادير الثلاث يكون له ـ لا محالة ـ اتصال ما بالبدن ؛ لاشتراكهما في المادة ، فإنّ مادّة جميع العناصر والمركّبات واحدة ، والاتصال ضرب من الاتحاد ؛ لأنّ المتصلين موجودان بوجود واحد ، ولها هوية واحدة ، فكما يكون للنفس أن تتنبه لما يحدث في البدن ، فكذلك لها أن تتنبه لما يتصل بالبدن ، أو يرتبط به ارتباطا خاصا وضعيا ؛ لأنّ الاتحاد في الوضع كالاتحاد في الوجود ، وهذا سبب تأثر النفس من عوارض ما يطيف بالبدن ، ويتصل به ؛ إذ المجموع ، أعني المتصل والمتصل به ، كأنهما بدن واحد للنفس ، فيختبر عن حال أحدهما بالآخر ، فبهذا الاتصال تدرك النفس بواسطة هذه الأملاك المسماة بالقوى الّتي هي بمنزلة جوارحها المجرّدة المعنوية ، ومراتبها المتنزلة ، وجهاتها الاعتبارية ، وحيثيات تعلّقها بأجزاء البدن المحسوسات الأربع ، ما خلا الملموسات.

وذلك الجرم اللطيف المتوسط إمّا في الذوق ، فهو الرطوبة اللعابية الغائصة في جرم اللسان ، ويتوقّف الإدراك فيه على المماسة الصرفة ، ولهذا أرجع بعضهم الكيفيات المذوقة إلى الملموسات ، فالذوق لمس لطيف كمالي ، نسبته إليه نسبة الكمال إلى النقص ، فكلّ ذوق لمس في الحقيقة ، ولا عكس كليا ، فهو أعم الحواس الخمسة ، وأهمها ، بعد اللمس ، وأشبه القوى به.

وأمّا في الشم والسمع فهو الهواء المنفعل ، والشم أعم ، وأهم ، بعد الأولين ،

٢١٦

وأشبه بهما من الباقيين.

وأمّا في البصر فهو جرم نوراني في الجليدية ، يرتسم منه بين العين والمرئي مخروط ، وهمي أو جوهري ، مجرّد عن المادة ، فائض وجوده عن سبب فاعلي ، بلا حركة وزمان ، ولا شيء من الأسباب المادية إلّا الوضع المخصوص من النير ، وعدم الحجاب ، ويتعلّق إدراك النفس بالمرئي من جهة زاوية هذا المخروط الّتي عند الجليدية ، ويحدث منها في المقابل القابل أشعة وأضواء ، تكون قوتها في مسقط السهم ، ممّا يحاذي مركز العين الّذي هو بمنزلة الزاوية للمخروط ، ولشدة استنارته يكون ما نرى منه أظهر ، وإدراكه أقوى ، هكذا حقّق هذه المباحث أستاذنا ـ دام ظله ـ.

والآن فلنفتش عن كيفية إدراك النفس في هذه الحواس ، هل المدرك فيها هو الأمر المادي العيني ، سواء كان قائما بمادّة المحسوس نفسه ، أو بمادّة الجرم المتوسّط ، أو غير ذلك ، أم أمر آخر مجرّد؟

وعلى أي نحو يجوز أن يقع الإدراك؟ وعلى أي نحو لا يجوز أن يقع؟

فاسمع لما سنلقي إليك من القول ، وإن كان بعضه ثقيلا.

فصل

ليس إدراك السمع بأن يتشكّل الهواء بتقاطع الحروف ، كما ظن ؛ لأنّ الهواء لا يحفظ الشكل ، كيف وهو سريع الالتئام ، ثمّ من تشوّش الهواء الّذي عند أذنه ينبغي أن لا يسمع شيئا ؛ لتشوّش التموّجات واختلافها.

ولا إدراك البصر بأن تنطبع الصورة المرئية في الرطوبة الجليدية ، أو في

٢١٧

ملتقى العصبتين المجوفتين ؛ لأنا نرى الأجسام العظيمة والأبعاد البعيدة ، فلو كانت الرؤية إنّما هي بالصورة ، وللصورة ، ولها هذا المقدار العظيم ، فكيف تحصل في حدقة صغيرة ، وإن لم يكن لها هذا المقدار فلم ير العظيم عظيما؟ هذا خلف.

ولا بأن تستدل النفس بالصورة ، وإن كانت أصغر على أن ما مقدار صورته هذا كم يكون مقدار أصله؟ وذلك لأنّ رؤية المقدار الكبير إنّما هي بالمشاهدة ، لا بالاستدلال.

ولا بأن تدرك النفس تلك الصورة المقابلة للبصر بعين ذلك الشخص ، بالعلم الحضوري ؛ وذلك لأنّه يلزم منه أن يتكون الجسم المادي الطبيعي فوق واحد دفعة واحدة عند رؤية جماعة من الأحولين جسما واحدا ، ويلزم تداخل تلك الأجسام ، وكلاهما محال.

والقول بأن الصورة الأولى في هذا العالم ، والأخرى في عالم آخر ، مستبعد جدا.

ولا بخروج جسم شعاعي من العين يلاقي المبصرات ، إلّا إذا أريد به ما قلناه ، ولا بانعكاس الشعاع ، إلّا إذا أريد مثل ذلك ، ولا بغير ذلك ممّا قيل فيه ؛ للزوم مفاسد وإشكالات عليها ، مشروحة في الكتب المفصّلة ، ولا طائل تحت إيرادها.

قال أستاذنا : ولا يجوز ـ أيضا ـ أن يكون المدرك بالذات هو الأمر المادي في شيء من الحواسّ ؛ لأنّ المادي ـ بما هو مادي ـ لا يحصل لشيء ما أصلا.

وأيضا إن المدرك لا بدّ وأن يتحد بالمدرك نحوا من الاتحاد ، فكيف تتّحد النفس بما هو خارج عن ذاتها ، ولا يكفي في ذلك الاتصال المذكور ، يعني به ما

٢١٨

ذكر في الفصل السابق ، وإلّا لأدرك كلّ ذي شعور كلّ ما في عالم الكون ، والفساد ، واتّحد به ، بل إنّما ذلك من الشرائط والمعدّات.

وأيضا لو كان المدرك الأمر المادي العيني ؛ للزم أن يدرك بجميع كيفياته التابعة لمادّته.

مثلا من لمس الأرض ، لزم أن يدرك ثقلها ، ولونها ، وسائر كيفياتها ؛ لأنها من لوازم الأرض المادية العينية ، وهي ذات صورة واحدة بسيطة ، تتبعها سائر الكيفيات ، لا ينفصل بعضها عن بعض إلّا في العقل ، وبضرب من التعمّل ، وإذ ليس فليس.

وأيضا فإنّ موادّ هذه القوى خالية ، أو بمنزلة الخالي عن كلّ كيفية تدركها ، فلو كانت الكيفية المدركة موجودة في الخارج وهي ضدّ الكيفية الموجودة في الحس ، أو مقابل لها ، تقابل الملكة والعدم ، فيلزم على أي تقدير أن يبطل الحس ، فلم يبق الحسّ حسا ؛ إذ الحس ما دام حسّا شيء بالقوّة في محسوساته كلّها.

وأيضا قد ثبت أن حصول الشيء للشيء لا يكون إلّا إذا كانت بينهما علاقة علّية ومعلولية ، وعلى نحو خاصّ ، وإلّا لكان جميع الأشياء حاصلة لكلّ أحد ، فما لا يكون فاعلا لشيء ، ولا قابلا ، ولا مادة ، ولا صورة ، فحصول ذلك الشيء له ممتنع ، ولا علاقة كذلك بين النفس وبين المحسوسات المادية بوجه ، وبيّن أن الاتّصال على النحو المذكور لا يكفي في ذلك.

ثم ذكر ما هو رأيه ـ سلّمه الله ـ في ذلك ، وهو ما نذكره.

٢١٩

فصل

كلّ إحساس فإنما هو بإنشاء النفس الصورة المحسوسة في عالم الملكوت النفساني ، مجرّدة عن المادة ، لا عن الإضافة إليها ، قائمة بالنفس قيام وجود الشيء بفاعله ، لا بقابله ، فالمدرك بالذات في كلّ محسوس ما عند النفس من الصورة المخترعة في عالمها ، لا في مادتها ، والهواء وغيره من الوسائط كالآلة والمعدّ من غير أن يكون ما فيه من الكيفية مدركة ، فحصول الصور في المواد علة معدّة لحدوثها في صقع النفس ، وحضرة المثول بين يديها ، فليست مماسة المواد والوسائط من جهة كونها موضوعا شرطا أصلا ، بل من جهة إعدادها لفيضان الصور عن النفس.

فالنفس تدرك صورة المسموع بواسطة الهواء المنفعل على هيئته وشكله ، ووضعه المخصوص ، المناسب لتلك الحاسة المعينة ، وإعدادها الخاص ، لكن لا في المادة ، ليستلزم تشكّل الهواء بأشكال الحروف ، بل في عالمها الخاصّ بها ، وتدرك صورة المرئي بواسطة الرطوبة الجليدية ، لا بأن يحلّ في تلك الرطوبة ، ليلزم المفاسد ، بل بأن تتمثّل لها تلك الصورة تمثّلا إدراكيا شهوديا بواسطة قوّة هيولانية في تلك الرطوبة ؛ إذ من شأن كلّ قوّة هيولانية تعلّقت بها نفس أن تصير مرآة لإدراكها ، ومظهرا لملاحظتها أشياء مناسبة لها.

ألا ترى أن الأحول لما تعددت قوته البصرية بلا مجمع ، رأى الصورة الواحدة اثنتين ، ولو فرض لرجل واحد عيون كثيرة فوق اثنتين بلا مجمع ، لرأى الصورة الواحدة صورا كثيرة ، دفعة واحدة ، على حسب كثرة عيونه ، ولو لم يكن حصولها للنفس حصولا ذهنيا ، بل مادّيا ، لازدحمت الصور الكثيرة على مادّة

٢٢٠