عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

والمكاني في حقّ الحقّ ـ تقدّس وتعالى ـ قد رمت به الحقائق في وجه القائل به على التحديد. اللهم إلّا أن يقوله من باب التوصيل ، كما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونطق به الكتاب؛ إذ ليس كلّ أحد يقدر على كشف هذه الحقائق ، فلم يبق لنا أن نقول إلّا أن الحقّ تعالى موجود بذاته لذاته ، مطلق الوجود ، غير مقيّد بغيره ، ولا معلول ، ولا علّة لشيء ، بل هو خالق المعلولات والعلل ، والملك القدّوس الّذي لم يزل ، وأنّ العالم موجود بالله سبحانه ، لا بذاته ، مقيّد بوجود الحقّ ذاته ، فلا يصحّ وجود العالم البتّة إلّا بوجود الحقّ تعالى.

وإذا انتفى الزمان عن وجود الحقّ تعالى ، وعن وجود بدو العالم ، فقد وجد العالم في غير زمان ، فلا نقول من جهة الحقائق : إنّ الله موجود قبل العالم ؛ إذ قد ثبت أنّ القبلية من صيغ الزمان ، ولا زمان ، ولا أنّ العالم موجود بعد وجود الحق ؛ إذ لا بعدية ، ولا مع وجود الحق ، فإنّ الحقّ هو الّذي أوجده ، وهو فاعله ، ومخترعه ، ولم يكن شيئا ، ولكن كما قلنا : الحقّ موجود بذاته ، والعالم موجود به.

فإن سأل سائل متوهّم : متى كان وجود العالم من وجود الحقّ؟

قلنا : «متى» : سؤال عن زمان ، والزمان من عالم النسب ، وهو مخلوق لله تعالى ، فهذا السؤال باطل.

فانظر كيف تسأل ، فإيّاك أن تحجبك أدوات التوصيل عن تحقيق هذه المعاني في نفسك ، وتحصيلها ، فلم يبق إلّا وجود صرف ، خالص ، لا عن عدم ، وهو وجود الحقّ تعالى ، ووجود عن عدم عين الموجود نفسه ، وهو وجود العالم ، ولا بينية بين الوجودين ، ولا امتداد إلّا التوهّم المقدّر الّذي يحيله العلم ، ولا يبقى منه شيئا ، ولكن وجود مطلق ومقيّد ، وجود فاعل ووجود مفعول ،

٤٠١

هكذا أعطت الحقائق (١).

وله كلام آخر دقيق في سرّ الأزل ، وسرّ الأبد ، نرى أن نذكره هاهنا بألفاظه ، لعلّك تستفيد منه معنى حدوث العالم ، كما هو ، وإن كان الموضع الأنسب به مباحث المبدأ ، لكن لمّا كان له كثير فائدة فيما نحن فيه أخّرناه إلى هاهنا ، فاسمع ، وتدبّره ، إن كنت من أهله ، وبالله التوفيق.

فصل

قال قدس‌سره في الباب السادس والعشرين من الفتوحات : فأمّا علم سرّ الأزل ، فاعلم أن الأزل عبارة عن نفي الأولية ، لمن (٢) يوصف به وهو وصف الله تعالى ، من حيث كونه إلها ، فهو المسمى بكلّ اسم سمّى به نفسه أزلا ، فهو العالم ، الحيّ ، المريد ، القادر ، السميع ، البصير ، الخالق ، البارىء ، المصوّر ، الملك ، لم يزل مسمى بهذه الأسماء ، وانتفت عنه أوّلية التقيّد ، فسمع المسموع ، وأبصر المبصر ، إلى غير ذلك.

وأعيان المسموعات منّا ، والمبصرات ، معدومة غير موجودة ، وهو يراها أزلا ، كما يعلمها أزلا ، ولا عين لها في الوجود النفسي العيني ، بل هي أعيان ثابتة في رتبة الإمكان ، والإمكانية لها أزلا ، كما هي لها حالا وأبدا ، لم تكن واجبة لنفسها ، ثمّ عادت ممكنة ، ولا محالا ، ثمّ عادت ممكنة ، بل كما كان وجوب الوجود الذاتي لله تعالى أزلا ، كذلك وجوب الإمكان للعالم أزلا ، فالله في مرتبته بأسمائه الحسنى يسمى معرّفا ، موصوفا بها ، فمعنى نسبة الأوّل له نسبة الآخر ،

__________________

(١) ـ الفتوحات المكية : ١ : ٩٠ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ـ في المخطوطة : بأن.

٤٠٢

والظاهر ، والباطن ، ولا يقال : هو أوّل بنسبة كذا ، ولا آخر بنسبة كذا ، فإنّ الممكن مرتبط بواجب الوجود ـ في وجوده وعدمه ـ ارتباط افتقار إليه في وجوده ، فإن أوجده لم يزل في إمكانه ، وإن عدم لم يزل عن إمكانه ، فكما لم تدخل على الممكن في وجود عينه بعد أن كان معدوما صفة تزيله عن إمكانه ، كذلك لم يدخل على الخالق الواجب الوجود في إيجاده العالم وصف يزيله عن وجوب وجوده لنفسه ، فلا يعقل الحقّ إلّا هكذا ، ولا يعقل الممكن إلّا هكذا.

فإن فهمت علمت معنى الحدوث ، ومعنى القدم ، فقل بعد ذلك ما شئت.

فأوّلية العالم وآخريته أمر إضافي. فالأول من العالم بالنسبة إلى ما يخلق بعده ، والآخر من العالم بالنسبة إلى ما خلق قبله ، وليس كذلك معقولية اسم الله بالأول والآخر ، والظاهر والباطن ، فإنّ العالم يتعدّد ، والحقّ واحد لا يتعدد ، ولا يصحّ أن يكون أوّلا لنا ، فإنّ رتبته لا تناسب رتبتنا ، ولا تقبل رتبتنا أوّليته ، ولو قبلت رتبتنا أوّليته لاستحال علينا اسم الأوّلية ، بل كان يطلق علينا اسم الآخرية لأوليته ، ولسنا بثان له ، تعالى عن ذلك ، فليس هو بأول لنا.

فلهذا كان عين أوّليته عين آخريته ، وهذا المدرك عزيز المنال ، يتعذّر تصوّره على من لا أنسة له بالعلوم الإلهية الّتي يعطيها التجلّي والنظر الصحيح ، وإليه كان يشير أبو سعيد الخرّاز (١) بقوله : عرفت الله بجمعه بين الضدّين ، ثمّ يتلو

__________________

(١) ـ هو : أحمد بن عيسى الخرّاز ، أبو سعيد ، من مشايخ الصوفية ، بغداديّ. نسبة إلى خيرز الجلود. قيل : إنّه أوّل من تكلّم في علم الفناء والبقاء ، له تصانيف في علوم القوم ، منها : كتاب الصدق ، أوّل الطريق إلى الله. ومن كلامه : إذا بكت أعين الخائفين ، فقد كاتبوا الله بدموعهم. توفّي «٢٤٧» أو «٢٩٧» أو «٢٨٦» ه.

أنظر ترجمته في : الأعلام : ١ : ١٩١ ، وتاريخ مدينة دمشق : ج ٥ : ١٢٩ ، وهدية العارفين : ١ : ٥٥).

٤٠٣

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (١) ، فقد أبنت لك عن سرّ الأزل ، وأنه نعت سلبي.

وأمّا سرّ الأبد فهو نفي الآخرية ، كما أن الممكن انتفت عنه الآخرية شرعا ، من حيث الحملة ؛ إذ الجنّة والإقامة فيها إلى غير نهاية ، كذلك الأولية بالنسبة إلى ترتيب الموجودات الزمانية معقولة موجودة.

فالعالم بذلك الاعتبار الإلهي لا يقال فيه أول ، ولا آخر ، وبالاعتبار الثاني هو أوّل وآخر بنسبتين مختلفتين ، بخلاف ذلك في إطلاقها على الحقّ عند العلماء بالله (٢).

فصل

روى الشيخ الصدوق ، بإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام ، أنه قال : «لعلك ترى أن الله عزوجل إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أن الله عزوجل لم يخلق بشرا غيركم ، والله لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم ، وأولئك الآدميين» (٣).

وسأل رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : كم بين المشرق والمغرب؟ قال علي : مسافة الهواء ، قال : وما مسافة الهواء؟ قال علي : دوران الفلك ، قال الرجل : وما قدر دوران الفلك؟ قال : مسيرة يوم الشمس ، قال الرجل : صدقت ، فمتى القيامة؟ قال علي : قدر قصور المنية ، وبلوغ الأجل ، قال الرجل : صدقت ، فكم

__________________

(١) ـ سورة الحديد ، الآية ٣.

(٢) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ١ : ١٨٩ و ١٩٠.

(٣) ـ الخصال : ٢ : ٦٥٢ ، ح ٥٤.

٤٠٤

عمر الدنيا؟ قال علي عليه‌السلام : يقال سبعة آلاف ، ثمّ لا تحديد ، قال الرجل : صدقت ، إلى أن قال : وأين كان الله قبل أن يخلق عرشه؟ قال عليّ عليه‌السلام : سبحان من لا تدرك كنه صفته حملة العرش على قرب زمراتهم من كراسي كرامته ، ولا الملائكة المقرّبون من أنوار سبحات جلاله ، ويحك لا يقال أين ، ولا ثمّ ، ولا فيم ، ولا لم ، ولا أنّى ، ولا حيث ، ولا كيف ، قال الرجل : صدقت ، فكم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء؟ فقال : أتحسن أن تحسب؟ قال : نعم ، قال : لعلّك لا تحسن ، قال : بلى ، إني لأحسن أن أحسب ، قال علي عليه‌السلام : أفرأيت لو كان صبيب خردل في الأرض حتّى سدّ الهواء ، وما بين الأرض والسماء ، ثمّ أذن لمثلك على ضعفك أن تنقله حبّة حبّة من مقدار المشرق إلى المغرب ، ثمّ مدّ في عمرك ، وأعطيت القوّة على ذلك حتّى تنقله ، وأحصيته ، لكان ذلك أيسر من إحصاء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء ، وإنما وصفت لك ببعض عشر عشر العشير من جزء من مائة ألف جزء ، واستغفر الله من القليل من التحديد ، فحرّك الرجل رأسه ، وشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

__________________

(١) ـ إرشاد القلوب : ٢ : ٣٧٦.

٤٠٥

في أنّ العالم مخلوق على أجود

النظامات الممكنة

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ

فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ

زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (١) (هذا خَلْقُ اللهِ

فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٢)

فصل

قد مضى ما ينبّه على هذا المطلب فيما سلف ، بل تبيّن ببيانات إنّية أنه لا يتصور فوق هذا النظام الموجود نظام في الجودة والفضل ، كما يظهر من ملاحظة أمور العالم ، وأوضاعها ، وكيفية ترتيبها ، ونضدها ، وارتباط العلويّات بالسفليات ، على الوجه المخصوص ، والتدبّر في منافع حركات الأفلاك ، ونسب الكواكب ، وغير ذلك.

والآن نريد أن نبيّن ذلك ببيانات لمّية ، وبراهين حكمية ، ونتمّم الكلام فيه ، فنقول :

__________________

(١) ـ سورة ق ، الآية ٦ ـ ٨.

(٢) ـ سورة لقمان ، الآية ١١.

٤٠٦

أما أنّ مراتب البدو على أشرف أنحاء يتصوّر في حقّها ؛ فذلك لأنّ كلّ ما وقع في مرتبة من تلك المراتب لا يتصوّر ما هو أشرف من شخصه ، ولا ما هو أشرف من نوعه في تلك المرتبة من الجهة الّتي صدر بها من مبدعه.

أما الأوّل فلوجوب انحصار نوع كلّ منها في شخصه ؛ لعدم الامتياز هناك بالعوارض المفارقة قبل الاتفاقات والحركات ، فاختصاص بعض الأفراد بلحوق بعض العوارض مع استواء الاستحقاق في الكلّ ترجيح من دون مرجّح ، وامتياز الشيء بنوعه ، أو بلازم نوعه ، يوجب الانحصار في شخص واحد.

وأمّا الثاني فلما دلّت عليه قاعدة الإمكان الأشرف ، وهي أنّ الجواد الحقّ ، والفيّاض المطلق ، لا يوجد الأخسّ ، ويترك الممكن الأشرف ، بل يلزم من فيض وجوده الأشرف فالأشرف ، وقد مضى برهانه.

وأمّا أن الوجودات الواقعة في مراتب الصعود ، وفي عالم التركيب في غاية الجودة ، وأفضل النظام ، فذلك لأنّ الأمور الواقعة في هذا العالم لمّا كان نظامها متعلّق بحركات الأفلاك ، وأوضاعها ، ونظام الأفلاك ظلّ نظام ما في القضاء الإلهي ، وذلك النظام محض الخير والكمال لبراءة المبدأ الأعلى عن النقص والشين ، فهذا النظام الّذي على وفقه يجب أن يكون أتمّ النظامات الممكنة ، وأكملها.

وعلى هذا يجب أن لا يكون في الوجود أمر جزافي ، أو أمر اتفاقي ، بل كلّه غريزي ، فطري ، بالقياس إلى طبيعة الكلّ ، سواء كان طبيعيا بحسب ذاته ، كحركة الحجر إلى السفل ، أو قسريّا ، كحركته إلى فوق ، أو إراديا ، كفعل الحيوان من حيث هو حيوان ؛ إذ كلّ ما يحدث فهو عن سبب ، ويرتقي في سلسلة الأسباب إلى مبدأ واحد ، وسبب فرد تتسبّب عنه الأشياء على ترتيب علمه بها ،

٤٠٧

فليس في الوجود شيء مناف لطبيعة علله ، وأسبابه ؛ إذ المعلول لا ينافي العلّة ، والحركات المتنافرة الغير المنتظمة بالقياس إلى طبيعة جزئية متلائمة منتظمة بالقياس إلى طبيعة الكلّ ، وكذا النغمات الغير المؤتلفة ، والأشعار الغير الموزونة مؤتلفة موزونة بالقياس إلى النظام الكلّي.

ووجود الأصابع الزائدة على خلقة الإنسان طبيعي في جبلّة العالم ، وكذا كلّ عمر فهو بالقياس إلى الكلّ طبيعي ، وإن لم يكن طبيعيا على الإطلاق.

فصل

وبمثل ذلك نبيّن أن مجموع العالم من حيث المجموع أيضا على أكمل خلقة ، وأتمّ نظام ، ولو تيسّر لك أن تعلم كلّ شيء بأسبابه وعلله ، بأن تخرج من هذه الهاوية المظلمة مهاجرا إلى الله ، وترتقي إلى السماوات وما فوقها ، إلى أن تعرف المبدأ الأوّل حقّ معرفته ، ثمّ ما يتلوه من الملائكة العلميّة ، ثمّ ما يتلوها من الملائكة العمّالة بإذن ربّها ، ممن يباشر تحريك الأفلاك ، ثمّ الأجسام الفلكية مع لوازم حركاتها من الكائنات ، لرأيت جميع الأشياء حسنا عندك ، ملائما لديك ، وعرفت هذا المعنى بالوجدان ، كا عرفته الآن بالبرهان.

ولنا أن نبيّن هذا أيضا بمثل البيان الّذي ذكرناه في سلسلة البدو ، بأن نقول : لو أمكن نظام جملي آخر ، أشرف من هذا ، أو مثله ، لكان إمكانه مستدعيا لمبدأ أوّل هو أشرف من الله سبحانه ، أو مكافئا له ، وكلاهما ممتنع.

وأيضا فإنّ العلة الغائية في وجود العالم هي ذات المبدأ الأعلى ، وعلة بدوه بعينها علّة تمامه ، وكلّ ما هو غايته أجلّ الأشياء ، فهو في غاية الشرف المتصوّر في حقّه ، لا محالة.

٤٠٨

فصل

قد دريت في الأصول : أنّ الوجود ـ بما هو وجود ـ خير محض ، وأنّ الشرور كلّها راجعة إلى الأعدام ، فليس للشرّ مبدأ بالذات ، ولا هو داخل في القضاء الإلهي إلّا بالعرض؛ وذلك لأنّ من الشرّ ما هو من لوازم الماهيات الّتي لا علّة لها ، وهو عدم ، ليس ذلك العدم هو عدم مقتضى طباع الشيء ، ولا ما يمكن حصوله من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي ، والوجوب الذاتي ، وكذا قصور كلّ تال من العقول الفعّالة عن سابقه ، وقصور النفوس عن العقول ، والأجسام عن النفوس ، والهيولى عن الجميع ، وبالجملة على تفاوت إمكاناتهم ، بحسب تفاوت مراتبهم في البعد عن ينبوع الوجود ، فهذا الشرّ منبعه الإمكان الذاتي ، وظاهر أنه ليس له لمّية ؛ إذ من المعلوم أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ، ولا في حاجتها إلى علّة سبب ، ولا لقصور الممكن عن درجة الواجب بذاته ، ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة ، بل إنّما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذواتها ، لا لأمر خارج عنها ، كما أشرنا إليه مرارا ، ولو كان النقصان في الجميع متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة ، فهذا القسم من الشرّ ليس بشرّ حقيقة.

ومنه ما لا يكون من هذا القبيل ، بل يلحق الماهية لا من ذاتها ، وهو عدم مقتضى الشيء ، أو ما يمكن حصوله له من الكمالات الثانية وغيرها ، كالجهل ـ مثلا ـ للإنسان المستعدّ للعلم ، المشتاق إليه ، لا من حيث إنه إنسان ، بل من حيث إنه وجد هذا الاستحقاق والاشتياق الّذي لا صلاح في أن يعمّ.

ولا يتصوّر هذا في غير المادّيات ؛ لأنّ غير المادي على أكمل ما يتصوّر

٤٠٩

في حقّه ، فليس لها شرّية بهذا المعنى ، والمادّيات لا تخلو منها على تفاوت إمكاناتها الاستعدادية بحسب تفاوت مراتبها في التعلّق بالمادّة ، فهذا الشرّ منبعه المادة ، ومنبع المادّة هو الإمكان ؛ لأنها صدرت من المبدأ لأجل جهة الإمكان فيها ، فمنبع الشرّ مطلقا هو الإمكان.

وأمّا إطلاق الشرّ على الأمور الوجودية الّتي تتبعها أعدام فعلمت أنه على سبيل المجاز، ثمّ علمت أن الشرور كلّها أمور إضافية مقيسة إلى أفراد أشخاص معيّنة ، وأمّا في نفسها فليست بشرور أصلا.

وعلمت أنّ هذا النظام شريف ، فاضل ، وجميع ما وقع طبيعي بالقياس إليه ، وبيّن أنّ الطبيعي للشيء لا يكون شرّا له ، فلا شرّ بالقياس إلى الكلّ أيضا ، على أن جميع أسباب الشرّ إنّما توجد تحت كرة القمر ، وفي عالم الكون والفساد ، وهو قليل بالقياس إلى الكلّ.

ووقوع التقاوم المقتضي لصيرورة البعض ممنوعا عن كمالاته أيضا فيها قليل ، فإنّه لا يقع إلّا في أجزاء العناصر وبعض المركّبات ، وفي بعض الأوقات ، ولبعض الأشخاص ، وفي بعض جوانب الأرض الّتي هي حقيرة بالنسبة إلى الأفلاك المقهورة تحت أيدي النفوس المطموسة تحت أشعة العقول الأسيرة في قبضة الرحمن ، ولا نسبة لها إلى جناب الكبرياء الباهر برهانه على الضياء.

وصل

فكلّ ما وجد فهو خير ، إمّا محض ، أو خيره غالب على شرّه.

وأمّا ما يكون شرّا محضا ، أو مستولي الشرّية ، أو متساوي الطرفين ، فمما

٤١٠

لا وجود له أصلا ؛ لأنّ الموجودات الحقيقية والإضافية في الوجود ـ لا محالة ـ أكثر من الأعدام الإضافية ، الحاصلة على الوجه الّذي ذكرناه.

وظاهر أنّ ما يغلب خيره من أفراد الخير فيجب صدوره عن الواجب بالذات ، الّذي هو فاعل الخيرات ، ولا يسوغ عن عنايته عزوجل ورحمته وجوده إهماله ، وإلّا لزم ترك خير كثير لشرّ قليل ، وذلك شرّ كثير ، فصدور الشرّ وقضاؤه إنّما هو بالعرض ، لا بالذات ، فليس الشرّ ـ من حيث هو ـ مستندا إلى مبدأ.

ومن هنا ورد في آية الملك (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) ، من دون تعرّض لذكر الشرّ ؛ لعدم استناده إلى وجود موجود ، وكونه إضافيا ، وكونه بالعرض.

ومثله ما ورد في بعض الأدعية «والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك» (٢).

وصل

ولو لم يخلق هذا النوع من الخيرات المستلزمة لبعض الشرور لخلق سربال الوجود ، وقصر رداء الجود ، وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ، ونفائس جمّة غفيرة ، فمن هذه الحيثية يكون الشرّ مقتضيا بالذات ، كيف ولو لم يكن في عالم العناصر تضاد فمن أين يحصل الفعل والانفعال ، والكسر والانكسار؟ ومتى تنتقل المادّة من صورة إلى صورة ، ومن حالة إلى حالة ، حتّى يبلغ إلى

__________________

(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ٢٦.

(٢) ـ مصباح الكفعمي : ١٥.

٤١١

غاية تقبل العقل المستفاد الّذي يضاهي الملكوت الأعلى في الشرف والكمال؟

فقد ظهر أن كلّ ما تقتضيه حكمته تعالى وفيضه كان حسنا وخيرا ، ومن ظنّ أنه شرّ كان ذلك لخلل في عقله ، وقصور في فهمه ، فلا شرّ في النظر إلّا وهو خير من جهات أخرى ، لا يعلمها إلّا منشؤها وموجدها.

فإذن تصور ذرّة الشرّ في أشعة شمس الخير لا يضرّها ، بل يزيدها بهاء ، وجمالا ، وضياء ، وكمالا ، كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء ، تزيدها حسنا وملاحة ، وإشراقا ، وصباحة ، فسبحان من تقدّست كبرياؤه عن تقصير الأفعال ، وجلّ جنابه عن أمثال هذا الخيال المحال.

سؤال : إنّ أكثر أفراد الإنسان الّذي هو أشرف أنواع القسم الأخير ، يغلب عليهم الشرور ، فإنّ مناط تحصيل السعادة والشقاوة الآجلتين اللتين تستحقر بالقياس إليهما السعادة والشقاوة العاجلتان للنفس ، إنّما هو باستعمال قواها الثلاثة : النطقية ، والشهوية ، والغضبية ، لاكتساب ما ينبغي أن يكون بحسبها من الحكمة ، والعفّة ، والشجاعة.

والغالب على أكثرهم على ما يرى أضداد هذه الأمور ، أعني الجهل وطاعة الشهوة والغضب ، فيلزم كونهم من الأشقياء والأشرار في الآجل.

جواب : الجهل الّذي لا نجاة معه في الآخرة هو الجهل المركّب ، الراسخ ، المضادّ للعلم اليقيني ، وهو نادر ، كوجود اليقين الّذي يوجب قسطا وافرا من السعادة.

وأمّا الجهل البسيط الّذي هو عام ، فاش ، فلا يضرّ في المعاد ، وكذلك حال القوّتين الآخرتين.

فالبالغ في فضيلة العقل والخلق وإن كان نادرا ، كالشديد النزول فيهما ،

٤١٢

لكن المتوسّطين على مراتبهم أغلب وأوفر ، وإذا ضمّ إليهم الطرف الأعلى صار لأهل النجاة غلبة عظيمة ، فإنّ حال النفوس في انقسامها إلى هذه الأقسام كحال الأبدان في انقسامها إلى البالغ في الجمال والصحّة ، والمتوسّط ، وهو الأكثر ، والقبيح السقيم ، وهو أقل من المتوسّط ، فضلا عن مجموع القسمين.

سؤال : كلّ ما يجوز صدوره عن الباري عزوجل يجب وقوعه ؛ لعدم البخل والمنع هناك ، فقد كان جائزا أن يصدر عنه تعالى خير محض ، مبرء عن الشرّ أصلا.

جواب : هذا واجب في مطلق الوجود ، لا في كلّ وجود ، فقد أوجد ما أمكن أن يوجد على الوجه المذكور ، فلو لم يوجد ما لا يخلو عن شرّ ما لكان الشرّ ـ حينئذ ـ أعظم.

سؤال : لم لم يوجد القسم الثاني بلا قصور وآفة؟

جواب : فلم يكن هوهو ، ورجع إلى القسم الأوّل ، وقد فرغ عن وجوده.

ولو كانت الماهيات كلّها بريئة عن الشرور الّتي هي لوازم لها ، لكانت الماهيات واحدة ، ومن المحال أن تكون النار نارا ولا يوجد لها لازم النارية ، من إحراق ثوب لاقته ، إلّا أن لا يكون الثوب ثوبا ، بل شيئا آخر لا تحرقه النار.

وقد مرّ الكلام في أمثال هذه المباحث في مباحث كيفية إفاضة الوجود.

٤١٣

في سريان العشق والشوق والعبادة

والذكر في جميع الموجودات

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ

وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ

النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) (١)

فصل

إنّ الباري ـ جلّ ذكره ـ غاية كلّ شيء ، كما أنه فاعل كلّ شيء ؛ لأنّه خير محض، لا شرّية فيه أصلا ، وكلّ ما هو خير محض يطلبه كلّ شيء طبعا ، وإرادة ، وهذا مركوز في جبلّة العالم ، جزئياته وكلّياته ، محسوساته ومعقولاته ، ما من شيء إلّا وله عشق وشوق غريزي إلى ما فوقه ، وإلى ما هو أشرف منه ، وهو في بعض الأشياء شاهد معلوم بالضرورة ، وفي بعضها يعلم بالاستقراء ، وفي الكلّ يعلم بالحدس الصائب وبضرب من البرهان ، وهو أن الوجود لذيذ ؛ لأنّه خير محض ، وكمال الوجود ألذّ وآثر ، فكلّ موجود سافل إذا تصوّر الموجود العالي فلا محالة يشتاقه ويطلبه ، طبعا واختيارا ؛ إذ كلّ شيء تحقّق له أنّ شيئا من الأشياء يفيده الخير والكمال ، ويوجب الاقتراب إليه زيادة في الفضيلة

__________________

(١) ـ سورة الحج ، الآية ١٨.

٤١٤

والشرف ، فإنّه ـ لا محالة ـ يعشقه بغريزته ، ويطلبه بطبعه ، لا سيّما إذا كان ذلك الشيء يفيده خاصّ الوجود ، ويخرجه من القوّة إلى الفعل ، مثل عشق الحيوان لما يغذوه ، ويتقوّت به ، ويفيده تجسّما وتعظّما مقداريا ، وعشق الإنسان لما يفيده صورا عقلية يتقوى به جوهره الناطق ، ويحيط بالحقائق ، ويصير ملكا من المقرّبين بعد ما كان ناقصا في مرتبة السافلين ، ولو لا أنّ الخيرية بذاتها معشوقة لما اقتصرت الهمم على إيثار الخير في جميع التصرّفات.

ولنفصّل هذا الإجمال ، ونبيّن كيفية سريان العشق والشوق في كلّ واحد واحد من الموجودات ، فاسمع :

فصل

قد دريت أن الوجود حقيقة واحدة ، وأنه عين الشعور والحياة في كلّ شيء ، وأن كلّ موجود سوى الله عزوجل فهو ناقص من وجه ، وفيه قوّة ، وفقد ، كما أن له كمالا وفعلية ؛ إذ كلّ ممكن فهو زوج تركيبي ، فكلّ موجود فهو لأجل شعوره بالوجود الناقص طالب للوجود المطلق الكامل الّذي هو مطلوب ومؤثّر بالذات أولا وبالذات ، ولكلّ ما يتوسّط بينه وبين ذلك الوجود ممّا هو أعلى منه وأقرب إلى ذلك الوجود من الخيرات ثانيا وبالعرض ؛ لأنّ الوصول إليه لا يمكن له إلّا بوصوله إليها ومروره عليها ؛ إذ سلوك طريقه منحصر في ذلك ؛ لما دريت أن الموجودات مترتبة في الصدور بدء وعودا ، ما تقدّم متقدّم ، ولا تأخّر متأخّر ، إلّا بالحق.

فكل موجود فهو طالب لما هو فوقه ، فإذا وصل إليه فيطلب ما هو أعلى منه ، وهكذا إلى أن يصل إلى معشوقه الحقيقي الّذي لا أكمل منه ، وهو الله

٤١٥

سبحانه ، وعند ذلك يطمئن قلبه ، ويسكن شوقه ، ويشتدّ عشقه وابتهاجه ؛ وذلك أن الشوق هو الحركة إلى تتميم الابتهاج ، فإنّ كلّ مشتاق إلى مرغوب فإنه قد نال شيئا منه ، وفاته شيء ، وفي هذا سرّ عظيم لأرباب الذوق والعرفان ، نبوح بلمعة منه ، فاستمع :

وصل

إن كلّ مشتاق ـ من حيث كونه مشتاقا ـ فهو من جملة المشتاق إليه ، فإنّ الظمآن يتصور أولا الريّ ، فيحصل له ذلك حصولا ضعيفا ، فهو يوجب طلبه على أتمّ وجه ، فالريّان يشتاق الرّيان ويطلبه ، وهكذا كلّ ذي طلب لا يطلب إلّا ما هو تمام حقيقته ، وكمال ذاته ، فافهم ذلك إن كنت من أهله.

وصل

وبالجملة : فالشوق يصحبه قصور ، وأمّا العشق فقد يتقدّس ويتعالى عن الشوائب ، بل هو يزداد بازدياد الخيريّة ، واشتداد الوجود ، واستحقاق المعشوقية من المعشوق ، وقوّة الشعور والإدراك من العاشق.

والشوق أيضا ، وإن كان يزداد ويقوى بحسب قوّة الشعور من المشتاق ، والقرب من المشتاق إليه ، لكنه يقوى أيضا بحسب نقصان الوجود ، وضعف الشعور من المشتاق ، وقوّة الوجود وشدّته وعدّته في المشتاق إليه.

فكما أن كلّ ما هو أكمل وجودا ، وأتمّ شعورا ، فهو أشدّ شوقا بالاعتبار الأوّل ، فكلّ ما هو أنقص وجودا ، وأضعف شعورا ، فهو أشدّ شوقا بالاعتبار الثاني. وهذا بخلاف العشق.

٤١٦

وصل

إذا ثبت هذا ، فنقول : المادّة الأولى في غاية الشوق ؛ لأنها بإزاء ما يقوى عليه من الصور والخيرات الغير المتناهية ، الّتي هي باعتبار ما غايات لوجودها ، وخيرات لاحقة بها ، ومكملات لنقصاناتها ، وإن حصلت لا دفعة ، بل في أزمنة غير متناهية.

وتلك الكمالات من سنخ ما حصل لها شيء قليل ضعيف ، وإن كان مجرّد قوّة تلك الخيرات واستعدادها مع قطع النظر عن اتصال صورة بها ، واتّحادها معها ؛ لأنّ فقد ما يمكن حصوله من الأمر الكمالي بشيء ما له شعور ضعيف يوجب شوقا ما إلى ذلك الأمر ، فهي دائمة النزاع إلى الصورة مفقودة ، والتنوّع بها موجودة ، ولذلك تلقاها متى عريت عن صورة بادرت إلى الاستبدال عنها بصورة أخرى ؛ إشفاقا عن ملازمة العدم المطلق ؛ إذ كلّ موجود فهو نافر بطبعه عن العدم ، فالمادّة تنفر عن العدم ، فمهما كانت ذات صورة لم يقم فيها سوى العدم الإضافي ، ولو لاها للابسها العدم المطلق ، فهي ـ إذن ـ كالمرأة الدميمة المشفقة عن استعلان قبحها ، فمهما انكشف قناعها غطت دمامتها بالكم.

فقد تقرّر أنّ فيها عشقا وشوقا غريزيا ، بمعنى أنّ لها قوّة العشق والشوق ، وقبولهما ، كما أن لها قوّة الوجود والشعور ، وقبولهما ، لا أنها مشتاقة ، أو عاشقة بالفعل إلى شيء ، وإلّا لكانت وجودا بالفعل ، وصورة ، لا قوّة للوجود ، وهيولى ، فافهم.

٤١٧

فصل

وأمّا الصورة الجسمية ، فهي أيضا لها شوق وعشق بالنسبة إلى الخير المطلق ، وبتوسّطه إلى الطبائع بقدر شعورها وحيويتها ووجودها ، وقد دريت أن نسبتها إلى الطبائع كنسبة المادّة الأولى إليها بعينها ، فكذلك حكمها في العشق والشوق بعينه حكمها ، بل عشقها أشدّ من عشق المادّة وشوقها أيضا ، باعتبار دون اعتبار.

وكذلك حال الطبائع والقوى بالنسبة إلى النفوس ، والطبيعة لما كانت تحسّن بالفناء والاضمحلال ، صارت جذّابة للنفس إليها ، حائلة بينها وبين معالي الأمور ، مخافة أن تبطل وتضمحلّ ، وهذا أيضا لحكمة ومصلحة من الله سبحانه في اشتغال النفس برهة من الزمان لتدبير عالم الطبيعة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

سؤال : بم يعرف وجود العشق ، فيما ذكرت؟ وهل لذلك من علامة يعرف بها؟

جواب : نعم ، إنّ له علامة ، وهي انقياد السافل للعالي ، وخضوعه له خضوعا جبلّيا ، وطاعته إياه ، وعبادته عبادة ذاتية من غير تمرّد ، ولا عصيان ، مع كونه ذا شعور ما.

ألا ترى إلى المادّة الأولى كيف هي تحت سلطنة الصورة ، تقلّبها كيف تشاء ، وهي مطيعة إيّاها ، ذليلة عندها ، وكذا الصورة بالنسبة إلى الطبيعة ، وكذا الطبائع والقوى بالنسبة إلى النفس ، فإنّها خادمة لها ، لا يستنكفون عن عبادتها ،

٤١٨

ولكلّ خدمة موكولة إليه أينما وجد لزمته تلك الخدمة ، مع شعف (١) تامّ.

ألا ترى إلى الحجر إذا أخرج عن مكانه الطبيعي كيف يميل إليه بشوق تام ، وشعف كامل ، وهذا بعينه إطاعة طبيعية لنفسه ، وخدمة لها ، وهي متسببة عن عشقها إيّاها ، وابتهاجها بها ، وكذلك سائر الطبائع والقوى ، من النباتية والحيوانية ، من الغاذية ، والنامية ، والمولّدة ، والمحرّكة ، والمدركة ، إلى غير ذلك ، فإنّ كلّها مجبولة في طاعة النفس ، والانقياد لها ، كما مرّ بيان ذلك مفصّلا في مباحث النفس ، فلا نعيدها ، وما ذلك إلّا لعشقها لها ، وشوقها إلى الوصول لديها ، وما عشقتها إلّا لأنّها عشقت الخير المطلق ، فهي في الحقيقة إنّما تعشق خالقها وبارئها.

وأمّا الأعراض فعشقها ظاهر بالجدّ في ملازمة الموضوع.

فصل

وأمّا النفوس المنطقية فهي لما كانت ذات جهتين ، من جهة ذاتها جوهر عقلي ثابت بالقوة ، ومن جهة تعلّقها بالطبيعة وفعلها وتدبيرها جوهر متجدّد غير ثابت.

وهاتان الجهتان ممّا يشبه أن تكون إحداهما مقوّمة لها ، داخلة في قوامها ، والأخرى لاحقة لذاتها ، لكونها إضافة لها إلى الطبيعة ، فإذا سقطت عنها هذه الإضافات رجعت إلى منبعها الأصلي ، وحيّزها العقلي.

وإنما تخاف النفس من ذلك ، ولا تأنس إلى الخروج من هذا الحبس ؛

__________________

(١) ـ الشّعف : شدة الحبّ. (لسان العرب : ٩ / ١٧٧ ، مادة : شعف).

٤١٩

لأنها استوحشت مخافة أن تنقل إلى ما هو شرّ منه ، وإنما يطلب الموت الموقنون الذين تيقّنوا أنهم ملاقو ربّهم ، وإنهم إليه راجعون ، فيتمنّون الموت تشوقا إلى لقاء الله في الدار الآخرة ؛ لكونهم يتولّون الله ، ويحبّونه ، كما في قوله تعالى : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) ، وأولئك هم النفوس الإنسانية الّتي وصلت في حياتها الدنياوية إلى الغبطة العظمى ، فأشرف أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة ، فشوقها يؤدي إلى الطلب السريع ، والسير الحثيث إلى الحقّ ، حتّى إذا أدّت الحركة إلى النيل بطل الطلب ، وصفت البهجة ، وحقّت ، وهو الفناء الّذي يسمى بالولاية ، وإليهم الإشارة بقولهعزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٢).

فصل

وأمّا النفوس الحيوانية ، سواء كانت من نوع الإنسان ، أو أنواع أخرى حيوانية ، طالبة لكمالات وهمية ، وخيرات خيالية ، فهي صنفان : سعيدة ، وشقيّة.

فالسعيدة نفوس بشرية ، تتصوّر الحقّ الأوّل تصوّرا مثاليا ، وتتمثل لها الوسائط العقلية بالأمثلة المأخوذة عن المبادىء الجسمانية ، والأفعال الباطنية المقرّبة إليه ، والنيّات الصالحة المزلفة لديه بنظائرها من الأفعال الصادرة من خدّام السلاطين ، وعبيد الملوك ، وتتخيل الغايات الحقيقية ، كالغايات الحسّية ، فكأنهم يعبدون حكاية الحقّ الأوّل ، ويعشقون ذلك، لا ذاته تعالى ، فلهذا صارت

__________________

(١) ـ سورة الجمعة ، الآية ٦.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ١٦٥.

٤٢٠