عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

في قصّة آدم والشجرة

فصل

في تفسير مولانا الإمام العسكري عليه‌السلام ، عن جدّه علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : يا عباد الله ، إن آدم لما رأى النور ساطعا من صلبه ؛ إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره ، رأى النور ولم تبن الأشباح ، فقال : يا ربّ ، ما هذه الأنوار؟ فقال عزوجل : أنوار أشباح ، نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك ؛ إذ كنت وعاء لتلك الأشباح ، فقال آدم: يا ربّ ، لو بيّنتها لي ، فقال الله عزوجل : أنظر يا آدم إلى ذروة العرش ، فنظر آدمعليه‌السلام ، ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم إلى ذروة العرش ، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا الّتي في ظهره ، كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية ، فرأى أشباحنا ، فقال : ما هذه الأشباح يا ربّ؟

قال الله : يا آدم ، هذه أشباح أفضل خلقي وبريّاتي ، هذا محمّد ، وأنا الحميد المحمود في فعالي ، شققت له اسما من اسمي ، وهذا عليّ ، وأنا العليّ العظيم ، شققت له اسما من اسمي ، وهذه فاطمة ، وأنا فاطر السماوات والأرض ، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي ، وفاطم أوليائي عمّا يعرهم ويشينهم ، فشققت لها اسما من اسمي ، وهذا الحسن وهذا الحسين ، وأنا المحسن المجمل

٣٢١

شققت اسمهما من اسمي ، هؤلاء خيار خليقتي ، وكرام بريّتي ، بهم آخذ ، وبهم أعطي ، وبهم أعاقب ، وبهم أثيب ، فتوسّل بهم إليّ يا آدم ، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعاءك ، فإنّي آليت على نفسي قسما حقا ألّا أخيب بهم أملا ، ولا أردّ بهم سائلا ، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة ، ودعا الله عزوجل بهم ، فتيب عليه ، وغفرت له.

وقال الإمام عليه‌السلام : إن الله عزوجل لمّا لعن إبليس بإبائه ، وأكرم الملائكة بسجودها لآدم ، وطاعتهم لله عزوجل ، أمر آدم وحوّاء إلى الجنة ، وقال : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها) (١) ، من الجنة رغدا واسعا ، حيث شئتما ، بلا تعب ، ولا تقربا هذه الشجرة ، شجرة علم محمّد وآل محمّد ، الّذي آثرهم الله به دون سائر خلقه ، فقال الله عزوجل : (لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) شجرة العلم ، فإنّها لمحمد وآله خاصّة ، دون غيرهم ، لا يتناول منها بأمر الله إلّا هم ، ومنها ما كان يتناوله النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين ـ صلى الله عليهم ـ بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير ، حتّى لا يحسّوا بعد بجوع ، ولا عطش ، ولا تعب ، ولا نصب.

وهي شجرة تميّزت من بين أشجار الجنة بأنّ سائر أشجار الجنة كان كلّ نوع منها يحمل نوعا من الثمار والمأكول ، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البرّ والعنب والتين والعنّاب ، وسائر أنواع الأثمار والفواكه والأطعمة ، فلذلك اختلف الحاكون لذكر الشجرة.

فقال بعضهم : هي برّة ، وقال آخرون : هي عنبة ، وقال آخرون : هي تينة ، وقال آخرون : هي عنّابة.

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٥.

٣٢٢

قال الله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) تلتمسان بذلك درجة محمّد وآل محمد في فضلهم ، فإنّ الله خصّهم بهذه الدرجة دون غيرهم ، وهي الشجرة الّتي من تناول منها بإذن الله ألهم علم الأوّلين والآخرين ، بغير تعليم ، ومن تناول منها بغير إذن خاب من مراده، وعصى ربّه ، (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما ؛ إذ رمتما (١) بغير حكم الله ، قال الله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (٢) عن الجنة بوسوسته ، وخديعته ، وإيهامه ، وغروره ، بأن بدأ بآدم فقال : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) إن تناولتما منها ، تعلمان الغيب ، وتقدران على ما يقدر عليه من خصّه الله تعالى بالقدرة (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٣) لا تموتان أبدا ، (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٤).

وكان إبليس بين لحيي الحيّة ، أدخلته الجنّة ، وكان آدم يظنّ أن الحيّة هي التي تخاطبه ، ولم يعلم أن إبليس قد اختبأ بين لحييها ، فرد آدم على الحيّة : أيّتها الحيّة ، هذا من غرور إبليس ، كيف يخوننا ربّنا ، أم كيف تعظّمين الله بالقسم به وأنت تنسبينه إلى الخيانة وسوء النظر ، وهو أكرم الأكرمين؟ أم كيف أروم التوصّل إلى ما منعني منه ربّي عزوجل ، وأتعاطاه بغير حكمه؟

فلما آيس إبليس من قبول آدم منه ، عاد ثانية بين لحيي الحيّة فخاطب حوّاء من حيث وهمها أن الحية هي الّتي تخاطبها ، وقال : يا حوّاء ، أرأيت هذه الشجرة الّتي كان اللهعزوجل حرّمها عليكما ، قد أحلّها لكما بعد تحريمها ؛ لما

__________________

(١) ـ في المصدر : أردتماها.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٥.

(٣) ـ سورة الأعراف ، الآية ٢٠.

(٤) ـ سورة الأعراف ، الآية ٢١.

٣٢٣

عرف من حسن طاعتكما له ، وتوقيركما إياه ، وذلك أن الملائكة الموكّلين بالشجرة الّتي معها الحراب يدفعون عنها سائر حيوان الجنّة ، لا تدفعك عنها إن رمتها ، فاعلمي بذلك أنه قد أحلّ لك ، والبشرى لك ، إن تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه ، الآمرة الناهية فوقه.

فقالت حوّاء : سوف أجرّب هذا ، فرامت الشجرة ، فأرادت الملائكة أن تدفعها بحرابها ، فأوحى إليها إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره ، فأما من جعلته ممكّنا مميّزا مختارا فكلوه إلى عقله الّذي جعلته حجّة عليه ، فإن أطاع استحقّ ثوابي ، وإن عصى وخالف أمري استحقّ عقابي وجزائي ، فتركوها ، ولم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا منعها بحرابهم ، فظنّت أن الله تعالى نهاهم عن منعها ، وأنه قد أحلّها بعد ما حرّمها ، فقالت : صدقت الحيّة ، فظنّت أنّ المخاطب لها هي الحيّة ، فتناولت منها ، ولم تنكر من نفسها شيئا.

فقالت لآدم : ألم تعلم أن الشجرة المحرّمة علينا قد أبيحت لنا ، تناولت منها ، فلم تمنعني أملاكها ، ولم أنكر شيئا من ذلك ، فذلك حين اغترّ آدم وغلط فتناول ، فأصابهما الله ما قال في كتابه : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما) بوسوسته وغروره (مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم (وَقُلْنَا) يا آدم ويا حوّاء ، ويا أيّتها الحيّة ، ويا إبليس (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، فآدم وحوّاء وولدهما عدوّ الحيّة وإبليس ، وإبليس والحية وأولادهما أعداؤكم (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) منزل ومقرّ للمعاش (وَمَتاعٌ) منفعة (إِلى حِينٍ) (١) حين الموت ، قال الله عزوجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) يقولها ، فقالها (فَتابَ) بها (عَلَيْهِ

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٦.

٣٢٤

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١) ، القابل للتوبات ، الرحيم بالتائبين.

فلما زلّت من آدم الخطيئة فاعتذر إلى ربّه عزوجل فقال : يا ربّ تب عليّ واقبل معذرتي ، وأعدني إلى مرتبتي ، وارفع لديك درجتي ، فلقد تبيّن نقص الخطيئة وذلّها بأعضائي وسائر بدني ، قال الله تعالى : يا آدم أما تذكر أمري إياك أن تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ، ودواهيك ، وفي النوازل تبهظك ، قال آدم : يا ربّ ، بلى ، قال الله عزوجل : فبهم بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، خصوصا ، فادعني أجبك إلى ملتمسك ، وأزدك فوق مرادك.

فقال آدم : يا ربّ وإلهي ، قد بلغ عندك من محلّهم أنك بالتوسّل بهم تقبل توبتي ، وتغفر خطيئتي ، وأنا الّذي أسجدت له ملائكتك ، وأبحته جنّتك ، وزوّجته حوّاء أمتك ، وأخدمته كرام ملائكتك.

قال الله : يا آدم ، إنّما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود ؛ إذ كنت وعاء لهذه الأنوار ، ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها ، أو أن أفطنك لدواعي عدوّك إبليس حتّى تحترز منها ، لكنت قد فعلت ذلك ، ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي ، والآن فبهم فادعني لأجيبك ، فعند ذلك قال آدم : اللهم بجاه محمّد وآل محمّد الطيبين ، بجاه محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، والطيّبين من آلهم ، لمّا تفضّلت بقبول توبتي ، وغفران زلّتي ، وإعادتي من كراماتك إلى مرتبتي.

ثمّ قال الله عزوجل : قد قبلت توبتك ، وأقبلت برضواني عليك ، وصرفت آلائي ونعمائي إليك ، وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي ، ووفرت نصيبك من

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٧.

٣٢٥

رحماتي ، فذلك قول الله عزوجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١). انتهى كلامه صلوات الله عليه (٢).

وليعلم أن الجنة الّتي خرج منها أبونا آدم ـ على نبيّنا وعليه‌السلام ـ غير الجنة الّتي وعد المتّقون من وجه ، كما أشرنا إليه فيما سلف ، ولهذا ورد في الأخبار أنها كانت بستانا من بساتين الدنيا ، ولو كانت تلك الجنة لما خرج منها أبدا.

فصل

قال بعض أهل الحكمة : إن الإنسان من أوّل زمان إفاضة القوّة العاقلة عليه إلى حين استرجاعها ما دام مراعيا لأوامر الحقّ سبحانه ، غير منحرف عن فطرته الأصلية ، ولا معرض عن عبادته ، ولا ملتفت إلى غيره ، فإنه في الجنّة ، وإن كانت الجنة على مراتب ، كما قال تعالى : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٣).

ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ مولود يولد فعلى الفطرة ، وإنما أبواه هما اللذان يهوّدانه ، وينصّرانه» (٤) ؛ إذ كانت نفسه قبل الجواذب الخارجية عن القبلة

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٧.

(٢) ـ تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٢٠ ـ ٢٢٦ مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.

(٣) ـ سورة الزمر ، الآية ٢٠.

(٤) ـ هذا الحديث تارة ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخرى عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، مع اختلاف بعض الألفاظ. أنظر : من لا يحضره الفقيه : ٢ : ٤٩ ، ح ١٦٦٨ ؛ وتصحيح الاعتقاد : ٦١ ؛ وعدة الداعي : ٣٣٢ ، وغيرها من المصادر.

٣٢٦

الحقيقية غير مدنّسة بشيء من الاعتقادات الفاسدة ، والهيئات الرديئة ، وإن كانت المرتبة السامية والغرفة العالية إنّما تنال بعد المفارقة ، واستصحاب النفس لأكمل زاد (١).

وقال في بيان حقيقة وسوسة الشيطان : إن الفعل إنّما يصدر من الإنسان بواسطة أمور مترتبة ترتيبا طبيعيا ، أوّلها تصور كون الفعل ملائما ، وهو المسمى بالداعي ، ثمّ إنّ ذلك الشعور يترتب عليه ميل النفس إلى الفعل المسمى ذلك الميل إرادة ، فيترتب على ذلك الميل حركة القوّة النزوعية المحركة للقوّة المسماة قدرة ، المحركة للعضل إلى الفعل.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : صدور الفعل عن مجموع القدرة والإرادة أمر واجب ، فليس للشيطان فيه مدخل ، ووجود الميل عن تصوّر كونه نافعا وخيرا أمر لازم ، فلا مدخل للشيطان أيضا فيه ، فلم يبق له مدخل إلّا في إلقاء ما يتوهّم كونه نافعا أو لذيذا إلى النفس ، ممّا يخالف أمر الله سبحانه ، فذلك الإلقاء في الحقيقة هو الوسوسة ، وهو عين ما حكى الله سبحانه عنه بقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)(٢).

إذا عرفت ذلك فاعلم أن متابعة إبليس تعود إلى انقياد النفس لجذب الوهم والقوى البدنية الّتي هي الشياطين عن الوجهة المقصودة ، والقبلة الحقيقية وهي عبادة الحقّ سبحانه ، وفتنتها لها بتزيين ما حرّم الله عليها.

فأما ما يقال : إن إبليس لم يكن له تمكّن من دخول الجنة ، وإنما توسّل بالحيّة ودخل في فمها إلى الجنّة ، حتّى تمكّن من الوسوسة لآدم عليه‌السلام ، واغتراره ،

__________________

(١) ـ شرح نهج البلاغة ، لابن ميثم البحراني : ١ : ١٩٣.

(٢) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٢٢.

٣٢٧

فالمراد (١) بالحيّة هي القوّة المتخيّلة ؛ وذلك إن الوهم إنما تمكّن من التصرّف وبعث القوى المحرّكة كالشهوة والغضب الّتي هي جنوده وشياطينه على طلب الملاذ البدنية ، والشهوات الحسية الدنية ، وجذب النفس إليها بتصوير كونها لذيذة نافعة ، بواسطة القوّة المتخيّلة.

ووجه تشبيهها بالحيّة ، أن الحيّة لما كانت لطيفة ، سريعة الحركة ، تتمكّن من الدخول في المنافذ الضيّقة ، وتقدر على التصرّف الكثير ، وهي مع ذلك سبب من أسباب الهلاك ، بما تحمله من السم ، وكانت المتخيّلة في سرعة حركاتها وقدرتها على التصرّف السريع ، والإدراك ألطف من سائر القوى ، وهي الواسطة بين النفس والوهم ، وكانت بما اشتملت عليه من تحمل كيد إبليس ، وإلقاء الوسوسة بواسطتها إلى النفس ، سببا قويّا للهلاك السرمد ، والعذاب المؤبد ، لا جرم كان أشبه ما تشبّه به الحيّة لما بينهما من المناسبة ، فحسن إطلاق لفظ الحية عليها.

كذا ذكره كمال الدين ابن ميثم البحراني (٢) ، في شرح نهج

__________________

(١) ـ في المصدر : فقالوا المراد.

(٢) ـ وهو : كمال الدين ، ميثم بن علي بن ميثم البحراني ، العالم الربّاني ، والفيلسوف المتبحّر ، المحقّق ، والحكيم المتألّه ، المدقّق ، جامع المعقول والمنقول ، أستاذ الفضلاء الفحول ، صاحب الشروح على نهج البلاغة. يروي عن المحقّق نصير الدين الطوسي ، والشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحراني ، ويروي عنه آية الله العلّامة والسيّد عبد الكريم بن طاووس ، قيل : إن الخواجة نصير الدين الطوسي تلمّذ على كمال الدين ميثم في الفقه ، وتلمّذ كمال الدين على الخواجة في الحكمة ، توفّي سنة «٦٧٩ ه‍» ، وقبره في هلتا من قرى ماحوز. وحكي عن بعض العلماء : أنّ ميثم حيثما وجد فهو بكسر الميم ، إلّا ميثم البحراني فإنّه بفتح الميم ، والله تعالى العالم. وكتب الشيخ سليمان البحراني رسالة في أحواله سمّاها السلافة البهية.

أنظر ترجمته في : الكنى والألقاب : ١ : ٤٣٣ ، وأمل الآمل : ٢ : ٣٣٢ / ١٠٢٢.

٣٢٨

البلاغة (١) ، ناقلا عن المأوّلين لهذه القصّة ، وتمام الكلام في حقيقة الشياطين ، سنذكره فيما بعد ، إن شاء الله.

__________________

(١) ـ شرح نهج البلاغة ، لابن ميثم البحراني : ١ : ١٩٤ و ١٩٥.

٣٢٩

في الآيات الإنسانية من العجائب والغرائب

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) (١)

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢)

فصل

إن في النفس الإنسانية لآيات ، وأسرارا ، وحكما ، وعجائب ، وغرائب ، لا تحصى ، وقد مضت الإشارة إلى شطر منها ، كاشتمالها على كلّ الوجود ، وجميع النشآت ، وهي من أعظم آياتها ، وبهذا الاعتبار مظهر لاسم الله الأعظم.

وكتقدّمها على الموجود البدني النفسي ، وتأخّرها عنه باعتبارين ، وهي أيضا عجيب جدا ، وكإحاطتها بالبدن كلّه ، مع تنزّهها عن المكان والتحيّز ، وكاتّصافها بالعلم والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والحياة ، والإرادة ، وسائر صفات الكمال ، تخلق في مملكتها ما تشاء ، وتحكم ما تريد ، وتتصرف بقوّتها الخيالية والعقلية في الملك والملكوت ، ومع ذلك فهي عاجزة عن معرفة ذاتها ، وكنه حقيقتها ، وهي من أعجب العجائب.

وكتطوراتها في الأطوار ، وترقّياتها بحسب درجاتها ومقاماتها من لدن

__________________

(١) ـ سورة فصلت ، الآية ٣٥.

(٢) ـ سورة الذاريات ، الآية ٢٠ و ٢١.

٣٣٠

كونها جنينا ، بل نطفة قذرة ، إلى أن تصير عالما ربّانيا ، ملاقيا لله سبحانه ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (١) ، أو تصير ملكا من الملوك ، شديد البطش ، والهمة ، يملك جميع الأرض (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٢).

وكإطاعة جميع الموجودات إياها ، وتوجّهها شطر كعبة قلبها ، ودخولها في دينها أفواجا ، وتسخرها لها ، إنّ في ذلك لآيات ، وما يعقلها إلّا العالمون.

وكخسّتها وشرفها ، وبعد مراقيها في معارجها ، وانحطاط درجاتها في تسفّلها ، فإما إلى أسفل سافلين ، أو لها أجر غير ممنون.

وكصيرورة الحقّ سبحانه سمعها وبصرها ويدها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (٣).

وككونها في أوّل الحدوث ، وبحسب الظاهر صورة نوع واحد ، ويصير آخرا ، وبحسب الباطن صور أنواع كثيرة حتّى قد يسري ذلك في الظاهر ـ أيضا ـ كما عرفت (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤).

__________________

(١) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٦.

(٢) ـ سورة الروم ، الآية ٢٢.

(٣) ـ سورة ق ، الآية ٣٧.

(٤) ـ سورة الرعد ، الآية ٤ ؛ وسورة النحل ، الآية ١٢ ؛ وسورة الروم ، الآية ٢٤.

٣٣١

فصل

ومن العجائب الواقعة في النشأة الإنسانية : الطبع الموزون ، وتناسب البحور ، والصوت الحسن ، ونحو ذلك.

مثلا : بحر الهزج هو أربع مفاعلين ، وإن ابتدأت بعلين ، وختمت بمفا ، صار بحر الرجز الّذي هو أربع مستفعلن ، وإن ابتدأت بلن ، وختمت بمفاعي صار بحر الرمل الّذي هو أربع فاعلاتن ، وعلى هذا القياس تتناسب البحور.

ومن هذا القبيل الأصول الايقاعية ، فإنّ كلّ دور بمثابة مصراع ، والأزمنة المتخللة بين النقرات بمثابة الحروف.

وأعجب من ذلك أن حركة النبض على وفق النسب الموسيقية.

قال في القانون : ينبغي أن يعلم أن للنبض طبيعة موسيقارية ، وكما أن صناعة الموسيقى تتم بتأليف النغم على نسبة بينها في الحدة والثقل ، وبأدوار إيقاع مقدر للأزمنة الّتي تتخلل نقراتها ، كذلك حال النبض ، فإنّ نسبة أزمنته في السرعة والتواتر نسبة إيقاعية ، ونسبة أحواله في القوّة والضعف ، وفي المقدار نسبة كالتأليفية.

وكما أن أزمنة الإيقاع ومقادير النغم قد تكون متّفقة ، وقد تكون غير متّفقة ، كذلك الاختلافات قد تكون منتظمة ، وقد تكون غير منتظمة (١).

__________________

(١) ـ أنظر : هامش شرح المنظومة : ٥ : ١١٢ ، حيث ذكر هذا القول عن القانون.

٣٣٢

فصل

ومن العجائب الواقعة في العالم الإنساني : الأحلام.

روى في الكافي ، بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، أنه قال : «إنّ رأي المؤمن ، ورؤياه ، في آخر الزمان على سبعين جزء من أجزاء النبوّة» (١).

وبإسناده عن مولانا الرضا عليه‌السلام : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أصبح قال لأصحابه : هل من مبشّرات ، يعني به الرؤيا» (٢).

وروى العامة بأسانيدهم ما يقرب من الحديثين (٣).

وسبب الرؤيا انحباس الروح البخاري من الظاهر إلى الباطن ، بأسباب شتى ، مثل طلب الاستراحة عن كثرة الحركة ، ومثل الاشتغال بتأثيره في الباطن لينفتح السد ، ولهذا يغلب النوم عند امتلاء المعدة.

ومثل أن يكون الروح قليلا ناقصا ، فلا يفي بالظاهر والباطن جميعا ، ولزيادته ونقصانه أسباب طبّية مذكورة في كتب الأطبّاء.

فإذا انحبس الروح إلى الباطن ، وركدت الحواس بسبب من الأسباب ، بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس ؛ لأنها لا تزال مشغولة بالتفكّر فيما تورده الحواس عليها ، فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفعت عنها الموانع ، فإن كانت عالية معتادة بالصدق ، أو مائلة إلى العالم الروحاني العقلي ، متوجّهة إلى الحق ،

__________________

(١) ـ الكافي : ٨ : ٩٠ ، ح ٥٨.

(٢) ـ الكافي : ٨ : ٩٠ ، ح ٥٩.

(٣) ـ أنظر : مسند أحمد : ١ : ٢١٩ ، وسنن الدارمي : ١ : ٣٠٤ ، وصحيح مسلم : ٢ : ٤٨ ، وغيرها.

٣٣٣

مطهرة من النقائص ، معرضة عن الشواغل البدنية ، متّصفة بالمحامد ، أو غير ذلك ممّا يوجب تنويرها ونقويتها وقدرتها على خرق العالم الحسي ، من الإتيان بالطاعات والعبادات ، واستعمال القوى ، والآلات بموجب الأوامر الإلهية ، وحفظ الاعتدال بين طرفي الإفراط والتفريط فيها ، ودوام الوضوء ، والذكر ، وخصوصا من أوّل الليل إلى وقت النوم ، وصحة البدن ، واعتدال مزاجه الشخصي ، والدماغي ، اتّصلت بالجواهر الروحانية الشريفة ، الّتي فيها نقوش جميع الموجودات ، كلية وجزئية ، المسماة بالكتاب المبين ، وأمّ الكتاب ، على ما مرّ تفصيله ، فانتقشت بما فيها من صور الأشياء ، لا سيّما ما ناسب أغراضها ، ويكون مهمّا لها.

فإنّ النفس بمنزلة مرآة ينطبع فيها كلّ ما قابلها من مرآة أخرى عند حصول الأسباب، وارتفاع الحجاب بينهما ، والحجاب هاهنا اشتغال النفس بما تورده الحواس ، فإذا ارتفع ظهر فيها من تلك المرائي ما يناسبها ويحاذيها.

فإن كانت تلك الصور جزئية ، وبقيت في النفس تحفظ الحافظة إياها على وجهها ، ولم تتصرف فيه القوّة المتخيّلة الحاكية للأشياء بتمثّلها ، فتصدق هذه الرؤيا ، ولا تحتاج إلى التعبير.

وإن كانت المتخيّلة غالبة ، أو إدراك النفس للصورة ضعيفا ، صارت المتخيّلة بطبعها إلى تبديل ما رأته النفس بمثال ، كتبديل العلم باللبن ، وتبديل العدوّ بالحيّة ، وتبديل الملك بالبحر ، أو الجبل ، إلى غير ذلك ؛ وذلك لما دريت أن لكلّ معنى صورة في نشأة غير صورته في النشأة الأخرى ، وأن النشآت متطابقة.

نقل أن رجلا جاء إلى ابن سيرين وقال : رأيت كأن في يدي خاتما أختم

٣٣٤

به أفواه الرجال ، وفروج النساء ، فقال : إنك مؤذّن تؤذّن في شهر رمضان ، قبل الفجر ، فقال : صدقت.

وجاء آخر فقال : كأنّي أصببت الزيت في الزيتون ، فقال : إن كانت تحتك جارية اشتريتها ففتّش عن حالها ، فإنّها أمّك ؛ لأنّ الزيتون أصل الزيت ، فهو ردّ إلى الأصل ، فنظر ، فإذا جاريته كانت أمّه ، وقد سبيت في صغره.

وقال آخر له : كأني أعلق الدرّ في أعناق الخنازير ، فقال : كأنّك تعلّم الحكمة غير أهلها ، وكان كما قال.

وربما تبدل المتخيّلة الأشياء المرئية في النوم بما يشابهها ، ويناسبها مناسبة ما ، أو ما يضادّها ، كما من رأى أنه ولد له ابن فتولد له بنت ، وبالعكس ، وهذه الرؤيا تحتاج إلى مزيد تصرّف في تعبيره ، بأن يحلل بالعكس ، أي يرجع من الصور الخيالية الجزئية إلى المعاني النفسانية الكلية ، وربما لم تكن انتقالات المتخيلة مضبوطة بنوع مخصوص ، فانشعبت وجوه التعبير ، فصار مختلفا بالأشخاص والأحوال والصناعات ، وفصول السنة ، وصحة النائم ومرضه.

وصاحب التعبير لا ينال إلّا بضرب من الحدس ، ويغلط فيه كثيرا للالتباس.

وإن كانت النفس سفلية متعلقة بالدنيا ، منهمكة في الشهوات ، حريصة على المخالفات ، مستعملة للمتخيّلة في التخيلات الفاسدة ، وغير ذلك ، ممّا يوجب الظلمة ، وازدياد الحجب ، أو سوء مزاج الدماغ ، فلا تتصل بالجواهر الروحانية بمجرد ذلك ، فتفعل باختراعها بقوّتها المتخيّلة في مملكتها وعالمها الباطني ، صورا وأشخاصا جسمانية ، بعضها مطابقة لما يوجد في الخارج ، وبعضها جزافات لا أصل لها في شيء من العوالم ، بل هو من دعابات المتخيّلة ،

٣٣٥

واضطرابها الّتي لا تفتر عنها في أكثر الأحوال ، ثمّ انتقلت منها وحاكتها بأمور أخرى في النوم ، فبقيت مشغولة بمحاكاتها ، كما تبقى مشغولة بالحواسّ في اليقظة ، وخصوصا إذا كانت ضعيفة منفعلة عن آثار القوى ، وهي أضغاث الأحلام.

ولمحاكاتها أسباب من أحوال البدن ومزاجه ، فإن غلب على مزاجه الصفراء حاكاها بالأشياء الصفر ، وإن كان فيه الحرارة حاكاها بالنار والحمّام الحار ، وإن غلبت البرودة حاكاها بالثلج والشتاء ، ونظائرهما ، وإن غلبت السوداء حاكاها بالأشياء السود والأمور الهائلة.

قال بعض العلماء : وإنما حصلت صورة النار ـ مثلا ـ في التخيل عند غلبة الحرارة ؛ لأنّ الحرارة الّتي في موضع تتعدى إلى المجاور لها كما يتعدى نور الشمس إلى الأجسام بمعنى أنه سيكون سببا لحدوثه ؛ إذ خلقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره ، والقوّة المتخيّلة منطبعة في الجسم الحارّ فتتأثّر به تأثّرا يليق بطبعها ؛ لأنّ كلّ شيء قابل يتأثّر من شيء ، فإنما يتأثّر منه بشيء يناسب جوهر هذا القابل وطبعه ، فالمتخيلة ليست بجسم حتّى تقبل نفس الحرارة ، فتقبل من الحرارة ما في طبعها القبول له ، وهو صورة الحار ، فهذا هو السبب فيه (١).

__________________

(١) ـ المبدأ والمعاد : ٤٧١ ، فصل في أضغاث الأحلام وهي المنامات الّتي لا أصل لها.

٣٣٦

وصل

سئل مولانا الصادق عليه‌السلام : الرجل يرى الرؤيا ، فتكون كما رآها ، وربما رأى الرؤيا فلا تكون شيئا ، قال : إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء ، وكلّ ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحق ، وكلّ ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام ، فقيل له : ويصعد روح المؤمن إلى السماء؟ قال : نعم ، قيل : كيلا يبقى منه شيء في بدنه؟ فقال : لا ، لو خرجت كلّها من الإنسان حتّى لا يبقى منه إذا لماتت ، قيل : وكيف يخرج؟ فقال : إنّما ترى الشمس في السماء في موضعها ، وضوؤها وشعاعها في الأرض ، فكذلك الروح ، أصلها في البدن ، وحركتها ممدودة (١).

وعن مولانا الباقر عليه‌السلام ما يقرب من صدر الحديث ، إلّا أنه قال : «وما رأت في الهواء فهو أضغاث» (٢).

ويقرب منه ما رواه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنه قال : «فما رأى عند رب العالمين فهو حق» (٣).

وفي الصحيح ، عن مولانا الرضا عليه‌السلام : أن «الرؤيا على ما تعبّر» (٤).

وفي الموثّق ، عنه ، أو عن أبيه عليهما‌السلام : «أنّ امرأة رأت على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن جذع بيتها قد انكسر ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها

__________________

(١) ـ جامع الأخبار : ١٧٢ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ـ أمالي الصدوق : ١٤٥ ، ح ١٦.

(٣) ـ أمالي الصدوق : ١٤٦ ، ح ١٧.

(٤) ـ الكافي : ٨ : ٣٣٥ ، ح ٥٢٧.

٣٣٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يقدم زوجك ويأتي وهو صالح ، وقد كان زوجها غائبا ، فقدم كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ غاب زوجها غيبة أخرى ، فرأت في المنام كأن جذع بيتها قد انكسر ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها : يقدم زوجك ، ويأتي صالحا ، فقدم على ما قال، ثمّ غاب زوجها ثالثة ، فرأت في منامها أن جذع بيتها قد انكسر ، فلقيت رجلا أعسر فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها الرجل السوء : يموت زوجك ، قال : فبلغ ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : ألا كان عبّر لها خيرا» (١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الرؤيا لا تقصّ إلّا على مؤمن ، خلا من الحسد والبغي» (٢).

فصل

الاتصال بالجواهر الروحانية كما يكون في المنام ، فكذلك قد يكون في اليقظة أيضا ، كما أن الاختراعات الخالية تكون في الحالتين ؛ وذلك لأنّ رفع الحجاب بين مرآة النفس وذلك العالم كما يكون بالمنام ، فكذلك قد يكون بأسباب أخر ، مثل صفاء النفس ، بحسب أصل الفطرة ، ومثل انزعاج النفس وانضجارها عن هذا العالم ، بسبب ما يكدرها ، وينغص عيشها الدنياوي ، من المؤلمات ، والمنفّرات ، فيتوجّه إلى عالمها هربا من هذه الأمور الموحشة ، فيرتفع الحجاب بينها وبين عالمها.

ومثل الرياضات العلمية والعملية الّتي توجب المكاشفات الصورية

__________________

(١) ـ الكافي : ٨ : ٣٣٥ ، ح ٥٢٨.

(٢) ـ الكافي : ٨ : ٣٣٦ ، ح ٥٣٠.

٣٣٨

والمعنوية ، أي ظهور الحوادث والحقائق ، ومثل الموت الإرادي الّذي يكون للأولياء ، ومثل الموت الطبيعي الّذي يوجب كشف الغطاء للجميع ، سواء كانوا سعداء ، أو أشقياء ، ومثل ما لو غلب على المزاج اليبوسة والحرارة ، وقلّ الروح البخاري حتّى صرفت النفس لغلبة السوداء ، وقلّة الروح عن موارد الحواس ، فيكون مع فتح العين وسائر أبواب الحواس كالمبهوت الغافل الغائب عما يرى ويسمع ؛ وذلك لضعف خروج الروح إلى الظاهر ، فهذا أيضا لا يستحيل أن ينكشف لنفسه من الجواهر الروحانية شيء من الغيب ، فيحدّث به ، ويجري على لسانه ، فكأنّه أيضا غافل عما يحدّث به ، وهذا يوجد في بعض المجانين والمصروعين ، وبعض الكهنة ، فيحدّثون بما يكون موافقا لما سيكون.

وصل

فما تتلقّاه النفس في اليقظة فعلى وجهين : فإن كانت النفس قوية وافية بضبط الجوانب ، لا تشغلها المشاعر السفلية عن المدارك العالية ، وتكون سحيّلتها قوية على استخلاص الحس المشترك عن مشاهدة الظواهر إلى مشاهدة ما تراها في الباطن فلا يبعد أن يقع لها ما يقع للنائم من غير تفاوت ، فمنه ما هو وحي صريح لا يفتقر إلى التأويل ، ومنه ما ليس كذلك ، فيفتقر إليه ، أو يكون شبيها بالمنامات الّتي هي أضغاث أحلام ، إن أمعنت المتخيّلة في الانتقال والمحاكاة ، وإن لم تكن كذلك فلا تخلو إمّا أن تستعين بما يقع للحس دهشة ، وللخيال حيرة ، أو لا ، بل كانت لضعف طبيعي في الحواس ، أو مرض طارىء ، فالأول كفعل المستنطقين المشغلين للصبيان والنساء ذوات المدارك الضعيفة بأمور مترقرقة ، أو بأشياء ملطّخة سود مدهشة ، محيّرة للحس ، مرعشة للبصر ،

٣٣٩

برجرجتها ، أو شفيفها ، وكاستعانة بعض المتصوّفة والمتكهّنة برقص ، وتصفيق ، وتطريب ، فكلّ هذه موهنة للحواس ، مخلّة بها.

وربّما يستعينون أيضا بالإيهام بالعزائم ، وبأدعية غير مفهومة الألفاظ ، توجب الترهيب بالجنّ ، إذا استنطقوا غيرهم ، والثاني كما للمصروعين والممرورين ، ومن في قواه ضعف ، وفي دماغه رطوبة قابلة.

وقد يجتمع الشيئان ضعف العائق ، وقوّة النفس ، بتطريب وغيره ، كما لكثير من المرتاضين من أولي الكد وهذا حسن ، وما للكهنة والممرورين نقص أو ضلال ، وتعطيل للقوى عما خلقت لأجله.

وأمّا الفضلاء فرياضاتهم وعلومهم مرموزة (١) مكتومة عن المحجوبين.

فصل

قال بعض العلماء : اعلم أن أكثر ما تظهر قوّة الكهانة ونحوها من قوى النفوس في أوقات الأنبياء ، وقبيل ظهورهم ؛ وذلك أن الفلك إذا أخذ في التشكل بشكل يتمّ به في العالم حدث عظيم ، عرض من ابتداء ذلك الشكل ، وغايته أحداث في الأرض شبيهة بما يريد أن يتمّ ، ولكنها تكون غير تامّة ؛ لأنّ سببها غير تام (٢).

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة ، وقد وردت هذه العبارة أيضا في الشواهد : ٣٤٦ ، الإشراق الخامس : في كيفية الإنذارات. وفي غيره «مرموضة» بدل «مرموزة» كما في المبدأ والمعاد : ٤٧٦ ، ضابط عقلي وتقسيم حكمي.

(٢) ـ جملة «لأن سببها غير تام» غير موجودة في المصدر.

٣٤٠