عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

في تشريح أعضاء الحيوان الكامل ،

ومنافعها

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ

فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (١)

فصل

إن الله سبحانه خلق أعضاء الحيوان مختلفة ؛ لحكم ومصالح ، فجعلها عظاما ، وأعصابا ، وعضلات ، وأوتارا ، ورباطات ، وعروقا ، وأغشية ، ولحوما ، وشحوما ، ورطوبات ، وغضاريف ، وهي البسائط.

ثمّ جعل منها الأعضاء المركبة الآلية من القحف ، والدماغ ، والفكّين ، والعين ، والأذن ، والأنف ، والأسنان ، واللسان ، والحلق ، والعنق ، والصلب ، والنخاع ، والأضلاع ، والقصّ ، والترقوة ، والعضد ، والساعد ، والرسغ ، والمشط ، والأصابع ، والأظفار ، والصدر ، والريّة ، والقلب ، والمريء ، والمعدة ، والأمعاء ، والكبد ، والطحال ، والمرارة ، والكلى ، والمثانة ، ومراق البطن ، والأنثيين ، والقضيب ، والثدي ، والرحم ، والعانة ، والفخذ ، والساق ، والقدم ، والكعب ، والعقب ، وغير ذلك.

__________________

(١) ـ سورة الانفطار ، الآية ٦ ـ ٨.

١٤١

أربعة منها رئيس شريف ، وهي : الدماغ ، والقلب ، والكبد ، والأنثيان ؛ إذ في الأوّل قوّة الحسّ والحركة ، وفي الثاني قوّة الحياة ، وفي الثالث قوّة التغذية ، والثلاثة ضرورية لبقاء الشخص ، وفي الرابع قوّة التوليد ، وحفظ النسل ، المحتاج إليه في بقاء النوع ، وبه تتم الهيئة ، والمزاج الذكوري ، والأنوثي ، اللذين هما من العوارض اللازمة لأنواع الحيوان.

وكلّ من الثلاثة الأول مشتبك بالآخر ، محتاج إليه ؛ إذ لو لا الكبد وإمداده لسائر الأعضاء بالغذاء لا نحلّت وانفشت ، ولو لا ما يتّصل بالكبد من حرارة القلب لم يبق له جوهره الّذي به يتمّ فعله ، ولو لا تسخّن الدماغ بالشرايين وإغذاء الكبد بالعروق الصاعدة إليه لم يدم له طباعه الّذي يكون به فعله ، ولو لا تحريك الدماغ لمفصل الصدر لم يكن التنفس ، ولم يبق للقلب جوهره الّذي منه تنبعث الحرارة الغريزية في أبداننا ، ولكن الرئيس المطلق هو القلب ، وهو أوّل ما يتكوّن في الحيوان ، ومنه يسري الروح الّذي هو محل الحسّ والحركة إلى الدماغ ، ثمّ يسري منه إلى سائر الأعضاء ، ومنه ـ أيضا ـ يسري الروح الّذي هو محلّ مبدأ التغذّي والنموّ إلى الكبد ، ثمّ يسري منه إلى سائر الأعضاء (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

فصل

العظام أنواع ، من طويل ، وقصير ، وعريض ، ودقيق ، ومصمت ، ومجوّف ، على حسب اختلاف المصالح والحكم.

__________________

(١) ـ سورة المؤمنون ، الآية ١٤.

١٤٢

فمنها ما قياسه من البدن قياس الأساس ، وعليه مبناه ، ومنها ما قياسه قياس المجن والوقاية ، ومنها ما هو كالسلاح الّذي يدفع به المصادم ، ومنها ما هو حشو بين فرج المفاصل ، ومنها ما هو متعلّق العضلات المحتاجة إلى علاقة.

وجملة العظام دعامة وقوام للبدن ؛ ولهذا خلقت صلبة.

ثمّ ما لا منفعة فيه ـ سوى هذه ـ خلق مصمتا ، وإن كان فيه المسام والخلل التي لا بدّ منها ، وما يحتاج إليه لأجل الحركة أيضا ، فقد زيد في تجويفه ، وجعل تجويفه في الوس ، واحدا ، ليكون جرمه غير محتاج إلى مواقف الغذاء المتفرقة ، فيصير رخوا ، بل صلّب جرمه وجمع غذاؤه ، وهو المخ ، في حشوه.

ففائدة زيادة التجويف أن يكون أخف ، وفائدة توحيد التجويف أن يبقى جرمه أصلب ، وفائدة صلابة جرمه أن لا ينكسر عند الحركات العنيفة ، وفائدة المخ فيه ليغذوه ، وليرطبه دائما ، فلا يتفتّت بتجفيف الحركة ، وليكون وهو مجوّف كالمصمت ، والتجويف يقلّ إذا كانت الحاجة إلى الوثاقة أكثر ، ويكثر إذا كانت الحاجة إلى الخفّة أكثر.

وخلق بعضها مشاشية لأمر الغذاء المذكور ، مع زيادة حاجة بسبب شيء يجب أن ينفذ فيها ، كالرائحة المستنشقة مع الهواء في العظم الّتي تحت الدماغ ، ولفضول الدماغ المدفوعة فيها.

والعظام كلّها متجاورة ، متلاقية ، ليس بين شيء منها وبين الّذي يليه مسافة كثيرة ، وإنما لم يجعل كلّ ما في البدن منها عظما واحدا ؛ لئلّا يشمل البدن ما أصابته من آفة ، أو كسر ، وليكون لأجزاء البدن حركات مختلفة ، متفنّنة ، ولهذا هيّأ كلّ واحد منها بالشكل الموافق لما أريد به ، ووصل ما يحتاج منها إلى أن يتحرك في بعض الأحوال معا ، وفي بعضها فرادى برباط أنبته من أحد طرفي

١٤٣

العظم ، ووصل بالطرف الآخر ، وهو جسم أبيض عديم الحسّ ، فجعل لأحد طرفي العظمين زوائد ، وفي الآخر قعرا موافقة لدخول هذه الزوائد وتمكّنها فيها ، والنابت بهذه الهيئة بين العظام مفاصل ، وصار للأعضاء من أجل المفاصل أن يتحرّك منها بعض دون بعض ، ومن أجل الرّبط المواصلة بين العظام أن يتحرّك معا ، كعظم واحد ، فتبارك الله من حكيم ما أحكمه.

فصل

ومن أجل أن العظام وسائر الأعضاء ، ليس لها أن تتحرك بذاتها ، بل بمحرّك ، وعلى سبيل جهة الانفعال ، وصل بها من مبدأ الحسّ والحركة وينبوعهما الّذي هو الدماغ ، وصولا ، وهذه الوصول هي العصب ، وهو جوهر لدن ، علك ، مستطيل ، مصمت عند الحسّ ، غير العصبة المجوّفة الّتي في العين ، فائدته بالذات إفادة الدماغ بتوسّطه لسائر الأعضاء حسّا وحركة ، وبالعرض تشديد اللحم وتقوية البدن.

وليس تتّصل بالعظم مفردة ، ولكن بعد اختلاطها باللحم والرباط ؛ وذلك لأنّ الأعصاب لو اتّصلت مفردة بعضو عظيم لكانت إمّا أن لا تقدر على أن تحرّكه البتّة ، وإما أن يكون تحريكها له تحريكا ضعيفا ، وخصوصا عندما تتوزّع وتنقسم وتنشعب في الأعضاء ، وتصير حصّة العضو الواحد أدقّ كثيرا من الأصل ، وعندما يتباعد عن مبدئه ومنبته ، ومن أجل ذلك ينقسم العصب قبل بلوغه إلى العضو الّذي أريد تحريكه به ، وينسج فيما بين تلك الأقسام اللحم وشظايا من الرباط ، فيتكوّن من جميع ذلك شيء يسمى عضلا ، ويكون عظمه ، وصغره ، وشكله ، بمقدار العضو الّذي أريد تحريكه ، وبحسب الحاجة إليه ،

١٤٤

ووضعه في الجهة الّتي يراد أن يتحرّك إليها ذلك العضو.

ثمّ ينبت من الطرف الّذي يلي العضو المتحرّك من طرفي العضلة شيء يسمى وترا ، وهو جسم مركّب من العصب الآتي إلى ذلك العضو ، ومن الرباط النابت من العظام ، وقد خلص من اللحم فيمرّ حتّى يتصل بالعضو الّذي يريد تحريكه بالطرف الأسفل ، فيلتئم بهذا التدبير أن يعرض قليل تشنّج للعضلة نحو أصلها بجذب الوتر جذبا قويا ، وأن يتحرك العضو بكليته ؛ لأنّ الوتر متّصل منه بطرفه الأسفل وقد تتعدد الأوتار لعضل واحد إذا كان كبيرا ، وربما تعاونت عدة عضل على تحريك عضو واحد ، وربما لا يكون للعضل وتر ؛ لصغره جدا.

وكلّ عضو يتحرك حركة إرادية فإنّ له عضلة بها تكون حركته ، فإن كان يتحرك إلى جهات متضادّة كانت له عضلات متضادّة المواضع ، تجذبه كلّ واحدة منها إلى ناحيتها عند كون تلك الحركة ، وتمسك المضادة لها عن فعلها ، وإن عملت المتضادّتان في وقت واحد استوى العضو ، وتمدد وقام ، مثلا الكف إذا مدّها العضل الموضوع في باطن الساعد انثنت ، وإن مدّها العضل الموضوع في ظهره رجعت إلى خلف ، وإن مدّها جميعا استوت وقامت بينهما.

ثم إنّ مبدأ الحسّ والحركة جميعا في الأعضاء قد يكون عصبة واحدة ، وقد يكون اثنتان ، ومبدئية العصب للحسّ والحركة إنّما هو بسبب حمله للملك الحاس والمحرّك من جهة الروح النورية المنبثّة فيه من الدماغ ، فالملك اللّامس ، المسمّى عند الجمهور بالقوّة اللّامسة ، منبثّ في جملة جلد البدن وأكثر اللحم والغشاء ، وغير ذلك ، بسبب انبثاث حامله الّذي هو الروح ، إلّا ما يكون عدم الحس أنفع له ، كالكبد والطحال ، والكلية ، والرئة ، والعظم.

ويدرك هذا الملك الكيفيات الأربع الأول ، والخفّة ، والثقل ، والملاسة ،

١٤٥

والخشونة ، والصلابة ، واللين ، والهشاشة ، واللزوجة ، كلّها بالمماسّة.

وكذلك فاعل الحركة منبثّ في جميع الأعضاء بواسطة الروح المنبعثة في العضلات ، وأمّا سائر الأملاك فكلّ في محلّ خاصّ ، يفعلون فعلهم كما يأتي ، فتبارك الله من لطيف ، ما ألطفه.

فصل

لمّا كان أسافل البدن ، وما بعد من الدماغ يحتاج أن ينال الحسّ والحركة ، وكان نزول العصب إليها من الدماغ بعيد المسلك ، غير حريز ، ولا وثيق ، وأيضا لو نبتت الأعصاب كلّها من الدماغ لاحتيج أن يكون الرأس أعظم ممّا هو عليه بكثير ، ولثقل على البدن حمله ، فلذلك جعل الله عزّ اسمه في أسفل القحف ثقبا ، وأخرج منه شيئا من الدماغ ، وهو النخاع ، وحصّنه لشرفه وعزّته بالعنق والصلب ، كما حصّن الدماغ بالقحف ، وأجراه في طول البدن ، وهو محصن موقى ، وأنبت منه حين قارب وحاذى عضوا ما عصبا يخرج من ثقب في خرز العنق والصلب ، ويتّصل بتلك الأعضاء الّتي يأتيها العصب من ذلك الموضع ، فيعطيها الحسّ والحركة ، بقوّة مبدئهما الّذي فيه.

فإن حدثت على الدماغ حادثة عظيمة فقد البدن كلّه الحسّ والحركة ، وإن حدثت على النخاع فقدتهما الأعضاء الّتي يجيئها العصب من ذلك الموضع ، وما دونه فحسب ؛ لأنّ الدماغ بمنزلة العين والينبوع لذلك ، والنخاع بمنزلة النهر العظيم الجاري منه ، والأعصاب بمنزلة الجداول.

وأوّل مبادىء الأعصاب الخارجة من الدماغ والنخاع تكون ليّنة شبيهة

١٤٦

بهما ، ثمّ إنها تصلب متى تباعدت منها حتّى تصير عصبا تامّ النوع ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

فصل

العضلات كلّها مجلّلة بغشاء لطيف ، وكذلك جميع الأحشاء مجلّلة بأغشية ، والغشاء جسم لطيف رقيق منتسج من العصب والرباط ؛ ليفيد العضو ـ الذي هو غشاء له ومحيط به ممّا لا حسّ له ـ الحسّ والشعور العرضيين ، فيتبادر إلى دفع الألم في الجملة ، وليحفظ ـ أيضا ـ الأعضاء على أشكالها وأوضاعها ، ويصونها عن التبدد والتفرّق ، وليربطها بواسطة العصب والرباط الذي تشظّى إلى ليفه بعضو آخر.

وجميع الأحشاء الملفوفة في الغشاء ممّا هو داخل الأضلاع فمنبت غشائها من أحد غشائي الصدر والبطن المستبطنين.

والأعضاء اللحمية إمّا ليفية ، كلحم العضل ، وإما ليس فيها ليف ، كالكبد ، ولا شيء من الحركات إلّا بالليف ، أمّا الإرادية فبسبب ليف العضل ، وأمّا الطبيعية كحركة الرحم ، والعروق ، والمركّبة كحركة الازدراد فبليف مخصوص بهيئة من وضع الطول والعرض ، والتورّب ، فللجذب الليف المتطاول ، وللدفع الليف الذاهب عرضا ، العاصر ، وللإمساك الليف المورّب ، فتبارك الله اللطيف الخبير.

١٤٧

فصل

وأمّا العروق فنوعان :

أحدهما : النابضة الضوارب ، ومنبتها القلب ، وتسمى بالشرايين ، ولها حركتان انقباضية وانبساطية ، وشأنها أن تنفض البخار الدخاني من القلب بحركتها الانقباضية ، وتجذب بحركتها الانبساطية نسيما طيبا صافيا يستريح به القلب ، ويستمد منه الحرارة الغريزية، وبهذه الحركة تنتشر الروح والقوّة الحيوانية ، والحرارة الغريزية في جميع البدن.

وخلقت كلّها ذات صفاقين ؛ احتياطا في وثاقة جسميّتها ؛ لئلّا تنشق بسبب قوّة حركتها بما فيها ، ولئلّا يتحلل ما فيها إلّا واحد منها ، يسمى بالشريان الوريدي ، فإنه ذو صفاق واحد ؛ ليكون ألين ، وأطوع للانبساط ، والانقباض ، فإنّ الحاجة إلى السلاسة أمسّ فيه إلى الوثاقة ؛ لأنّه كما أنه منفذ للنسيم ، كذلك منفذ لغذاء الرئة ، فإنّ غذاءه من القلب ، وهو يغوص في الرئة ، ويصير شعبا.

ولحم الرئة ليّن لطيف ، لا يخشى مصادمته عند النبض ، ويحتاج إلى ترشّح الغذاء إليه بسرعة وسهولة ، وجعل الصفاق الداخلان (١) من ذوات الصفاقين أصلب ؛ لأنّه كالبطانة الّتي تحمي الظهارة ، وهو الملاقي لقوّة الحرارة الغريزية ، ولمصادمته حركة الروح ، فأوجبت الحكمة تقوية منفذ الروح والحرارة الغريزية بهذه البطانة ، وإحرازها بها.

والنوع الثاني : العروق الساكنة ، ومنبتها الكبد ، وتسمى الأوردة ، وشأنها

__________________

(١) ـ في نسخة البحار : ٥٩ : ٧ «الداخلاني».

١٤٨

إمّا جذب الغذاء إلى الكبد ، وإما إيصال الغذاء من الكبد إلى الأعضاء ، وكلها ذات صفاق واحد ، إلّا واحد يسمى بالوريد الشرياني ، فإنه ذو غشائين صلبين ؛ لأنّه ينفذ في التجويف الأيمن من القلب ، ويأتي بغذاء الرئة إلى القلب.

ولحم الرئة لطيف خفيف ، لا يصلح له إلّا دم دقيق لطيف.

ومن الشرايين ما يرافق الأوردة لترتبط الأوردة بالأغشية المجلّلة بها ، فيستقي فيما بينهما من الأعضاء ، فيستقي كلّ واحد منهما عن الآخر ، وكلما ترافقا على الصلب في داخل امتطى الشريان الوريد ليكون أخسّهما حاملا للأشرف ، وما ترافقا في الأعضاء الظاهرة غاص الشريان تحت الوريد ليكون أستر ، وأكنّ له ، ويكون الوريد له كالجنّة ، فتبارك الله العزيز الحكيم.

فصل

وأمّا الغضروف ، فهو ألين من العظم ، وأصلب من سائر الأعضاء ، وفائدته أن يحسن به اتصال العظام بالأعضاء الّليّنة ، فلا يكون الصلب والليّن قد تركّبا بلا متوسّط ، فيتأذّى الليّن بالصلب ، وخصوصا عند الضربة والضغطة ، وليحسن به تجاور المفاصل المستحاكّة ، فلا تتراض لصلابتها ، وليستند به ، وتقوى بعض العضلات الممتدّة إلى عضو غير ذي عظم ، وليعتمد عليه ما افتقر إلى الاعتماد على شيء قوي ليس بغاية الصلابة ، فتبارك الله الرؤوف الرحيم.

فصل

فهذه هي الأعضاء المتشابهة الأجزاء الّتي تتركّب منها الأعضاء الآلية ، لواهبها الحمد فوق ما حمده الحامدون ، وكلها تتكون عن المني ، ما خلا اللحم

١٤٩

والشحم فإنهما يتكوّنان عن الدم.

ومبدأ عقد الصورة في مني الذكر ، ومبدأ انعقادها في مني الأنثى ، وهما بالنسبة إلى الجنين كالأنفحة واللبن بالقياس إلى الجبن.

وقيل : إن لكلّ من المنيين قوتان ، عاقدة وقابلة ، وإن كانت العاقدة في الذكوري أقوى ، والمنعقدة في الأنوثي أقوى ، وهو الأظهر ، وإلّا لم يمكن أن يتّحدا شيئا واحدا ، ولم ينعقد مني الذكر حتّى يصير جزء من الولد ، ولهذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا ، كما تكون أمزجة النساء ، الشريفة النفس ، القوية القوى ، وكان مزاج كبدها حارّا ، كان المني المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الّذي ينفصل عن كليتها اليسرى.

فإذا اجتمعا في الرحم ، وكان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام مني الرجل في شدّة قوّة العقد ، والمنفصل من اليسرى مقام مني الأنثى في قوّة الانعقاد ، فينخلق الولد بإذن الله ، وخصوصا إذا كانت النفس متأيّدة بروح القدس ، متقوّمة به ، بحيث يسري اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ، وتغيّر المزاج ، ويمدّ جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني ، فتصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس ، كما وقع للصدّيقة مريم بنت عمران ، على نبيّنا وعلى ابنها وعليها‌السلام ، حيث تمثّل لها روح القدس بشرا سويا ، لخلق حسن الصورة ، فتأثّرت نفسها به ، فتحرّكت على مقتضى الجبلّة ، وسرى الأثر من الخيال في الطبيعة ، فتحرّكت شهوتها ، فأنزلت كما يقع في المنام من الاحتلام. فتبارك الّذي خلق من الماء بشرا ، فجعله نسبا وصهرا ، وكان ربّك قديرا.

١٥٠

فصل

ابتداء خلقة الجنين هو حصول الماء في الرحم ، وشبّه بالعجين إذا ألصق بالتنور ، ثمّ يتغيّر عن حاله قليلا ويشبه بالبذر إذا طرح في الأرض ، ويسمى نطفة ، ثمّ تحصل فيه نقط دموية من دم الحيض ، ويسمى علقة ، ثمّ تظهر فيه حمرة ظاهرة منه ، فيصير شبيها بالدم الجامد ، ويعظم قليلا ويهيج فيه ريح حارة ، ويسمى مضغة ، ثمّ يتمّ وتتميّز فيه الأعضاء الثلاثة الرئيسة ، وتظهر لسائر الأعضاء رسوم خفية ، ويسمى جنينا ، ثمّ تظهر فيه رسوم سائر الأعضاء ، ويقوى ويصلب وتجري فيه الروح ، وتتحرك ، ويسمى صبيا ، ثمّ تنفصل الرسوم ، وتظهر الصورة ، وينبت الشعر ، ثمّ ينفتح لسانه ، وتتم خلقته ، وتكمل خلقة الذكر قبل خلقة الأنثى ، وإذا كمل لم يكتف بما يجيئه من الغذاء من دم الحيض ، فيتحرّك حركات صعبة قوية ، وانهتكت ربطه بالرحم ، فكانت الولادة.

وإلى هذه الأطوار أشير بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

ولنشرح الآن الأعضاء الآلية ، ذاكرين هيئاتها ، وهيئات البسائط على الترتيب ، من لدن القرن إلى القدم ، وبالله الاستعانة.

__________________

(١) ـ سورة المؤمنون ، الآية ١٢ ـ ١٤.

١٥١

فصل

أما قحف الرأس الّذي خلق لحفظ الدماغ ووقايته عن الآفات ، فخلقه الله مستديرا إلى طول ؛ لأنّ المستدير أعظم مساحة من الأشكال المستقيمة الخطوط ، إذا تساوت إحاطتها ؛ ولئلّا تنفعل عن المصادمات ما ينفعل عنه ذو الزوايا.

وأمّا طوله فلأن منابت الأعصاب الدماغية موضوعة في الطول ؛ لئلّا يزدحم ولا ينضغط ، وقد يفقد النتوء المقدّم ، أو المؤخّر ، أو كلاهما.

والقحف مؤلف من ستة أعظم ، اثنان منها بمنزلة السقف ، وأربعة بمنزلة الجدران ، ويتصل بعضها ببعض بدروز تسمى بالشؤن ، وجعل الجدران أصلب من اليافوخ ؛ لأنّ السقطات والصدمات عليها أكثر ؛ ولأن الحاجة إلى تخلخل اليافوخ أمسّ لينفذ فيه البخار المتحلل ، ولئلّا يثقل على الدماغ. وجعل أصلب الجدران مؤخّرها ؛ لأنّه غائب عن حراسة الحواسّ.

وفي القحف ثقب كثيرة لتخرج منها أعصاب كثيرة ، وتدخل فيها عروق وشرايين ، وتخرج منها الأبخرة الغليظة الممتنعة عن النفوذ في العظم ، فينقى بتحللها الدماغ ، وليتشبث بها الحجاب الغليظ الثقيل الآتي ذكره ، فيخفف عن الدماغ.

وأعظم ثقب فيه الّذي من أسفل عند نقرة القفاء ، وهو مخرج النخاع ، ويتّصل بالقحف اللحى الأعلى ، وهو الّذي فيه الخدّان ، والأذنان ، والأسنان العليا ، ويتركّب من أربعة عشر عظما ، يتصل بعضها ببعض بدروز ، ثمّ اللحى

١٥٢

الأسفل ، وهو الّذي فيه الأسنان السفلى ، إلّا أنه لم يتّصل به اتصال التحام وركز ، بل اتصال مفصل ؛ لاحتياجه إلى حركة ، ويسمى موضع اتصاله به «الزرفين» ، وهو مركّب ـ سوى الأسنان ـ من عظمين بينهما شان في وسط الذقن ، وتحت القحف من ناحية الخلف فيما بينه وبين اللحى الأعلى عظم مركوز قد ملىء به الخلل الحادث من تقسيم أشكال هذه العظام ويسمى بالوتد.

فجميع عظام الرأس إذا عدّت على ما ينبغي ـ خلا الأسنان ـ ثلاثة وعشرون عظما.

فصل

وأمّا الدماغ فخلقه الله سبحانه ليّنا ، دسما ، لتنطبع المحسوسات فيه بسهولة ، ولتكون الأعصاب النابتة منه لينة لا تنكسر ، ولا تنقطع ، وجعل مزاجه باردا رطبا ، لتنفعل القوى المودعة فيه عن مدركاتها ، ولئلّا تشتعل بالحرارات المتولدة فيه من الحركات الفكرية والخيالية ، ولتعتدل قوّة الروح والحرارة الصاعدة إليه من القلب.

وجعل مقدّمه الّذي هو منبت الأعصاب الحسّية ألين من مؤخّره الّذي هو منبت الأعصاب الحركية ؛ لأنّ الحركة لا تحصل إلّا بقوة ، والقوّة إنّما تحصل بصلابة.

وهو ذو قسمين ، طولا وعرضا ، لئلّا تشمل الآفة جميع أجزائه ، وفي طوله تجاويف ثلاثة يفضي بعضها إلى بعض ، تسمى بطون الدماغ ، وهي محل الروح النفساني ، ومواضع الحواس ، ومقدمها أعظمها ، ويتدرّج إلى الصغر حتّى يعود

١٥٣

إلى قدر النخاع وشكله ، وله زائدتان شبيهتان بحلمتي الثدي ، تبلغان إلى العظم الكثير الثقب ، الشبيه بالمصفى في موضعه من القحف ، حيث ينتهي إليه أقصى الأنف ، فيهما حسّ الشمّ ، وبهما تندفع الفضول من هذا البطن المقدّم إلى العظم المذكور ، وينزل منه إلى الخيشوم بالعطاس.

وأمّا فضول البطنين الآخرين فيندفع إلى العظم المثقب الّذي تحت الحنك ، والبطن المقدّم هو موضع انجذاب الهواء إلى الدماغ ، والهواء بعد مكثه في البطون وتغيّره إلى المزاج الدماغي يصير روحا نفسانيا ، وكثيرا ما يريد على ما يسعه البطون ، فيصعد إلى غصون الدماغ ، يسمى بالسراريد ، ويستحيل فيها إلى المزاج الدماغي ، وإلى صلوحه له ، والسرد الموضوع من جانبي البطن الأوسط يتمدد تارة ، ويتقلص أخرى ، مثل الدودة ، ويسمى بها ، كما يسمى هذا البطن أيضا ؛ لأنّ بتمدده يستطيل هو وينضمّ معه ، وبتقلّصه يستعرض ويتفرج عنه ، والأوّل حركة الانقباض ، بها تندفع الفضلة ، والثاني حركة الانبساط ، بها تتأدى صور المدركات إلى القوّة الحافظة بتقدير العزيز الحكيم ، فسبحانه سبحانه ، ما أسبغ نعمه ، وأعلى شأنه.

فصل

قد جلل الدماغ بغشائين ، رقيق ليّن ، ملاصق له ، ومخالط في مواضع ، وغليظ صلب فوقه ، ملاصق للقحف ، وله في أمكنة منه ، وهو مثقب ثقبا كثيرة في موضعين عند العظم الشبيه بالمصفّى ، والعظم الّذي في الحنك لاندفاع الفضول ، وتتشعّب منه شعب دقاق يصعد من دروز القحف إلى ظاهره ، يتشبّث أولا الغشاء بالقحف بتلك الشعب ، فيتجافى بها عن الدماغ ، ويرتفع ثقله عنه ، ثمّ

١٥٤

ينسج من تلك الشعب على ظاهر القحف غشاء يجلله ، ويتوسّط أيضا بين جزئي الدماغ المقدم والمؤخّر حجاب لطيف يحجب الجزء الألين عن مماسّة الأصلب.

وتحت الدماغ ـ بين الغشاء الغليظ والعظم ـ نسيجة شبيهة بالشباك الكثيرة التي ألقيت بعضها على بعض ، حصلت من الشرايين الصاعدة إلى الرأس من القلب والكبد ، ويخرج منها عرقان ، فيدخلان الغشاء الصلب ، ويتصلان بالدماغ ، وإنما فرشت الشبكة تحت الدماغ ليبرد فيها الدم الشرياني والروح ، فيتشبّه بالمزاج الدماغي بعد النضج ، ثمّ يتخلّص إلى الدماغ على التدريج.

والفرج الّتي تقع بين فروع هذه الشريانات محشو بلحم غددي لئلّا تبقى خالية ، ولتعتمد عليه تلك الفروع ، وتبقى على أوضاعها ، فسبحان الخالق الكريم ، ما أبين كرمه ، وأسبغ نعمه.

فصل

وأمّا الأعصاب النابتة من الدماغ فسبعة أزواج ، أوّلها ينشأ من مقدم الدماغ ويجيء إلى العين فيعطيها حسّ البصر ، بقوّة الملك الباصر الموكّل به ، وهاتان العصبتان مجوّفتان ، وإذا نشأتا من الدماغ وبعدتا عنه قليلا اتصلتا ، وأفضى ثقب كلّ واحد منهما إلى صاحبه ، ثمّ يفترقان أيضا وهما بعد داخل القحف ، ثمّ يخرجان ، ويصير كلّ واحد منهما إلى العين الّتي من جانبه.

والزوج الثاني ينشأ من خلف منشأ الأوّل ، ويخرج من القحف في الثقب الذي في قعر العين ، ويتفرّق في عضل العين ، فتكون به حركاتها.

والثالث منشؤه من خلف الثاني من حيث ينتهي البطن المقدّم إلى البطن

١٥٥

الثاني ، ويخالط الزوج الرابع ، الّذي بعده ، ثمّ يفارقه وينقسم أربعة أقسام ، أحدها ينزل إلى البطن إلى ما دون الحجاب ، والباقي منها يتفرّق في أماكن من الوجه والأنف ، ومنها ما يتّصل بالزوج الّذي بعده.

والرابع منشؤه من خلف منشأ الثالث ، ويتفرّق في الحنك ، فيعطيه حسّا خاصا له.

والخامس يكون ببعضه حسّ السمع ، وببعضه حركة العضل الّذي يحرّك الخد.

والسادس يصير بعضه إلى الحلق واللسان ، وبعضه إلى العضل الّذي في ناحية الكتف ، وما حواليه ، وبعضه ينحدر من العنق ، وينشعب منها في مرورها شعب تتّصل بعضل الحنجرة ، فإذا بلغت إلى الصدر انقسمت أيضا ، فرجع منها بعضها مصعدا حتّى يتّصل بعضل الحنجرة ، ويتفرّق شيء منها في غلاف القلب والرئة ، والمريء ، وما جاورهما ، ويمرّ الثاني وهو أكبره حتّى ينفذ الحجاب ، ويتصل بفم المعدة منه أكثره ، ويتصل الباقي بغشاء الكبد ، والطحال ، وسائر الأحشاء ، ويتصل به هناك بعض أقسام الزوج الثالث.

والسابع يبتدىء من مؤخر الدماغ ، حيث منشأ الدماغ ، ويتفرّع في عضل اللسان والحنجرة ، والعضلات المحرّكة لأعضاء البدن كلّها تنشأ من هذه الأعصاب ، والأعصاب النخاعية الآتي ذكرها ، ولما لم يمكن تصويرها بالكلام ما يمكن من تصوير الأعصاب والعظام ، بل لا بدّ في ذلك من مشاهدة ودراية كثيرة بالغة أعرضنا عنه.

وعدد كلّ ما في البدن من العضلات خمسمائة وتسع وعشرون عضلة ،

١٥٦

على رأي جالينوس (١) ، ولواهبها الحمد أضعاف ما حمده الحامدون.

فصل

وأمّا العين فهي مركّبة من سبع طبقات ، وثلاث رطوبات ، ما خلا الأعصاب والعضلات والعروق.

وبيان هيئاتها : أن العصبة المجوّفة ـ الّتي هي أوّل العصب الخارج من الدماغ ـ تخرج من القحف إلى حيث قعر العين ، وعليها غشاءان ، هما غشاء الدماغ ، فإذا برزت من القحف وصارت في حومة عظم العين فارقها الغشاء الغليظ ، وصار لباسا وغشاء على عظم العين الأعلى كله ، ويسمى هذا الغشاء الطبقة الصلبة ، ويفارقها أيضا الغشاء الرقيق فيصير غشاء ولباسا ، دون الطبقة الصلبة ، وتسمى الطبقة المشيمة ، لشبهها بالمشيمة ، وتعرض العصبة نفسها ، ويصير

__________________

(١) ـ جالينوس : هو أشهر الأطبّاء اليونانيين القدماء بعد أبقراط ، وكان أيضا من الحكماء في الدولة القيصرية ، وقد ولد ونشأ بفرغامس ـ وهي مدينة من مدن آسيا شرقي القسطنطينية ، وهي جزيرة في بحر قسطنطينية ـ وهم روم أغريقيون ، يونانيون. قال المبشّر بن فاتك : إنّ جالينوس كان أسمر اللون ، حسن التخاطيط ، عريض الأكتاف ، واسع الراحتين ، طويل الأصابع ، حسن الشعر ، محبّا للأغاني والألحان ، وقراءة الكتب ، معتدل المشية ، ضاحك السنّ ، كثير الهزل ، قليل الصمت ، كثير الوقوع بأصحابه ، كثير الأشعار ، طيّب الرائحة ، نقي الثياب ، وكان يحبّ الركوب ، والتنزّه ، مداخلا للملوك والرؤساء ، من غير أن يتقيّد في خدمة أحد من الملوك ، بل إنّهم كانوا يكرمونه ، وإذا احتاجوا إليه في مداواة شيء من الأمراض الصعبة دفعوا له العطايا الكثيرة من الذهب وغيرها. أما مؤلّفاته فهي كثيرة ، منها : كتاب الفصل ، وكتاب العصب ، وكتاب العروق ، وكتاب المزاج ، وغيرها كثير. (أنظر : دائرة معارف القرن العشرين : ٣ : ٣).

١٥٧

فيها غشاء دون هذين ، وتسمى الطبقة الشبكية.

ثمّ يتكوّن في وسط هذا الغشاء جسم ليّن رطب حمراء صافية غليظة (١) مثل الزجاج الذائب ، يسمى الرطوبة الزجاجية ، ويتكون في وسط هذا الجسم جسم آخر مستدير إلّا أن فيه أدنى تفرطح شبيه بالجليد في صفائه ، وتسمى الرطوبة الجليدية.

ويحيط الزجاجية من الجليدية بمقدار النصف ، ويعلو النصف الآخر جسم شبيه بنسج العنكبوت ، شديد الصفاء والصقال ، يسمى الطبقة العنكبوتية ، ثمّ يعلو هذا جسم سائل في لون بياض البيض يسمى الرطوبة البيضيّة ، ويعلو الرطوبة البيضية جسم رقيق مخمل الداخل ، حيث يلي البيضة ، أملس الخارج ، ويختلف لونه في الأبدان ، فربما كان شديد السواد ، وربما كان دون ذلك ، في وسطه حيث يحاذي الجليدية ثقب يتّسع ويضيق في حال دون حال ، بمقدار حاجة الجليدية إلى الضوء ، فيضيق في الضوء الشديد ، ويتّسع في الظلمة، وبانسداده يبطل الإبصار ، وهو مثل ثقب حبّ عنب ، ينزع من العنقود ، وهو الحدقة ، وفيها رطوبة لطيفة ، وروح ، ولهذا يبطل الناظر عند الموت ، ويسمى هذا الغشاء الطبقة العنبية.

ويعلو هذه الطبقة ويغشاها جسم كثيف صاف صلب ، يشبه صفحة صلبة رقيقة من قرن أبيض ، ويسمى القرنية ، غير أنها تتلوّن بلون الطبقة الّتي تحتها المسماة عنبية ، كما يلصق وراء جام من زجاج شيئا ذا لون ، فيميل ذلك المكان من الزجاج إلى لون ذلك الشيء.

ويعلو هذا ويغشاه ، لكن لا كلّه ، بل إلى موضع سواد العين لحم أبيض ، دسم ، مشفّ ، مختلط بالعضلات المحرّكة للعين ، غليظ ، ملتحم عليه ، يسمى

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة.

١٥٨

بالملتحمة ، وهو بياض العين ، وينشأ من الغشاء الّذي على القحف من خارج ، كما تنشأ القرنية من الطبقة الصلبة ، والعنبية من الطبقة المشيمية ، والعنكبوتية من الشبكية ، وكلّ تجذب الغذاء من الّتي هي منشؤها ، فإنّها تتغذّى بنصيبها وتؤدي الباقي إليها ، فتبارك الله اللطيف الخبير ، أحسن الخالقين.

فصل

ألوان العيون ـ باعتبار اختلاف ألوان الطبقة العنبية ـ أربعة : كحلاء ، وزرقاء ، وشهلاء ، وشعلاء.

وسبب الكحل إمّا قلة الروح وعدم إشراقها على جميع أجزاء العين ، أو كدورتها وقلة إشراقها على لون العنبية ، أو صغر الجليدية أو غورها ، وكونها داخلة جدا ، فلا يظهر صفاؤها كما ينبغي ، أو كثرة الرطوبة البيضية ، أو كدورتها ، فتستر بريق الجليدية ، أو شدّة سواد العنبية ، فإذا اجتمعت هذه الأسباب كانت العين شديدة الكحل.

وأسباب الزرقة أضداد ذلك ، وإذا اختلطت أسباب الكحل والزرقة وتكافأت كانت العين شهلاء ، وإذا زادت أسباب الزرقة على أسباب الكحل كانت شعلاء.

وإنما خلقت هذه الطبقة على هذا اللون ؛ لأنّه أوفق الألوان لنور البصر ؛ إذ الأبيض يفرق نوره ، والأسود يجمعه ويكثفه ، والآسمانجوني لاعتداله يجمع النور جمعا معتدلا ، ويقويه، وإنما خلقت غليظة لتمنع عن إشراق الشمس على نور البصر ، وليكون وسيطا قويا بين الرطوبات ، وبين الطبقة الصلبة القرنية الّتي قدامها ، ولهذا جعل ظاهرها الّذي يليها أصلب ، وفي صلابة ظاهرها فائدة

١٥٩

أخرى هي أن تبقى الثقبة العنبية لصلابة ما تحفظ بها مفتوحة لا يتشوش من أطرافها تشوش الشيء الرخو الليّن ، وفي الحقيقة هذه الطبقة طبقتان : داخلانية ذات خمل ، وأخرى صلبة.

وجعلت القرنية شفيفة لئلّا تحجب نور البصر عن النفوذ فيها ، وصلبة لتكون وقاية للطبقات الأخرى ، وللرطوبة عن الآفات ، ولتحفظها على أوضاعها وأشكالها ، وجعل الرطوبة البيضية قدام الجليدية لتحجب عنها قوّة الأشعة ، والأضواء ، لكي لا تغلبها ، وجعل ظاهر الجليدية مفرطحة لأن تقع الأشباح المدركة في جزء كبير منها ، فيكون الإبصار به أقوى ؛ إذ المدوّر لا يحاذي الشيء إلّا بجزء صغير ، وجعلت الزجاجية غليظة لئلّا تسيل ، وجعلت من وراء الجليدية ليكون إلى مبدأ الغذاء أقرب ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

فصل

الرطوبة الجليدية هي أشرف أجزاء العين ، وسائر الطبقات والرطوبات خادمة لها ، ووقاية ، وهي محل المدركات البصرية من جهة الروح الآتي إليها من العصبتين المجوّفتين اللتين هما محلّ الملك الباصر ، المدرك للأضواء والألوان والحركات والمقادير ، وغيرها ، بتوسّط الروح الّتي فيهما.

وإنما جعلت العصبتان مجوّفتين للاحتياج إلى كثرة الروح الحامل لهذا الملك ، بخلاف سائر الحواسّ.

وإنما جعلتا متلاقيتين ليجمع عند ملاقيهما الروح حتّى لو أصاب إحدى العينين آفة لا يضيع نورها ، بل يندفع الروح من هذا المجمع بالكلية إلى العين الصحيحة ، فيصير بسبب ذلك أشدّ إبصارا ، ولهذا كلّ من غمض إحدى عينيه

١٦٠