عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

مطيعا (١) ، يسبّح الله ذلك النور ، ويقدّسه ، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله تعالى آدم ركّب ذلك النور في صلبه ، فلم نزل في شيء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزء أنا ، وجزء علي (٢).

ونحوه روى أحمد بن حنبل في مسنده (٣) ، وابن أبي ليلى في كتاب الفردوس (٤).

وروى في كتاب منهج التحقيق إلى سواء الطريق ، عن ابن خالويه ، يرفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول : إنّ الله عزوجل خلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين من نور واحد ، فعصر ذلك النور عصرة فخرج منه شيعتنا ، فسبّحنا فسبّحوا ، وقدّسنا فقدّسوا ، وهلّلنا فهلّلوا ، ومجّدنا فمجّدوا ، ووحّدنا فوحّدوا ، ثمّ خلق الله السماوات والأرض ، وخلق الملائكة فمكثت الملائكة مائة عام ، لا تعرف تسبيحا ، ولا تقديسا ، فسبّحنا ، فسبّحت شيعتنا ، فسبّحت الملائكة ، وكذا في البواقي ، فنحن الموحّدون ، حيث لا موحّد غيرنا ، وحقيق على الله عزوجل كما اختصّنا وشيعتنا أن يزلفنا (٥) وشيعتنا في أعلى علّيين ، إن الله اصطفانا واصطفى شيعتنا من قبل أن نكون أجساما ، فدعانا ، فأجبناه ، فغفر لنا ولشيعتنا من قبل أن نستغفر الله عزوجل (٦). والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

ولنعد إلى ما كنّا فيه :

__________________

(١) ـ في المصدر : مطبقا. وفي غيره : مطيفا.

(٢) ـ مناقب الخوارزمي : ١٤٥ ، ح ١٦٩.

(٣) ـ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : ٢ : ٦٦٢ ، ح ١١٣٠ ، ولم أعثر عليه في المسند.

(٤) ـ ينابيع المودة : ٤٧ ، عن الفردوس : ٣ : ٢٨٣ ، ح ٤٨٥١.

(٥) ـ في المصدر : ينزلنا.

(٦) ـ كشف الغمة : ١ : ٤٥٨ ، عن كتاب مولد فاطمة عليها‌السلام للصدوق.

٢٨١

فصل

وهذه المراتب الأربع للعقل النظري تعتبر بالقياس إلى كلّ نظري ، فيختلف الحال ؛ إذ قد يكون بالقياس إلى بعض النظريات في مرتبة العقل الهيولاني ، وفي بعضها عقلا بالملكة ، وفي بعضها عقلا بالفعل ، وفي بعضها عقلا مستفادا ، فإنّ وحدة النفس طور آخر من الوحدة ، فكما لا تتأبّى عن الاتصال بأشياء متخالفة الحقائق بأن تكون مع كلّ منها بحسبه ، ففي مرتبة عقل ، وفي مرتبة خيال ، وفي أخرى حسّ.

وكلّ قوّة درّاكة فهي من جنس مدركه ، كما دريت ، فكذلك لا يمتنع أن تتصل بشيء من وجه ، ولا تتّصل به من وجه آخر ، فإنّ ذاتها بمنزلة مرآة كرية ، كلّ قوس منها صارت مصيقلة حاذت بها شطر الحقّ الّذي يكون فيه كلّ كمال وزينة ، فوقعت فيها صورة مناسبة لها ، يخرج بحسبها ما بالقوّة من الصور والكمالات والاعتداد في كلّ من هذه الاتصالات بما استقرّت النفس عليه في آخر الأمر ، والعبرة بما هو الغالب عليها ، والصائر ملكة لها ، وبه يجري الحكم عليها في النشأة الآخرة ، فإن حصلت لها في الدنيا ملكة الاتصال بالأمور الدنياوية ، فمآلها إلى الجحيم ، على حسب دركاتها ، وإن حصلت لها في الدنيا ملكة الاتصال بالخيرات والعقليات ، فمآلها إلى النعيم ، على حسب درجاتها.

ومنزلة كلّ امرىء في العلو والسفل على قدر عقله وعلمه ، والناس أبناء ما يحسنون ، و «قيمة كلّ امرىء ما يحسنه» (١).

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : ٤٨٢ ، حكمة رقم «٨١».

٢٨٢

فصل

وأمّا العقل العملي فأولى مراتبه تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع والتقيّد بقيودها ، والائتمار بأوامرها ، والانتهاء عن نواهيها ، وفعل النوافل من القيام ، والصيام ، والصدقات ، والقرابين ، والأعياد ، والجماعات ، وسائر الآداب والسنن.

ثم تهذيب الباطن عن الملكات الرديئة ، والأخلاق الدنية ، الّتي تظهر في النفس بالتدريج ، بعد تجاوزها عن أدنى مراتب الحيوانية ، من الشهوة والغضب والحرص والحسد والبخل والعجب والغرور ، وغير ذلك من الصفات والهيئات التي هي نتائج الاحتجاب والبعد عن معدن الوجود ، والصفات الكمالية ، وهي الساترة للحق سبحانه ، والزائفة عن صراطه المستقيم ، فإنّ الإنسان كما أنه مركّب ـ من حيث المادّة البدنية ـ من أمزجة مختلفة ، وكيفيات متضادّة ، كذلك مركّب من حيث الصورة النفسانية من قوى متخالفة ، متضادّة ، كقوّة الشهوة ، والغضب ، والوهم ، والعقل ، والشهوة كالبهيمة ، والغضب كالسبع ، والوهم كالشيطان ، والعقل كالملك ، والناظر بعين البصيرة يرى قوّة الشهوة بهيمة بالحقيقة ، وكذا يشاهد قوّة الغضب إذا اشتدّت بعينها كلبا عقورا ، وسبعا ضاريا ، وكذا قوّة الوهم ـ إذا لم تكن في طاعة العقل وتسخيره ـ شيطانا مغويا ؛ لما دريت أن الحقائق للأشياء هي صورها المعنوية ، لا موادّها الحسية.

فإذا كان في باطن الإنسان بهائم وسباع وشياطين ، وله حاجة في طريق سلوكه وسفره إلى الله إلى استخدامها ، فإنّ في فقدها بالكلية خلافا لمصلحة السفر ، وأخذ الزاد ، فلا بد للعقل أن يسخّرها ويستخدمها ويعامل معها معاملة السلطان العادل مع المردة من رؤساء مملكته ، ويداريها مداراة الفسوني بالحية

٢٨٣

التي يريد أن ينتفع من ترياقها ، ولا يتضرّر من سمّها المهلك ، ليحصل له حسن الخلق ، وسلامة القلب ، ليتهيّأ قلبه بذلك لنور المعرفة.

وتسمى هاتان المرتبتان بالتجلية ـ بالجيم ـ والتخلية ـ بالخاء المعجمة ـ وإليهما أشير بقوله سبحانه : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) (١).

وبقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ أدنى درجات الإيمان إماطة الأذى عن الطريق» (٢).

ثم تصوير النفس بالصور القدسية العلمية ، ونقشها بهيئة الوجود على ما هو عليه ، وتحلّيها بالصفات الحميدة ، والأخلاق المرضية ، من التوبة ، والإنابة ، والصبر ، والشكر ، والرضا ، والزهد ، الحقيقي ، والتوكّل ، والإنس ، والمحبة ، والتوجّه بالكلية إلى الحق ، والمواظبة على الطهارة التامة ، والذكر ، والمراقبة ، والمحاسبة ، والوجد ، والسكر ، والوله ، والشوق ، والعشق ، والهيمان ، وغير ذلك من نتائج القرب ، والمعرفة بالحق سبحانه ، وتسمى هذه المرتبة بالتحلية ، بالحاء المهملة.

ثم بعد ذلك مرتبة فناء النفس عن ذاتها ، وقصر النظر على ملاحظة الحقّ سبحانه ، وكبريائه ، وآثار قدرته ، وعلمه ، وإرادته ، وسمعه ، وبصره ، لتأكّد علاقتها معه ، واتصالها به ، بحيث يصحّ أن يشير إلى مبدئها الحقيقي ، وجاعلها التام ، إشارة روحانية ب «أنا» ، حين اضمحلال ذاتها ، وخرورها عند اندكاك جبل إنيتها ، وإلى صفاته الّتي هي عين ذاته، من السمع والبصر والقدرة ، وغيرها ، بأنها سمعي ، وبصري ، وقدرتي ، فبه يبصر الأشياء ، وبه يسمع ، وبه يقتدر ، كما ورد في

__________________

(١) ـ سورة الأنعام ، الآية ١٢٠.

(٢) ـ عوالي اللئالي : ١ : ٤٣١ ، ح ١٣٠ ، بهذا المضمون.

٢٨٤

الحديث القدسي بأسانيد صحيحة ، من طريقنا ، وطريق العامة : «ما تقرّب العبد إليّ بشيء أفضل ممّا افترضت عليه ، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به ، ويده الّتي يبطش بها ، ورجله الّتي يمشي بها ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي» (١).

فقد تحقّق لها ـ حينئذ ـ التخلّق بأخلاق الله بالحقيقة ، لا بمعنى صيرورة صفات الله ـ الّتي هي عين ذاته ـ أعراضا قائمة بذات النفس ، بل بمعنى علاقة أخرى شديدة ، أتم من علاقة النفس مع البدن وصفاته الكونية المادية ؛ إذ تلك هي العلاقة الّتي تكون بين الفاعل الحقيقي ومجعوله ، وهذه علاقة ضعيفة ستقطع بالموت الطبيعي ، أو الإرادي ، ومع هذا يصحّ للنفس أن تقول مشيرة إلى ذاتها وجوهرها : أنا سمعت ، وبصرت ، واشتهيت ، وتحركت ، وسكنت ، وغير ذلك من صفات بدنه ، وقواه بحسب الحقيقة ، من غير لزوم تجرم وتكثّف يعتريها ، فما ظنّك بنفس تجرّدت بالكلية عن البدن ، وعن التعلّق بغير الله ، واتّصلت به اتصالا معنويا ، لاهوتيا ، وقصرت النظر على ملاحظة جماله ، فتشاهده في كلّ ما تسمع وترى ، وتلاحظ وجهه في كلّ ما يظهر ويخفى.

قال العلّامة المحقّق نصير الدين الطوسي رحمه‌الله (٢) ، في شرح الإشارات :

__________________

(١) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٠٣ ، ح ١٥٢ نحوه ، وصحيح البخاري : ٧ : ١٩٠ نحوه.

(٢) ـ نصير الدين الطوسي : حجّة الفرقة الناجية ، الفيلسوف ، المحقّق ، أستاذ البشر ، وأعلم أهل البدو والحضر ، محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسي ، الجهرودي ، سلطان العلماء والمحقّقين ، وأفضل الحكماء والمتكلّمين ، ممدوح أكابر الآفاق ، ومجمع مكارم الأخلاق ، الذي لا يحتاج إلى التصريف ، لغاية شهرته ، مع أنّ كلّ ما يقال فهو دون رتبته. ولد في «١١» جمادى الأولى سنة «٥٩٧ ه‍» بطوس ، ونشأ بها ، ولذلك اشتهر بالطوسي ، وكان أصله من چه رود ، المعروف بجهرود من أعمال قم ، من موضع يقال له وشارة ـ بالواو ـ

٢٨٥

العارف إذا انقطع عن نفسه ، واتصل بالحق ، رأى كلّ قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات ، وكلّ علم مستغرقا في علمه الّذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات ، وكلّ إرادة مستغرقة في إرادته الّتي لا يتأبّى عنها شيء من الممكنات ، بل كلّ وجود ، وكلّ كمال وجود، فهو صادر عنه ، فائض من لدنه ، فصار الحقّ ـ حينئذ ـ بصره الّذي به يبصر ، وسمعه الّذي به يسمع ، وقدرته الّتي

__________________

ـ المكسورة بعدها الشين المعجمة ـ على وزن عبارة.

له تجريد الكلام ، وهو كتاب كامل في شأنه ، وصفه الفاضل القوشجي بأنه مخزون بالعجائب ، مشحون بالغرائب ، صغير الحجم ، وجيز النظم ، كثير العلم ، جليل الشأن ، حسن الانتظام ، مقبول الأئمّة العظام ، لم يظفر بمثله علماء الأمصار ، وهو في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار. انتهى. شرحه جمع من أعاظم العلماء ، أوّلهم آية الله العلّامة رحمه‌الله ، وله كتاب التذكرة النصيرية في علم الهيئة ، الّذي شرحه النظّام النيسابوري ، والأخلاق الناصرية ، وآداب المتعلّمين ، وأصاف الأشراف ، وكتاب قواعد العقائد ، وتحرير المجسطي ، وتحرير أصول الهندسة لأقليدس ، وتلخيص المحصّل ، وهو مختصر لكتاب محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين للفخر الرازي ، وحل مشكلات الإشارات لابن سينا ، وشرح قسم الإلهيّات من الإشارات ، إلى غير ذلك ، من الحواشي ، والرسائل ، والأشعار المشتملة على الفوائد والقصائد ، بالفارسية والعربية.

حكي : أنه قدس‌سره قد عمل الرصد العظيم بمدينة مراغة ، واتّخذ في ذلك خزانة عظيمة ، ملأها من الكتب ، وكانت تزيد على أربعمائة ألف مجلد ، وكان من أعوانه على الرصد من العلماء جماعة ، أرسل إليهم الملك هلاكوخان ، منهم : العلّامة قطب الدين الشيرازي ، ومؤيّد الدين العروضي الدمشقي ، وكان متبحرا في الهندسة وآلات الرصد ، ونجم الدين القزويني ، كان فاضلا في الحكمة والكلام ، ومحيي الدين الأخلاطي ، وكان مهندسا متبحرا في العلوم الرياضية ، ومحيي الدين المغربي ، ونجم الدين الكاتب البغدادي ، وكان فاضلا في إجراء الرياضي والهندسة ، وعلم الرصد ، وضبطوا حركات الكواكب.

توفي في يوم الغدير سنة «٦٧٢» ، ودفن في جوار الإمامين موسى بن جعفر والجواد عليهم‌السلام ، في المكان الّذي أعدّ للناصر العبّاسي ، فلم يدفن فيه. (الكنى والألقاب : ٣ : ٢٥٠).

٢٨٦

بها يفعل ، وعلمه الّذي به يعلم ، ووجوده الّذي به يوجد ، فصار العارف ـ حينئذ ـ متخلّقا بأخلاق الله بالحقيقة (١). هذا كلامه رحمه‌الله.

وهذه المرتبة هي نهاية السير إلى الله ، على صراط النفس ، وبعد هذه المراتب الأربع منازل ومراحل ليست أقلّ من درجات ما قبله ، لكن أؤثر فيها الاختصار ؛ لأنها ـ كما قيل ـ لا يفهمها الحديث ، ولا تشرحها العبارة ، ولا يكشف المقال عنها ، غير الخيال ، ومن أحبّ أن يتعرّفها فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة ، لا المشافهة ، ومن الواصلين إلى العين ، دون السامعين للأثر.

فصل

إذا بلغت النفس إلى غاية كمالها العقلي ، والعملي ، واستغنت عن الحركات والأفكار تصير قوّتاها ـ النظرية والعملية ـ قوّة واحدة ، فيصير علمها عملا ، وعملها علما ، كما أن العلم والقدرة في المجرّدات بالنسبة إلى ما تحتها واحد ، وكذلك تصير كلّها السمع والبصر والقوى والجوارح ، فتكون عين البدن ؛ لغاية قوّتها ونورانيّتها ، والبدن عين النفس ؛ لغاية صفائه ولطافته.

وإليه أشار من قال :

رقّ الزجاج ورقّت الخمر

فتشابها وتشاكل الأمر

فكأنه خمر ولا قدح

وكأنّها قدح ولا خمر (٢)

__________________

(١) ـ شرح الإشارات : ٣ : ٣٨٩.

(٢) ـ هذان البيتان للصاحب بن عبّاد. أنظر ترجمة الصاحب بن عبّاد في سير أعلام النبلاء : ١٦ : ٥١١ ، رقم ٣٧٧.

٢٨٧

وذلك لوحدتها الجمعية الكاملة الّتي حصلت لها عند ذلك ، الّتي هي ظلّ للوحدة الإلهية ، بل هي هي بعينها من وجه ؛ لفناء النفس ـ حينئذ ـ في الحق ، كذا أفاد أستاذنا (١) ـ دام ظلّه ـ.

فصل

الإنسان إذا بلغ إلى هذا المقام يتصرّف في الملك والملكوت ، وتطيعه الموجودات كلّها ، بل تصير كلّها أجزاء لذاته ، وتكون قوية سارية في الجميع ، كما أشار إليه مولانا الباقرعليه‌السلام ، في حديث الأرواح ، بقوله : «فبروح القدس عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى» (٢) ؛ وذلك لأنّه لم يوجد في الممكنات ما هو أشرف من العقل ، ولا ما هو أخسّ من المادّة العنصرية ، وهما حاشيتا الوجود ، وقد وجدتا جميعا في الإنسان الكامل.

ومراتب الوجود متواصلة ، لا ثلمة فيها ، فالإنسان بوحدته كلّ العالم ، فهو كتاب مشتمل على معاني كلّ ما في الموجود ، ومن هنا قيل :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد (٣)

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

دواؤك فيك وما تشعر

وداؤك منك وما تبصر

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ٢٠٠ ، حكمة مشرقية.

(٢) ـ بصائر الدرجات : ٤٤٧ ، ح ٤ ، وفيه «علمنا» بدل «عرفوا».

(٣) ـ نسب هذا البيت إلى الشاعر أبي نواس. أنظر : البداية والنهاية : ١٠ : ٢٤٨.

٢٨٨

وأنت الكتاب المبين الّذي

بآياته يظهر المضمر

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وقال مولانا الصادق عليه‌السلام : «إنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله على خلقه ، وهي الكتاب الّذي كتبه بيده ، وهي الهيكل الّذي بناه بحكمته ، وهي مجموع صور العالمين ، وهي المختصر من العلوم في اللوح المحفوظ ، وهي الشاهد على كلّ غائب ، وهي الحجة على كلّ جاحد ، وهي الطريق المستقيم إلى كلّ خير ، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار» (١).

__________________

(١) ـ روى ذيل الحديث في تفسير الصافي : ١ : ٨٦ ، وروى صدره في ج ١ : ٩٢ ، وقد ورد الحديث بكامله في شرح الأسماء الحسنى للملّا هادي السبزواري : ١ : ١٢ ، وقال : عن الصادق عليه‌السلام ، كما عن الصافي ، أو عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، على قول ابن جمهور.

٢٨٩

في إطاعة الأكوان للإنسان ، لأجل خلافة الله عزوجل

وبيان الخليفة

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١)

فصل

قد تبين ـ ممّا سلف ـ أن الغاية القصوى في إيجاد هذا العالم الكوني ، ومكوناته الحسّية ، هي خلقة الإنسان ، وغاية خلقة الإنسان ماهية العقل المستفاد ، أي مشاهدة المعقولات والاتصال بالملأ الأعلى ، والعبودية الذاتية التي هي الفناء في الحقّ الأوّل ، والخلافة الإلهية ، كما قال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢).

وفي الحديث القدسي : «خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي» (٣).

وفي حديث آخر : «لولاك لما خلقت الأفلاك» (٤).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال : «يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم ، ولا حوّاء ،

__________________

(١) ـ سورة الجاثية ، الآية ١٣.

(٢) ـ سورة الذاريات ، الآية ٥٦.

(٣) ـ رسائل الكركي : ٣ : ١٦٢.

(٤) ـ تأويل الآيات : ٤٣٠.

٢٩٠

ولا الجنة ، ولا النار ، ولا السماء ، ولا الأرض» (١).

فلو لا الخليفة لم توجد الخليقة ، ولا بدّ أن يكون وجوده مستمرا في جميع الأعصار والدهور ، حتّى يقوم به الأمر ، ويدوم به النوع ، ويحفظ به البلاد ، ويهتدي به العباد ، ويمسك به السماوات والأرضون ، وإلّا فيكون الكلّ هباء ، وعبثا ؛ إذ لا يرجع إلى غاية ، ولا يؤول إلى عاقبة ، ففنيت ـ إذن ـ وخربت ، كما قال الرضا عليه‌السلام : «لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها» (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت» (٣).

وقال الباقر عليه‌السلام : «لو أن الإمام رفع من الأرض لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله» (٤).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إمّا ظاهرا مشهورا ، وإما خائفا مغمورا» (٥).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «في كلّ خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ، ينفون عن الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين» (٦).

وفي الحديث المشهور ، المتّفق عليه بين الخاصّة والعامة : «من مات ولم

__________________

(١) ـ علل الشرائع : ١ : ٥ ، ح ١.

(٢) ـ علل الشرائع : ١ : ١٩٨ ، ح ٢١.

(٣) ـ علل الشرائع : ١ : ١٩٦ ، ح ٥.

(٤) ـ كمال الدين : ١ : ٢٠٣ ، ح ٩.

(٥) ـ نهج البلاغة : ٤٩٥ ، حكمة رقم «١٤٧».

(٦) ـ المناقب لابن شهرآشوب : ١ : ٢٤٥.

٢٩١

يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية» (١).

وبالجملة : فالمقصود من خلقة الإنسان إنّما هو وجود خليفة الله المشار إليه بقولهعزوجل: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) ، وخلقه سائر الأكوان من الجماد والنبات والحيوان إنّما هو لضرورات تعيّش الإنسان ، واستخدامه إياها ، وانتفاعه بها ، ولئلّا تهمل فضالة المواد الّتي قد صرف صفوها وزبدتها في تكوّن الإنسان ، فإنّ الحكمة الإلهية والرحمة الرحمانية ، تقتضي أن لا يفوت حق من الحقوق ، بل يصيب كلّ مخلوق من السعادة قدرا يليق به ، ويحتمله ، ويستعدّ له ؛ تفضلا منه سبحانه ، وكرما وجودا.

ألا ترى كيف يجري حكم الإنسان في الأشياء بالتسخير ، فإنه ما من شيء إلّا وهو تحت تسخيره بالحقيقة ، كما أفاده بقوله عزوجل : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٣) ، وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (٤).

والتسخير على ضربين : حقيقي ، وغير حقيقي.

أما الحقيقي : فهو على ثلاثة أقسام :

أدناها : الوضعي العرضي : كتسخيره سبحانه له وجه الأرض وما فيها للحرث والزرع، وغير ذلك (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) ـ المناقب لابن شهرآشوب : ١ : ٢٤٦ ، وصحيح ابن حبان : ١٠ : ٤٣٤.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٠.

(٣) ـ سورة الجاثية ، الآية ١٣.

(٤) ـ سورة النحل ، الآية ١٢ و ١٣.

٢٩٢

جَمِيعاً) (١).

ومن ذلك تسخير الجبال والمعادن (جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) (٢).

ومنه تسخير البحار (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣).

ومنه تسخير الفلك (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) (٤).

ومنه تسخير الأشجار للغرس ، وأخذ الثمار ، وغيرها (كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (٥) ، (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) (٦) ، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (٧) ، (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (٨) ، (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) (٩) ، (جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ

__________________

(١) ـ سورة الجاثية ، الآية ١٣.

(٢) ـ سورة النحل ، الآية ٨١.

(٣) ـ سورة النحل ، الآية ١٤.

(٤) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٣٢.

(٥) ـ سورة النحل ، الآية ٦٩.

(٦) ـ سورة طه ، الآية ٥٤.

(٧) ـ سورة النحل ، الآية ١٠.

(٨) ـ سورة النحل ، الآية ١١.

(٩) ـ سورة النحل ، الآية ٦٧.

٢٩٣

تُوقِدُونَ) (١).

ومنه تسخير الدواب والأنعام للركوب ، والزينة ، وحمل الأثقال (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ* وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) (٢) ، (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) (٣).

ومنه تسخير النسوان والجواري للنسل ، والتوليد (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) (٤).

وأوسطها : التسخير الطبيعي : وهو تسخير جنود القوى النباتية ، ومواضعها له ، للتغذية ، والتنمية ، والتوليد ، والجذب ، والإمساك ، والهضم ، والدفع ، والتصوير ، والتشكيل.

وأعلاها : التسخير النفساني : وهو تسخير الحواس ، وهو على صنفين : صنف من عالم الشهادة ، وصنف من عالم الغيب.

أما الأوّل ، فلا يستطيعون له خلافا ، ولا عليه تمرّدا ، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا أمر اللسان بالتكلّم وجزم الحكم به ، تكلّم ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحرّكت، وكذا سائر الأعضاء الظاهرة.

__________________

(١) ـ سورة يس ، الآية ٨٠.

(٢) ـ سورة يس ، الآية ٧١ و ٧٢.

(٣) ـ سورة النحل ، الآية ٥ ـ ٨.

(٤) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٢٣.

٢٩٤

وأمّا الثاني ، فكذلك ، إلّا أن الوهم له شيطنة بحسب الفطرة ، يقبل إغواء الشيطان ، فيعارض العقل في مقاصده البرهانية الإيمانية ، فيحتاج إلى تأييد جديد أخروي من جانب الله ، ليقهره ، ويغلب عليه ، ويطرد ظلماته.

وأمّا التسخير الحقيقي (١) : فهو عبارة عن تسخير الله المعاني العقلية الإلهية ، للكامل من الناس ، وجعله بقوّته الباطنية إيّاها صورا روحانية ، أو أمثلة غيبية موجودة في عالمه العقلي ، أو المثالي ، ونقله الأشياء من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، بانتزاعه من الجزئيات ، وقبضه الأرواح من موادّ الأجسام والأشباح ، بإمداد الله من اسمه القابض ، راجعا من عالم الدنيا إلى الآخرة ، ومتقلّبا من حالة التفرقة والافتراق إلى حالة الجمع والتلاق.

فصل

قيل : لكلّ واحد من أفراد البشر ـ ناقصا كان أو كاملا ـ نصيب من الخلافة بقدر حصّة إنسانيته ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (٢) ، يشير إلى أن كلّ واحد من أفاضل البشر ، وأراذلهم ، خليفة من خلفائه في أرض الدنيا.

فالأفاضل مظاهر جمال صفاته في مرآة أخلاقهم الربانية ، فإنه سبحانه تجلّى بذاته وجميع صفاته لمرآة قلوب الكاملين المتخلّقين بأخلاقه ؛ لتكون

__________________

(١) ـ لعله يقصد التسخير غير الحقيقي ، ليكون عدلا لما ذكر سابقا : «أن التسخير على ضربين» ، ثمّ بدأ بشرح التسخير الحقيقي. أنظر ص ٢٩٢ من هذا الكتاب.

(٢) ـ سورة الأنعام ، الآية ١٦٥.

٢٩٥

مرآة قلوبهم لجلال ذاته ، وجمال صفاته ، مظهرا ومظهرا (١).

والأراذل يظهرون جمال صنائعه ، وكمال بدائعه في مرآة حرفهم وصنائعهم ، ومن خلافتهم أن الله استخلفهم في خلق كثير من الأشياء ، كالخبز ، والخياطة ، والبناء ، ونحوها ، فإنه تعالى يخلق بالاستقلال ، والإنسان يغزله وينسج منه الثوب بالخلافة ، وعلى هذا القياس في سائر الصنائع والحرف (٢).

ومن خلافتهم تدبير كلّ منهم ما يتعلّق به من الأمور ، كتدبير السلطان لملكه ، وصاحب المنزل لمنزله ، وأدناه تدبير الشخص لبدنه.

والخلافة العظمى إنّما هي للإنسان الكامل المربّي لأفراد العالم كلّها ، بجهته الروحانية الآخذة عن الله ما تطلبه الرعايا ، وبجهته العبودية المبلّغة إليهم ذلك ، فإنه بهاتين الجهتين يتم أمر خلافته.

فصل

لما كان خلق هذا العالم الجسماني إنّما هو لأجل الإنسان ، فالملائكة المدبّرون له كلهم خادمون له ، مسخّرون لأجله ، مطيعون إياه ، سماويّين كانوا ، أم أرضيين ، موكّلين به ، أم بسائر ما خلق لأجله ، وهذا هو المعني بالسجود المأمور به للملائكة المشار إليه بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (٣) ، وهو

__________________

(١) ـ في المصدر : لتكون مرآة قلوبهم مظهرا لجلال ذاته وجمال صفاته.

(٢) ـ أنظر هذا القول في أسرار الآيات : ١٠٨ ، قاعدة في تحقيق الخلافة الإلهية (في الذيل).

(٣) ـ سورة الأعراف ، الآية ١١.

٢٩٦

جوهر نطقي ، شرير ، واقع في عالم الملكوت النفساني ، شأنه الإغواء ، وسبيله الإضلال ، كما في قوله عزوجل ، حكاية عن اللعين : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١) ، وسيأتي ذكره وبيانه.

والذي بمنزلته في جملة الملائكة الموكّلين بالإنسان خاصة ، هو الوهم ، القابل لإغوائه ، كما أشرنا إليه.

فصل

أنظر إلى الكائنات العنصرية ، كيف سلكت سبيل العالم الإنساني ، وتوجّهت شطر كعبة قلبه الّتي فيها آيات الحقّ في صيرورة الأجسام الأسطقسية البعيدة الشبه له ، غذاء لطيفا بعد تلطّفها يسيرا يسيرا ، وتحوّلها من حال إلى حال ، وطيّها درجات النبات والحيوان ، وقطع مسالكها البعيدة ، ودخولها في بلد قالبه وعالمه طائعة ، مسلّمة له ، دخول الناس في دين الله أفواجا ، وذلك لكونها مفطورة في خدمة الإنسان ، وسجدة آدم حركة إليه ، طلبا وشوقا وتعبّدا لدين الله ، طوعا أو كرها.

فعلم أنّ جميع الكائنات فداء للإنسان ، تتحوّل إليه ، وليس فيه تبديل إلى غيره (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) (٢) ، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (٣).

__________________

(١) ـ سورة ص ، الآية ٨٢ و ٨٣.

(٢) ـ سورة يونس ، الآية ٦٤.

(٣) ـ سورة الروم ، الآية ٣٠.

٢٩٧

فمعاد العالم هو ذات الإنسان ، ومعاده إلى الهوية الإلهية ، وبمفاتيح عالمه ، ومقاليد مملكته ، تنفتح مغالق أبواب السماء والأرض بالرحمة ، والمغفرة ، والحكمة ، والمعرفة.

فصل

كلّ ما في الوجود فهو مترتّب ، مرتبط بعضه ببعض ، فمن كفر نعمة واحدة من نعم الله سبحانه ، كفتح العين ـ مثلا ـ فقد كفر نعم الله في الوجود كلّه ، ممّا فوق الثريا إلى ما تحت الثرى ؛ وذلك لأنّ الأجفان ـ مثلا ـ لا تقوم إلّا بالعين ، ولا العين إلّا بالرأس ، ولا الرأس إلّا بجميع البدن ، ولا البدن إلّا بالغذاء ، ولا الغذاء إلّا بالأرض ، والماء ، والنار ، والهواء ، والغيم ، والمطر ، والشمس ، والقمر ، ولا يقوم شيء منها إلّا بالسماوات ، ولا السماوات إلّا بالمدبّرات من الملائكة العملية ، ولا المدبّرات إلّا بالملائكة العقلية ، ولا الجميع إلّا بأمر الله ، وإرادته ، وقضائه ، وقدره ، فإنّ الكلّ كالشيء الواحد ، يرتبط البعض منه بالبعض ، ارتباط أعضاء الإنسان ، فمن كفر نعمة واحدة ، فلم يبق ملك ، ولا فلك ، ولا حيوان ، ولا جماد ، إلّا ويلعنه.

ولذلك ورد في الخبر أنّ البقعة الّتي يجتمع فيها الناس إمّا أن تلعنهم إذا تفرّقوا ، أو لم تستغفر لهم (١).

وكذلك ورد : أن العالم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحوت في البحر ، وإن

__________________

(١) ـ تذكرة الموضوعات : ١٢٠.

٢٩٨

الملائكة يلعنون العصاة ، في ألفاظ كثيرة (١).

وكلّ ذلك إشارة إلى أن الجاهل العاصي بمعصية واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت ، وقد أهلك نفسه ، إلّا أن تتبع السيئة بحسنة تمحوها ، فيبدل اللعن بالاستغفار.

والعالم يعلم الأشياء بحقائقها ، وأسبابها ، وغاياتها ، إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب ، ويكون علمه الّذي يطابق معلوماته زينة لذاته ، وكمالا لنفسه ، فكل واحد من الأسباب والمسببات المعروفة عنده يكون له مدخل في تتميم ذاته ، وتكميل جوهره ، وهذا معنى استغفار كلّ شيء للعالم ، فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة العلم والإيمان ، وخرج من نوم الجهالة ، ورقدة الطبيعة ، غفر الله له ما تقدّم من ذنوب الجهالة والظلمة ، وسيّئات العمى والحرمان ، وطهره من دنس جرائم الإجرام ، وشهوات النفس والهوى ، وهذا معنى المغفرة وتحقّقها من فضل الله ، كما وعدها عباده ، وما ورد في الآثار : أن من فعل حسنة كتبت له حسنة ، ومحيت عنه سيئة ، ورفعت له درجة (٢) ، معناه ـ كما قيل ـ : من سمع كلمة وفهم معناها حصلت له معرفة ، وزالت عنه جهالة ، وارتفعت منزلته بإزاء هذا القدر من العلم ؛ لأنّ العلم بذاته شرف وكمال ، والجهل بذاته آفة وزوال ، وهكذا ، كلما ازداد الإنسان يقينا ، ازداد في الملكوت منزلة.

__________________

(١) ـ أنظر : الكافي : ١ : ٣٤ ، باب ثواب العالم والمتعلّم.

(٢) ـ ورد مضمونه في الأصول الستة عشر : ٤٦ ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام.

٢٩٩

فصل

ثم الإنسان الّذي هو خليفة الله في أرضه ، والمقصود من خلقه ، إمّا نبي ، أو وليّ.

والنبي : إمّا رسول ، أو غيره.

والولي : إمّا إمام ، أو غيره.

وإنما ينقسم بهذه الأقسام بسبب اختلاف طرق تحصيله للعلم ، فإنّ حصول العلوم ـ الّتي ليست بضرورية في باطن الإنسان ـ إنّما يكون بوجوه مختلفة.

فتارة يكون بالاكتساب والتعلّم ، ويسمى استبصارا واعتبارا ، وهو طريق أهل النظر من العلماء والحكماء.

وتارة تهجم عليه كأنه ألقي إليه من حيث لا يدري ، سواء كان عقيب طلب وشوق، أو لا ، وسواء كان مع الاطلاع على السبب المفيد له ، أو لا ، فإنه قد يكون بمشاهدة الملك الملهم للحقائق من قبل الله ، وسماع حديثه ، وقد يكون بمجرّد السماع من غير رؤية ، وقد يكون بنفثه في الروع من غير سماع ، فينكت في القلب نكتا ، أو يلهم إلهاما ، وربما يكون الهجوم في النوم ، كما يكون في اليقظة.

والمشاهدة ، يختصّ بها الأنبياء والرسل ، صلوات الله عليهم. والحديث يكون لأوصيائهم أيضا.

ثم النبي يوحى إليه بالعمل ، والرسول يوحى إليه بالعمل والتبليغ.

والولي يحدّثه الملك ، أو يلهم إلهاما بالعمل ، والإمام يحدّثه الملك بالعمل

٣٠٠