عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

فإذا استكمل ذلك الشكل في الفلك وتمّ ، وجد به في العالم ما يقتضيه في أسرع زمان؛ لسرعة تبدّل أشكال الفلك ، فتظهر تلك القوّة الّتي يوجبها ذلك الشكل في شخص واحد ، أو شخصين ، أو أكثر ، على حسب ما تقتضيه العناية الإلهية ، وتستوعب ذلك الشخص تلك القوّة على الكمال ، فأما من قرب من ذلك الشكل ولم يستوفه فإنه يكون ناقص القوّة بحسب بعده من الشكل.

ويظهر ذلك النقصان بظهور النبوّة المقصودة من ذلك الشكل ، فيتبيّن قصور القوى المتقدمة على النبي ، والمتأخرة عنه ، ونقصانها عن ذلك التمام.

قال : فأما صفة الكاهن من أصحاب تلك القوى فهو أن صاحب قوّة الكهانة إذا أحسّ بها من نفسه تحرّك إليها بالإرادة ليكملها ، فيبرزها في أمور حسّية ، ويثيرها في علامات تجري مجرى الفال ، والزجر ، وطرق الحصى ، وربما استعان بالكلام الّذي فيه سجع وموازنة ، أو بحركة عنيفة من عدو حثيث ، كما حكي عن كاهن من الترك ، أو تحريك رأس (١) ، كما نقل إليّ من شاهد كاهنا كان في زماننا.

[إلى أن قال :] والغرض من ذلك اشتغال النفس عن المحسوسات ، فتداخل نفسه ، ويقوى فيها ذلك الأثر ، ويهجس في نفسه عن تلك الحركة ما يقذفه على لسانه ، وربما صدق الكاهن ، وربما كذب ؛ وذلك أنه يتمم نقصه بأمر مباين لكماله ، غير داخل فيه ، فيعرض له الكذب ، ويكون غير موثوق به ، وربّما تعمّد الكذب خوفا من كساد بضاعته ، فيستعمل الزرق ويخبر بما لا أثر له في نفسه ، ويضطرّ إلى التخمين.

ودرجات هؤلاء متفاوتة بحسب قربهم من الأفق الإنساني ، وبعدهم منه ،

__________________

(١) ـ عبارة «أو تحريك رأس» غير موجودة في المصدر.

٣٤١

وبقدر قبولهم للأثر العلوي.

ويتميّزون عن الأنبياء بالكذب ، وما يدّعونه من المحالات ، وإن اتّفق أن يلزم أحدهم الصدق ، فإنه لا يتجاوز قدره في قوّته ، ويبادر إلى التصديق بأول أمر يلوح من النبي ، ويعرف فضله ، كما روي عن طليحة (١) ، وسواد بن قارب (٢) ، ونحوهما من الكهنة في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

__________________

(١) ـ وهو : طليحة بن خويلد الأسدي (٢١ ه‍ ـ ٦٤٢ م) : من أسد خزيمة ، متنبّىء ، شجاع ، من الفصحاء ، يقال له : «طليحة الكذّاب» ، كان من أشجع العرب ، يعد بألف فارس ـ كما يقول النووي ـ قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وفد بني أسد ، سنة ٩ ه‍ ، وأسلموا. ولمّا رجعوا ارتدّ طليحة ، وادّعى النبوّة ، في حياة رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوجّه إليه ضرار بن الأزور ، فضربه ضرار بسيف يريد قتله ، فنبا السيف ، فشاع بين الناس أنّ السلاح لا يؤثّر فيه. ومات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكثر أتباع طليحة ، من أسد ، وغطفان ، وطيّىء ، وكان يقول : إنّ جبريل يأتيه ، وتلا على الناس أسجاعا أمرهم فيها بترك السجود في الصلاة ، وكانت رايته حمراء ، وطمع بامتلاك المدينة ، فهاجمها بعض أشياعه ، فردّهم أهلها ، وغزاه أبو بكر ، وسيّر إليه خالد بن الوليد ، فانهزم طليحة إلى بزاخة ـ بأرض نجد ـ وكان مقامه في سميراء ، بين توز والحاجر ، في طريق مكّة ، وقاتله خالد ، ففرّ إلى الشام ، ثمّ أسلم بعد أن أسلمت أسد وغطفان كافّة ، ووفد على عمر ، فبايعه في المدينة ، وخرج إلى العراق ، فحسن بلاؤه في الفتوح ، واستشهد بنهاوند.

أنظر : الأعلام : ٣ : ٢٣٠ ، وسير أعلام النبلاء : ١ : ٣١٧.

(٢) ـ وهو : سواد بن قارب (نحو ١٥ ه‍ ـ نحو ٦٣٦ م) ، الأزدي ، الدوسي ، أو السدوسي : كاهن ، شاعر ، في الجاهلية ، صحابيّ في الإسلام ، له أخبار ، عاش إلى خلافة عمر ، ومات بالبصرة. (الأعلام : ٣ : ١٤٤).

(٣) ـ شرح نهج البلاغة ، لابن ميثم البحراني : ٢ : ٢٢٠ و ٢٢١.

٣٤٢

فصل

ومن الآيات الغريبة الإنسانية غير ما ذكر من الإخبار بالمغيبات ، تأثيره في مادّة العالم بإزالة صورة ، ونزعها عن المادة ، أو تلبيسها إياها ، فيؤثّر في استحالة الهواء إلى الغيم ، ونزول الأمطار ، أو في إزالة المرض عن مريض ، أو في إهلاك ، أو إنجائهم ، أو خشوع سبع له ، أو عدم تنفّر طائر منه ، أو غير ذلك ممّا يجري مجراها ، سواء كان بدعاء ، أو برقية ، أو غيرهما ؛ ولذلك كله أسباب ذاتية ووجوه عقلية ، ليس بمستبعد في قدرة الله ، ولا بمستنكر على الله ، وربما يتأتى لنا أن نذكر بعضها ، كما استفدناه من أهلها ، فاسمع :

وصل

قد علمت أن الأجسام مطيعة للنفوس ، متأثّرة عنها ، وأن صور الكائنات تتعاقب على المواد العنصرية بتأثيرات النفوس الفلكية ، والنفس الإنسانية إذا قويت يمكن أن تتشبّه بها تشبّه الأولاد بالآباء ، فتؤثر في مادّة العناصر تأثيرها.

وأمّا إذا لم تقو فلم يتعدّ تأثيرها إلى غير بدنها وعالمها الخاص ، وما من نفس إلّا ولها تأثيرات في عالمها الخاص ، حتّى أن وهم الماشي على جذع معروض فوق فضاء يفعل في إزلاقه ما لا يفعله وهم مثله ، والجذع على قرار أيضا ، فإنّ النفس إذا توهّمت صورة مكروهة استحال مزاج بدنها ، وحدثت رطوبة العرق والرعشة ، وإذا حدثت فيها صورة الغلبة تسخّن البدن واحمرّ الوجه ، وإذا وقعت فيها صورة النكاح حدثت حرارة مسخّنة منفخة للريح ، حتّى

٣٤٣

تمتلىء به عروق آلة الوقاع ، فتنهض له ، وهذه الحوادث في البدن إنما تكوّنت بمجرد التصورات.

ويظهر من هذا أنه ليس من شرط كلّ مسخّن أن يكون حارّا ، وكذا مثله ، فإذا صارت الأمزجة تتأثر عن الأوهام ، فلا عجب من أن تكون لبعض النفوس قوّة كمالية صارت كأنها نفس العالم ، فيؤثر في غير بدنها تأثيرها في بدنها ، فتطيعها مادّة العالم طاعة البدن للنفس ، أو تنفعل عنها قوى نفوس أخرى تفعل فيها ، لا سيّما إذا كانت شحذت ملكتها بقهر قواها البدنية الّتي لها ، فتقهر شهوة ، أو غضبا ، أو خوفا من غيرها.

فصل

إن هذه القوّة للنفس ربما كانت بحسب المزاج الأصلي ؛ لما يفيده من هيئة نفسانية تشخّصها ، وربّما يحصل بمزاج طارىء ، وربما يحصل بضرب من الكسب والتعويد ، يجعل النفس وهي في البدن كالمجردة ؛ لشدة الذكاء ، كما يحصل لأولياء الله الأبرار.

فالذي يقع له هذا في جبلّة النفس ، ثمّ يكون خيّرا رشيدا ، مزكّيا فيه فهو ذو معجزة من الأنبياء ، أو كرامة من الأولياء ، وتزيده تزكية لنفسه في هذا المعنى زيادة على مقتضى جبلّته ، فيبلغ المبلغ الأقصى.

والذي يقع له هذا ثمّ يكون شرّيرا ، ويستعمله في الشرّ ، فهو الساحر الخبيث ، وقد يكسر قدر نفسه من غلوائه في هذا المعنى ، فلا يلحق شأو الأذكياء فيه.

٣٤٤

وكأنّ الإصابة بالعين من هذا القبيل ، والمبدأ فيها حالة نفسانية معجبة ، تؤثر نهكا في المتعجّب منه بخاصّيته ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «العين حقّ» (١) ، وقال أيضا : «العين تدخل (٢) الرجل القبر ، والجمل القدر» (٣) ، ومعناه : أنه يستحسن الجمل ـ مثلا ـ ويتعجّب منه ، فيتوهّم لرداءة نفسه الخبيثة سقوط الجمل ، فينفعل جسم الجمل عن توهّمه ، ويسقط في الحال.

فصل

إن الأمور الغريبة تنبعث في هذا العالم من مبادىء ثلاثة :

أحدها : الهيئة النفسانية المذكورة.

وثانيها : خواصّ الأجسام العنصرية ، مثل جذب المغناطيس للحديد بقوّة تخصّه.

وثالثها : قوى سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة بهيئة وضعيّة ، أو بينها وبين قوى نفوس أرضية مخصوصة بأحوال فعلية وانفعالية مناسبة ، تستتبع حدوث آثار غريبة.

والسحر من قبيل القسم الأوّل ، بل المعجزات والكرامات أيضا. والنيّر نجات من قبيل القسم الثاني ، وكذا الحيل. والطلسمات من قبيل القسم الثالث ، وكذا دعوة الكواكب ، بل العزائم أيضا.

__________________

(١) ـ عوالي اللئالي : ١ : ١٦٩ ، ح ١٨٨.

(٢) ـ في المصدر : إنّ العين لتدخل.

(٣) ـ جامع الأخبار : ١٥٧.

٣٤٥

فصل

ومن الغرائب الإنسانية إطاقته بقوّته فعلا ، أو تحريكا ، أو حركة تخرج عن وسع مثله ، والسرّ فيه أن مبدأ القوّة البدنية هو الروح الحيواني ، ثمّ هو قد ينقبض إلى داخل فتنحط القوّة كما تعرض عند خوف ، أو حزن ، وقد تنبسط إلى خارج ، فتتضاعف القوّة ، كما يعرض عند الغضب والمنافسة ، وكما يعرض عند الفرح المطرب ، أو الانتشاء المعتدل ، فيمكن أن يعرض لعبد من عباد الله ارتياح ، كما يعرض عند الفرح ، فأعطي القوّة الّتي لها سلاطة وقهر ، أو تغشيه غرّة كما تغشى عند المنافسة ، فاشتعلت قواه حمية ، وكان ذلك أعظم وأجسم ممّا يكون عند طرب ، أو غضب ، ولا سيّما إذا كان ذلك ببهجة الحق ، والاغترار الرباني ، والحمية الإلهية ، من لدن مبدأ الحق ، وأصل الرحمة ، كما يكون لأولياء الله ، وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والله ما قلعت باب خيبر بقوّة جسدانية ، ولكن قلعته بقوّة ربّانية» (١).

فصل

ومن ذلك الإمساك عن القوت مدّة غير معتادة ، والسر فيه توجّه النفس بالكلية إلى أمر ما ، وسيّما إذا كان من الأمور القدسية ، والنشأة العليا ، فإن ذلك مستلزم لتشييع القوى الجسمانية ، وانجذابها خلفها ، وهو مستلزم لترك تلك القوى أفاعيلها الّتي منها الهضم والشهوة والتغذية ، وما يتعلق بها ، وهو موجب

__________________

(١) ـ شرح نهج البلاغة : ٥ : ٧ ، مع اختلاف في الذيل.

٣٤٦

لعدم الاحتياج إلى الغذاء ، ولا سيّما ويقترن معه السكون البدني الّذي تقتضيه ترك القوى أفاعيلها ، فإنّ ذلك نعم المعين ؛ لاستلزامه قلة التحليل الموجب للاحتياج إلى الغذاء.

قال في الإشارات : وكيف تنكر ذلك ، وأنت ترى ما يعتري مستشعر الخوف من سقوط الشهوة ، وفساد الهضم ، والعجز عن أفعال طبيعية ، كانت متواتية (١).

وترى مثل ذلك في الأمراض الحادّة ، فإنّ الطبيعة إذا شغلت عن تحريك الموادّ المحمودة بهضم المواد الرديّة ، انحفظت المواد المحمودة قليلة التحلل ، غنية عن البدن ، فربما انقطع عن صاحبها الغذاء مدّة طويلة ، لو انقطع مثله في غير حالته ، بل عشر مدّته ، هلك ، وهو مع ذلك محفوظ الحياة ، هذا.

مع أن المرض الحاد لا يعرى عن التحليل للحرارة الغريزية المسماة بسوء المزاج ، وعن المضاد المسقط للقوّة المحوج إلى الرطوبات الحافظة لها ، بخلاف ما نحن فيه.

فصل

ومن الغرائب الإنسانية : الفراسة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الدجال مكتوب على ناصيته : ك ف ر ، ولا يقرأه إلّا

__________________

(١) ـ شرح الإشارات : ٣ : ٣٩٦.

(٢) ـ الكافي : ١ : ٢١٨ ، ح ٣.

٣٤٧

مؤمن» (١).

والسرّ فيه أن الصور المحسوسة ظلال للصور المثالية ، فالعارف بالمناسبات يعرف ذلك.

روى في بصائر الدرجات ، بإسناده عن سليمان الجعفري ، قال : كنت عند أبي الحسن عليه‌السلام فقال : يا سليمان ، اتّق فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ، فسكتّ حتى أصبت خلوة ، فقلت : جعلت فداك ، سمعتك تقول : اتّق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، قال : نعم يا سليمان ، إنّ الله خلق المؤمن من نوره في رحمته (٢) ، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية ، والمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه ، أبوه النور ، وأمّه الرحمة ، وإنما ينظر بذلك النور الّذي خلق منه (٣).

وبإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام ، قال : «ليس مخلوق إلّا وبين عينيه مكتوب : مؤمن ، أو كافر ، وذلك محجوب عليكم ، وليس بمحجوب عن الأئمة من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ليس يدخل عليهم أحد إلّا عرفوه ، مؤمن أو كافر ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٤)» (٥).

وبإسناده عن الأصبغ بن نباتة ، أن أمير المؤمنين عليه‌السلام صعد المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال : يا أيها الناس ، إن شيعتنا من طينة مخزونة قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام ، لا يشذّ منها شاذّ ، ولا يدخل فيها داخل ، وإني لأعرفهم حين

__________________

(١) ـ ورد بمضمونه في صحيح مسلم : ٨ : ١٩٥.

(٢) ـ في المصدر : وصبغهم في رحمته.

(٣) ـ بصائر الدرجات : ٧٩ ، ح ١.

(٤) ـ سورة الحجر ، الآية ٧٥.

(٥) ـ بصائر الدرجات : ٣٥٤ ، ح ١.

٣٤٨

أنظر إليهم ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما تفل في عيني وأنا أرمد ، قال : اللهم أذهب عنه الحرّ والبرد ، وبصّره صديقه من عدوّه ، فلم يصبني رمد بعد ، ولا حرّ ، ولا برد ، وإني لأعرف صديقي من عدوي.

فقام رجل من الملأ ، فسلّم ، ثمّ قال : والله يا أمير المؤمنين إني لأدين الله بولايتك ، وإني لأحبّك في السر ، كما أظهر لك في العلانية ، فقال له علي عليه‌السلام : كذبت ، فو الله ما أعرف اسمك في الأسماء ، ولا وجهك في الوجوه ، وإنّ طينتك لمن غير تلك الطينة ، قال : فجلس الرجل قد فضحه الله ، وأظهر عليه ، ثمّ قام آخر فقال : يا أمير المؤمنين ، إني لأدين الله بولايتك ، وإني لأحبك في السر ، كما أحبّك في العلانية ، فقال له : صدقت ، طينتك من تلك الطينة ، وعلى ولايتنا أخذ ميثاقك ، وإن روحك من أرواح المؤمنين ، فاتّخذ الفقر جلبابا ، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إن الفقر أسرع إلى محبّينا من السيل من أعلى الوادي إلى أسفله (١).

فصل

ومن الغرائب إظهار السالكين أبدانهم المثالية في مواضع مختلفة ، في وقت واحد ، وفي أوقات ، وإظهار ما يريدون من المطاعم والملابس ، وكذا المبرزون من السحرة والكهنة ، يظهرون العجائب في هذا العالم ، كإراءة الجن ، وغيرها ، ولا يلزم أن يكون لظهور ذلك عندنا مظهر صقيل ، كالمرآة ؛ إذ قد يرى مثل هذه الأشباح في محلّ مظلم غير صقيل ، وكثيرا ما يقع الاشتباه بين ما يراه

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : ٣٩٠ ، ح ١.

٣٤٩

الإنسان بعين الحسّ ، وبين ما يراه بعين الخيال ، مع أنهما مختلفتا الأحكام ، فربّ قليل في عين الحسّ هو كثير في عين الخيال ، وبالعكس ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) (١).

وقال عزوجل : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) (٢) ، وما كانوا مثليهم في عين الحسّ ، فما ذاك إلّا بعين الخيال ، فهو حقّ في الخيال ، وليس بحق في الحسّ ؛ لاختلاف النشأتين ، وهذا كما ترى في المنام اللبن تشربه ولم يكن ذلك سوى عين العلم ، فما رأيته لبنا وهو علم ليس إلّا بعين الخيال.

ومن هذا يظهر أن الرؤية ليس من شرطها أن تكون بالعين ، ولا المرئي إنّما يسمى مرئيا لكونه يحصل بالعين ، بل لأنّه غاية انكشاف الشيء ، فلو وقعت غاية الانكشاف بقوّة أخرى كانت حقيقته الرؤية بحالها ، كالصور الّتي يراها النائم في عموم أوقاته ، فالنفوس إذا كانت قوية كان اقتدارها على الاختراع أقوى ، فتكون متصوراتها موجودات خارجية حاضرة عندها بذواتها ، وعند من تكون درجته في القوّة والنورية هذه الدرجة ، كما مرّ في مباحث النشآت ، نقلا عن صاحب الفتوحات.

روى عباية الأسدي قال : دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعنده رجل رثّ الهيئة ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام مقبل عليه يكلّمه قال : فلما قام الرجل ، قلت : يا أمير المؤمنين ، من هذا الّذي أشغلك عنّا؟ قال : هذا وصي موسى عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) ـ سورة الأنفال ، الآية ٤٤.

(٢) ـ سورة آل عمران ، الآية ١٣.

(٣) ـ بصائر الدرجات : ٢٨٢ ، ح ١٩.

٣٥٠

فصل

ومن الغرائب تشكّلهم بأشكال غير أشكالهم المحسوسة ، وهم في دار الدنيا ؛ لقوّة انسلاخهم من أبدانهم ، وبعد انتقالهم أيضا إلى الآخرة ؛ لازدياد تلك القوّة بارتفاع المانع البدني ؛ وذلك لأنّ لكلّ من الأرواح والنفوس صورا كثيرة مثالية مختلفة على حسب اختلاف الصفات النفسانية ، وأغراضها ، واختلاف المظاهر والمواضع والأزمنة ، وغيرها.

روى في الكافي ، بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال : إن أبي كان قاعدا في الحجر ، ومعه رجل يحدثه ، فإذا هو بوزغ يولول بلسانه ، فقال أبي للرجل : أتدري ما يقول هذا الوزغ؟ قال : لا علم لي بما يقول ، قال : فإنه يقول : والله لئن ذكرتم عثمان بشتمة لأشتمنّ عليا حتّى يقوم من هاهنا ، قال : وقال أبي : ليس يموت من بني أمية ميّت إلّا ومسخ وزغا ، قال : وقال : إنّ عبد الملك بن مروان لما نزل به الموت مسخ وزغا ، فذهب من بين يدي من كان عنده ، وكان عنده ولده ، فلما أن فقدوه عظم ذلك عليهم ، فلم يدروا كيف يصنعون ، ثمّ اجتمع أمرهم على أن يأخذوا جذعا فيصنعوه كهيئة الرجل ، قال : ففعلوا ذلك ، وألبسوا الجذع درع حديد ، ثمّ ألقوه (١) في الأكفان ، فلم يطّلع عليه أحد من الناس ، إلّا أنا وولده (٢).

أقول : إنّ هذا من أغرب الغرائب.

__________________

(١) ـ في المصدر : لفّوه.

(٢) ـ الكافي : ٨ : ٢٣٢ ، ح ٣٠٥.

٣٥١

فصل

ومن الغرائب الإنسانية : دخولهم في العوالم الملكوتية كلّها ، كدخول الملائكة في هذا العالم ، وتشكّلهم بأشكال أهله ، وظهورهم في خيالات المكاشفين ، كظهور الملائكة والجن.

قال القيصري (١) : وهؤلاء هم المسمّون بالبدلاء ، وقد يفرّق بينهم وبين الملائكة أصحاب الأذواق بموازينهم الخاصة بهم ، وقد يلهمهم الحقّ سبحانه ما يحصل به العلم بهم ، وقد يحصل بإخبارهم عن أنفسهم (٢).

فصل

ومن الغرائب الإنسانية مصاحبتهم مع الملائكة ، ومجالستهم معهم ، وأخذهم العلوم منهم ، كما مضى في مباحث النبوّة.

قال مولانا الكاظم عليه‌السلام : «ما من ملك يهبطه الله في أمر ، ما يهبطه إلّا بدأ بالإمام ، فعرض ذلك عليه ، وإن مختلف الملائكة من عند الله تبارك وتعالى إلى

__________________

(١) ـ هو : داود بن محمود بن محمّد القيصري (توفي ٧٥١ ه‍ ـ ١٣٥٠ م) ، القراماني صوفي ، قطن مصر. من تصانيفه : تحقيق ماء الحياة ، وكشف أسرار الظلام ، نهاية البيان في دراية الزمان ، مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم لابن عربي ، وشرح النائية لابن الفارض.

أنظر ترجمته في : معجم المؤلّفين : ٤ : ١٤٢ ، والكنى والألقاب : ٣ : ٩٨ ، والأعلام : ٢ : ٣٣٥.

(٢) ـ شرح فصوص الحكم للقيصري : ١٠١ ، تحت عنوان «تنبيه».

٣٥٢

صاحب هذا الأمر» (١).

وفي الصحيح ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليهما‌السلام ، فاحتبست في الدار ساعة ، ثمّ دخلت البيت ، وهو يلتقط شيئا ، وأدخل يده من وراء الستر ، فناوله من كان في البيت ، قلت : جعلت فداك ، هذا الذي أراك تلتقطه أي شيء هو؟ فقال : فضلة من زغب الملائكة ، نجمعه إذا خلونا ونجعله سنحابا (٢) لأولادنا ، فقلت : جعلت فداك ، وإنهم ليأتونكم؟ فقال : يا با حمزة ، إنهم ليزاحمونا على تكائنا (٣).

أقول : الزغب : الشعيرات الصغار من ريش الفراخ ، وسنحاب : ككتاب ، قلادة.

وتصديق هذا الحديث قوله عزوجل ، حكاية عن السامري : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) (٤).

وفي معناه روايات مستفيضة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، رويت في الكافي (٥) ، والبصائر(٦) ، وغيرهما ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ

__________________

(١) ـ الكافي : ١ : ٣٩٤ ، ح ٤.

(٢) ـ في المصدر : سيحا.

(٣) ـ الكافي : ١ : ٣٩٣ ، ح ٣.

(٤) ـ سورة طه ، الآية ٩٦.

(٥) ـ أنظر : الكافي : ١ : ٣٩٣ ، باب أنّ الأئمّة تدخل الملائكة بيوتهم ، وتطأ بسطهم ، وتأتيهم بالأخبار.

(٦) ـ أنظر : بصائر الدرجات : ١٩ ، باب ١٧ ، باب في الأئمة ، وأنّ الملائكة تدخل منازلهم ، وتطوف بسطهم ، وتأتيهم عليهم‌السلام بالأخبار.

٣٥٣

عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) الآية (١).

قال في الفتوحات : ومن نفّس الرحمن عنه بمجالسة الملائكة ، ونعم الجلساء ، هم أنوار خالصة ، لا فضول عندهم ، وعندهم العلم الإلهي ، الّذي لا مرية فيه ، فيرى جليسهم في مزيد علم بالله دائما مع الأنفاس ، فمن ادّعى مجالسة الملأ الأعلى ولم يستفد في نفسه علما بربّه ، فليس بصحيح الدعوى ، وإنما هو صاحب خيال فاسد (٢).

فصل

ومن الغرائب مصاحبتهم الجنّ ، ومجالستهم معهم ، واستفادة بعض العلوم الجزئية ، وخبر بعض الحوادث منهم ، أو إفادة المعالم الدينية والشرائع لهم ، أو استخدامهم في الحوائج، أو غير ذلك.

قالت حكيمة بنت موسى : رأيت الرضا عليه‌السلام واقفا على باب بيت الحطب ، وهو يناجي ، ولست أرى أحدا ، فقلت : يا سيدي ، لمن تناجي؟ فقال : هذا عامر الزهرائي أتاني يسألني ، ويشكو إليّ ، فقلت : سيدي أحبّ أن أسمع كلامه ، فقال لي : إنّك إن سمعت به حممت سنة ، فقلت : سيدي أحب أن أسمعه ، فقال لي : اسمعي ، فاستمعت ، فسمعت شبه الصفير ، وركبتني الحمّى ، فحممت سنة (٣).

وقال سدير الصيرفي : أوصاني أبو جعفر عليه‌السلام بحوائج له بالمدينة ،

__________________

(١) ـ سورة فصلت ، الآية ٣٠.

(٢) ـ الفتوحات المكية : ١ : ٢٧٤.

(٣) ـ الكافي : ١ : ٣٩٥ ، ح ٥.

٣٥٤

فخرجت ، فبينا أنا بين فج الروحاء على راحلتي إذا إنسان يلوي بثوبه ، قال : فملت إليه ، وظننت أنه عطشان ، فناولته الإداوة ، فقال : لا حاجة لي بها ، وناولني كتابا طينه رطب ، قال : فلما نظرت إلى الخاتم إذا خاتم أبي جعفر عليه‌السلام ، فقلت : متى عهدك بصاحب الكتاب؟ قال : الساعة ، وإذا في الكتاب أشياء يأمرني بها ، ثمّ التفتّ فإذا ليس عندي أحد ، قال : فقدم أبو جعفر عليه‌السلام ، فلقيته ، فقلت : جعلت فداك ، رجل أتاني بكتابك ، وطينه رطب ، فقال لي : يا سدير ، إنّ لنا خدما من الجن ، فإذا أردنا السرعة بعثناهم (١).

وقال سعد الإسكافي : أتيت أبا جعفر عليه‌السلام أريد الإذن عليه ، فإذا رحال إبل على الباب مصفوفة ، وإذا الأصوات قد ارتفعت ، ثمّ خرج قوم معتمّين بالعمائم ، يشبهون الزطّ ، قال : فدخلت على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقلت : جعلت فداك أبطأ إذنك عليّ اليوم ، ورأيت قوما خرجوا عليّ معتمّين بالعمائم ، فأنكرتهم ، فقال : وتدري من أولئك يا سعد؟ قال : قلت : لا ، قال : فقال : أولئك إخوانك من الجنّ ، يأتونا فيسألونا عن حلالهم وحرامهم ، ومعالم دينهم (٢).

وفي معنى هذه الأحاديث ، وما يقرب منها روايات مستفيضة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، رويت في الكافي ، والبصائر (٣) ، وغيرهما (٤).

قال في الفتوحات : إنّ الجان هم أجهل العالم الطبيعي (٥) ، ويتخيل جليسهم بما يخبرونه من حوادث الأكوان ، وما يجري في العالم أنها تحصل لهم ،

__________________

(١) ـ الكافي : ١ : ٣٩٥ ، ح ٤.

(٢) ـ الكافي : ١ : ٣٩٥ ، ح ٣.

(٣) ـ أنظر : بصائر الدرجات : ٩٦ ، ح ٢.

(٤) ـ أنظر الخرائج والجرائح : ٢ : ٨٥٣.

(٥) ـ في المصدر : هم أجهل العالم الطبيعي بالله.

٣٥٥

من استراق السمع بالملأ الأعلى ، فيظنّ جليسهم أن ذلك من كرامة ، هيهات لما ظنّوا ، ولهذا ما ترى قطّ أحدا جالسهم فحصل عنده علم بالله جملة ، غايته أن يمنحوه من علم خواصّ النبات والأحجار ، والأسماء ، والحروف ، فهو علم السيميا ، فلم يكتسب منهم إلّا العلم الّذي ذمّته الشرائع ، ومن ادّعى صحبتهم وهو صادق في دعواه فاسأله عن مسألة في العلم الإلهي ، ما تجد عنده أصلا ، فرجال الله يفرّون من صحبتهم أشدّ فرارا منهم من الناس، فإنه لا بدّ أن تورث صحبتهم في النفس تكبّرا على الغير بالطبع ، وازدراء بمن ليس له في صحبتهم قدم ، وقد رأينا جماعة ممن صحبوهم حقيقة وظهرت لهم براهين على صحّة ما ادّعوه من صحبتهم ، وكانوا أهل اجتهاد وعبادة ، ولكن لم يكن عندهم من جهتهم شمّة من العلم بالله ، ورأينا فيهم غرة ، وتكّبرا.

قال : فمجالستهم رديّة جدا ؛ لأنّ أصلهم نار ، والنار كثيرة الحركة ، ومن كثرت حركته كان الفضول أسرع إليه ، فهم أشدّ فتنة على جليسهم من الناس (١).

فصل

ومن الغرائب سماعهم للأصوات الملكوتية ، كسماع الأنبياء عليهم‌السلام الوحي النازل عليهم كلاما منظوما ، كما مضى بيانه ، أو مثل صلصلة الجرس ، ودوي النحل ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه كان يسمع ذلك ، ويفهم المراد منه (٢) ، وكسماعهم وسماع الأولياء أيضا بنورهم أصوات عذاب الأموات في

__________________

(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ١ : ٢٧٣ ، بتقديم وتأخير في العبارات.

(٢) ـ أنظر : صحيح البخاري : ١ : ٢ ، وغيره من المصادر.

٣٥٦

قبورهم ، وهذا يشاركهم فيه جميع الموجودات ما عدا الثقلين ، الجنّ والإنس.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على بغلة إذ حادت به ، وكادت تلقيه ، وإذا أقبر خمسة ، أو ستة ، فسأل عن أصحابها فقيل : ماتوا في الشرك ، فقال : إنّ هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فلو لا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه (١).

وعن مولانا الباقر عليه‌السلام ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني كنت لأنظر إلى الإبل والغنم وأنا أرعاها ، وليس من نبي إلّا وقد رعى الغنم ، فكنت أنظر إليها قبل النبوّة وهي ممتلية من المكينة (٢) ما حولها شيء يهيّجها ، حتّى تذعر وتطير ، فأقول : ما هذا ، وأعجب حتّى حدّثني جبرئيل عليه‌السلام أن الكافر يضرب بضربة ما خلق الله شيئا إلّا سمعها ، ويذعر لها إلّا الثقلين (٣).

وكسماعهم التسليم والتسبيح من الأحجار ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة ، فما لقينا شجر ولا حجر إلّا وقال : السلام عليك يا رسول الله» (٤).

قال في الفتوحات : إن المسمى بالجماد والنبات لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إياها ، في العادة ، فلا يحسّ بها مثل ما يحسّ من الحيوان ، فالكلّ عند أهل الكشف حيوان ناطق ، بل حيّ ناطق ، غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير ، ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف ،

__________________

(١) ـ ورد نحوه في صحيح مسلم : ٨ : ١٦٠ ، ومسند أحمد : ٣ : ١١١.

(٢) ـ في المصدر : وهي متمكنة في المكينة.

(٣) ـ الكافي : ٣ : ٢٣١ ، ضمن الحديث ١.

(٤) ـ ورد نحوه في الخرائج والجرائح : ١ : ٤٦ ، ح ٥٩.

٣٥٧

فقد سمعنا الأحجار تذكر الله رؤية عين ، بلسان تسمعه آذاننا ، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله ، ممّا ليس يدركه كلّ إنسان.

وقال في موضع آخر : وليس هذا التسبيح بلسان الحال ، كما يقوله أهل النظر ممن لا كشف له ، قيل : إنّ الإنسان إذا أراد أن يبلغ إلى هذا المقام يجب أن يصير حيوانا مطلقا ، لئلّا يزاحمه العقل ؛ ولهذا من يبلغ إليه يصير أبكم.

قال صاحب الفتوحات : لما أقامني الله تعالى في هذا المقام ، تحقّقت بحيوانيّتي تحقّقا كليا ، وكنت أرى وأريد أن أنطق بما أشاهده ، فلا أستطيع (١).

فصل

ما ذكرناه أنموذج من عجائب النشأة الإنسانية ، وغرائبها ، ولها عجائب أخرى ، وغرائب لا تحصى ، بعضها مذكور في الكتب الّتي صنّفت في هذا ، ككتاب «عجائب المخلوقات» (٢) ، وكتاب «عجائب الحيوان» ، وغير ذلك.

__________________

(١) ـ هذه العبارة من قوله : «إن المسمى بالجماد» إلى قوله : «فلا أستطيع» ذكرها في شرح فصوص الحكم للقيصري بكاملها ، ولكنها في الحقيقة عبارات متفرّقة مأخوذة من الفتوحات المكية ، ومن فصوص الحكم ، أنظر: شرح فصوص الحكم : ٢٣٨ ، والفتوحات المكية : ١ : ١٤٧ ، وفصوص الحكم : ١ : ١٨٦.

(٢) ـ كتاب عجائب المخلوقات : لزكريا بن محمّد بن محمود ، الكوفي ، القزويني ، المتوفّى سنة «٦٨٢» ، ألّفه في زمن مفارقته من الوطن ، قال : وقد ذكر فيه أشياء يأباها طبع الغبي الغافل ، ولا تنكرها نفس الذكي العاقل ، فإنّها وإن كانت بعيدة عن العادات المعهودة ، لكن لا يستعظم شيء مع قدرة الخالق ، وجميع ما فيه إمّا عجائب صنع الباري ، وذلك إمّا معقول ، أو محسوس لا شكّ فيها. وإمّا حكاية ظريفة منسوبة إلى رواتها ، وإمّا خواصّ غريبة ، وذلك ممّا لا يفي العمر بتجربتها ، ولا معنى لترك كلّها لأجل الشكّ في بعضها ، فإن أحببت أن ـ

٣٥٨

وليعلم أن العادة متعلّقة بالتقدير الأزلي الواقع في علم الله سبحانه ، الجاري على سنّة الله تعالى ، وخرق العادة يتعلق بذلك لا على السنّة ، بل إظهارا للقدرة ، وهو إن صدر عن الأنبياء يسمى معجزة ، وإن صدر عن الأولياء والصلحاء والمؤمنين يسمى كرامة ، وإن صدر من غيرهم يسمى سحرا وكهانة ، وغير ذلك.

وقد يصدر من بعض الملوك شديد الهمة والبأس ، بعض الخوارق ، ولكن لا يدلّ ذلك على كرامة.

ثمّ إنّ هؤلاء جميعا إن ساعدتهم الأسباب الخارجية استولوا على أهل العالم ، وصار كلّ منهم صاحب قرنه وزمانه ، بحسب الدولة الظاهرة ، وإن لم تساعدهم الأسباب لم يحصل لهم ذلك ، إلّا أنهم بأيّ أمر اشتغلوا كانوا فيه بالكمال ، لا كمال إلّا لله وحده.

__________________

ـ تكون منها على ثقة ، فشمّر لتجربتها ، وإيّاك أن تملّ أوان تفتر إذا لم تصب مرّة ، أو مرّتين ، فإنّ ذلك قد يكون لفقد شرط ، أو حدوث مانع ، وحسبك ما ترى من حال المغناطيس وجذبه ، فإنّه إذا أصابه رائحة الثوم بطلت تلك الخاصّية ، فإذا غسلته بالخل عادت إليه ، فإذا رأيت مغناطيسا لا يجذب فلا تنكر خاصّيتة ، واصرف عنايتك إلى البحث عن أحواله ، حتّى يتّضح لك أمره. قال : وسمّيته «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات». (كشف الظنون : ٢ : ١١٢٧.

٣٥٩

في الجنّة والشياطين

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١)

فصل

إنّ في الوجود نفوسا أرضية قوية ، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية ، وكثافتها وقلّة إدراكها ، ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها ، ليلزم تعلّقها بالأجرام الكثيفة الغالبة عليها الأرضية ، ولا في صفاء النفوس المجرّدة ولطافتها ؛ لتتصل بالعالم العلوي ، وتتجرّد بالكلية ، فهي إذن متعلّقة بأجرام عنصرية ، غلبت عليها الهوائية ، والنارية ، أو الدخانية ، على اختلاف أحوالها ، ومنازلها ، وهي الجنّة والشياطين.

قال الله تعالى : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) (٢) ، والمرج الاختلاط ، فإنّ النار فيه مختلطة بالهواء ، والمارج لهذين العنصرين كالطين للآخرين (٣).

والجنّ من الاجتنان ، بمعنى الاختفاء ، سمّيت به ؛ لاستتارهم عن الأبصار ؛ ولهذا سميت به الملائكة أيضا في قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ

__________________

(١) ـ سورة الحجر ، الآية ٢٧.

(٢) ـ سورة الرحمن ، الآية ١٥.

(٣) ـ أي لعنصري التراب والماء.

٣٦٠